ولكنكم قوم تستعجلون - إيهاب إبراهيم
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد: فإنَّ من الواضح أن صفة العَجَلة والسُّرعة السائدة في هذه الأزمان بكونها صفةً أساسية للحياة المدنية المعاصرة، قد انعكست أيضًا على جيلِ الصَّحوة المباركة، في المنهج، والمفاهيم، ومجالات العمل، فقد أصبحت العجلةُ سِمَةً غالبة في تصرُّفات أبناء الصحوة الإسلامية، سواء كانت في طلب العلم ، أم الدَّعوة، أم الحكم على الناس، أم حتى طلب الرزق .
ولا شك أنَّ العَجَلة مظنةُ الزلل؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان » (أخرجه أبو يعلى في مسنده، وصححه الألباني ).
والعجلة لها أسباب قوية؛ إذ إنَّها في المقام الأول من فطرة الإنسان التي فَطَره الله عليها؛ قال - تعالى -: ﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ [الأنبياء: 37]، قال أبو إسحاق: "خوطبت العرب بما تَعْقِلُ، والعرب تقول للذي يُكْثِرُ الشيءَ: خُلِقْتَ منه، كما تقول: خُلِقْتَ من لَعِبٍ إذا بولغ في وصفه باللعب، وخُلق فلانٌ من الكيس إذا بولغ في صفته بالكَيْس"، وقال - تعالى -: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾ [الإسراء: 11]، وقد خلق الله هذا الطبع في بني آدم ابتلاءً وامتحانًا لهم، وقد حثَّهم على مخالفته؛ إذ إنَّه مذموم ومظنة الزلل - كما قلنا - فقال تعالى: ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 37]، وعندما تضعف إرادةُ العبد ينساق وراء طباعه وغرائزه، فتجده لا يقوى على الصبر على ما يريد.
ومن أسبابِ العَجَلة أيضًا الاندفاعُ والانفعال، فقد يؤمن البعضُ بفكرةٍ ما أو بعدلِ قضيةٍ مُعينة، فيدفعه ذلك للعجلة في السير إلى تَحقيقها على أرض الواقع، غافلاً عن السنن الكونية والإعداد السابق لتقبل المجتمع لما يؤمن به ويعتقد.
ومن أسبابها أيضًا قلة التجرِبة والبُعد عن الواقع، فقد يقرأ البعض أو يتصور معنى مُعينًا، ويسعى لتطبيقه على المجتمع أو على نفسه؛ ولكنه لا يعلم أنَّ هذا التصورَ يحتاج إلى إعدادِ مناطٍ معين يتكيَّف معه ويعيش فيه، فقيامُ الأخلاق والمجتمع الإسلامي يَحتاج إلى نفوس طيبة مزكاة، تربَّتْ على معاني الانقياد للشَّرع، وطلبُ الشهادة في سبيل الله يَحتاج إلى ميدان حقيق للجهاد، توفرت فيه شروطُ جهاد الدفع أو الطلب، مع مُراعاة المصالح والمفاسد.
وتقوى صفة العجلة أو تضعف في المرء، تبعًا لاجتماع هذه الأسباب أو بعضها، وتتلاشى بخُلُوِّه منها.
وما نراه الآن في حياتنا اليومية من آثار سيئة بسبب العجلة، هو أعظم شاهدٍ على خطئها كمنهج في التصرُّف، ويدْعونا أيضًا لمناقشة ظواهرها، وبيان كيفية التخلُّص منها.
فمن خلال مناهج التغيير في المرحلة السابقة، التي اعتمدت العجلةَ في منهجها، يتأكَّد عند كلِّ ذي لب أنَّ المنهج القويم للتغيير هو المبنيُّ على التأني والتربية العميقة للأفراد والمجتمعات، فقد جاء خبَّاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا وقال له: "ألاَ تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا"، فأحس النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفاد صبر أصحابِه، وأن إيذاءَ المشركين دفعهم للعَجَلة، فغَضِبَ واحْمَرَّ وجهه، وقال له: ((كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض، فيجعل فيه، فيُجَاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، واللهِ لَيتمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يَخاف إلا اللهَ أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))؛ رواه البخاري .
