خطب ومحاضرات
تفسير سورة الزمر [42-46]
الحلقة مفرغة
قال الله جل جلاله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر:42].
يخبرنا جل جلاله بأن النوم وفاة، وأن الموت وفاة، يقول الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا أي: الله يستوفي أجلها وحياتها، فالتي ماتت يمسكها ولا يعيدها، والتي سبق في علمه أنها ستبقى يرسل لها روحها إلى أجل مسمى عنده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (النوم كالموت والصحو كالبعث)، ونحن عندما ننام كأننا متنا، فهو شبيه بالموت من حيث فقد الشعور والإحساس والإدراك، واستيقاظنا من نومنا كالبعث عند القيام للحشر والعرض على الله.
واختلف علماؤنا: هل النفس هي الروح أو الروح مختلفة؟
ظاهر القرآن يدل على أن النفس هي الروح، وأن الروح هي النفس، قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ، فقد ذكر كل ذلك موتاً سواءٌ كان عند الموت التام أو عند النوم.
وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].
وذهبوا يتكلمون عن الروح ما هي؟ فقالوا: هي جسم لطيف أشبه بذات الإنسان طولاً وعرضاً، وأشبه بصفات الإنسان المرئية.
ولكن هذا كلام قالوه والقرآن يخالفه، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الروح كما يقول ربنا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85].
فالله قد استأثر بعلمها.
فلذلك قال ربنا: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي: لم نؤت من العلم على سعة علوم البشر وكثرتها وتنوعها وتفننها إلا القليل.
وقصة موسى والخضر تؤكد ذلك وتزكيه، عندما سئل موسى: هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا، فقال الله له: بل عبدنا الخضر ، فرجا ربه وضرع إليه ليجمعه به، وليتعلم من علمه، وإذا به قطع البراري والقفار، والشواطئ والصحاري، من صحراء فلسطين إلى طنجة؛ حتى بلغ مجمع البحرين: البحر المحيط والبحر الأبيض، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه وغيره، فوجد موسى الخضر عليهما السلام فسأله أن يعلمه من علومه، فقال: إنك لا تصبر على ذلك، قال: بلى، فاشترط عليه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، إلى أن جمع معه ثلاث قصص وثلاث قضايا فكان موسى في عقب كل قصه يستنكر ما رأى.
وفي الثانية: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف:76].
وفي الثالثة كذلك انتقده وعابه، فقال له الخضر : هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] أخذ يحدثه بحكم ذلك وتفسيره، وأخبره بالمغزى من القصة كلها، وقد وقف طائر على شاطئ البحر، وأخذ قطرة من الماء، فقال الخضر : يا موسى! أرأيت هذه القطرة يأخذها هذا الطائر، ما علمي وعلمك وعلم جميع الخلائق إلى علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من البحر.
وذاك معنى قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [لقمان:27] أي: لو أن بحار الأرض جميعها وخلفها مثلها كانت مداداً، وكانت الشجر أقلاماً لجفت البحار والأقلام، ولا ينفد علم الله بحال.
فالذي أخذه المفسرون وعلماء الفلسفة وعلماء الكلام في تعريف الروح هو ضرب من الظن ورجم بالغيب، إذ ليس الأمر كذلك، فالله لم يطلع أحداً على معرفة الروح، وكل ما نستطيع قوله هو ما يتعلق بأثرها، فمن كان فيه روح يتحرك، ويتنفس، ويرضى ويغضب، ويأكل ويشرب فكل ذلك أثر من آثار الروح وليست الروح نفسها.
