شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [4]


الحلقة مفرغة

قال صلى الله عليه وسلم: (وملائكته) .

يقولون: أصل الملك مألك، والمألك أو الألوكة الرسالة، والملائكة هم رسل الله إلى الخلق، وحقيقة الملائكة -أقصى ما نعرفه عنهم-: عبادٌ مكرمون، وهم عالمٌ نوراني خلق من النور، ويتفق أهل السنة على أن الملائكة ليسوا كالبشر، ولذا لا يقال فيهم: إنهم حيوان ناطق كالإنسان؛ لأن الإنسان حساس نامٍ، أي: يبدأ من الصغر ثم ينمو ويكبر، والملك ليس يحتاج إلى نمو، وإنما يخلق على ما هو عليه.

ولهذا لا طاقة للعقل في إدراك كنه الملك، وقد جاءت أحاديث توقف العقل عند حده.

طوائف الملائكة وأعمالهم

جاء في أمر جبريل عليه السلام، لما طلب منه رسول الله أن يريه ذاته على طبيعته، أنه ظهر له وقد سد الأفق كله، وفي الصحيح: (ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد أو راكع يذكر الله).

ويتفق علماء السنة أيضاً بأن الله جعلهم طوائف، ولذا: التاء في: (ملائكته) ليست للتأنيث ولكنها للطوائف المتعددة، فهناك ملك الوحي جبريل عليه السلام، وهناك ميكائيل الموكل بالأرزاق وما ينزل من السماء إلى الأرض، وهناك عزرائيل الموكل بقبض الأرواح ومعه أعوانه وجنوده، وهناك ملك الجبال ومن يساعده، وهناك ملائكة في البحار، وملائكة موكلة بالأرحام كما جاء في الحديث: (إن الله موكلٌ بالرحم ملكاً)، فإذا جاءت النطفة أخذها وسأل ربه: مخلقةٌ أو غير مخلقة، ما أجله وما رزقه؟ وشقي أم سعيد؟ وهكذا ملائكة يتعاقبون فينا بالليل وملائكة بالنهار: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].

وكما يقول العلماء: مع كل إنسان أربعة من الملائكة، أحدهم عن أمامه، والآخر عن يساره حفظة له، وهناك ملائكة يكتبون عليه أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وكذلك ملائكة موكلون بالسؤال في القبر وهما منكرٌ ونكير، وإن كان ابن رجب أو غيره ينفي هذه التسمية ويقول: (عبادٌ مكرمون)، (كرام كاتبون) فهم كرامٌ وليسوا مناكير.

قالوا: منكر ونكير، أي: ليسوا على خِلقة الملائكة ولا على خلقة البشر، بل لهم شكل خاص، وبعضهم يقول: ملائكة المؤمن مبشر وبشير، وملائكة غير المؤمن منكر ونكير.

إذاً: الملائكة طوائف لا يحصيها إلا الله.

فهناك من وكل بأعمال العباد، وهناك من خلق لعبادة الله وحده، كما جاء في الحديث (البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة)، وهناك من الملائكة من قد يرسل من الله بشيء خاص، كما جاء في صحيح مسلم: (بأن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ سمع صوتاً فرفع رأسه إلى السماء، وقال: هذا باب في السماء فتح اليوم لم يفتح قبل اليوم قط، ثم قال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل إلى الأرض قبلها قط، ثم جاء وقال: السلام عليكم يا محمد! أهديك نورين، وذكر له الفاتحة وخواتيم سورة البقرة)، وجاء في الأحاديث الأخرى تأتي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي الفاتحة وسورة البقرة ليلة الإسراء والمعراج من كنز تحت العرش.

وفي غزوة بدر لما كان صلى الله عليه وسلم يرتب المسلمين ويصفهم عندما نزلوا أول منزل، فجاء الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله! أمنزلٌ أنزلكه الله فلا قول لأحد، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال: فإن الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر ونبني لنا حوضاً نملؤه ماء، ونغور بقية الآبار.

وإذ هو في هذه الحالة فإذا بملكٌ نزل وجبريل مع رسول الله في أرض المعركة، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: الرأي ما قال الحباب ، فنظر رسول الله إلى جبريل وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، ولكن ظاهر عليه أنه ملك وليس شيطاناً، فالجنس يعرف جنسه، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى حيث أشار الحباب، ويهمنا أن ملكاً نزل بهذا.

وفي عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف لما اشتد أمر المشركين على رسول الله، قال جبريل: يا محمد! هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل هذا، وهكذا السحاب له ملك يسوقه، وهكذا العالم كله بتدبير الله على ما يلقي من الأوامر على الملائكة.

