علو الهمة [18]


الحلقة مفرغة

لقد شرفنا الله تبارك وتعالى بأن بعث إلينا أشرف رسول، وجعلنا أشرف أمة في أشرف بقاع الأرض بسفارة أشرف الملائكة، وأنزل عليه صلى الله عليه وسلم أشرف الكتب بأشرف لغة في أشرف شهر في السنة، في أشرف ليلة من هذا الشهر، ألا وهو القرآن الكريم كتاب الله تعالى الذي فيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1-2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم. صح عن أمير المؤمنين ذي النورين أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، رواه البخاري والترمذي . والخطاب هنا موجه إلى خير أمة أخرجت للناس، فهؤلاء المذكورون في الحديث هم خيار الأخيار في خير أمة أخرجت للناس. فبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث الشريف أن خير المتعلمين وخير المعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن لا في غيره؛ إذ خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل به، ولابد من تقييد التعلم والتعليم بشرط أن يكون خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى. فلابد من تقييد التعلم والتعليم بالإخلاص، وإرادة وجه الله تبارك وتعالى، فإن من أخلص التعلم والتعليم وتخلق بالإخلاص دخل في زمرة ورثة الأنبياء.

وبعد أن فرغنا من الكلام على علو الهمة لا شك أن هذا الكلام لم يكن المقصود به: أن نستمتع بالكلام في سيرة السلف ونتفرج عليهم، وأن نكون كحال الترجمان الذي يقف أمام الآثار يصف عظمة الماضي في زعمه، ثم لا يقدم شيئاً إلى الحاضر أو إلى المستقبل، خاصة وأن بنا من الآفات ومن مظاهر التقصير في طاعة الله سبحانه وتعالى ومن التقصير في حق الله عز وجل ما يوجب علينا أن نجدد إيماننا، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) ، نسأل الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبنا أجمعين.

ولا نقتصر أيضاً على مجرد الدعاء؛ فإن الدعاء وإن كان داخلاً في الكلم الطيب لكن الكلم الطيب يحتاج إلى ما يحمله ويرفعه إلى السماء، وهو العمل، قال عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].

ولا شك أن مفتاح الهداية إلى الطريق القويم هو العلم والتشبع بالعلم؛ لأن العلم هو المخرج من الفتن التي يموج بها هذا الزمان.

لكننا حينما نتوجه إلى طلب العلم نقع في كثير من الأخطاء التي تجعل السنوات تمر دون جدوى أو دون الحصيلة التي كان من المفترض أن نحصلها، فيوجد في بعض إخواننا -خاصة ممن ينتسبون إلى السلفية- ما نستصيغ أن نسميه بعض النتوءات الفكرية، نتوءات شاذة غير سوية؛ لأنها مخالفة للمنهج السلفي.

ومظاهر هذه النتوءات الشاذة كثيرة، وسبق أن تكلمنا عنها في عدة مناسبات، لكننا محتاجون أن نعيد الكلام من جديد؛ لأننا تقريباً قد تكلمنا قبل على المنهج العلمي تحت عنوان: لمن تقرأ وماذا تقرأ؟ وفصلنا الكلام في هذا، ونحن بلا شك محتاجون إلى أن نعيد أو نجدد عهداً بما قلناه قبل.

لكن أبدأ أولاً ببيان بعض العوائق التي تعيق طالب العلم عن المضي في الطريق الصحيح في طلب العلم، وهذه العوائق هي كثيرة، لكن أقتصر الآن على ما يمس موضوعنا:

فمنها: عدم التدرج في العلم.

فطلب العلم مثل السلم، ولا بد للإنسان أن يتدرج في الصعود عليه، ولذلك لا نرى أحداً من العلماء ينازع في أهمية مراعاة مبدأ التدرج في طلب العلم؛ لأن التدرج هو الوسيلة الناجحة لأخذ العلم وفهمه، وهذا المعنى -معنى التدرج والتمهل- ليس بدعاً من القول، وإنما هو مأخوذ من كتاب الله تبارك وتعالى؛ فقد قال الله عز وجل: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا [الإسراء:106] فقوله: (على مكث) يعني: على تمهل، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32] .

قال الزبيدي نقلاً عن كتاب الذريعة في وظائف المتعلم، قال: يجب ألا يخوض في فن حتى يتناول من الفن الذي قبله على الترتيب بلغته، ويقضي منه حاجته؛ فازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، وعلى هذا قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] ، يعني: لا يتجاوزون فناً حتى يحكموه علماً وعملاً، فيجب أن يقدم الأهم فالأهم من غير إخلال في الترتيب، فكثير من الأمراض الموجودة فينا معشر طلبة العلم هو نتيجة عدم مراعاة هذا الترتيب، فكثيرون يقفزون إلى بعض الدرجات العلى دون أن يراعوا التدرج والترتيب، فتوجد هذه النتوءات الشاذة التي تنتسب زوراً إلى السلفيين.

قال العلماء: من ترك الأصول حرم الوصول. يعني: أن الأصول هي الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه البنيان، فمن تركها يحرم من الوصول إلى الغاية والهدف الذي يرومه، فحق على طالب العلم أن يكون قصده من كل علم يتحراه هو أن يتبلغ به إلى ما فوقه، ويتهيأ به إلى الدرجة التي تليها.. إلى أن يبلغ النهاية.

