مقدمة في الفقه - فقيه الصحابة [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

إخواني الكرام! لقد كان سيدنا عبد الله بن عباس يُنعت بين الصحابة الأكياس رضوان الله عليهم أجمعين: بالحَبْر، فهو حبر الأمة، كما هو بحرها، كما هو فقيهها، كما هو مفسرها رضي الله عنه وأرضاه، روى الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثاني صفحة إحدى وسبعين وثلاثمائة عن محمد بن أبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين، قال: كان عبد الله بن عباس عند أبي بن كعب -أبي المنذر سيد القراء- فلما قام قال أبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين: هذا يكون حبر هذه الأمة. هذا نهاية أمره أن يكون حبر الأمة وشيخها وعالمها وفقيهها، ستلجأ إليه وترجع إليه، هذا يكون حبر هذه الأمة، أرى عقلاً وفهماً، وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفقهه الله في الدين، والعلامة: الذكاء والنجابة والألمعية لا تخفى في هذا العبد الصالح، كل ذرة من ذراته تشير إلى إشراق مستقبله، أرى ذكاء وفهماً، أرى عقلاً وفهماً، وقد دعا له رسول الله عليه الصلاة والسلام بأن يفقهه الله في الدين، هذا سيكون حبر هذه الأمة.

وقال محمد بن علي رضي الله عنه وأرضاه -وقد يخطئ بعض الناس فيظن أنه الإمام محمد بن علي الباقر ، مع أنه هنا ابن سيدنا علي الإمام محمد بن الحنفية، ولذلك في المستدرك ذكر الأثر في موطنين، مرة قال: محمد بن علي، ومرة قال: محمد بن الحنفية، وهذا هو هذا، وفي بعض الكتب محمد بن الحنفية وهو ابن سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، وينسب إلى أمه من باب التفريق بينه وبين أولاد سيدتنا فاطمة رضي الله عنهم أجمعين- قال محمد بن علي لما توفي سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين -وهو الذي صلى عليه في الطائف- : (كان عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة).

وأثره في حلية الأولياء في الجزء الأول صفحة تسع عشرة وثلاثمائة، وهو أيضاً في مستدرك الحاكم كما ذكرت لكم: (كان حبر هذه الأمة) وبذلك نعته تلميذه مجاهد بن جبر رضي الله عنهم أجمعين كما في المستدرك في الجزء الثالث صفحة خمس وثلاثين وثلاثمائة، قال مجاهد بن جبر: (ما رأيت مثل عبد الله بن عباس قط، رضي الله عنهم أجمعين، ولقد مات يوم مات وهو حبر هذه الأمة).

وهذه الجملة -أنه حبر هذه الأمة- رُويت مرفوعة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام كما تقدم معنا، وجملة: (نعم ترجمان القرآن) أيضاً رُويت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وتناقلها الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان، وهكذا هذه الجملة (حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس ) و(لكل أمة حبر وحبر هذه الأمة عبد الله بن عباس ) (حبر هذه الأمة أنت).

هذا أيضاً رُوي عن نبينا عليه الصلاة والسلام من طريقين اثنين، في أحد الطريقين كلام، والآخر فيما يبدو لي لا كلام فيه، اعترض فيه على راو، والإمام أبو نعيم قال عنه: ثقة مأمون، وعليه فظاهر الإسناد سليم نظيف والعلم عند الله جل وعلا.

رواية: (وحبر هذه الأمة عبد الله بن عباس) والكلام عليها

أما الأثر الأول: فقد رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة خمس وثلاثين وخمسمائة عند المكان المشار إليه آنفاً عند أثر سيدنا مجاهد، ولفظ الحديث من وراية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأف أمتي بها أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- وأصلبها في أمر الله عمر، وأشدها حياء عثمان، وأقرؤها أبي بن كعب، وأفرضها زيد بن ثابت، وأقضاها علي بن أبي طالب، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأصدقها لهجة أبو ذر، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وحبر هذه الأمة عبد الله بن عباس) والحديث كما قلت من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

قال الحاكم في مستدركه: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الإمام الذهبي -والحق معه- فقال: قلت: فيه كوثر بن حكيم، الراوي عن عطاء عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فيه كوثر بن حكيم ، ساقط، هذا في تلخيص المستدرك، وقال في السير في الجزء الثالث صفحة تسع وسبعين وثلاثمائة: كوثر بن حكيم واهٍ، وقال في المغنى في الضعفاء صفحة أربع ثلاثين وخمسمائة من المجلد الثاني: تركوا حديثه، وله عجائب.