وجوب الإيمان بعالم الملائكة الغيبي ودليله

نحن إن لم نشاهد الملائكة فإننا آمنا بالله الذي أرسل رسوله وأنزل كتابه، وآمنا برسول الله الذي بلغنا عن الله وأخبرنا بوجود الملائكة، هل نقول: لا نؤمن بها لأننا لم نرها؟

لا والله، بل من لطف الله بالأمة أن يري بعض أفراد الأمة بعض آحاد الملائكة، وهذا ما أشرنا إليه عند قضية ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء العباس يستأذن على رسول الله ولم يأذن له وهو يراه بعينه داخل البيت، فرجع مغضباً، فقال له ابنه: لعله مشغول بالرجل الذي عنده، قال: وهل عنده أحد؟ قال عنده رجل: فرجع، ولما رجع كان الرجل قد ذهب، فقال: يا رسول الله! جئتك أستأذن عليك ثلاثاً فلم تأذن لي، ويقول هذا الغلام: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام: (هل رأيته يا غلام، قال: بلى رأيته، قال: هذا جبريل ذهب عني آنفاً).

وجاء في صورة دحية الكلبي.

وكذلك قضية الرجل من الأنصار: خرجت مع أهلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقاوم رجلاً، فجلست وظننت أن له حاجة، ثم صرت أرثي لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب الرجل جئت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (هل رأيت الرجل؟ قال: قلت: نعم، قال: تدري من هو؟ هذا جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وخديجة رضي الله تعالى عنها لما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً، وكان من عادته أن يذهب هو وعلي رضي الله تعالى عنه في أي مكان من الأمكنة يعبدان ربهما، فلما غاب عنها قامت تطلبه، وخافت عليه من قريش، وأخذت غداءه معها، فلقيها جبريل في صورة رجل، قال: إلى أين أنت ذاهبة يا خديجة ؟ قالت: ذاهبة إلى محمد، قال: وأين محمد؟ قالت: لا أدري.

فلما وجدت رسول الله وجاء إلى البيت جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرئها من الله السلام، وأن الله يبشرها بقصرٍ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، يرى ظاهره من باطنه)، إلى آخر الحديث، وهذه خديجة ترى جبريل في صورة رجل.

وكذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أتم المائة بالعابد، وخرج تائباً إلى القرية التي يعبد الله فيها، فمات في وسط الطريق فأتته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يختصمون فيه، فيرسل الله إليهم ملكاً في سورة رجل فيحتكمون إليه.

وكذلك الرجل الذي خرج يزور أخاه في الله في قرية، فأرسل الله إليه ملكاً على صورة إنسان، وقال: أين تذهب؟ قال: أزور أخاً لي في الله. قال: هل بينك وبينه قرابة أو شراكة في تجارة؟ قال: لا، قال: أحبك الله الذي أحببته فيه. إلى غير ذلك من الصور التي هي من آحاد رؤية بعض البشر لبعض الملائكة.

إذاً: على بقية أفراد البشر أن يؤمنوا ببقية أفراد الملائكة، وقد جاءت النصوص في عمومها تشمل أركان الإيمان المذكورة، قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، إلى غير ذلك، وهذا ما ينبغي على كل مسلم أن يؤمن به، أي: بأن لله ملائكة على أية حالة أو أي صفة كانوا.

مسألة المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر

هناك قضية قد يخوض فيها بعض الناس وقد يكف عنها البعض، ونحن نشير إليها لأنه ربما يتناولها طالب علم، وهي: أي الفريقين أفضل من الآخر البشر أم الملائكة؟ وهل هناك مفاضلة بين الملائكة وبين بني البشر، أم ليست هناك مفاضلة؟

خير ما تقرأ في ذلك أيضاً: شرح العقيدة الطحـاوية، فقد ذكر كلام الفريقين، وذكر بعض كلام العلماء في الإعراض عنها؛ لأنها لا يترتب عليها حكمٌ فقهي، ولأننا لسنا مسئولين عنها، ولكن إن عرض القول فيها فهناك من يقول:

مؤمنو البشر وخواص المؤمنين والأنبياء خيرٌ من الملائكة، ويستدلون بأن الله لما خلق آدم ثم علمه الأسماء عرضهم على الملائكة، قال: قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ [البقرة:32-33] ثم قال: اسجدوا له، فلما خلق الله آدم بيده وأكرمه بالعلم، أمرهم بالسجود إليه.