قال عمر رضي الله عنه -وفي المجلس علي وجماعة من الصحابة: عجبت لأمر الرؤيا يرى الإنسان الرؤيا في منامه لم تكن تخطر له على بال في عالم الصحو واليقظة، فإذا به يصحو وكأنه يلمسها بيده، فقال له علي : أتعلم مغزى ذلك وحكمته؟ قال: لا، قال: قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا يحصد أروح النائمين كل ليلة؛ فتجتمع في الملأ الأعلى فتتذاكر وتتحاور، فما دامت في السماء يرى الرائي -وهو النائم ولم يقدر بعد أخذ روحه منه- فتلك الرؤيا صادقة ترى في السماء، تراها روحه، وتتحدث بها، فعندما تعود للجسم تتحدث وتكون رؤيا صدق، وما تحدثت به ورأته في منامها وقد نزلت وقد جاءت فتكون رؤيا كاذبة من الشيطان، فعجب عمر ، وقد قال مثل ذلك ابن عباس وسعيد بن جبير وآخرون من السلف صحابةً وتابعين رضي الله عنهم.
قال الله تعالى: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ أي: يتوفى الأنفس، ويستوفي حياتها وأيامها، وتكون عنده في الملأ الأعلى، فالذي قضى في سابق علمه نهايتها يمسكها إليه، ويرسل الأخرى التي لم يقض بعد بموتها، فتعود للبدن إلى أجل مسمى عند ربنا، فيعيش سنة أو مائة أو أقل أو أكثر، ويعلم ذلك الله جل جلاله.
ولذلك فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين والسنن يقول: (إذا أراد أحدكم أن يدخل في فراشه فلينفض داخلة إزاره، فهو لا يدري ما خلفه بعده، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
ويعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننام جهة اليمين، وأن نضع الكف اليمنى تحت الخد الأيمن، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وأن ندعو بهذا الدعاء: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها وإذا أنت أرسلتها فاحفظها) أي: احفظها من الذنوب والآثام إلى أن تقضي بأخذها.
قال تعالى: وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ أي: إلى وقت مسمى وزمن معين عنده جل جلاله.
قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ إن في أخذ أرواح النائمين وأرواح الموتى وكيف يصنع ربنا ذلك لعلامات دالة على قدرة الله، وعلى انفراده بالقدرة والوحدانية، وعلى أنه القادر على كل شيء وأن غيره لا يقدر على شيء، وأنه لا شريك له سبحانه.
فقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أي: لعلامات لكل متفكر في قدرة الله، ولكل واع مؤمن، وفي الأثر: (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله)؛ إذ ذات الله لا تسعها العقول ولا تصل إليها، وكل ما خطر على بالك فالله يكون مخالفاً لذلك.
قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:43-44].
يقول ربنا عن هؤلاء المشركين الكفرة: أَمِ اتَّخَذُوا أم: استفهام تقريعي توبيخي، أي: هل أهؤلاء الكفرة المشركون اتخذوا من دون الله شفعاء، أي: آلهة؛ ليشفعوا لهم من عذاب الله، هذه الآلهة التي زعموا أنهم ما عبدوها إلا لتقربهم إلى الله زلفى، هل ستشفع لهم يوم القيامة من الخزي والعذاب ومن غضب الله؛ هل يملكون شيئاً في الدنيا، هل يعقلون أو يميزون، هل ينفعون أو يضرون؟ فما بال هذه العصور الضائعة الزائفة تعبد الجمادات، وتعبد أجساماً لا تضر نفسها ولا تنفعها، فكيف بها تنفع غيرها أو تضرها؟!
ثم قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:44].
أي: قل يا محمد! لهؤلاء: إن الشفاعة لله جميعاً، قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، فلا يقبل الله الشفاعة إلا ممن رضي له قولاً وأذن له أن يشفع، والله لا يأذن لوثن ولا لصنم، فإن الصنم جماد لا يعي ولا يعقل ولا يدرك ولا يملك من أمر نفسه شيئاً، حتى الشفاعة للملائكة وللرسل، بل والشفاعة العظمى لسيد الخلائق محمد صلى الله عليه وسلم لن تكون إلا بإذن الله.