وأصل الحديث -إخوتي الكرام- ثابت صحيح دون العاشر، وهو سيدنا عبد الله بن عباس الذي هو محل الشاهد، أما أصل الحديث فثابت صحيح، وتقدم معنا في دروس الفرائض لكن من رواية سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه، وهنا من رواية ابن عمر، فأصل الحديث تقدم معنا وفيه هؤلاء التسعة لكن من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، وهو في المسند وسنن الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي، والحديث رواه الإمام أبو داود الطيالسي والطحاوي في مشكل الآثار، كما رواه البيهقي في السنن الكبرى وأبو نعيم في الحلية، وكما قلت: صححه الترمذي والحاكم وأقره الذهبي ، وقال الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة أربع وسبعين وأربعمائة: هذا حديث حسن صحيح.

ولفظ الحديث كما تقدم معنا من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أرحم أمتي)، وهنا: (أرأف أمتي)، (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر)، وهنا (أصلبها)، (وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي -رضي الله عنهم أجمعين- وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح وما أظلت الغبراء ولا أقلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر، أشبه عيسى بن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في زهده وورعه، فقال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنعرف ذلك له يا رسول الله؟ قال: نعم، اعرفوا له ذلك)، هؤلاء تسعة، وما ذكر معهم حبر هذه الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، ولفظة (وأقضاهم علي ) وردت في رواية في صحيح ابن حبان فقط، ولم ترد في رواية سنن الترمذي وغير ذلك من الروايات، إنما هو في صحيح ابن حبان ، وتقدم معنا كلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا.

قال في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع صفحة ثمان وأربعمائة: لم يروِ هذه الجملة: (أقضاهم علي ) أحد من أصحاب الكتب الستة -الكلام إلى هنا مقبول- ولا أحد من أهل المسانيد المشهورة، لا الإمام أحمد ولا غيره، بإسناد صحيح ولا ضعيف، إنما يُروى من طريق من هو معروف بالكذب. وهذا الكلام مردود آخره كما تقدم معنا وقلت: إن الحديث صحيح في صحيح ابن حبان: (وأقضاهم علي رضي الله عنه وأرضاه).

وقال في مجموع الفتاوى أيضاً في الجزء الحادي والثلاثين صفحة اثنتين وأربعين وثلاثمائة عن الحديث بكامله: ضعيف لا أصل له فيما يتعلق بـزيد بن ثابت، ولم يكن معروفاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بالفرائض. أقول: أما وجود زيد في سائر الروايات وأنه أفرض هذه الأمة، فهذا صحيح ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار، والإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية أخطأ في حكمه على هذا الحديث -كما قلت- بالضعف في حق سيدنا زيد بن ثابت ، وفي قوله: وما كان معروفاً بالفرائض! إذ كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: (أفرضهم زيد)، فكيف يقول: لم يكن معروفاً بالفرائض والحديث يرد في فضله في هذه المسألة وهذا العلم؟!

وأما فيما يتعلق بسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين فقلت: إن الحديث أيضاً صحيح ثابت في صحيح ابن حبان، أصله ثابت من رواية سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه، ورُوي أيضاً من رواية ابن عمر كما في المستدرك، وليس فيه أيضاً: (حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس )، فقد رواه الإمام أبو يعلى وابن عساكر في تاريخه كما في جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة ست وتسعين باللفظ المتقدم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر)، كما في رواية ابن عمر المتقدمة التي رواها الحاكم، لكن ليس فيه العاشر: (حبر هذه الأمة ابن عباس )، ورواه ابن النجار أيضاً في تاريخه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين دون ذكر سيدنا عبد الله بن عباس ، ورُوي -كما قلت- في المستدرك بسند حوله كلام لوجود كوثر بن حكيم.

