خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة الزمر [9-12]
الحلقة مفرغة
قال الله جل جلاله: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9] .
الله جل جلاله يعرض علينا حالتين: حالة إنسان بُلي في جسده، وغر في عمله، فدعا ربه مدة ضرره وبلائه، حتى إذا رفع عنه ضره وبلاءه نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ [الزمر:8] أي: نسي ما خوله ربه، وترك ما كان يدعو إليه من قبل، هل هذا الذي هذه على هذا الحال خير أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9].
هاتان حالتان: حالة الجاحد بنعم الله، إيمانه على حرف، إذا رزق شكر، ثم إذا ضر دعا حتى إذا شفاه الله وعافاه كفر بالنعمة، وترك الشكر والعبادة والتوحيد وعاد إلى اتخاذ الأنداد من دون الله فهذا قيل له: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8].
والحالة الثانية: حالة المطيع القانت، والقنوت: الطاعة في كل الأوقات حال المسرة وحال المضرة، وعلى كل الأحوال ليلاً ونهاراً.
قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ [الزمر:9] آناء: جمع آن، أي: في جميع ساعات الليل، أي: يصلي لله ويعبده، وعبادته تشتمل على السجود والقيام والقعود وعلى التلاوة والذكر.
والجواب مشتمل في قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] يعني: هل هم سواء؟ العلماء العارفون بالله، الذين إذا علموا شيئاً عملوا به، والذين عندما آمنوا وأسلموا عبدوا ربهم وقاموا بأركان الإسلام: مصلين، صائمين، حاجين، مزكين، تاركين الفواحش ما ظهر منها وما بطن، يسعون في عبادة الله وطاعته ورضاه.
فهل هذا الذي هو على هذه الحالة خير أم ذاك المشرك الكافر بالله الذي لا يعبد ولا يطيع، وهو مرتكب لجميع أنواع البلايا والمعاصي، فهذا يقال له: أنت من أهل النار. ويقال له: مهما عشت ومهما دامت حياتك وطالت ولو كانت كعمر نوح فإن المآل إلى النار.
فقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] أي: قل يا محمد! لهؤلاء الجهلة: هل الذين يعلمون الإسلام والتوحيد في مستوى واحد مع الذي لا يعلم؟
والعلم هنا المعرفة، ولا عبادة إلا بعلم ومعرفة، ومن عبد الله بغير علم يوشك أن يضل، ويوشك أن يعبده بما لا يعبد به جل جلاله وعلا مقامه.
فإذا كانت الصلاة ركعتين فركعتان، وإن كانت أربعاً فأربع، فمن حاول أن يزيد الصبح ثلاثاً والظهر خمساً يكون قد ضل ولم يطع ولم يقنت.
فلا علم إلا بعمل، ولا عمل إلا بعلم، وهذه المرتبة لأهل العلم العاملين بعلمهم العارفين بربهم، ولذلك جعل الله علماء أمته خلفاء نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء) .
فنبينا صلى الله عليه وسلم لم يورث مالاً (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) فهو مال عام لعموم المسلمين، ولكن بقي منه ما ينفق على أمهات المؤمنين وعلى أحفاده وعلى من كان ينفق عليهم من أرامل بني هاشم ويتاماهم.
فالأنبياء لا يورثون ولكنهم يورثون العلم، إذ يرث العلماء علمهم، فيكونون بذلك خلفاء رسول الله في الدعوة إلى الله وإلى دينه، وإلى العلوم التي أتى بها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
فالمعنى في الآية: قل يا محمد: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ والجواب: لا.
