العلم المفقود


الحلقة مفرغة

هناك أحكام في باب الزكاة تتعلق بمصارف الزكاة ونقلها من بلد إلى بلد آخر، ودفعها لمن عليه دين للمزكي، ونحو ذلك مما ينبغي معرفته حتى يكون المسلم على بصيرة في هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ومما ينبغي معرفته أحكام زكاة الفطر، فهي واجبة على الحر والعبد والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، صاعاً من طعام، وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين في يوم العيد.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فأول سؤال يطرح نفسه ما المقصود بالعلم المفقود؟

وأظن البعض يتساءل وهو يسمع هذا العنوان: ماذا يقصد بهذا العنوان: (العلم المفقود)؟

هذا العلم المفقود هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك الإمام الدارمي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لا يقدرون منه على شيء، فقال زياد بن لبيد الأنصاري : يا رسول الله، وكيف يختلس وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير : فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء ، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً) .

ولا شك أن من يتأمل في حالنا، وفي حال الصالحين من الناس، يرى أن هناك فقداناً لهذا العلم، وأن هذا السمت والهدي الذي ينبغي أن يتسم به أهل العلم والصلاح والتقوى يعاني كثيراً من فقداننا له، والخطورة تزداد حينما لا نشعر بالمشكلة، أو لا نسعى إلى علاجها، والحديث أيها الإخوة حول هذا الموضوع حديث يطول، وأشعر أنني لا يحق لي أن أتحدث حول هذه القضية، لأنني حين أتحدث عن مثل هذه القضية وأحدثكم عن مثل هذا الموضوع، فإنني أشعر أنه يصدق علي قول القائل: فاقد الشيء لا يعطيه، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.

ولا شك أن من احترام المرء لنفسه ولمن يستمع لحديثه ألا يتحدث إلا بما يحسن الحديث عنه، ولهذا آثرت ألا أتحدث عن هذا الموضوع جملة.

إنما أتحدث عن جانب واحد له أهميته، ولعله من أهم أسباب معاناتنا، وأسباب فقدنا لهذا العلم، ذلكم هو الكلام عن العلم والخشوع، هي الصلة بين العلم والتقوى والصلاح، ذلك أنه في مثل هذه العصور المتأخرة، عاش الناس عزلة بين العلم وبين الرقة والخشوع، حتى ساد عند البعض أن الانشغال والانهماك في مسائل العلم مما يقسي القلب، وصار الوعظ والرقائق باباً آخر غير باب العلم، ولهذا يطلق على فلان أنه واعظ، لا يجيد إلا لغة الوعظ، والآخر فقيه بعيد كل البعد عن الوعظ والتأثير في القلوب، وهذه العزلة المفتعلة لها جذورها القديمة، ولها أسبابها وظواهرها، ولسنا بصدد الإفاضة بالحديث عن أسباب هذه الظاهرة، التي هي ظاهرة قد بدأت منذ قرون قديمة، منذ أن غاب عن الناس روح العلم الشرعي، وتعلقوا بالتقليد والتفريع والتأصيل على قواعد المذاهب وما يتعلق بها، فحين غابت عن الناس روح العلم الشرعي، صرت لا تستنكر أن ترى طالباً للعلم قاسياً قلبه معرضاً.

إن ما أريد الحديث حوله في هذا اللقاء، هو التأكيد والدعوة إلى هذه الصلة، وإلى أن نعيد هذا الاعتبار للعلم، أن يرتبط العلم بالخشوع، وأن يرتبط العلم بالزهد والتقوى والصلاح، وألا نفترض أنهما قسيمان لا يلتقيان، نعم، قد يوجد من الناس مثلاً من يجيد الوعظ والتأثير في القلوب أكثر من غيره، وقد يوجد من الناس من يجيد التفريع والتأصيل في مسائل العلم أكثر مما يجيد تحريك القلوب.

لكن هذا ينبغي أن يكون ضمن دائرة التخصص، لا دائرة التنافر، كما أننا قد نجد من أهل العلم من يجيد علم الحديث أكثر من إجادته للفقه، ومن تكون إحاطته بالتفسير أكثر من إحاطته بعلم الأصول والمعتقد، إلى غير ذلك من التخصصات.

