تفسير سورة الزمر [23-29]


الحلقة مفرغة

معنى قوله تعالى: (كتاباً متشابهاً مثاني)

قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23] .

في هذه الآية يبين الله لنا ما هو أحسن الحديث قال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا [الزمر:23] أي: أحسن الحديث على الإطلاق القرآن الكريم، الذي هو آخر الكتب الموحى بها إلى الأنبياء، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الحكم بين الناس، وهو دستور المسلمين وقانوهم، والشرف الذي إذا دانوا له وعملوا به كانوا سادة الأمم.

وعندما كان هذا الكتاب إمامهم يرجعون إليه في الأحكام وفي الحلال والحرام، في الدولة والشارع والمعسكر، وفي الأحوال كلها الداخلية منها والخارجية، عزوا وسادوا وما استكانوا، وما وضع اليهود أقدامهم عليهم إلا بعد أن تركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً.

قال تعالى: مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23] أي: يشبه بعضه بعضاً، فهو يتشابه في البلاغة والفصاحة والحقائق، ويشبه بعضه بعضاً في أن الجميع وحي من الله، وحق منه، إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وليس معنى المتشابه هنا كمعنى المتشابه في قوله تعالى: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7].

والله لا يشبه أحداً من خلقه, ولا يشبهه أحد من خلقه، فمتشابه هنا معناها: تشابهت الآيات في كتاب الله في كونها جميعاً كلاماً حسناً وبديعاً حقاً ووحياً من الله، وجميعها دعت إلى الحق والنور والفلاح والصلاح، وإلى سيادة المسلم وجعله سيد الأرض وإمامها وأستاذها ومعلمها وداعيها إلى الله.

فقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23].

أي: ذاك الذي دعانا الله إليه ووصف المؤمنين الصالحين بأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، هو كلام الله، ومنه كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذ هو شرح وبيان وتفسير له ولا يستغنى عنه.

فمن ترك السنة ترك كتاب الله، ومن ألغى الحديث ألغى كلام الله؛ لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] .

فمن كلام الله طاعة رسولنا وامتثال أمره واجتناب نهيه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] .

قوله تعالى: (مَثَانِيَ): جمع مثنى، أي: هذه الآيات نزلت مثنى مثنى، يذكر النار وضدها الجنة، ويذكر الخير وضده الشر، ويذكر الإيمان وضده الكفر، يذكر الشيء وضده ليبين للناس الخير من الشر، ولكي تتميز الأشياء، فمن لم يعلم الشر لم يعلم الخير، ومن لم يعلم الكفر لم يعلم الإيمان.

ولذلك يجب على الإنسان أن يعرف الشر ليتجنبه ويبتعد عنه، يحمد الله على أن هداه ووفقه وألهمه للخير الذي هو الإسلام والقرآن، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك ذكرت قصص القرآن كقصة موسى مثلاً وكررت في أكثر من سورة، لتحفظ وتؤكد، وكما تقول أمثال العرب: الشيء إذا تكرر تقرر.

فإذا تكرر الشيء أصبح قراراً وإلزاماً، ومن هنا يفيد التكرار في زيادة البيان والوعي والعلم والفهم.

معنى قوله تعالى: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)

قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23] أي: تضطرب وتتغير وتصفر فيضطرب المؤمن خشية من الله وحينما يسمع القرآن تجده مضطرباً خوفاً من النار ورجاء الجنة، طمعاً في رحمة الله وخوفاً من عقابه وغضبه، وإذا سمع القرآن يكون على غاية من الاطمئنان والحضور الذهني بجميع حواسه ليسمع ما يلقى إليه.

قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] وذاك شأن المؤمن.

سمع عبد الله بن عمر عن إنسان من التابعين كان إذا سمع القرآن غشي عليه فقال: ليس هذا من الله ولكنه من الشيطان، لم يكن كذلك أصحاب محمد، كانوا يسمعون القرآن ويخشعون له وتدمع أعينهم ولكننا لا نغيب ولا يغمى علينا، بل نكون على غاية من الحضور ذهناً وإنصاتاً وسماعاً.

وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن خشعوا ودمعت عيونهم، فقيل لها: إن هناك ناساً يغمى عليهم، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أي: لم يكن هذا في عهد الصحابة وهم أكثر تقوى ومعرفة بالله منكم.

قيل لـعمر بن عبد العزيز : هناك إنسان إذا سمع القرآن أخذ يصيح؟ قال: بيننا وبين هذا أن نختبره، فنجعله على سور ونقرأ عليه القرآن، فإن اضطرب ووقع صدقناه، وإذا لم يضطرب ولم يقع كذبناه فهو شيء يصطنعه.

وكثير من الناس في بعض الأقطار العربية والإسلامية عندما يسمع القرآن يتلى تجده يضطرب ويتصايح ويغشى عليه، وليست الآيات تدعو إلى التقوى ولا إلى الطاعة والامتثال، فقد تجده يصيح من آيات كثيرة وهو لا يعي ولا يفهم معانيها.

وعندما تسأله: لماذا تبكي؟ يقول: أعجبتني هذه السورة، فهو لا يستمع لكتاب الله وما فيه من معان، وإنما للتغني به فقط، فهو لا يقرؤه مجوداً مرتلاً ولكن يقرؤه متغنياً به.

وقد قال علماؤنا في سابق الزمان عن القرآن: المغاربة حفظوه، وأهل الشام جودوه، والمصريون تغنوا به؛ ولذلك من الأدب مع القرآن أننا إذا سمعنا من يقرؤه ويتلوه أن نكون على غاية من الأدب والإنصات والسكون، والصياح والهيجان يخالف الإنصات ويلهي الحاضرين، ومثل هذا لم يفعله السلف الصالح.

جاء في الحديث عن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا خشع القارئ واطمأنت أعضاؤه وهو يتلو كتاب الله تلك ساعة دعوة مستجابة فليدع الله، فقمن إذا دعا الله أن يستجاب له).

قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ [الزمر:23] هذه القشعريرة إذا حصلت عند تلاوة القرآن، وعند سماع ذكر الله، عند التفكر في خلق الله وفي قدرته ووحدانيته فهي حالة ربانية للمؤمن الصادق فقد قالوا: في تلك الساعة إذا دعا الله بأي اسم من أسماء الله الحسنى استجاب الله له.

فقوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23] الجلود: جمع جلد، أي: يقشعر جلد الإنسان حتى ترى صفرة وجهه، واهتزاز بدنه واضطراب حواسه.

معنى قوله تعالى: (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)

قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].

ففي أول مرة تقشعر الجلود، وعندما يذكر الله بوحيه وبوحدانيته وقدرته تلين منهم الجلود وتتفتح، فتزول القشعريرة، وعندها تلين القلوب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] .

فيجد اطمئناناً في قلبه وانشراحاً في صدره وليناً في بدنه وراحة، ولذلك يجب أن نختبر أنفسنا قبل أن نُخْتَبَر، فحينما نسمع القرآن يتلى: هل ننصت إليه؟ هل نفكر في معانيه؟ إذا تلوناه سواء كنا مصلين أو تالين فقط هل تخشع جلودنا له؟ هل تطمئن قلوبنا به؟ هل ينشرح صدورنا لتلاوته؟ إن كان ذلك كذلك فليحمد المسلم ربه على ذلك، لأن فيه صفة صالحة من صفات المسلمين الحقة.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته) فالمسلم إذا عمل عملاً صالحاً تجده يبتهج ويقول: أحمد الله على ما وفقني إليه.

وإذا ارتكب سيئة تجده يتألم على ارتكابه لها، ويندم على ما صدر عنه، إن كان كذلك فهو مسلم حق، يختبر نفسه ولا يختبره غيره.

فقوله: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] أي: تطمئن إليه وتنشرح به.

