تفسير سورة الزمر [13-20]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:13-14].

عندما دعاه قومه إلى دينهم ودين آبائهم من عبادة الأوثان والأصنام، قال الله له: قل لهم يا محمد: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الزمر:13] أي: إن خرجت عن أمره، وعن أن أكون أول المسلمين، وعن أن أخلص الطاعة لله لا شريك له، لا في ذاته ولا في صفته، فإن أنا عصيت ربي في أوامره أخاف عذاب يوم عظيم.

واليوم العظيم: يوم القيامة الذي يعامل الإنسان فيه حسب عمله في دنياه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

هو أمر لرسول الله، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم، فهو أمر لجميع الخلق جناً وإنساً، لأن من لم يخش الله ولم يطعه، ومن عصى الله في أوامره فلم يفعلها وفي نواهيه فارتكبها، فعليه أن يخاف عذاب ربه وغضبه يوم القيامة.

قال تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14].

أي: لا أعبد سوى الله، ولا أشرك مع الله أحداً، إنما أعبد الله. وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر كما تقول القواعد في لغة العرب التي بها نزل كتاب الله الكريم.

قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ [الزمر:14] الله: لفظ الجلالة منصوب على المفعولية والمفعول مقدم، والفعل والفاعل (أعبد) مع ضميره المستتر، وتقديم المعمول على العامل يفيد الحصر، أي: لا أعبد إلا الله، ولا أطيع إلا الله، ولا أخشى إلا الله.

فقوله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14] أي: أخلص لله العبادة ولا أشرك معه أحداً، فلا أرائي في عبادتي ولا أسمع بها، ولا أخلط بها شركاً خفياً بأن يسمع فلان، وأن يثني عليَّ فلان، وأن يهتم بي فلان، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فمن فعل ذلك ضرب بعبادته على وجهه، وكان إلى الشرك أقرب منه إلى الإيمان.

قال تعالى: فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر:15] هذا تهديد ووعيد، يقول: أما أنا فلا أعبد إلا الله، وأما أنتم أيها المشركون الوثنيون الضالون من اليهود والنصارى وسواهم! فاعبدوا ما شئتم، قد علمتم أن من يأتي يوم القيامة وقد أشرك مع الله غير ما سيلقى من عذاب ومن طرد عن رحمة الله ما الله به عليم.

قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] .

أي: اعبدوا ما شئتم من دونه، ولكن اعلموا أن الخاسر والضائع والطريد من رحمة الله حقيقة هو الذي يخسر نفسه وأهله يوم القيامة ويأتي يوم القيامة وقد دخل النار، خسر أهله وفارقهم وفارقوه، إن كانت زوجته في الجنة فقد فارقته، وإن كانت معه في النار فليسوا معاً في مكان واحد، وهيهات أن يضاحكها وأن تضاحكه.

فالخاسرون الذين خسروا أنفسهم فلم يدخلوا الجنة، خسروا أولادهم وزوجاتهم وأموالهم، وخسروا خدمهم وحشمهم وسلطانهم وجاههم في دار الدنيا، وجاءوا الآخرة على أن ينالوا منازلهم من الجنة ومراتبهم من عبادة الله، ولكنهم جاءوا مشركين غير موحدين فلم يلقوا إلا العذاب والطرد من رحمة الله ومن جنته.

قال تعالى: أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] فخسران النفس وخسران الأهل هو الخسران المبين، أي: الخسارة الواضحة والخسران البين الذي يدركه الصغير والكبير، الرجل والمرأة.

قال تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16].

ظلل: جمع ظلة، أي: فوقهم النار وتحتهم النار، والظلل: طبقة فوق طبقة.

وهي على رءوسهم كالظلة، نار من فوق ونار من تحت، وليست ناراً بل هي نيران، ولا ظلة بل ظلل، والظلة التي فوقه هي ظلمة؛ لأنها أظلته بنارها وغضبها.

والظلل التي تحته هي ظلل بالنسبة لمن تحتها؛ لأن النار طبق على طبق، والنار أيضاً دركات، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما أن الجنان درجات ما بين الدرجة والدرجة كما بين الأرض والسماء، والأنبياء والرسل مساكنهم الفردوس الأعلى، وهو أعلى درجات الجنان.