رواية: (إنه كائن حبر هذه الأمة) والكلام عليها

الرواية الثانية رواها الإمام أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول صفحة ست عشرة وثلاثمائة عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ( انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه، فقال جبريل لنبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه: من هذا؟ قال: ابن عمي عبد الله بن عباس ، قال: إنه كائن هذا حبر هذه الأمة، فاستوص به خيراً )، يعني اعتنى به ووجهه توجيهاً سديداً. وتقدم معنا عندما دعا له نبينا عليه الصلاة والسلام بأن يفقهه الله في الدين، وأن يعلمه التأويل، وكان من نصحه وإرشاده ووصيته له أن قال له: (يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك)، وهنا كذلك: (إنه كائنٌ هذا حبر هذه الأمة فاستوصى به خيراً).

والحديث -كما قلت- في الحلية، قال عنه الإمام الذهبي في السير في الجزء الثالث صفحة تسع وثلاثين وثلاثمائة: هذا حديث منكر تفرد به سعدان بن جعفر، طيب لمَ؟ سعدان بن جعفر قال عنه الإمام أبو نعيم في الحلية: ثقة أمين. طيب لمَ تحكم عليه بالنكارة، يعني ما وجه النكارة لتفرد سعدان بن جعفر ؟ سعدان بن جعفر ثقة أمين، وليس هو من الرواة المجروحين، والعلم عند رب العالمين، وعليه فإن هذه الرواية الثانية أمكن من الأولى، وهي قوله: (إنه كائن هذا حبر هذه الأمة) والرواية الأولى التي هي من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وفيها: (حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين).

وكيفما كان حال الروايتين، فقد تقدم معنا أن هذا ثابت من كلام الصحابة وكلام التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، على التسليم بوجود ضعف، وأن الرواية الأولى لا تتقوى بالثانية، وأن الثانية كما قال الإمام الذهبي: فيها نكارة، وما أعلم وجه النكارة كما قلت، مع أن سعدان بن جعفر ثقة أمين كما قال أبو نعيم في الحلية عندما روى الحديث من طريقه، قال: وسعدان بن جعفر ثقة أمين. فالحديث يثبت بنفسه إن لم يثبت بوجود سعدان بن جعفر وكوثر بن حكيم، فالآثار عن الصحابة الأبرار تشهد لمعناه فتقويه وترفعه والعلم عند الله جل وعلا. إذاً: هو ترجمان القرآن، وهو حبر هذه الأمة المباركة.

ضبط كلمة (حبر) ومعناها

لفظ الحَبر يقال بالكسر (حِبر)، ويقال بالفتح (حَبر)، أما (حِبر) فيقال نسبة إلى الحِبر الذي يكتب به، فبما أن الحَبر لا يستغني عن الحِبر فيقال له: حِبر، نسبة إلى الحبر الذي يكتب به باستمرار، وتقدم معنا في بعض المواعظ أن هذا الحِبر في الحقيقة من شيم الرجال، وإذا تلطخت أيديهم به وهكذا ثيابهم فلا لوم عليهم في ذلك.

إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدواة عطر الرجال

إلا رجال هذا الزمان، ترى أحدهم كأنه بنت عذراء مخدرة، يعتدي على لحيته فيحلقها، وبعد ذلك يريد أن يضمخ نفسه بالطيب والليونة، ولا يريد أن يكون فيه شيء من الخشونة، ولو ظهرت نقطة سوداء من القلم في يده أو في ثيابه لأقام الدنيا وما أقعدها! يا عبد الله ماذا جرى؟! هذا شرف لك، إذا كان أثر القلم في يدك أو في ثيابك، ولقد كان الطلبة في الزمن القديم قلَّ أن ترى طالباً ليس أثر قلمه في ثيابه، قلَّ، إلا في هذا الزمن حين صار حكمنا حكم العذارى.

فيقال للعالم: حِبر؛ لأنه يكتب بالحِبر باستمرار، ويقال له (حَبر) بالفتح من التحبير؛ لأنه يحبر الكلام أي: ينمقه ويزينه ويرتبه، قال الراغب في المفردات: يقال له (حَبر) أيضاً لما يبقى من أثر علومه فيه، تبقى له أثر العلوم التي تدل على منزلته ولسان صدق له في هذه الأمة ويُذكر به.

وهذا اللفظ (الحبر) أُطلق على عدد من الصحابة الكرام، منهم من تقدم معنا ذكره الذي أثنى على سيدنا عبد الله بن عباس، وهو عبد الله بن مسعود الذي قال: (نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ) وذكرنا قول الإمام ابن كثير : فماذا يقول عبد الله بن مسعود لو عاش ستاً وثلاثين سنة التي عاشها عبد الله بن عباس بعده؟ فـعبد الله بن مسعود قيل عنه: أنه حَبر أيضاً.