وكثيراً ما يستغنى بالسؤال عن الجواب، إذ لا يعقل أن يكون الجواب بلا سؤال، ولا يقول هذا من له عقل، فذاك الذي دعا ربه عندما مسه ضر وبلاء ثم فرج الله عنه وخوله وملكه نعمة، فإذا به يشرك بالله ويجعل له أنداداً، فهل هذا عالم وعارف؟ وهل يستوي هذا والذي يضل ليله قائماً وساجداً وراكعاً وتالياً، يضرع إلى الله أن يستجيب دعاءه؟
وهذه الآية تكذب من زعم بأن عبادة الله خوفاً من ناره ورجاء رحمته ليست عبادة، كما أن العبادة من غير رجاء جنته ولا خوف ناره هي رتبة عالية، ولكننا لم نطالب بها.
ولكن الحال لن يدوم كذلك، إذ إن الإنسان بين خوف ورجاء، وبين ذنب وتوبة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عقب الحديث: (لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيغفر لهم) .
لأن من أسماء: الله الغفار والغافر، ولا بد أن تأخذ الأسماء معانيها ومسمياتها، أما الغافر بلا مغفرة فلا يكون.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واه راقع، وخيركم من مات على رقعه) أي: يعبد ثم يذنب إلى أن تتقطع تلك الحسنات في الذنوب، ثم يرقعها بالتوبة والمغفرة كما يكون الثوب جديداً، فيهي ثم يتقطع ويتمزق ثم يرقعه.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واه راقع) من الوهي وهو البلى (وخيركم من مات على رقعه) مات وقد رقع ثوبه، وقد تاب من ذنبه.
وعبادة الله مبنية على الخوف والرجاء، كما أثنى الله على هؤلاء الذين يطيعون ربهم ويتهجدون ليلهم ساعة بعد ساعة، ينامون زمناً ويتهجدون زمناً، يبدءون بأشغالهم زمناً ويتفرغون لعبادة الله زمناً آخر، يفعلون ذلك وهم يحذرون الآخرة، يخشون ويخافون ما يكون فيها من عذاب.
ويرجون الآخرة: يرجون ما يكون فيها من رحمة الله ورضوانه ودخول الجنان، وقد قال الرازي هذا في تفسيره.
فقوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] الجواب: لا، وهذا مفهوم من سياق الكلام وتفهمه عقول السامعين من البشر.
وهي درجة ورتبة أشاد الله فيها بالعلماء ليزدادوا علماً وليزدادوا عملاً بالإرث النبوي من نشر دينه والدعوة إليه، ومجاهدة الكافرين والمنافقين، والحب في الله والبغض في الله.
يقول ربنا: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9] أي: إنما يعي هذه الحقائق وهذه المعارف أصحاب العقول.
والألباب: جمع لب وهو العقل. ولذلك فإن الكافر والمنافق لا عقل له، فلو كان له عقل لعمل لآخرته ولسعى لنجاته، فلو علم أن في أرض الصين ربحاً مادياً، لسعى إليها بحراً أو جواً وكيفما استطاع.
كما أنه يعلم أن بعد الحياة موت ولم ير بعينه، ولكنه يسأل نفسه: أين آباؤه؟ وأين أجداده؟ أين كبراؤه، والصغار يبدءون في النمو، والذي يكبر يذهب إلى الفناء، وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فمن يعلم هذا ويوقن به ولا يعمل له فهو مجنون ليس بعاقل، هو بعيد عن مصلحته لنفسه، ولذلك يخاطب الله ذوي الألباب ليعبدوه ويطيعوه؛ وليكون جزءاً من الذكر الإلزامي.
فقوله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9] أي: لا يتذكر هذا ولا يعيه ولا يعقله ولا يفكر فيه إلا ذوو العقول، فهم الوعاة المفكرون، وهم العقلاء بين الناس، أما سواهم من غير المؤمنين فلا.
قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] .
أي: قل يا محمد! لعبادي الذين آمنوا أن يزيدوا مع الإيمان تقوىً وصلاحاً، وعملاً وإيقاناً.
والإيمان: التصديق في القلب بما يدوم عليه الإنسان، ولكن الإيمان يحتاج إلى عمل وإلى تقوى.