حين تكون القضية باب تخصص واهتمام فالأمر لا غبار عليه، مع التأكيد على القدر المشترك الذي لا بد منه هنا وهناك، أن يحمل الواعظ قدراً من العلم يمنعه ويحميه من الزلل والشطط، والمبالغة هنا أو هناك، وأن يحمل طالب العلم والمتعلم قدراً من الرقة والتقوى والخشوع، تؤدي به إلى أن يقوم بواجب العلم ودوره.

ولعل من أمارات ذلك، أنك حين تلقي نظرة على واقع التعليم الشرعي في بلاد المسلمين، التعليم الذي يقدم حتى في المساجد، وتتصفح في هذا التعليم لتبحث عما ما يحرك القلوب، وما مدى نصيبه، وهل هو قسيم لتعلم الأحكام والحلال والحرام ومسائل الفقه والمعتقد، أم أنه من شأن الوعاظ، الذين لهم شأن آخر وباب آخر غير باب العلم.

أما حين تنتقل إلى التعليم النظامي في الكليات الشرعية في العالم الإسلامي، فإنك لا تكاد أن ترى لمثل هذا العلم أثراً.

إن المؤمل في طالب العلم الشرعي أن يجد في تعلمه وأن يجد في دروس العلم وحلق العلم، ما يحرك قلبه، وما يزيل الران عنه، وما يمحو القسوة التي كثيراً ما يعاني منها.

وإننا حين نطالب بهذا المطلب، تدفعنا لذلك أمور عدة:

أولها: أن طالب العلم داعية ومعلم بفعله وعمله قبل أن يكون معلماً بقوله.

إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقتصر دوره على مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته.

ولهذا يقول أبو العالية رحمه الله: كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه.

بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته، مطلباً أعلى من تعلم المسائل، ويعد المتفقه والمتأدب والمتعلم على أحد أهل العلم أنه إن ظفر بتعلم هدي هذا العالم وسمته فقد ظفر بخير كثير، ولهذا يقول إبراهيم : كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله.

وهذا الأثر رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.

وروى أيضاً عن ابن سيرين : كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

نعم كانوا يعنون بتعلم الهدي والسمت والخشوع والصلاح، تماماً كما يعنون بتعلم العلم.

ونقف مرة أخرى عند هذا الأثر لنتساءل كيف نتعلم نحن هذه الأبواب الهامة من العلم؟ بل التي يعدها البعض -للأسف- خارج دائرة العلم، ويرى أن العلم أن تحفظ قول فلان وفلان في المسألة، وأن تحفظ طائفة من النصوص، وتتقن قدراً من المتون، أما هذه فلها باب آخر وشأن آخر .

فهل نحن نعتني بتعلم هذه الأمور ودراستها كما نعتني بتعلم مسائل وأبواب العلم؟

لعل إدراك هذه الحقائق يجيب على تساؤل طالما طرحناه: لماذا قلوبنا قاسية؟

روى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث، وأوصى الأديب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال:

يا بني، أصحب الفقهاء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث.

إن هذا أيها الإخوة يدعو طالب العلم إلى أن يدرك ويعي أنه لا يمكن أبداً أن يدعو الناس بما يقوله ويسطره فقط، بل إنما يتعلم الناس منه بهديه وسمته وأحواله وخشوعه وتقواه لربه تبارك وتعالى، أضعاف أضعاف ما يتعلمون ويفقهون من قوله، وما يرونه من حاله فإنه أعظم أثراً مما يسمعونه من مقاله.

ولا شك أن العلم حين لا يكون وسيلة وخطوة للتعليم والدعوة ونشر الخير فإنه يصبح ترفاً وتكثراً، ويصبح وسيلة لأن يكون حجة على العبد يوم القيامة، حين يسأل عن علمه ماذا عمل به.

الأمر الثاني: أن هناك عوائق تعترض طالب العلم، وهي عوائق تعترض الناس أجمع، لكنها في شأن طالب العالم أكد، فهي أخطر وأعظم أثراً عليه، وهذه العوائق لن يستطيع أن يتجاوزها طالب العلم، إلا حين يعنى بتعلم هذا الباب من العلم المفقود.