فالخاسرون بين أطباق من النار، نار فوقهم بل نيران، ونيران تحتهم.

قال تعالى: ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر:16] أي: ينذرهم ويخوفهم في الدنيا رحمةً بهم، لعلهم يرعبون ويتوبون من الذنوب ومن الآثام والشرك.

فذلك الذي قاله الله عن الظلل من فوق من النار وعن الظلل من تحت من النار، قاله في الدنيا عسى أن يتوبوا ويعودوا للآخرة وقد آمنوا بربهم، وتابوا من ذنوبهم.

قال تعالى: يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16].

ينادي الله عباده المؤمن منهم والكافر: اتقوا الله، وافعلوا ما أمركم به، كل على حسب قدرته وحسب طاقته، واتركوا جميع ما نهى الله عنه، وضابط ذلك ورابطه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) .

فلا تزن، ولا تسرق، ولا تراب، ولا تمن، ولا توالِ كافراً، فهذا كله من الإيمان ولا يحتاج إلا إلى إرادة وإلى إيمان قوي، أما ما كان عملاً فهو مبني على الاستطاعة، فالقدرة البشرية محدودة، ولذلك أمرنا الله في الصلاة بطهارة الماء وباستقبال القبلة وبالقيام والركوع والسجود حتى إذا عجزنا أو فقدنا الماء أو فقدنا القبلة أو جهلناها صلينا على أي جهة كانت، ولجأنا إلى التيمم بالصعيد الطاهر، وإلى الجلوس إن عجزنا عن القيام.

ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) كذلك الصيام والحج، بل الحج لا يجب إلا مع الصحة ومع الزاد والقدرة، والصيام كذلك لا يجب إلا مع الصحة والقدرة.

فإن كان شيخاً هرماً فأفطر أو مات قبل أن يتاح له ذلك فهو معفو عنه؛ لأنه لم يؤمر بما يتجاوز قدرته ويتجاوز طاقته، وهكذا في جميع الأوامر.

قال تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18] .

الطاغوت معناه: الشيطان، ومعناه: الوثن، والطاغوت إذا أطلق يشمل جميع الطواغيت، أي: جميع الأصنام والتماثيل وكل ما عبد من غير الله.

والذين اجتنبوها أي: تركوها وابتعدوا عنها فلم يعبدوها ولم يؤمنوا بها.

وقوله: أَنْ يَعْبُدُوهَا [الزمر:17] أي: اجتنبوا عبادتها.

وهو بشرى كذلك بالتوبة في الحياة الدنيا، وبالتوفيق على العبادة، وبالعمل على الطاعة، وبالرزق الكثير، وبالبعد عن الفواحش قدر طاقته وقدر توفيقه.

ثم عاد فقال: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18] .

يقول جل جلاله: أولئك الذين تركوا الطواغيت تركوا عبادتها، ورجعوا إلى الله منيبين، تائبين مستغفرين، لَهُمُ الْبُشْرَى [الزمر:17] يبشرهم الله برحمته وبجنته، ويبشرهم بالهداية والصلاح في دنياهم.

قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18] يقول الله جل جلاله لنبيه: بشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أي: يسمعون القول، أو يسمعون الكلام، أو يسمعون شعراً، أو فلسفة، أو مذهباً، ويتبعون أحسنه، وما أحسن القول إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فهؤلاء الذين وفقوا إلى أن يميزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والأحسن، بين الأصل والفرع، بأن أدركوا وآمنوا أنه لا كلام يعلو كلام الله، ولا كلام بعد كلام الله يعلو كلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله.

وفسروا القول بالقرآن، (يتبعون أحسنه) أي: أحسن ما في القرآن على أن القرآن كله حسن، ولكن فسروا بأن القرآن فيه جزاء، وفيه أن الظالم يقتص منه، كما قال تعالى في سورة الشورى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ [الشورى:40] بمعنى: لك الحق أن تنتقم ممن ظلمك وممن آذاك، ولكنك إن عفوت فهو أحسن من الانتقام.