ولكن أجاب عن ذلك الفريق الآخر: بأن يوسف عليه السلام حينما جاءه أبواه خروا له سجداً، وليس معنى ذلك أن يوسف أفضل من أبيه ومن سائر أهله، والسجود طاعة لله بأمر الله وهو امتثال لأمره، والسجود لا يقتضي الأفضلية؛ لأنه تكريم من الله لآدم وليوسف.. إلى أشياء عديدة في هذا الباب، ولكن كما أشرنا: لا حاجة إلى الخوض فيها، ولسنا مسئولين عنها، ولم يأت حديث صحيح صريح في هذا الباب، ومن أراد الاستزادة في هذا المبحث بالذات فليرجع إلى الطحاوية ففيه الكفاية.

علاقة الملائكة بالبشر

وكما أن الملائكة في الدنيا فهم كذلك في الآخرة، وقد بين الله سبحانه ارتباط مؤمني البشر بالملائكة كما في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا.. [غافر:7] الآية، وهذا نوع من الملائكة.

كما أن بعض المفسرين كـالقرطبي يذكر عند قوله : تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4]، قال: نوع من الملائكة مراقب على عامة الملائكة، وهنا يدخلون في فلسفة: هل الملائكة تحاسب وتسأل أم لا؟

وبعضهم يقول: والروح هو جبريل عليه السلام ومنهم: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، وهذا نوع من الأنواع زيادة في ذلك اليوم والله أعلم.

ونحن نؤمن بما أخبرنا الله تعالى به، وأخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر:7]، أي: يؤمنون بالله: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، برابطة الإيمان: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]، فهؤلاء الملائكة يدعون للبشر، رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ .. [غافر:8]، إلى آخر السياق.

وهناك أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]، ولاية وصداقة، ونصرة وتأييد من الملائكة للمؤمنين في الدنيا، وقد وجدنا ذلك فعلاً في غزوة بدر، حيث نزلت الملائكة وكانت تقاتل معهم.

ويوم القيامة: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23-24]، فهؤلاء الملائكة أولياء للمؤمنين وتنزل عليهم في آخر لحظة، وهم طوائف عدة، ولا يعلم جنود ربك إلا هو، وعلى هذا: فالواجب على المسلم الإيمان بالملائكة على ما يريد الله من حقيقة ذاتياتهم.

جاء في أمر جبريل عليه السلام، لما طلب منه رسول الله أن يريه ذاته على طبيعته، أنه ظهر له وقد سد الأفق كله، وفي الصحيح: (ما من موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد أو راكع يذكر الله).

ويتفق علماء السنة أيضاً بأن الله جعلهم طوائف، ولذا: التاء في: (ملائكته) ليست للتأنيث ولكنها للطوائف المتعددة، فهناك ملك الوحي جبريل عليه السلام، وهناك ميكائيل الموكل بالأرزاق وما ينزل من السماء إلى الأرض، وهناك عزرائيل الموكل بقبض الأرواح ومعه أعوانه وجنوده، وهناك ملك الجبال ومن يساعده، وهناك ملائكة في البحار، وملائكة موكلة بالأرحام كما جاء في الحديث: (إن الله موكلٌ بالرحم ملكاً)، فإذا جاءت النطفة أخذها وسأل ربه: مخلقةٌ أو غير مخلقة، ما أجله وما رزقه؟ وشقي أم سعيد؟ وهكذا ملائكة يتعاقبون فينا بالليل وملائكة بالنهار: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].

وكما يقول العلماء: مع كل إنسان أربعة من الملائكة، أحدهم عن أمامه، والآخر عن يساره حفظة له، وهناك ملائكة يكتبون عليه أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وكذلك ملائكة موكلون بالسؤال في القبر وهما منكرٌ ونكير، وإن كان ابن رجب أو غيره ينفي هذه التسمية ويقول: (عبادٌ مكرمون)، (كرام كاتبون) فهم كرامٌ وليسوا مناكير.

قالوا: منكر ونكير، أي: ليسوا على خِلقة الملائكة ولا على خلقة البشر، بل لهم شكل خاص، وبعضهم يقول: ملائكة المؤمن مبشر وبشير، وملائكة غير المؤمن منكر ونكير.

إذاً: الملائكة طوائف لا يحصيها إلا الله.

فهناك من وكل بأعمال العباد، وهناك من خلق لعبادة الله وحده، كما جاء في الحديث (البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة)، وهناك من الملائكة من قد يرسل من الله بشيء خاص، كما جاء في صحيح مسلم: (بأن جبريل عليه السلام كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ سمع صوتاً فرفع رأسه إلى السماء، وقال: هذا باب في السماء فتح اليوم لم يفتح قبل اليوم قط، ثم قال: هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل إلى الأرض قبلها قط، ثم جاء وقال: السلام عليكم يا محمد! أهديك نورين، وذكر له الفاتحة وخواتيم سورة البقرة)، وجاء في الأحاديث الأخرى تأتي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي الفاتحة وسورة البقرة ليلة الإسراء والمعراج من كنز تحت العرش.