فعندما تأتيه الخلائق والأمم من أمة آدم عليه السلام إلى أمة نبينا عليه الصلاة والسلام، يقوم عند ذلك ويقول: (أنا لها)، ولا يشفع حتى يخر ساجداً تحت العرش، ويدعو الله بمحامد -يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ولا أعلمها الآن، يعلمني الله إذ ذاك إياها، فيشفع ويقول: يا رب، ويضرع إلى الله بأن يأذن له بالشفاعة، بعد زمن لا يعلم كم، يوم أو سنة أو أكثر أو أقل، فيقول الله عز وجل: (يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع)، وهذا هو المقام المحمود الذي وعده الله لخاتم أنبيائه، وهو مع ذلك لا يكون إلا بإذنه وأمره، فكيف بهذه الأصنام وهذه المعبودات الباطلة، أن تشفع وأن يصدر عنها ضر أو نفع، وهي أعجز من ذلك، وأضل من ذلك وأضعف.
فقوله: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا أي: كل الشفاعات؛ شفاعات الملائكة، وشفاعات الأنبياء والرسل وشفاعات الصالحين من آباء وأبناء، وشفاعات العلماء من كبار وصغار، كل هذه الشفاعات بجميع أنواعها هي بيد الله ولا يأذن لأحد في إحداها إلا لمن رضي ولمن أذن له، قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ .
قال تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر:44].
أي: الله الواحد، مالك السماوات والأرض وما بينهما، خالقها ومدبرها، رازقها والقائم عليها جل جلاله.
قال تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: يوم القيامة، ثم تبعثون بعد الموت، فحساب فعقاب فجنة ونار، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].
فليس لهؤلاء الأنداد ولا لهذه الأوثان مع الله أمر أو نهي، إنما هي أوهام وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45].
وما أشبه اليوم بالأمس، فإن الله يخبر عن هؤلاء الكفرة الجاحدين المشركين بأن من عوائدهم وأخلاقهم أنه إذا ذكر الله وهم يسمعون اشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35].
فقوله: (اشمأزت قلوبهم) أي: نفرت وحاصت حيصة حمر الوحش، واستكبرت وتضايقت وعافت السامع وملته، فلا تريد أن تسمع لله ذكراً، وذاك من كفرها وإصرارها على الكفر؛ ومن عدائها جهلاً وضلالاً؛ لجهلها بالله ومقامه، إذا سمعوا اسم الله تعالى ضاقت نفوسهم ونفرت قلوبهم، واستكبروا على الله ولا يريدون أن يسمعوا لله ذكراً.
قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: إذا ذكر الأوثان والشركاء، وإذا ذكر من زعم له العلم ممن يسمى فيلسوفاً ومفكراً وعاقلاً ومدبراً، إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي: يفرحون، وهذا كما وصف الله به من مضى من الكفار السابقين، ومن عاصر محمداً صلى الله عليه وسلم، ولا تزال هذه الصفة الكاشفة لكل كافر إلى يومنا هذا.
فإنك إذا جئت مجتمعاً فيه كفرة مشركون، تجدهم لا يهابون سيفاً ولا يهابون حاكماً؛ لأن الحاكم من نوعهم، والنائب من جنسهم والزعيم من أشكالهم، فإذا قلت: باسم الله، حاصوا حيصة حمر الوحش وقالوا: لم باسم الله؟! وإذا قلت: الحمد الله، صاحوا في وجهك وقالوا: وما ذكر الله؟!