قال تعالى: (ذَلِكَ) أي: سماع أحسن القصص وسماع أحسن الحديث، أي: سماع تلاوة القرآن فتقشعر منه جلود من المسلمين الذاكرين، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، أولئك الذين وفقهم الله لهذا.

فقوله: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر:23] ذلك الذي سبق من الآية هو هدى الله الذي يهدي به من يشاء، ورحمته وتوفيقه وإلهامه، فهذه الهداية يهدي الله لها من شاء من خلقه ومن شاء من عباده الصالحين الطيبين.

قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23] ومن كان غير ذلك كان قاسي القلب، إذا سمع القرآن لا ينشرح له ولا يتفتح صدره ولا يخشع لذكره ولا يلين قلبه عند تلاوته، هذا ممن أضله الله، ومن أضله الله فلا هادي له.

فهذا قد غير ما بقلبه، إذ كان قلبه منطوياً على غير ذكر الله وعلى غير اليقين في الله وفي دينه، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70] أي: لم يكن في قلب هذا خير فلم يهده الله إلى خير ولم يوفقه له، لما علم من فساد قلبه ومن كذبه على الله.

قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23] .

في هذه الآية يبين الله لنا ما هو أحسن الحديث قال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا [الزمر:23] أي: أحسن الحديث على الإطلاق القرآن الكريم، الذي هو آخر الكتب الموحى بها إلى الأنبياء، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الحكم بين الناس، وهو دستور المسلمين وقانوهم، والشرف الذي إذا دانوا له وعملوا به كانوا سادة الأمم.

وعندما كان هذا الكتاب إمامهم يرجعون إليه في الأحكام وفي الحلال والحرام، في الدولة والشارع والمعسكر، وفي الأحوال كلها الداخلية منها والخارجية، عزوا وسادوا وما استكانوا، وما وضع اليهود أقدامهم عليهم إلا بعد أن تركوا كتاب الله وراءهم ظهرياً.

قال تعالى: مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ [الزمر:23] أي: يشبه بعضه بعضاً، فهو يتشابه في البلاغة والفصاحة والحقائق، ويشبه بعضه بعضاً في أن الجميع وحي من الله، وحق منه، إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وليس معنى المتشابه هنا كمعنى المتشابه في قوله تعالى: آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7].

والله لا يشبه أحداً من خلقه, ولا يشبهه أحد من خلقه، فمتشابه هنا معناها: تشابهت الآيات في كتاب الله في كونها جميعاً كلاماً حسناً وبديعاً حقاً ووحياً من الله، وجميعها دعت إلى الحق والنور والفلاح والصلاح، وإلى سيادة المسلم وجعله سيد الأرض وإمامها وأستاذها ومعلمها وداعيها إلى الله.

فقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23].

أي: ذاك الذي دعانا الله إليه ووصف المؤمنين الصالحين بأنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، هو كلام الله، ومنه كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذ هو شرح وبيان وتفسير له ولا يستغنى عنه.

فمن ترك السنة ترك كتاب الله، ومن ألغى الحديث ألغى كلام الله؛ لقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] .

فمن كلام الله طاعة رسولنا وامتثال أمره واجتناب نهيه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80] .

قوله تعالى: (مَثَانِيَ): جمع مثنى، أي: هذه الآيات نزلت مثنى مثنى، يذكر النار وضدها الجنة، ويذكر الخير وضده الشر، ويذكر الإيمان وضده الكفر، يذكر الشيء وضده ليبين للناس الخير من الشر، ولكي تتميز الأشياء، فمن لم يعلم الشر لم يعلم الخير، ومن لم يعلم الكفر لم يعلم الإيمان.

ولذلك يجب على الإنسان أن يعرف الشر ليتجنبه ويبتعد عنه، يحمد الله على أن هداه ووفقه وألهمه للخير الذي هو الإسلام والقرآن، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك ذكرت قصص القرآن كقصة موسى مثلاً وكررت في أكثر من سورة، لتحفظ وتؤكد، وكما تقول أمثال العرب: الشيء إذا تكرر تقرر.