وفي غزوة بدر لما كان صلى الله عليه وسلم يرتب المسلمين ويصفهم عندما نزلوا أول منزل، فجاء الحباب بن المنذر وقال: يا رسول الله! أمنزلٌ أنزلكه الله فلا قول لأحد، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال: فإن الرأي عندي أن نتقدم إلى آخر بئر ونبني لنا حوضاً نملؤه ماء، ونغور بقية الآبار.

وإذ هو في هذه الحالة فإذا بملكٌ نزل وجبريل مع رسول الله في أرض المعركة، فقال: يا محمد! إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: الرأي ما قال الحباب ، فنظر رسول الله إلى جبريل وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31].

فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل، ولكن ظاهر عليه أنه ملك وليس شيطاناً، فالجنس يعرف جنسه، وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى حيث أشار الحباب، ويهمنا أن ملكاً نزل بهذا.

وفي عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف لما اشتد أمر المشركين على رسول الله، قال جبريل: يا محمد! هذا ملك الجبال، إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل هذا، وهكذا السحاب له ملك يسوقه، وهكذا العالم كله بتدبير الله على ما يلقي من الأوامر على الملائكة.

نحن إن لم نشاهد الملائكة فإننا آمنا بالله الذي أرسل رسوله وأنزل كتابه، وآمنا برسول الله الذي بلغنا عن الله وأخبرنا بوجود الملائكة، هل نقول: لا نؤمن بها لأننا لم نرها؟

لا والله، بل من لطف الله بالأمة أن يري بعض أفراد الأمة بعض آحاد الملائكة، وهذا ما أشرنا إليه عند قضية ابن عباس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لما جاء العباس يستأذن على رسول الله ولم يأذن له وهو يراه بعينه داخل البيت، فرجع مغضباً، فقال له ابنه: لعله مشغول بالرجل الذي عنده، قال: وهل عنده أحد؟ قال عنده رجل: فرجع، ولما رجع كان الرجل قد ذهب، فقال: يا رسول الله! جئتك أستأذن عليك ثلاثاً فلم تأذن لي، ويقول هذا الغلام: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، فقال صلى الله عليه وسلم للغلام: (هل رأيته يا غلام، قال: بلى رأيته، قال: هذا جبريل ذهب عني آنفاً).

وجاء في صورة دحية الكلبي.

وكذلك قضية الرجل من الأنصار: خرجت مع أهلي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقاوم رجلاً، فجلست وظننت أن له حاجة، ثم صرت أرثي لطول قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب الرجل جئت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (هل رأيت الرجل؟ قال: قلت: نعم، قال: تدري من هو؟ هذا جبريل، ولو سلمت عليه لرد عليك السلام، وما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).

وخديجة رضي الله تعالى عنها لما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً، وكان من عادته أن يذهب هو وعلي رضي الله تعالى عنه في أي مكان من الأمكنة يعبدان ربهما، فلما غاب عنها قامت تطلبه، وخافت عليه من قريش، وأخذت غداءه معها، فلقيها جبريل في صورة رجل، قال: إلى أين أنت ذاهبة يا خديجة ؟ قالت: ذاهبة إلى محمد، قال: وأين محمد؟ قالت: لا أدري.

فلما وجدت رسول الله وجاء إلى البيت جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقرئها من الله السلام، وأن الله يبشرها بقصرٍ في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب، يرى ظاهره من باطنه)، إلى آخر الحديث، وهذه خديجة ترى جبريل في صورة رجل.

وكذلك الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم أتم المائة بالعابد، وخرج تائباً إلى القرية التي يعبد الله فيها، فمات في وسط الطريق فأتته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يختصمون فيه، فيرسل الله إليهم ملكاً في سورة رجل فيحتكمون إليه.

وكذلك الرجل الذي خرج يزور أخاه في الله في قرية، فأرسل الله إليه ملكاً على صورة إنسان، وقال: أين تذهب؟ قال: أزور أخاً لي في الله. قال: هل بينك وبينه قرابة أو شراكة في تجارة؟ قال: لا، قال: أحبك الله الذي أحببته فيه. إلى غير ذلك من الصور التي هي من آحاد رؤية بعض البشر لبعض الملائكة.

إذاً: على بقية أفراد البشر أن يؤمنوا ببقية أفراد الملائكة، وقد جاءت النصوص في عمومها تشمل أركان الإيمان المذكورة، قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، إلى غير ذلك، وهذا ما ينبغي على كل مسلم أن يؤمن به، أي: بأن لله ملائكة على أية حالة أو أي صفة كانوا.




استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3518 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3206 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3179 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3129 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3110 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3058 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3041 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2989 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2886 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2871 استماع