الإعجاب بالنفس

من هذه العوائق: الإعجاب بالنفس، وهذا -عافانا الله وإياكم- عنوان الضلال، وبداية الشطط، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان قد طرد من رحمة الله تبارك وتعالى، حين أعجب بنفسه واستكبر.

إن تعلم المرء للعلم وإدراكه لمسائل يشعر أن الناس من حوله لا يدركونها، ويشعر أن الناس يسألونه، وينصتون إذا تحدث، ويقدرونه؛ إن هذا مدعاة لأن يصاب بالعجب، وأن يدخل في نفسه ما يدخل، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، وخشية الله تبارك وتعالى، والإقبال عليه عز وجل، فإن هذا العلم سيكون من أعظم الأبواب للعجب والغرور عافانا الله وإياكم.

ولهذا يقول الغزالي حول العجب:

والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب.

وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (أن الملائكة لا يدخلون بيتاً فيه كلب).

وكلاً منا -أيها الإخوة- حين يتأمل في نفسه يرى أنه قد تدخل عليه هذه المداخل، وقد يعجب بنفسه، وقد يشعر أن الناس محتاجون إليه، وأن الناس ينصتون لقوله، وأن الناس يسألونه ويستفتونه ويستشيرونه ويأخذون برأيه، وهذا لا شك قد يكوك باباً من أبواب العجب والكبر، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، ولا يربيها على خشية الله عز وجل ومخافته والإقبال عليه، فإن هذا قد يوقعه في الضلال عافانا الله وإياكم.

وقد يكون بداية للانحراف والضلال، بل البعض من الناس قد أدى به إعجابه بنفسه إلى الضلال، بل إلى الردة عافانا الله وإياكم.

الحسد

والداء الثاني: الحسد وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة يسعى الشيطان إلى إيقاعها بين الصالحين، وحين يشعر طالب العالم أن هناك غيره ممن قد يستمع الناس له، أكثر مما يستمعون لحديثه هو، وقد يتجه الناس إليه أكثر مما يتجهون له هو، وقد يشعر أن له قدراً أعظم من قدره، فإن النفس قد يدخل فيها ما يدخل فيها من الحسد، وحينئذ يبدأ رحلة مع الشيطان تقوده إلى إثارة الشحناء والبغضاء، وتقوده إلى تلمس المعايب والنقائص عند فلان، والطعن فيه والحديث عنه، بحجة الغيرة والحماية للدين، وليس الأمر إلا أنه رأى أن له منزلة أكثر مما له من المنزلة.

ولهذا صارت هذه المنزلة التي يسلم فيها المرء من الحسد منزلة عالية، قل من يطيقها، يحدثنا عن ذلك أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حين بشر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة، فتلمس عمله وفتش فلم ير فيه كثير صيام وصلاة إلا أنه يبيت وليس في قلبه شيء على أحد من المسلمين، قال: تلك التي لا نطيق.

الهوى

المدخل الثالث: الهوى ، والهوى حين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلا، والباطل حقاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً.

ولهذا أخبر تبارك وتعالى أن الجنة لا يستحقها إلا أولئك الذين سلموا من الهوى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

وأخبر تبارك وتعالى أن من الناس من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، أرأيت أو قرأت في التاريخ يوماً من الأيام أن رجلاً نصب تمثالاً يعبر عن الهوى فصار يركع ويسجد له؟ أم أن القضية أن الهوى صار قائداً للمرء، فما يدعوه الهوى إلى فعله يفعله، وما يدع وإلى تركه يتركه.

وما أخطر الهوى معشر طلاب العلم على الصالحين! إنه يري المرء الحق باطلاً، ويريه الباطل حقاً، حتى ترى هذا المرء يسارع في الصد عن سبيل الله، ويسارع في الفتنة بين المسلمين وهو يعتقد أنه يحمل الغيرة على دين الله تبارك وتعالى.

وليس يصدق على هؤلاء أعظم من قوله تبارك وتعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104].

إنهم أولئك الذين خاب سعيهم، وضل سعيهم وهم يظنون أنهم بذلك يحسنون الصنع، وأنهم يعبدون الله عز وجل بهذا الضلال.

ولهذا صار أصحاب الأهواء من أبعد الناس عن التوبة والإنابة، وأهل الشهوات وإن عملوا ما عملوا، أقرب من هؤلاء للتوبة، لأن صاحب الشهوة يعلم أنه يواقع معصية، وقد تلومه نفسه، وتحدثه بالتقصير.