والتقوى: أن تتقي الله في محارمه، وأن تتخذ وقاية تحول بينك وبين غضب ربك، بأن تطيع أوامره، وأن تجتنب نواهيه وتتركها.
قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [الزمر:10].
الدنيا برزخ الآخرة والطريق إليها، وللذين أحسنوا حال حياتهم فيها حسنة، أحسنوا بالإيمان والتقوى، والطاعة وترك المعاصي، وأطلقت الحسنة في الآية، فأي حسنة في الدنيا هي حسنة في الآخرة، فهم في الدنيا يعيشون عيشاً كريماً من قبل الله جل وعلا يكرمهم ويعزهم ويعطيهم ويعافيهم، حتى إذا ابتلاهم كان ذلك رفعاً للدرجات، يوشك إن قالوا: يا رب ارفع مقتك وغضبك أن يستجيب دعاءهم، فيكون ذلك أجراً لهم وثواباً.
وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما من شوكة يشاكها المؤمن إلا كتب له بها أجر، وحط عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة) .
وما عسى أن تكون هذه الشوكة، ما من شوكة تصيب مؤمناً إلا وكانت له رفعاً للدرجات وحطاً للسيئات.
وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (المؤمن على خير، إن أصيب صبر، وإن أنعم عليه شكر) فهو بين صبر وشكر في عبادة دائمة.
قال تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ [الزمر:10] معناه: هؤلاء الذين يعتذرون ويقولون: لا يمكن الهجرة في أرض الله لعبادة الله كما أمر؛ لأنهم يمنعوننا من ذلك، ومن الدعوة إليها، لا عذر لهم لأن أرض الله واسعة.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51] فموالاة اليهود يهودية، وموالاة النصارى نصرانية، وموالاة النفاق نفاق، وإذا لم يستطع أن يقول: هذا حرام، فليهجره وليتركه.
وقال تعالى في سورة النساء: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97] أي: أين عبادتكم؟ أين اجتهادكم؟ أين طاعتكم؟ فعندما تسألهم الملائكة: أين كنتم؟ قالوا: كان حكامنا يستضعفوننا، ويمنعوننا من ذلك ومن إعلانه، فقالوا لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97] .
فليست جميع الأرض أرض كفر ونفاق ومعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه المتواتر: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم على ذلك إلى يوم القيامة، لا يضرهم من خذلهم) .
وهذا مؤكد من خبر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فإذا كثرت المعاصي ومنع من الإيمان بربه وإعلان ذلك فليخرج للناس وليترك ذلك البلد.
قال: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ [الزمر:10] وهذا جواب لمن بقي في مكة مستضعفاً، وقد هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهاجر معه المهاجرون من مكة، وبقيت فئة.
هذا سبب النزول ولا عبرة بالسبب، فالعبرة بعموم اللفظ، واللفظ: أن يقال لمؤمن في كل عصر عندما يأمر بنصرة الدين وبالعمل له من غير أن يأتي كافراً ولا منافقاً، حتى إذا اعتذر بأنه مستضعف وبأنه يمنع يقال له: أرض الله واسعة، فمن الذي ألزمك بالمقام هنا؟
فأرض الله ما جعلها الله إلا لعباده، يقول الإمام مالك : حيثما وجدت قلبك فخيم. أي: حيثما وجدت قلبك متفتحاً لدينك.. لعبادتك.. لطاعة ربك فأقم هناك، أما أن تساكن الكفار عن رغبة منك فذلك البلاء، وقد حرم ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام وقال: (أنا بريء من كل مسلم يساكن الكفار، لا تتراءى ناراهما) .
فلا يجوز له أن يسكن الأرض بحيث يرى نار الكافر ويرى ناره، فإن هذا حرام في شريعة الإسلام، فحينما ينتشر في بلاد المسلمين فيدخل فيها المفسدون ويصبح حكامها كفاراً أو منافقين، فيجب أن يتركها.