بل إنَّ حمل الناسِ على التغيير قسرًا، يُحدِث نتائجَ عكسية، ولله در عمر بن عبدالعزيز عندما تولى الخلافة، وكان يريد التغيير والعودة بالأمَّة إلى النهج الأول، فجاءه ابنه عبدالملك وكان مُتحمسًا من الأتقياء، فصورت له هذه الحماسةُ أنَّ أباه متباطئ في التغيير، فقال: "يا أبت، ما لك لا تنفذ الأمورَ؟!، فوالله، ما أُبالي لو أن القدور قد غَلَتْ بي وبك في الحق"، فأجابه الخليفة الراشد: "لا تَعْجَلْ يا بني؛ فإن الله قد ذمَّ الخمر في القرآن مَرَّتَيْن، وحَرَّمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً، فيدفعوه جملةً، ويكون من هذا فتنة".
وتظهر العجلة أيضًا في المجال الدعويِّ، فنرى الآن تصدُّرَ بعض أبناء الصحوة للدعوة والتوجيه، مدفوعًا بالحماسة والغَيْرة على حرمات الله، وحرصًا منه على تعبيد الناس بدين الله، ولكنه لم يُحصِّلْ من العلم ما يُؤهِّله لذلك، مع عدم معرفته بأساليب الدَّعوة، وطباع الناس، وكيفية التعامل معهم، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: "تفقَّهوا قبل أن تسودوا"، وربَّما تكلم في مسائل لم يهضمها، مثل قضايا الخلاف والتكفير، ولا يَخفى ما في ذلك من الآثار السيئة.
كما تظهر صفة العجلة جَليَّةً في مجال طلب العلم ؛ إذ يتسابق الطلابُ في الحصول على الشهادات والإجازات؛ طمعًا في المناصب والوظائف والمكانة الاجتماعية، وذلك يَحرِمهم التمكن والتأصيل، ويُؤدي إلى ضعف المستوى العلمي، والحرمان من المهارات المختلفة، والابتكار.
ويتعجل بعضُ الدُّعاة في إجابة المدعُوِّين، والأصل على خلاف ذلك، فالناس تخشى كل جديد، وإدراك المعاني الإيمانية وتأثيرها على الأفراد مُتفاوت، وقد يدفعه إبطاء الناس عليه بالاستجابة إلى اليأس والإحباط؛ وذلك لأنه تعجَّل ولم يفهم أصل القضية؛ إذ إنه مأمور بالبلاغ فقط، مع بذل الجهد فيه، وسلوك أفضل المسالك للتبليغ، وبذلك يكون معذورًا ومأجورًا، أمَّا أمر الاستجابة، فهو إلى الله - تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 164].
ومن أعظم مظاهر التعجل الآن تعجُّلُ الرزق والترقي في المناصب، ولا يَخفى الخطر الناجم من ذلك؛ فإنَّ تعجُّل الرزق - وهو أمر مقدَّر ليس للعبد فيه إلا السَّعي - قد يَجعله يطلبه من حرام، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ رُوح القدس نفث في رُوعي أنَّ نفسًا لا تَموت حتى تستكمل رزقَها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يَحملنَّكم استبطاءُ الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإنَّ الله لا يُدْرَك ما عنده إلا بطاعته))؛ رواه أبو بكر الحداد في المنتخب، وصححه الألباني.
وربَّما لبس على البعض أنَّ هذه العجلة من السَّعي والجد في العمل، والفرق بينهما كما ورد في الحديث أنْ الجِدَّ والسعي مطلوبان، ولكن إذا تعديا إلى الوقوع في الحرام، أو ترْك ما هو أهم، كان ذلك من العَجَلة، فربَّما ترك الداعية الدعوة َ وما يتصل بها بدافع السعي في طلب الرزق وتأمين المعاش له ولأهله، وأنه كلما أمن ذلك، كان ذلك عونًا له فيما بعد على التركيز في الدعوة والعمل فيها، ونقول: إن هذا - من واقع التجارب - غيرُ صحيح؛ بل هو من تلبيس إبليس؛ إذ يذهب الدُّعاة إلى ميادين الدنيا للبحث عن الأمل المرجوِّ، ولكن للأسف لا يعودون، وهو قد خالف نهجَ النُّبوة وعمل السلف الأول؛ خير من حمل هَمَّ هذا الدين، فقد كان عمر وصاحبه من الأنصار يتناوبان في طلب العلم، والسعي في طلب الرزق، وقد أقام الأولون الدين والدنيا معًا.