الله جل جلاله ذكر في كتابه العزيمة والرخصة، ولكن العزيمة أحسن من الرخصة، هكذا قالوا، لكن المصطفى عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه).

فقد أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام بالقصر في السفر فعلينا أن نقصر، بل إن الحنفية وغيرهم أوجبوا ذلك، أي: أوجبوا إتيان الرخصة وترك العزيمة في السفر.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة الفتح، وكان النبي عليه الصلاة والسلام صائماً، وكان ذلك في رمضان بعد صلاة العصر وهو على ناقته، فشرب لبناً وتبعه الكثير، فلم يفطر البعض، فقيل له: فلان وفلان، وفلان وفلان بقوا صائمين، فقال عنهم: (أولئك العصاة، أولئك العصاة).

وسماهم عصاة حيث تركوا الرخصة وبقوا على العزيمة، ولذلك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه).

وقد أذن الله تعالى بأن يقتل القاتل، ولكن مع ذلك جعل في العفو المغفرة والثواب، ولا شك أن المغفرة والثواب أفضل، وقد تدخل الجامعة فتجد أقوالاً فهذا سموه فيلسوفاً، وذاك سموه زعيماً، وذاك قالوا عنه: علامة كبير، وإذا اتفقوا على مسألة ما تجد أن الله يقول في نفس المعنى ما يخالف ذلك، ويقول رسول الله عليه الصلاة والسلام في نفس المعنى ما يخالف ذلك.

فإياك إياك، أن يخطر ببالك أن تقدم كلام أحد على الكتاب والسنة حتى ولو كان القائل صحابياً، ومن باب أولى إذا كان عالماً كبيراً أو فليسوفاً أو زعيماً أو غير ذلك، فكلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ورسوله المعصوم صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

ونحن نسمع الكثير ونقرأ الكثير، ولكن اجعل ميزانك بيدك دائماً، وهو أن ما قاله الله هو الحق، وما قاله رسول الله هو الحق، وما سوى ذلك باطل، فإن كان متخذاً من كتاب الله أو مستنبطاً من حديث رسول الله فذاك ويكون بذلك تبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله.

وفي هذا العصر تجد خلافاً وتضارباً بين قول الله وقول أولئك الفلاسفة، فيقولون: لا تقطع يد ولا يرجم إنسان ولا تجلد بشرة، نحن تطورنا وتقدمنا، وهذه أشياء تجعل التخلف قائماً؛ لأنه قارن قول المخلوق بكلام الخالق بل وفضله، فتبع إبليس، وتبع الكفرة من اليهود والنصارى والمنافقين.

فهؤلاء الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه قال الله عنهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [الزمر:18].

فإذا وجدت قولاً لشخص ما سواءٌ كان صحابياً أو إماماً ووجدت آية صريحة تخالف ذلك القول، أو وجدت حديثاً صريحاً يخالف ذلك القول، فلا تقل: أنا لا أعلم الآية، ولكن الإمام قال: كذا! إياك ثم إياك أن تقول ذلك.

فأنت عندما تسأل في القبر لا يقال لك: من إمامك؟ ولكن يقال لك: من نبيك؟ من ربك؟ ما دينك؟ فإذا قلت عن نبيك كلاماً يقوله الناس، ولا يدرى أحق هو أم باطل، فهنا المصيبة، فالظالم يلقى في قبره العذاب الأليم، فمنكر ونكير يضربونه بمرازب حتى يدخل في قعر الأرض السابعة، ثم يجتذبونه ويقتلعونه قلعاً، وهكذا تعذب روحه إلى يوم القيامة.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18] أي: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك المهديون الراشدون الصالحون المحقون.

وأولئك هم ذوو العقول والوعي والفهم والإدراك.

قال تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19].

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ [الزمر:19] قد رآه الله ورآه قومه وهو يحرص على إيمان قومه وعلى إيمان من دعاهم إلى الله، ولكن الأمر بيد الله لا بيد أحد سواه، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، وقد كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على إيمان فلان وفلان من أقاربه، ولكن الله له الإرادة والأمر، فقال الله لنبيه عن هداية قومه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3] أي: لعلك مهلكها ألماً وحسرة أن لم يؤمنوا بي، فلا تفعل.