أما صاحب الهوى فهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وأن عمله يرضي ربه تبارك وتعالى، وأي هلاك وبوار أعظم من أن يشعر المرء أنه يتقرب بهذا العمل إلى الله، وهو مما يؤزه إليه الشيطان ويدفعه إليه.

لبس الحق بالباطل

آفة رابعة: وهي من أخطر آفات طلاب العلم: لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، وقد حذر القرآن الكريم كثيراً من هذه القضية، وأخبر تبارك وتعالى أنه أخذ المواثيق على أهل العلم، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].

وتوعد تبارك وتعالى الذين يكتمون العلم فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة:159-160].

نعم، حتى أولئك الذين شعروا بشناعة جرمهم وتابوا لا تقبل توبتهم إلا أن يصلحوا ما أفسدوه، وأن يبينوا للناس ما كتموه.

والله تبارك وتعالى يخبر وينعى على بني إسرائيل أنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وأنها ستسير خلفهم حذو القذة بالقذة حتى لو دخل أولئك جحر ضب فستدخله هذه الأمة.

إنها قضية صعبة أيها الإخوة، نعم، إن تحصيل العلم يفرض على من يحصله واجباً، ويفرض عليه

وأن يقول هذا العلم، وأن يبينه للناس، وأن لا يكتمه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الميثاق على أصحابه وبايعهم على ذلك، والبيعة لا تكون إلا على أمر ذي بال، كما يحكي أولئك الذين شهدوا هذه البيعة: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيث كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم).

وأولئك الذين يكتمون العلم قد توعدهم تبارك وتعالى بالوعيد الشديد، في أنهم لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب إليم.

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، فما الذي يعصم طالب العلم من هذا المسلك، وما الذي يعين طالب العلم على القيام بهذا الواجب إلا حين يتربى على تقوى الله تبارك وتعالى، وخشيته فتهون الدنيا لديه، ويهون شأن الناس لديه، فلا يقدم ولا يرى إلا مرضاة ربه تبارك وتعالى.

التوصل بالعلم إلى المكاسب الدنيوية

الآفة الخامسة: من الآفات التي قد تدخل على طالب العلم: التوصل بالعلم إلى الأغراض والمكاسب الشخصية.

إن العلم قد يتيح للمرء علواً وبروزاً أمام الناس، وقد يتيح له فرصاً لا تتاح لغيره، فحين لا يتقي ربه تعالى قد يجعل هذا العلم سلماً لتحصيل هذه المكاسب، وقد توعد الله تبارك وتعالى أولئك الذين يجعلون العلم وسيلة لتحصيل الثمن العاجل: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [البقرة:174-175].

ولله در الجرجاني رحمه الله حين قال:

يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما

ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمعاً صيرته لي سلما

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة

إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

ولو أن أهل العلم صانوه صانه

ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما

ولهذا كان السلف يوصون طالب العلم في مقتبل طلبه للعلم، أن يحفظ هذه الأبيات، لما فيها من المعاني، وتربية النفس على البعد عن السعي لهذه الأغراض الدنيئة.

أيها الإخوة: ليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، إنما هذه أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها.

فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟ وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلم طالب العلم ما يكون له وسيلة لتجاوزها، وهل نحن نعنى بإعطاء طالب العلم الأداة التي تعين على ذلك، أم أننا نعطيه العلم، ونهمل هذا العلم الذي لا يؤدي العلم الآخر ثمرته بدونه.

إن هذه الآفات أيها الإخوة، إنما تنشأ وتترعرع في تلك القلوب التي فقدت الخشوع، وفقدت التقوى، وفقدت الصلاح.

من هذه العوائق: الإعجاب بالنفس، وهذا -عافانا الله وإياكم- عنوان الضلال، وبداية الشطط، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان قد طرد من رحمة الله تبارك وتعالى، حين أعجب بنفسه واستكبر.