ثبت هذا -كما ذكرت أيضاً في دروس الفرائض- في المسند وصحيح البخاري، والحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام الدارقطني في سننه، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والحديث رواه الإمام ابن الجارود في المنتقى عن هزيل بن شرحبيل، قال: سُئل سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رجل مات وترك بنتاً وبنت ابن وأختاً شقيقة؟ فقال أبو موسى رضي الله عنه: للبنت النصف، وللأخت النصف! وأتوا ابن مسعود فسيتابعني -يعني اذهبوا إليه سيوافقني على هذا القضاء- فذهبوا إلى سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فقالوا: هلك هالك عن بنت وبنت ابن وأخت شقيقة فكيف توزع التركة؟ قال: والله لأقضين بها بقضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين إذا لم أقضِ بهذا القضاء الحق الأمين: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فهو للأخت؛ لأن الأخوات مع البنات عصبات، عصبات مع الغير، فذهبوا إلى أبي موسى الأشعري وعرضوا عليه القضاء، قال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. وانظروا كلام الحافظ في شرح هذا الحديث في الجزء الثاني عشر صفحة سبع عشرة من فتح الباري.

كان أبو موسى الأشعري يجل سيدنا عبد الله بن مسعود كثيراً، وهو القائل كما في المعرفة والتاريخ للإمام الفسوي في الجزء الثاني صفحة خمس وأربعين وخمسمائة: (لمجلس كنت أجالس فيه عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة!)، طيب الآن هذا المجلس الذي هو سؤال عابر -كما يقال- صحح لك الخطأ، وبعد ذلك كنت ستقضي بخطأ، والأمة ستسير على خطأ، فانظر إلى صحبة العالم الفقيه المحقق المتقن، مجلس أجالسه فيه أوثق في نفسي وأضمن لي عند ربي من أن أعبد الله سنة كاملة! هذا يقوله أبو موسى الأشعري في حق عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم.

أما الأثر الأول: فقد رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة خمس وثلاثين وخمسمائة عند المكان المشار إليه آنفاً عند أثر سيدنا مجاهد، ولفظ الحديث من وراية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأف أمتي بها أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- وأصلبها في أمر الله عمر، وأشدها حياء عثمان، وأقرؤها أبي بن كعب، وأفرضها زيد بن ثابت، وأقضاها علي بن أبي طالب، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأصدقها لهجة أبو ذر، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ، وحبر هذه الأمة عبد الله بن عباس) والحديث كما قلت من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

قال الحاكم في مستدركه: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الإمام الذهبي -والحق معه- فقال: قلت: فيه كوثر بن حكيم، الراوي عن عطاء عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين، فيه كوثر بن حكيم ، ساقط، هذا في تلخيص المستدرك، وقال في السير في الجزء الثالث صفحة تسع وسبعين وثلاثمائة: كوثر بن حكيم واهٍ، وقال في المغنى في الضعفاء صفحة أربع ثلاثين وخمسمائة من المجلد الثاني: تركوا حديثه، وله عجائب.

وأصل الحديث -إخوتي الكرام- ثابت صحيح دون العاشر، وهو سيدنا عبد الله بن عباس الذي هو محل الشاهد، أما أصل الحديث فثابت صحيح، وتقدم معنا في دروس الفرائض لكن من رواية سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه، وهنا من رواية ابن عمر، فأصل الحديث تقدم معنا وفيه هؤلاء التسعة لكن من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، وهو في المسند وسنن الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام ابن ماجه في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي، والحديث رواه الإمام أبو داود الطيالسي والطحاوي في مشكل الآثار، كما رواه البيهقي في السنن الكبرى وأبو نعيم في الحلية، وكما قلت: صححه الترمذي والحاكم وأقره الذهبي ، وقال الذهبي في السير في الجزء الرابع صفحة أربع وسبعين وأربعمائة: هذا حديث حسن صحيح.