أما أن يسكن بنفسه عن طواعية منه ورضاً، ليس أسيراً ولا سجيناً في بلاد الكافرين يهوداً كانوا أو نصارى أو منافقين فذلك ما حرمه الله.
ومن هنا كانت الهجرة واجبة، ومن هنا أمر الله نبيه وهو في أرض مكة المكرمة أن يهجرها إلى حيث يجد حرية العبادة وحرية نشر الإسلام والدعوة إليه.
ولذلك أرسل قبل ذلك بزمن جماعة من أصحابه برئاسة جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، ثم أمر أن يهاجر أصحابه إلى المدينة المنورة ثم لحقهم، ولم يفعل على أنه ترك أرضه للكافرين، بل خرج من بلده ليضع رجله في أرض تتحمله، فيعد للقتال وللتحرير، ولنشر الإسلام رغم أنوف أولئك الكافرين.
وهكذا صنع المصطفى عليه الصلاة والسلام، إذْ هاجر من مكة إلى المدينة وأعد عدته وجمع جموعه، ثم جاء زاحفاً صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنصره الله نصراً عزيزاً مؤزراً، وانضمت مكة إلى دار الإسلام حيث طرد الله الكافرين إلى الأبد.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] ومضى على هذا ألف وأربعمائة عام وزيادة؛ لأن جسم الكافر لا تطهره البحار، ولذلك لا يجوز أن يدخل مكة والمدينة فينجسها بكلامه وببدنه، وإذا مات ودفن في مكة والناس لا يعلمون وجب أن تنبش جيفته وتخرج خارج الحرم.
قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] .
يخبر الله سبحانه أن الصابرين على طاعة الله وعلى بلائه، وفي الجهاد في سبيله، الباذلين أموالهم وأولادهم وكل عزيز عليهم ليعز دين الله، ليعز المسلمون، هؤلاء يوفيهم الله أجرهم يوم القيامة بلا حساب، كما قال الحسن البصري وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري في تفسير هذه الآية: إذا كيل للعابدين بالكيل أجراً أو بالموازين ثواباً فهؤلاء الصابرون يحثى لهم حثواً بلا حساب، فلا تنظر سيئاتهم، ولا ينظر لحسناتهم، بل يعطون من أول مرة وكأن السيئة غير موجودة، لأنها تغفر من غير أن ترى.
وكأن الحسنات لا عداد لها أيضاً، فهو يعطى أجره بغير حساب، يعطى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لأنه صبر على طاعة ربه، وعلى بلائه، فلم يستنكف عن صلاة ولا عن صيام ما دام قادراً، يصلي صلواته الخمس ويؤدي زكاة ماله، يؤدب أولاده أدب الإسلام، أخلاقاً وعبادةً ومعاملةً.
قوله: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] أي: العطاء الوافي بزيادة، فيوفيهم الله أجورهم بلا حساب وبلا وزن وبلا كيل، سواء من صبر على البلاء وهو يدعو إلى الله أو صبر على الطاعة، ومن باب أولى إذا صبر على كل ذلك.
قال تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:11-12].
يقول النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه: إنه أمر بأن يخلص دينه وعبادته لله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يعبد الله، وقد أخلص صلى الله عليه وسلم له دينه وطاعته، وأزال عنها الشوائب، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم عن الشوائب.
فالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم عن الخطيئة والسيئة، فإذا كان المعصوم الذي لا يسيء ولا يذنب قد أمر بالطاعة وبالإخلاص فيها، فكيف بغيره؟!
قوله: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:12] أي: أول المسلمين من أمته، فهو نبي من نفسه ورسول من نفسه، وما من أمرٍ أمر به أحداً إلا وأمر به نفسه أولاً، وما من نهي نهى عنه أحداً إلا ونهى نفسه عنه أولاً.
ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر:12] أي: أول المطيعين المستجيبين، وأول الفاعلين لحلاله والتاركين لحرامه.