فقوله: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] أي: ليست وظائف الرسل الهداية، ولكن وظيفتهم التبليغ، فعليك أن تبلغهم كلام الله، وأن تتلو عليهم كلام الله، وأن تبين ذلك بالسنة.

أما هدايتهم فلن تسأل عن ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يقال لك يوماً: إن فلاناً لم يهتد، ولكن يقال لك: هل بلغت؟

ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قام خطيباً في قومه في عرفات عند جبل الرحمة، وكان يقول: (ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟) يسألهم، والله قد أمره بالبلاغ.

فكانوا يقولون له: اللهم نعم، قد بلغت وأحسنت، ويشير بيده عليه الصلاة والسلام إلى السماء، إلى حيث العرش ثم ينكتها ويقول: (اللهم اشهد)، يشير إلى السماء ثم إليهم، أي: اشهد على هؤلاء. وكانوا مائة وعشرين ألف حاج.

أي: اشهد عليهم في أني بلغت أمرك ورسالتك، ولم أتوان في ليل ولا نهار ولا في صحة ولا مرض، ولا في سفر ولا حضر؛ لأن وظيفة النبوءات والرسالة التبليغ لا الهداية.

فهنا يقول: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ [الزمر:19] أي: وجبت عليه كلمة العذاب، وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي، قال تعالى: هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30].

فالله قضى على نفسه أن النار ستمتلئ، وأن الجنة سوف تمتلئ، فهؤلاء يا محمد! الذين هم من أهل النار أتظن أنك ستنقذهم من النار؟ هيهات هيهات، ليس ذلك لك ولا لأحد غيرك إنما هو لله الواحد القهار.

قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272] .

وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].

فقوله: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ [الزمر:19] أي: أفمن وجب في حقه، في شركه وكفره؛ (كَلِمَةُ الْعَذَابِ) وهي الكلمة التي أنذر بها العبد إذا لم يؤمن ومات على الكفر والشرك أن النار داره ومقامه ومأواه إلى أبد الآباد.

قوله: أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19] أي: هل تستطيع يا محمد! أن تنقذ هؤلاء الذين سبقت عليهم كلمة العذاب: إن الله حرم الجنة على الكافرين.

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] .

فإبراهيم دعا أباه آزر ووعده بأن يستغفر له، فلما مات على الشرك والكفر أخبر الله عن إبراهيم أنه لم يستغفر له، قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114] .

فلم يعد يطلب له المغفرة، لأن المغفرة للكافر لن تكون، ولن يغفر لمن مات على الشرك.

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20] .

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزمر:20] لكن: ليست للاستدراك كما تكون في الغالب، ولكنها كلمة لصرف قصة عن قصة.

قال: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:20] أي: ماتوا على التوحيد، أولئك هم أتباع الأنبياء وأولئك هم أهل الجنان.

قوله: اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:20] خافوه وأطاعوا أوامره واجتنبوا نواهيه، وآمنوا بكتابه وبرسله، عاشوا على ذلك وماتوا على ذلك.

قال تعالى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [الزمر:20] لهم غرف يعيشون فيها في الجنان، وهذه الغرف قصور شامخة يرى باطنها من ظاهرها.

روى أحمد في المسند والنسائي في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمنون في الجنة في غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها. فكان بدوي حاضراً فقال: يا رسول الله، لمن هي؟ قال: هي لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)

وصف المؤمن بأنه لين الكلام طيب القول، ليس بصخاب ولا فاحش ولا سباب ولا طعان ولا لعان، ووصفه بأنه يطعم الطعام ويتابع قيام الفرض وقيام النافلة، فكان يصلي ويتهجد لله والناس نيام.

وروى علي وأبو موسى الأشعري وأبو مالك الأشعري كما في صحيح البخاري ومسلم والسنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غرف الجنان ما بين الغرفة والغرفة كما بين السماء والأرض، يتراءون فيها كما يرى الكوكب الدري من الأرض، فقال قائلون: تلك منازل الأنبياء يا رسول الله لا يدخلها سواهم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بلى والذي نفس محمد بيده، هي لمن آمن بالله وصدق المرسلين).