ومعرفة المناط من حيث العجلة والأناة، يحتاج إلى تأمُّل وتَمحيص، والضَّابط فيه هو الامتثال لأمر الله وحسبُ، حتى يُعصم العبدُ من العجلة، وقد يكون الدافع إلى العجلة محمودًا في نفسه، مثل الشوق إلى الله ولقائه، وهذا من الفطرة كما قررنا؛ يقول الدكتور وهبة بن مصطفى الزحيلي في " التفسير المنير" في قوله - تعالى -: ﴿ وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ ﴾ [طه: 83] لمجيء ميعاد أخذ التوراة، وهو يدُلُّ على تقدم قومه في المسير إلى المكان، وهو سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنَّها نقيصة في نفسها، انضمَّ إليها إغفال القوم، وإيهام التعظم عليهم، فأجاب موسى عن الأمرين، وقدم جوابَ الإنكار؛ لأنَّه أهم، فقال: ﴿ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي ﴾ [طه: 84]؛ أي: ما تقدمتهم إلاَّ بخُطى يسيرة لا يعتد بها عادةً، وهم قادمون ورائي، ليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم الرفقة بها بعضُهم بعضًا، ثم قال: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84] عني؛ أي: زيادة على رضاك، فإنَّ المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك، يوجب مرضاتِك، وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه.
والتخلُّص من داء العجلة يَحتاج إلى جهادٍ للنَّفس، وفهمٍ لأغوارها، ومُخالفة طبعها وميولها، والسَّعي المستمر في تكلُّف الحلم والأناة، حتى يعتدل الأمر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخير، يُعطه، ومن يتوقَّ الشر يوقه))؛ أخرجه الخطيب في تاريخه، وحسنه الألباني، وقال الأحنف بن قيس: "لم أكن حليمًا؛ وإنما كنت أتحالم".
ومن عوامل التخلُّص من العجلة أيضًا اتباعُ نصوص الكتاب والسنة، وعدم الميل عنهما بتأويلات باطلة بدافع الميول الشَّخصية، وضبط الحماسة بحسب المصالح والمفاسد.
كما أنَّ مصاحبةَ المتحلِّمين من أعظم الأمور المُعينة على التخلص من العَجَلة، وعلى العكس مصاحبة المتعجلين من أخطر الأمور؛ إذ إنَّ النفوس تسرق الطباع، ومن خالط القوم صار منهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل))؛ رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني.
وبالنسبة للجماعات والمناهج الدعوية، يَجب أن تبتعد عن العشوائية، فهي بطبيعتها من عوامل التعجل، فيجبُ أن تكونَ المناهج مبنية على تخطيط سابق، رُوعي فيه القواعد العامة والأسس الصحيحة للدعوة والعمل، ودراسة سنن التدرج، والأخذ بالأسباب؛ ﴿ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43]، ويَجب تربية أفرادها على ذلك، وتقويم الأفراد إذا جنحوا إلى العجلة، فالأمرُ قد يضر الجماعاتِ والعملَ الدعوي ككل، وتكون العاقبة التأخير أو الضياع لجهد مبذول من سنين.
كما أن النظر في سير المتعجلين وعواقب تعجلهم، يدفعُ المرءَ إلى الهرب من المصير نفسه، وكما قيل: السعيد من وُعظ بغيره، والشَّقِي من وعظ بنفسه، وعلى الجانب الآخر ينظر في سيرة المتحلمين ومن اتَّصف بالأناة، وجميل عاقبة الحلم والتأني، ويُحاول التأسي بهم؛ فإنَّ الأخلاق تكتسب، والتأني صفة من صفات الأنبياء؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((السمتُ الحسن والتؤدة والاقتصاد، جزءٌ من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني.
وقد مدح سلفُنا الصالح التأني، وذمُّوا العجلة وعواقبها؛ قال الحسن البصري: "اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سَفَه، والسفه ضَعْف"، وقال ابن حبان: "العجلة موكل بها الندم، وما عجل أحد إلاَّ اكتسب ندامةً واستفاد مذمة؛ لأنَّ الزلل مع العجل".
بَيْدَ أنَّ السُّرعة تكون ممدوحة في شأنٍ واحد، هو العمل للآخرة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((التؤدة في كل شيء، إلا عمل الآخرة))؛ رواه أبو داود وصححه الألباني؛ قال - تعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال - تعالى -: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [الحديد: 21]، ولكنها لم تذكر بلفظ العجلة إلا مذمومة.
إن شؤم العجلة على الفرد والمجتمعات كبيرٌ ومشاهَد لكل ذي لُبٍّ، وتكسب صاحبَها الندامةَ والخسران، وبركةُ الحلم والأناة على الأفراد والمجتمعات كبيرة، وتكسب صاحبَها الوقارَ والسمت الحسن والأجر العظيم، فما كان الرِّفق في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه.
هذا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.