ولفظ الحديث كما تقدم معنا من رواية سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أرحم أمتي)، وهنا: (أرأف أمتي)، (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر)، وهنا (أصلبها)، (وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي -رضي الله عنهم أجمعين- وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح وما أظلت الغبراء ولا أقلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر، أشبه عيسى بن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في زهده وورعه، فقال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: أنعرف ذلك له يا رسول الله؟ قال: نعم، اعرفوا له ذلك)، هؤلاء تسعة، وما ذكر معهم حبر هذه الأمة سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، ولفظة (وأقضاهم علي ) وردت في رواية في صحيح ابن حبان فقط، ولم ترد في رواية سنن الترمذي وغير ذلك من الروايات، إنما هو في صحيح ابن حبان ، وتقدم معنا كلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا.

قال في مجموع الفتاوى في الجزء الرابع صفحة ثمان وأربعمائة: لم يروِ هذه الجملة: (أقضاهم علي ) أحد من أصحاب الكتب الستة -الكلام إلى هنا مقبول- ولا أحد من أهل المسانيد المشهورة، لا الإمام أحمد ولا غيره، بإسناد صحيح ولا ضعيف، إنما يُروى من طريق من هو معروف بالكذب. وهذا الكلام مردود آخره كما تقدم معنا وقلت: إن الحديث صحيح في صحيح ابن حبان: (وأقضاهم علي رضي الله عنه وأرضاه).

وقال في مجموع الفتاوى أيضاً في الجزء الحادي والثلاثين صفحة اثنتين وأربعين وثلاثمائة عن الحديث بكامله: ضعيف لا أصل له فيما يتعلق بـزيد بن ثابت، ولم يكن معروفاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام بالفرائض. أقول: أما وجود زيد في سائر الروايات وأنه أفرض هذه الأمة، فهذا صحيح ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار، والإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية أخطأ في حكمه على هذا الحديث -كما قلت- بالضعف في حق سيدنا زيد بن ثابت ، وفي قوله: وما كان معروفاً بالفرائض! إذ كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: (أفرضهم زيد)، فكيف يقول: لم يكن معروفاً بالفرائض والحديث يرد في فضله في هذه المسألة وهذا العلم؟!

وأما فيما يتعلق بسيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين فقلت: إن الحديث أيضاً صحيح ثابت في صحيح ابن حبان، أصله ثابت من رواية سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه، ورُوي أيضاً من رواية ابن عمر كما في المستدرك، وليس فيه أيضاً: (حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس )، فقد رواه الإمام أبو يعلى وابن عساكر في تاريخه كما في جمع الجوامع في الجزء الأول صفحة ست وتسعين باللفظ المتقدم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر)، كما في رواية ابن عمر المتقدمة التي رواها الحاكم، لكن ليس فيه العاشر: (حبر هذه الأمة ابن عباس )، ورواه ابن النجار أيضاً في تاريخه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين دون ذكر سيدنا عبد الله بن عباس ، ورُوي -كما قلت- في المستدرك بسند حوله كلام لوجود كوثر بن حكيم.

الرواية الثانية رواها الإمام أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول صفحة ست عشرة وثلاثمائة عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ( انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل على نبينا وأنبياء الله وملائكته صلوات الله وسلامه، فقال جبريل لنبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه: من هذا؟ قال: ابن عمي عبد الله بن عباس ، قال: إنه كائن هذا حبر هذه الأمة، فاستوص به خيراً )، يعني اعتنى به ووجهه توجيهاً سديداً. وتقدم معنا عندما دعا له نبينا عليه الصلاة والسلام بأن يفقهه الله في الدين، وأن يعلمه التأويل، وكان من نصحه وإرشاده ووصيته له أن قال له: (يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك)، وهنا كذلك: (إنه كائنٌ هذا حبر هذه الأمة فاستوصى به خيراً).

والحديث -كما قلت- في الحلية، قال عنه الإمام الذهبي في السير في الجزء الثالث صفحة تسع وثلاثين وثلاثمائة: هذا حديث منكر تفرد به سعدان بن جعفر، طيب لمَ؟ سعدان بن جعفر قال عنه الإمام أبو نعيم في الحلية: ثقة أمين. طيب لمَ تحكم عليه بالنكارة، يعني ما وجه النكارة لتفرد سعدان بن جعفر ؟ سعدان بن جعفر ثقة أمين، وليس هو من الرواة المجروحين، والعلم عند رب العالمين، وعليه فإن هذه الرواية الثانية أمكن من الأولى، وهي قوله: (إنه كائن هذا حبر هذه الأمة) والرواية الأولى التي هي من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أجمعين وفيها: (حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين).