وأعلم وأسمع في بلاد المسلمين أنه يقف الأستاذ الجامعي يحاضر تلاميذه، فيبتدئ درسه بباسم الله، وإذا بهم يقومون في وجهه كالوحوش الكاسرة: لم باسم الله؟! هذه بداية الرجعيين المتخلفين، وإذا ختم الدرس بالحمد الله، حاصوا وجنوا، فإذا قال هذا المتكلم: ماركس وقال: لينين وما إلى ذلك من هذه الأسماء القذرة تطارحوا عليه تطارح الفراش على النار، والأمر كما وصف الله: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر:45] أي: يفرحون ويعدون ذلك بشرى، وهذا في ديار الإسلام ممن تلاعبت بهم اليهودية والصليبية والإلحاد والنفاق بكل نعوته وصفاته، فأفسدوا العقول، وأضلوا العقائد، وأذلوا البشرية، وأصبحوا أحقر من الحيوانات، بل كما وصفهم الله: أولئك كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].
فهذه هي الصفة التي وصفهم بها خالقهم، ولذلك فهم الرجعيون حقاً والمتخلفون حقاً، فآباؤهم وأجدادهم وأولياؤهم من الكفار السابقين، هم الذين اتصفوا بهذه الصفات، ينفرون إذا سمعوا ذكر الله، ويحصل لهم اشمئزاز في النفوس والقلوب، ويستكبرون في أنفسهم ويقولون: دعنا من ذكر اسم الله.
وأعلم شخصاً هلك قريباً، كان وزيراً كاتباً وابن رجل صالح، جاءني يوماً بمقال قال لي: ألا ترى؟ كتبت عدة أوراق ولم أذكر اسم الله قط، وأنت تكتب ولا يكاد يمر سطر إلا وفيه باسم الله، والحمد الله، وإن شاء الله، وإذا أراد الله، فقلت له: (تلك شكاة ظاهر عنك عارها!) وهلك قريباً، ولا أدري على أي حال هلك، وإن كان من بيت كريم ينتسب للشرف والعلم والصلاح، ولكن الشيطان -ونعوذ بالله من وساوس الشيطان- إذا عادى عالماً، وعادى صالحاً، وعجز عن الإضرار به وإفساده طمع في أن يصل إلى أولاده، فنعوذ بالله أن يقدره علينا أو على أولادنا أو على أسباطنا.
فقوله تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي: من دون الله، وهذه صفة هؤلاء الأوساخ ممن ينتسبون للبشر، هذه صفتهم القديمة والمحدثة، ومن عجيب الأمر أن يقولوا مثل هذا ويجاهروا به مع قلة أدبهم وقلة حيائهم مع الأساتذة وقت محاضراتهم، ولا يجد هؤلاء رادعاً من الدولة، لا من كبيرها ولا من وزراءها، ولا من حكامها، فكلهم يؤيدون الكفر ويشجعونه، وينافحون عنه، فلو قام هذا، ولطم هذا، وطرد هذا لقامت عليه الدنيا: أنت محدث أو جبار.
أما أن يسمع ذكر الله بسوء، ويسمع الإعلان بالكفر بالله والاشمئزاز من ذكره، فيقولون له: تلك حرية، تلك أشياء شخصية لا دخل لك فيها؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله! كل هذا في هذا الوقت السوء، في هذا العصر عصر الشيطان واليهود، وعصر الصليبية والنفاق بكل أشكاله، أعاذنا الله والمسلمين جميعاً منه، ومن وساوس إبليس.
قال تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الزمر:46].
أي: قل يا محمد! وادع ربك وناجه، وقل: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ .
اللهم: أي يا الله، يا فاطر السماوات، يا خالقها ومبدعها على غير مثال سابق.
والفطر: الخلق على غير مثال سابق، فليس هناك شيء سابق إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
فالله هو الذي فطر السماوات بمن فيها وما فيها وما بينها، وهو فاطر الأرض وما عليها وما تحتها، وما فيها من إنس وجن وحيوان، وما فيها من بحار وصحاري وكل ما فيها، فالله هو الذي ابتدأها وفطرها وخلقها على غير مثال سابق، فنادِ يا محمد! ربك وادعه، لا كأولئك الذين لا يريدون أن يدعوا الله.
