أرشيف المقالات

الفن ضرورة - محمد جلال القصاص

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .

بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تفرَّغ (نزار قباني) لكتابة الشعر مذ كان شابًا؛ كان ثائرًا، ذا قضية، جيد العبارة، ولم يسمع به أحد حتى التقى (عبد الحليم حافظ)، وتعاون معه في (قارئة الفنجان) و(رسالة من تحت الماء)، ثم توافد عليه الباقون: (نجاة) وغير نجاة، فانتشرت كلماته..
طأطأ (نزار قباني) منكبيه لعبد الحليم حافظ، لم يتعالَ عليه، لم يقص عليه أمجاده ويفاخره بجودة عبارته وطول سيرته، وأبيه وجده؛ بل أناخ ببابه وراح يُعدِّل له ما يشاء من العبارات والفقرات (ولم يلتزم بكثير من تلك التعديلات في المطبوع من دواوينه، ولا فيما تلاه هو بصوته).
قد كان منتبهًا جدًا لدور (الفن) أو ( الغناء ) في إيصال المنتج الفكري للناس، يقول: الكاتب مدين لأهل الفن، وحين ذكَّره من تحاوره مرةً بفضل أمير الشعراء أحمد شوقي على المطرب محمد عبد الوهاب ردَّ بأن الفضل لعبد الوهاب على شوقي، فلولا حنجرة عبد الوهاب ما علم كثيرٌ من الناس شيئًا من شعر شوقي.
ومثله ابن شبانة (عبد الحليم حافظ): طأطأ منكبيه للصحفيين وللجمهور، وللكتاب، والملحنين، لم يتعالَ عليهم، لم يتحدث بلغة النجومية (انظر آخر حوار له مع طارق الحبيب قبل وفاته مباشرة، وانظر حديث الأبنودي والموجي عنه).
ومثله نجيب محفوظ في روايته التي انتشرت أفلامًا ومسلسلات.
وعلى العكس تمامًا من نزار وعبد الحليم ونجيب..
عباسُ العقاد فقد استكبر على أهل الفن ولم يستجب لهم حين طالبوه ببعض التعديلات كي يمثلوا قصته الوحيدة والتي كتبها بإيعازٍ منهم (سارة).
انتفخ وامتلأ كبرًا وراح يصيح: من ذا الذي يعدل على العقاد؟! فتركوه على دفاتره.
ولم ينتشر من أفكاره إلا ما يخدم أهداف غيره لا ما يريد هو.
وفي الوسط الإسلامي دائرة الفن غائبة، لا يوجد فن إسلامي يحمل المفاهيم الكلية (الفلسفات الحاكمة، أو النموذج المعرفي، أو الإطار النظري) للجماهير، بل إن أداة الفن تعمل في اتجاه عكسي، فالفن يأتينا وينتقي من بيننا ما يناسبه..
ما يخدم أهداف المخالفين، ويظهره، ويُفعِلُه، ويوظفه ضمن منظومة المخالف.
وفي الجملة يؤدي الفن دورين مترابطين:
أولهما: توزيع معرفة على الناس (ثقافة معرفية) تفيد في حشدهم وتوجيههم.
ثانيهما: يرسم صورة ذهنية للفرد عن نفسه وعن أمته، وعن عدوه.
يجيب له عن الأسئلة الضرورية: من هو؟ وماذا ينبغي عليه أن يفعل؟
ويقدم الفن المعلومة مصورة، يقدم المعلومة بنموذج حي، والصورة أكثر استقرارًا وتأثيرًا، فالإنسان يفكر في صور، يحول المعاني المجردة إلى صور، وهؤلاء يعطونه المعلومة مصورة.
فتخترق بسهولة وتستقر، ثم تتحكم في السلوك عاجلًا أم آجلًا.
الفن وسيلة وأداة فعل تخضع لإرادة المنظومة الحضارية التي تستعملها.
والفن الحالي يخضع للحضارة الغربية القائمة على الصراع (الفردية)، أنتجه واستخدمه الغرب ومَن يميل للغرب، ولذا فإن الفن المعاصر ينشر مفاهيم وقيم ننكرها ولا نعرفها، كما في تعاطيه مع الأسرة عمومًا والمرأة خصوصًا، وعلاقات الجوار وحسن الخلق بين الناس، فالمشكلة مع من يستخدم الفن لا مع أداة الفن نفسها، ومن الخطأ أن نرفض الأداة ونكسرها أو نبعدها والخلل فيمن يستخدمها.
وفضلًا عن تقييم الفن من خلال منتجه النهائي فإن رفض الفن يرجع أيضًا إلى ميل بعض السلفية للعزلة، أو بالأدق إصرارها على فرض صورة ذهنية على الواقع الموجود..
وحين تعجز تنكمش لواقع محدود (الشخص أو الأسرة أو دولة واحدة)، وعلينا أن نخرج، أو يخرج فريق منا وينابذ القوم، ويجرد الفن كأداة.
علينا أن نفك حالة الارتباط بين مخرجات الفن المحرمة والفتوى الشرعية ضيقة الأفق التي لا تعرف من الفن إلا هذا الشكل المرفوض من الجميع.
لسنا في حاجة للتقليد:
نحن مهزومون حضاريًا، ولم تتضح لنا رؤية في إطار الأمة، أو لم تتضح رؤية الصراع الحضاري عند كثيرين، فكثيرون مستوى تفكيرهم (دولة).
ويحتاج الأمر إلى تفكير في إطار الحضارة الإسلامية ككل، يحتاج الأمر إلى إخراج مفاهيمنا وقيمنا والتمكين لها في واقع الناس، واستخدام الفن كأداة للتمكين لهذه المفاهيم.
وقد أبدعنا النشيد الإسلامي، على غير نسقٍ سابق، استخدمنا أداة الفن (الإنشاد) في توصيل المفاهيم للناس، وتذكيرهم بمقام ربهم، وظهر في المحيط الإسلامي الفن الساخر في معالجة خصوم التوجهات الإسلامية في مصر بعد الانقلاب العسكري، وهي بادرة خير، ووسيلة لخطاب الجماهير العريضة التي لا تستقبل البحث العلمي والمحاضرة.
أيهما أفضل: من ينتج الفكر أم من ينشره؟
ثلاثة دوائر متصلة كلها يحتاج للآخر، كما يذكر الدكتور جاسم سلطان، وكلها لا يعمل بدون الآخر: الأولى: وفيها إنتاج للكليات أو المفاهيم الرئيسية، والثانية: حفر وتجهيز لهذه الكليات، شرحًا للفكرة واستدلالًا عليها، الثالثة: تسويق المفاهيم للعامة.
الأولى: يختص بها المفكرون، وهم قلة.
والثانية: يختص بها النخبة من الباحثين والكتَّاب.
والثالثة: يختص بها الفن.
فساد منتوجات الفن جعلنا نقف بعيدًا عنه، وما كان لنا، ولن نستطيع المرور دون التحدث للناس توجيهًا وحشدًا، ولا كالفن أداة، ولسنا في حاجة للتقليد بل نستطيع الإبداع، وقد بدأت خطانا على الطريق بالنشيد والمقطوعات الساخرة.

شارك الخبر

المرئيات-١