وكيفما كان حال الروايتين، فقد تقدم معنا أن هذا ثابت من كلام الصحابة وكلام التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، على التسليم بوجود ضعف، وأن الرواية الأولى لا تتقوى بالثانية، وأن الثانية كما قال الإمام الذهبي: فيها نكارة، وما أعلم وجه النكارة كما قلت، مع أن سعدان بن جعفر ثقة أمين كما قال أبو نعيم في الحلية عندما روى الحديث من طريقه، قال: وسعدان بن جعفر ثقة أمين. فالحديث يثبت بنفسه إن لم يثبت بوجود سعدان بن جعفر وكوثر بن حكيم، فالآثار عن الصحابة الأبرار تشهد لمعناه فتقويه وترفعه والعلم عند الله جل وعلا. إذاً: هو ترجمان القرآن، وهو حبر هذه الأمة المباركة.

لفظ الحَبر يقال بالكسر (حِبر)، ويقال بالفتح (حَبر)، أما (حِبر) فيقال نسبة إلى الحِبر الذي يكتب به، فبما أن الحَبر لا يستغني عن الحِبر فيقال له: حِبر، نسبة إلى الحبر الذي يكتب به باستمرار، وتقدم معنا في بعض المواعظ أن هذا الحِبر في الحقيقة من شيم الرجال، وإذا تلطخت أيديهم به وهكذا ثيابهم فلا لوم عليهم في ذلك.

إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدواة عطر الرجال

إلا رجال هذا الزمان، ترى أحدهم كأنه بنت عذراء مخدرة، يعتدي على لحيته فيحلقها، وبعد ذلك يريد أن يضمخ نفسه بالطيب والليونة، ولا يريد أن يكون فيه شيء من الخشونة، ولو ظهرت نقطة سوداء من القلم في يده أو في ثيابه لأقام الدنيا وما أقعدها! يا عبد الله ماذا جرى؟! هذا شرف لك، إذا كان أثر القلم في يدك أو في ثيابك، ولقد كان الطلبة في الزمن القديم قلَّ أن ترى طالباً ليس أثر قلمه في ثيابه، قلَّ، إلا في هذا الزمن حين صار حكمنا حكم العذارى.

فيقال للعالم: حِبر؛ لأنه يكتب بالحِبر باستمرار، ويقال له (حَبر) بالفتح من التحبير؛ لأنه يحبر الكلام أي: ينمقه ويزينه ويرتبه، قال الراغب في المفردات: يقال له (حَبر) أيضاً لما يبقى من أثر علومه فيه، تبقى له أثر العلوم التي تدل على منزلته ولسان صدق له في هذه الأمة ويُذكر به.

وهذا اللفظ (الحبر) أُطلق على عدد من الصحابة الكرام، منهم من تقدم معنا ذكره الذي أثنى على سيدنا عبد الله بن عباس، وهو عبد الله بن مسعود الذي قال: (نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ) وذكرنا قول الإمام ابن كثير : فماذا يقول عبد الله بن مسعود لو عاش ستاً وثلاثين سنة التي عاشها عبد الله بن عباس بعده؟ فـعبد الله بن مسعود قيل عنه: أنه حَبر أيضاً.

ثبت هذا -كما ذكرت أيضاً في دروس الفرائض- في المسند وصحيح البخاري، والحديث في السنن الأربعة إلا سنن النسائي، ورواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى، والإمام الدارقطني في سننه، وأبو داود الطيالسي في مسنده، والحديث رواه الإمام ابن الجارود في المنتقى عن هزيل بن شرحبيل، قال: سُئل سيدنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن رجل مات وترك بنتاً وبنت ابن وأختاً شقيقة؟ فقال أبو موسى رضي الله عنه: للبنت النصف، وللأخت النصف! وأتوا ابن مسعود فسيتابعني -يعني اذهبوا إليه سيوافقني على هذا القضاء- فذهبوا إلى سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فقالوا: هلك هالك عن بنت وبنت ابن وأخت شقيقة فكيف توزع التركة؟ قال: والله لأقضين بها بقضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين إذا لم أقضِ بهذا القضاء الحق الأمين: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وما بقي فهو للأخت؛ لأن الأخوات مع البنات عصبات، عصبات مع الغير، فذهبوا إلى أبي موسى الأشعري وعرضوا عليه القضاء، قال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. وانظروا كلام الحافظ في شرح هذا الحديث في الجزء الثاني عشر صفحة سبع عشرة من فتح الباري.