قوله تعالى: عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أي: يا عالم الغيب -وهو ما غاب عن الناس- يا عالماً بالأسرار! يا عالماً بما في الضمائر! يا عالماً بما في الخواطر.
وقوله: وَالشَّهَادَةِ أي: الحاضر والعلانية، أي: تعلم ما أعلن؛ فأنت تعلم ما أسر وما أضمر وما لم تتحدث به إلا النفوس والضمائر، ولا تخفى عليك خافية يا ربنا يا إلهنا.
قال تعالى: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ : أنت الذي ستحكم يوم البعث والنشور، عند الحياة الثانية لهؤلاء الخلائق، أنت الذي ستعرضهم عليك وتحكم بينهم باختلافهم؛ فأنت تعلم المحق من المبطل، وتعلم من الذي أتى الهداية والذي عاش على الضلالة، ومن الذي قال الحق والذي عاش في الباطل، فستحكم بينهم يوم القيامة فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ .
تحكم بين النصارى ودعواهم: أن الله ثالث ثلاثة، وبين اليهود ودعواهم أن عزيراً إلههم، وتحكم بين اليهود والنصارى والمسلمين؛ وتحكم بين الذين ادعوا أنهم أبناء الله وأحبابه من النصارى واليهود، وتحكم للمسلمين الذين قالوا: إن الله واحد في ذاته، واحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وأنه الخالق القادر الرازق المدبر للأمر، ليس له شريك لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
في الصحيح والسنن: سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها: (يا أم المؤمنين! بماذا كان يبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلاة في الليل؟ قالت: كان يقول: الله أكبر، ثم يقول: اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي إلى صراط مستقيم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـأبي بكر وعبد الله بن عمرو ولغيرهما رضي الله عنهم: (إذا أصبحت وإذا أمسيت فقل: اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ... من قال ذلك حين يصبح، ومن قال ذلك حين يمسي يحفظه الله من كذا وكذا...)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآيات جاءت بياناً للتوحيد وللهداية إلى الحق، وللإيمان الصدق بعد كفر أولئك الذين جعلوا مع الله شركاء، والذين إذا ذكر الله يستكبرون، والذين إذا سمعوا اسم الله تجدهم قد اشمأزت نفوسهم ونفرت قلوبهم، وحاصوا حيصة حمر الوحش، أما المؤمنون حقاً فهم الذين إذا ذكر الله اطمأنت قلوبهم، إذا ذكر الله فزعت قلوبهم، إذا ذكر الله تجدهم إذا هم بجميع خلايا جسومهم، وبجميع أعضائهم حامدون شاكرون راجعون لله فرحين، عكس أولئك المنافقين.
قال تعالى: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ أي: أنت يا الله الحكم الحق، وأنت الحكم الذي تهدي الناس إلى سواء الصراط المستقيم، فمن آمن في الدنيا فله السعادة، ومن أشرك إلى ما بعد الموت يعرف الحقيقة، ويكون قد فاته الزمن، وقد مات على الشرك، فلا ينفعه إذ ذاك إيمان ولا توحيد ولا عودة إلى الحق؛ لأن الإيمان الذي قلنا به في دار الدنيا هو إيمان بالغيب.
أما حين يصبح الإيمان إيمان حضور وشهود فإنه يكون الكافر والمؤمن إذ ذاك سواء، قال تعالى: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الزمر [60-67] | 1923 استماع |
تفسير سورة الزمر [1-5] | 1913 استماع |
تفسير سورة الزمر [20-22] | 1875 استماع |
تفسير سورة الزمر [36-42] | 1842 استماع |
تفسير سورة الزمر [47-52] | 1764 استماع |
تفسير سورة الزمر [9-12] | 1633 استماع |
تفسير سورة الزمر [71-75] | 1548 استماع |
تفسير سورة الزمر [13-20] | 1201 استماع |
تفسير سورة الزمر [30-35] | 1143 استماع |
تفسير سورة الزمر [23-29] | 922 استماع |