إن تعلم المرء للعلم وإدراكه لمسائل يشعر أن الناس من حوله لا يدركونها، ويشعر أن الناس يسألونه، وينصتون إذا تحدث، ويقدرونه؛ إن هذا مدعاة لأن يصاب بالعجب، وأن يدخل في نفسه ما يدخل، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، وخشية الله تبارك وتعالى، والإقبال عليه عز وجل، فإن هذا العلم سيكون من أعظم الأبواب للعجب والغرور عافانا الله وإياكم.

ولهذا يقول الغزالي حول العجب:

والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب.

وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (أن الملائكة لا يدخلون بيتاً فيه كلب).

وكلاً منا -أيها الإخوة- حين يتأمل في نفسه يرى أنه قد تدخل عليه هذه المداخل، وقد يعجب بنفسه، وقد يشعر أن الناس محتاجون إليه، وأن الناس ينصتون لقوله، وأن الناس يسألونه ويستفتونه ويستشيرونه ويأخذون برأيه، وهذا لا شك قد يكوك باباً من أبواب العجب والكبر، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، ولا يربيها على خشية الله عز وجل ومخافته والإقبال عليه، فإن هذا قد يوقعه في الضلال عافانا الله وإياكم.

وقد يكون بداية للانحراف والضلال، بل البعض من الناس قد أدى به إعجابه بنفسه إلى الضلال، بل إلى الردة عافانا الله وإياكم.

والداء الثاني: الحسد وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة يسعى الشيطان إلى إيقاعها بين الصالحين، وحين يشعر طالب العالم أن هناك غيره ممن قد يستمع الناس له، أكثر مما يستمعون لحديثه هو، وقد يتجه الناس إليه أكثر مما يتجهون له هو، وقد يشعر أن له قدراً أعظم من قدره، فإن النفس قد يدخل فيها ما يدخل فيها من الحسد، وحينئذ يبدأ رحلة مع الشيطان تقوده إلى إثارة الشحناء والبغضاء، وتقوده إلى تلمس المعايب والنقائص عند فلان، والطعن فيه والحديث عنه، بحجة الغيرة والحماية للدين، وليس الأمر إلا أنه رأى أن له منزلة أكثر مما له من المنزلة.

ولهذا صارت هذه المنزلة التي يسلم فيها المرء من الحسد منزلة عالية، قل من يطيقها، يحدثنا عن ذلك أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حين بشر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة، فتلمس عمله وفتش فلم ير فيه كثير صيام وصلاة إلا أنه يبيت وليس في قلبه شيء على أحد من المسلمين، قال: تلك التي لا نطيق.

المدخل الثالث: الهوى ، والهوى حين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلا، والباطل حقاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً.

ولهذا أخبر تبارك وتعالى أن الجنة لا يستحقها إلا أولئك الذين سلموا من الهوى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41].

وأخبر تبارك وتعالى أن من الناس من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، أرأيت أو قرأت في التاريخ يوماً من الأيام أن رجلاً نصب تمثالاً يعبر عن الهوى فصار يركع ويسجد له؟ أم أن القضية أن الهوى صار قائداً للمرء، فما يدعوه الهوى إلى فعله يفعله، وما يدع وإلى تركه يتركه.

وما أخطر الهوى معشر طلاب العلم على الصالحين! إنه يري المرء الحق باطلاً، ويريه الباطل حقاً، حتى ترى هذا المرء يسارع في الصد عن سبيل الله، ويسارع في الفتنة بين المسلمين وهو يعتقد أنه يحمل الغيرة على دين الله تبارك وتعالى.

وليس يصدق على هؤلاء أعظم من قوله تبارك وتعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104].

إنهم أولئك الذين خاب سعيهم، وضل سعيهم وهم يظنون أنهم بذلك يحسنون الصنع، وأنهم يعبدون الله عز وجل بهذا الضلال.

ولهذا صار أصحاب الأهواء من أبعد الناس عن التوبة والإنابة، وأهل الشهوات وإن عملوا ما عملوا، أقرب من هؤلاء للتوبة، لأن صاحب الشهوة يعلم أنه يواقع معصية، وقد تلومه نفسه، وتحدثه بالتقصير.

أما صاحب الهوى فهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وأن عمله يرضي ربه تبارك وتعالى، وأي هلاك وبوار أعظم من أن يشعر المرء أنه يتقرب بهذا العمل إلى الله، وهو مما يؤزه إليه الشيطان ويدفعه إليه.