كان أبو موسى الأشعري يجل سيدنا عبد الله بن مسعود كثيراً، وهو القائل كما في المعرفة والتاريخ للإمام الفسوي في الجزء الثاني صفحة خمس وأربعين وخمسمائة: (لمجلس كنت أجالس فيه عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة!)، طيب الآن هذا المجلس الذي هو سؤال عابر -كما يقال- صحح لك الخطأ، وبعد ذلك كنت ستقضي بخطأ، والأمة ستسير على خطأ، فانظر إلى صحبة العالم الفقيه المحقق المتقن، مجلس أجالسه فيه أوثق في نفسي وأضمن لي عند ربي من أن أعبد الله سنة كاملة! هذا يقوله أبو موسى الأشعري في حق عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وأرضاهم.

إذاً: هو ترجمان القرآن، وهو أيضاً حبر الأمة، وهو البحر، يقال له: البحر أيضاً، ثبتت تسميته بذلك عن عدد من سلفنا، منهم العبد الصالح مجاهد بن جبر كما في المستدرك والحلية وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي عن مجاهد بن جبر، قال: (كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يسمى بالبحر؛ لكثرة علمه). وعليه فالتسمية منه ومن غيره، أي: أنه كان يسمى بين الصحابة وبين المسلمين المتقدمين بالبحر؛ لكثرة علمه.

وفي طبقات ابن سعد في الجزء الثاني صفحة ست وستين ومائتين عن عطاء أنه قال: كان يُقال لـعبد الله بن عباس: البحر، فكان عطاء إذا حدث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين قال: قال البحر، وفعل البحر، ينعته ويلقبه بهذا الذي اشتهر به ولا يسميه باسمه، وهو معلوم لقب لهذا الصحابي المبارك الميمون، وحقيقة لا يطلق على غيره.. فكان يقال: بحر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، كما يقال له: الحبر، ولا غرو في ذلك أن يطلق عليه هذا اللفظ لفظ البحر؛ لأنه حقيقة بحر لا ساحل له، فانظر لكلام أئمتنا رضي الله عنهم في علمه، روى الخطيب في تاريخ بغداد صفحة ثلاث وسبعين ومائة من المجلد الأول، والإمام ابن الجوزي بسنده في كتاب المصباح المضيء في أخبار الخليفة المستضيء -كما تقدم معنا- في الجزء الأول صفحة عشرين ومائة، عن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (كان عبد الله بن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم). فيستحق أن يقال له: البحر رضي الله عنه وأرضاه.

وروى الإمام ابن سعد في الطبقات عن عكرمة، قال: قال عبد الله بن عمرو بن العاص : (كان ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين أعلمنا بما مضى، وأفقهنا فيما نزل مما لم يأتِ فيه شيء). قوله: (وأفقهنا فيما نزل)، أي: فيما نزل من وقائع وحوادث، ووقع من مشكلات تحتاج إلى فهم واستنباط، (وأفقهنا فيما نزل مما لم يأتِ فيه شيء) يعني: ما ورد فيه نص، تراه يغوص ويستنبط له حكماً من النصوص الثابتة.

قال عكرمة: (فأخبرت بذلك ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فقال ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: إن عنده لعلماً -أي: عند عبد الله بن عمرو - كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلال والحرام) يعني: هو يثني علي بأنني أعلم الناس بما مضى، وأنني أفقههم فيما يأتي مما لم ينزل فيه شيء, أيضاً يعرف لـعبد الله بن عمرو قدره، فهو عنده علم، كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلال والحرام، يسأل ويقيد ويكتب، لكن شتان ما بين الرتبتين والدرجتين، فعبد الله بن عمرو من المكثرين أيضاً، وهو من حفاظ الحديث، لكنه يدخل في دائرة التحديث لا في دائرة الفقه والفهم والاستنباط، فأين هو من سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في هذا الأمر؟! لكن من باب الإنصاف ووضع الشيء في موضعه قال عنه: عنده علم، كان يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الحلال والحرام.