فإذا تكرر الشيء أصبح قراراً وإلزاماً، ومن هنا يفيد التكرار في زيادة البيان والوعي والعلم والفهم.

قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23] أي: تضطرب وتتغير وتصفر فيضطرب المؤمن خشية من الله وحينما يسمع القرآن تجده مضطرباً خوفاً من النار ورجاء الجنة، طمعاً في رحمة الله وخوفاً من عقابه وغضبه، وإذا سمع القرآن يكون على غاية من الاطمئنان والحضور الذهني بجميع حواسه ليسمع ما يلقى إليه.

قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] وذاك شأن المؤمن.

سمع عبد الله بن عمر عن إنسان من التابعين كان إذا سمع القرآن غشي عليه فقال: ليس هذا من الله ولكنه من الشيطان، لم يكن كذلك أصحاب محمد، كانوا يسمعون القرآن ويخشعون له وتدمع أعينهم ولكننا لا نغيب ولا يغمى علينا، بل نكون على غاية من الحضور ذهناً وإنصاتاً وسماعاً.

وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن خشعوا ودمعت عيونهم، فقيل لها: إن هناك ناساً يغمى عليهم، قالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أي: لم يكن هذا في عهد الصحابة وهم أكثر تقوى ومعرفة بالله منكم.

قيل لـعمر بن عبد العزيز : هناك إنسان إذا سمع القرآن أخذ يصيح؟ قال: بيننا وبين هذا أن نختبره، فنجعله على سور ونقرأ عليه القرآن، فإن اضطرب ووقع صدقناه، وإذا لم يضطرب ولم يقع كذبناه فهو شيء يصطنعه.

وكثير من الناس في بعض الأقطار العربية والإسلامية عندما يسمع القرآن يتلى تجده يضطرب ويتصايح ويغشى عليه، وليست الآيات تدعو إلى التقوى ولا إلى الطاعة والامتثال، فقد تجده يصيح من آيات كثيرة وهو لا يعي ولا يفهم معانيها.

وعندما تسأله: لماذا تبكي؟ يقول: أعجبتني هذه السورة، فهو لا يستمع لكتاب الله وما فيه من معان، وإنما للتغني به فقط، فهو لا يقرؤه مجوداً مرتلاً ولكن يقرؤه متغنياً به.

وقد قال علماؤنا في سابق الزمان عن القرآن: المغاربة حفظوه، وأهل الشام جودوه، والمصريون تغنوا به؛ ولذلك من الأدب مع القرآن أننا إذا سمعنا من يقرؤه ويتلوه أن نكون على غاية من الأدب والإنصات والسكون، والصياح والهيجان يخالف الإنصات ويلهي الحاضرين، ومثل هذا لم يفعله السلف الصالح.

جاء في الحديث عن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا خشع القارئ واطمأنت أعضاؤه وهو يتلو كتاب الله تلك ساعة دعوة مستجابة فليدع الله، فقمن إذا دعا الله أن يستجاب له).

قال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ [الزمر:23] هذه القشعريرة إذا حصلت عند تلاوة القرآن، وعند سماع ذكر الله، عند التفكر في خلق الله وفي قدرته ووحدانيته فهي حالة ربانية للمؤمن الصادق فقد قالوا: في تلك الساعة إذا دعا الله بأي اسم من أسماء الله الحسنى استجاب الله له.

فقوله: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23] الجلود: جمع جلد، أي: يقشعر جلد الإنسان حتى ترى صفرة وجهه، واهتزاز بدنه واضطراب حواسه.

قال تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].

ففي أول مرة تقشعر الجلود، وعندما يذكر الله بوحيه وبوحدانيته وقدرته تلين منهم الجلود وتتفتح، فتزول القشعريرة، وعندها تلين القلوب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] .

فيجد اطمئناناً في قلبه وانشراحاً في صدره وليناً في بدنه وراحة، ولذلك يجب أن نختبر أنفسنا قبل أن نُخْتَبَر، فحينما نسمع القرآن يتلى: هل ننصت إليه؟ هل نفكر في معانيه؟ إذا تلوناه سواء كنا مصلين أو تالين فقط هل تخشع جلودنا له؟ هل تطمئن قلوبنا به؟ هل ينشرح صدورنا لتلاوته؟ إن كان ذلك كذلك فليحمد المسلم ربه على ذلك، لأن فيه صفة صالحة من صفات المسلمين الحقة.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته) فالمسلم إذا عمل عملاً صالحاً تجده يبتهج ويقول: أحمد الله على ما وفقني إليه.

وإذا ارتكب سيئة تجده يتألم على ارتكابه لها، ويندم على ما صدر عنه، إن كان كذلك فهو مسلم حق، يختبر نفسه ولا يختبره غيره.

فقوله: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] أي: تطمئن إليه وتنشرح به.

قال تعالى: (ذَلِكَ) أي: سماع أحسن القصص وسماع أحسن الحديث، أي: سماع تلاوة القرآن فتقشعر منه جلود من المسلمين الذاكرين، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله، أولئك الذين وفقهم الله لهذا.

فقوله: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ [الزمر:23] ذلك الذي سبق من الآية هو هدى الله الذي يهدي به من يشاء، ورحمته وتوفيقه وإلهامه، فهذه الهداية يهدي الله لها من شاء من خلقه ومن شاء من عباده الصالحين الطيبين.

قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23] ومن كان غير ذلك كان قاسي القلب، إذا سمع القرآن لا ينشرح له ولا يتفتح صدره ولا يخشع لذكره ولا يلين قلبه عند تلاوته، هذا ممن أضله الله، ومن أضله الله فلا هادي له.

فهذا قد غير ما بقلبه، إذ كان قلبه منطوياً على غير ذكر الله وعلى غير اليقين في الله وفي دينه، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70] أي: لم يكن في قلب هذا خير فلم يهده الله إلى خير ولم يوفقه له، لما علم من فساد قلبه ومن كذبه على الله.

قال تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24].

أي: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:24] خير أم الذي أتى آمناً من عذاب الله، مطمئناً لأنه جاء مؤمناً، فلا يخاف عذابه، واثقاً بوعد الله وبرحمته؟

فقوله: أَفَمَنْ يَتَّقِي [الزمر:24] استفهام تقريري، (بوجهه سوء العذاب)، يسحب على وجهه في النار، وعادة أن العذاب يتقى، يتقيه من في النار بوجهه حين يسحب، ويذهب الوجه بما فيه من حواس بارزة، فيكون ذلك أشد عذاباً وإيلاماً ومهانة.

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:24] أي: يسحب على وجهه إلى النار، فهل هو خير، أم الذي يأتي آمناً من عذاب الله، مطمئناً على أنه قد جاء مؤمناً موحداً واثقاً بوعد الله في رحمته ودخول الجنان.

قال تعالى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ [الزمر:24] أي: تقول الملائكة للظالمين الكافرين، والكفر أشد أنواع الظلم، إذ يظلم نفسه في عدم الإيمان وعدم الإسلام، فيكون المتسبب لعذابها وهوانها، فيكون في ذلك هو الظالم لها.

قال تعالى: ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يقال: فلان ذاق طعاماً، ذاق شراباً، ذاق عذاباً، أي: مسه عذاب كما مسه طعام أو شراب وتذوقه، ذاك تذوق لذته، وهذا تذوق ألمه وبلاءه.




استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الزمر [60-67] 1921 استماع
تفسير سورة الزمر [1-5] 1902 استماع
تفسير سورة الزمر [42-46] 1901 استماع
تفسير سورة الزمر [20-22] 1871 استماع
تفسير سورة الزمر [36-42] 1840 استماع
تفسير سورة الزمر [47-52] 1758 استماع
تفسير سورة الزمر [9-12] 1629 استماع
تفسير سورة الزمر [71-75] 1546 استماع
تفسير سورة الزمر [13-20] 1199 استماع
تفسير سورة الزمر [30-35] 1139 استماع