وثبت في طبقات ابن سعد عن سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال لما مات سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: (مات أعلم الناس، وأحلم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق). يعني: هذه المصيبة لا تعوض لا تسد لا يأتي ما ينوب عنها ويسد مسدها، أصيبت هذه الأمة مصيبة عظيمة بموت سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه.

وروى الإمام ابن سعد في الطبقات عن رافع بن خديج رضي الله عنه وأرضاه أنه قال لما مات سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: (مات اليوم من يَحتاج إليه من بين المشرق والمغرب في العلم). يعني أهل الأرض قاطبة بحاجة إلى علمه. وفي طبقات ابن سعد صفحة اثنين وسبعين وثلاثمائة ضبط (يُحتاج) بضم الياء، يعني: مات اليوم من يُحتاج إليه، وعليه فستكون العبارة: مات اليوم مَن يُحتاج إليه مِن (بالكسر) بين المشرق والمغرب في العلم، يعني: من يُحتاج إليه من الحاضرين بين المشرق والمغرب.

ولا داعي لهذا التكلف، فما أعلم لمَ قيدها بالضم، ولو قُرئت: مات من يَحتاج إليه مَن بين المشرق والمغرب، يعني أهل المشرق والمغرب أهل الأرض قاطبة بحاجة إلى علمه، فهذا أسهل وأيسر، البناء للمعلوم وليس البناء للمجهول، وهذا الضبط بالضم من قِبل الناشرين، والعلم عند رب العالمين.

وقال العبد الصالح سعيد بن المسيب كما في طبقات ابن سعد أيضاً: (كان ابن عباس رضي الله عنهما أعلم الناس). وقال العبد الصالح طاوس، وهو من تلاميذه رضوان الله عليهم أجمعين: (كان ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين من الراسخين). ولا شك في ذلك رضي الله عنه وأرضاه.

إذاً: هو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، وبحرها، وأعلمها، وأيضاً هو رباني، أطلق أيضاً عليه هذا اللقب من قبل أئمتنا عندما أثنوا عليه بذلك، والرباني: هو العالم الفقيه الحكيم الذي يتعهد الناس بالتربية والتوجيه، ويربيهم حسب استعدادهم، هذا يقال له: رباني، وقيل: إنه منسوب إلى الرب، والنون للمبالغة, فالأصل ربي، نسبة إلى الرب وقيل: رباني للمبالغة في حصول التربية فيه، بالمعنى المتقدم؛ لأنه يتخلق بأخلاق الله جل وعلا الذي يربي الناس شيئاً فشيئاً، سواء فيما يتعلق بالتربية الخَلقية أو بالتربية الخُلقية الدينية الشرعية، في التربية الخَلقية يتعهدهم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم بعد ذلك عظام تكسى بلحم، ثم يخرجون طفلاً، ثم.. ثم.. هذا كله تعهد بتربية الله جل وعلا، فهو رب العالمين، وهكذا تربيته الشرعية، يتعهدهم على مهل، أول الأمر: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، ثم سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، يرغبهم في طاعة ربهم، ثم تنزل الأحكام على فترة ثلاث وعشرين سنة، وهكذا العالم يتخلق بهذا الخلق، فيربي الناس بصغار العلم قبل كباره، فما لا يهضمونه لا يذكره أمامهم، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كذلك، والله جل وعلا يقول في كتابه: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، يعني يقول لكم: ولكن كونوا ربانيين، واتصفوا بهذا النعت الكريم، والرباني: هو عالم فقيه حكيم، والربانيون هم فقهاء علماء حكماء، كما اتفق على ذلك أئمتنا في كتب التفسير.

فسيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما رباني، نعته بذلك أيضاً سيدنا محمد بن علي الذي يقال له: ابن الحنفية رضي الله عنهم أجمعين، كما في المستدرك وتاريخ بغداد وطبقات ابن سعد، قال محمد بن الحنفية عندما مات سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وتقدم معنا، قال: (مات حبر هذه الأمة). وقال أيضاً: (مات رباني هذه الأمة). حبر هذه الأمة ورباني هذه الأمة.

ونعته بذلك أيضاً العبد الصالح كعب الأحبار، وهو من التابعين الأبرار، كما في طبقات ابن سعد : قال كعب لـعكرمة مولى سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: (مولاك رباني هذه الأمة، هو أعلم من مات، وأعلم من عاش).