والتدرج يكون في أمرين: الأول: أن يتدرج بين الفنون نفسها.

والثاني: أن يتدرج في الفن الواحد نفسه، وكلا الأمرين يخضع لاجتهاد المعلم الذي يوجه الطالب، وطبيعة المكان والظروف والملابسات، ولذا فإن إشارات العلماء في التدرج تختلف باختلاف مذاهبهم وأماكنهم.

لكن يكاد العلماء والناصحون في هذا الباب والمصنفون في هذا الباب من أهل العلم يتفقون على أن أولى الخطوات هي: الاهتمام والحفظ لكتاب الله تبارك وتعالى.

ورحم الله الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى؛ إذ نعى طلاب العلم في زمنه، فقال: واعلم -رحمك الله- أن طلب العلم في زماننا هذا وفي بلدنا قد حاد أهله عن طريق سلفهم، وسلكوا في ذلك ما لم يعرفه أئمتهم، وابتدعوا في ذلك ما بان به جهلهم وتقصيرهم عن مراتب العلماء قبلهم.

فإذاً: يقبح بنا ألا نقتدي بآثار من سبقنا من أهل العلم في طلب العلم والتدرج فيه.

وقد رتب الإمام ابن الجوزي جدولاً للطالب يبلغ به منتهاه، فقال رحمه الله: وأول ما ينبغي أن يكلف -يعني: طالب العلم في صباه- حفظ القرآن متقناً؛ فإنه يثبت، ويختلط باللحم والدم، فمن اشتغل وبدأ البداية الصحيحة بحفظ القرآن الكريم خاصة منذ الصغر فإن القرآن الكريم سيختلط بلحمه ودمه، يصبح جزءاً من كيانه، وكما أن الدم يجري في عروقه وفي عضلاته وفي كل خلايا جسمه فكذلك القرآن الكريم يمتزج بروحه امتزاجاً كاملاً؛ حتى يكون جزءاً من كيانه ومن تكوينه.

ولا شك أن من حفظ القرآن في الصغر أمكنه أن يتعبد به في الكبر، أما من تأخر في حفظ القرآن في الكبر فلا شك أن كثرة التمتع والاستمتاع والتعبد بالقرآن الكريم ستكون أقصر، فينبغي الاهتمام بأن نجتهد في إنقاذ الأجيال القادمة -إن شاء الله- مما وقع فيه الجيل الماضي من التقصير في حق القرآن الكريم والاشتغال عنه بغيره.

فكل ما يشغل عن القرآن فهو في الغالب شؤم على صاحبه؛ لأنه سيحرمه من أن يضيء قلبه ويعمر جوارحه بكلام الله عز وجل، فكلام الملك ملك الكلام، فليس هناك كلام أفضل من كلام الله؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم دائماً يكرر على أصحابه هذه العبارة المهمة: (خير الكلام أو أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-) .

وسيأتي بيان هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الاهتمام بالقرآن.

يقول ابن الجوزي : وأول ما ينبغي أن يكلف-يعني: طالب العلم في صغره-: حفظ القرآن متقناً؛ فإنه يثبت فيختلط باللحم والدم، ثم مقدمة من النحو يعرف بها اللحن في لسانه، ثم الفقه مذهباً وخلافاً، وما أمكن بعد هذا من العلوم فحفظه حسن.

إذاً: طلب العلم سلم ذو درجات ومراتب لا ينبغي تعديها، فمن تعداها فقد تعدى سيرة السلف الصالح، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل، فلابد من المنهجية، ولابد من المرحلية، فالمنهجية هي: أن يكون هناك منهج محدد في كل علم من العلوم تدرسه على شيخ، ولا تنشغل بغيره، وتواصل فيه الليل بالنهار مجتهداً، والمرحلية هي: الجدول الزمني، يعني: لابد بجانب المهمة التي تريد أن تنجزها لا تعد ناجحاً إلا إذا أنجزتها في وقت مناسب، لا أن تمر سنوات دون أن يحصل تقدم يذكر فإن هذا من الأخطار.

فكما أشرنا اتفق الناصحون في هذا الباب على أن أول العلم: حفظ كتاب الله تبارك وتعالى.

وسبق أن تكلمنا في محاضرة لمن تقرأ وماذا تقرأ؟ وقلنا: إنه لابد لطالب العلم من وظائف مع القرآن الكريم.

الوظيفة الأولى: ختم القرآن الكريم، فعلى طالب العلم أن يختم القرآن بطريقة دورية ثابتة، وأن يكون له ورد، ويكون له حزب دائم من القرآن الكريم، ويتفاوت مقدار هذا الحفظ حسب ظروف كل إنسان، فالناس ليسوا كلهم على درجة واحدة من الاستعداد والظروف، فهناك التاجر، وهناك الطالب، وهناك المدرس، وهناك المتفرغ لطلب العلم، فبلا شك أنه تتفاوت حظوظهم بحسب ظروفهم.

فحفظ القرآن لابد أن كل واحد يكون له ورد يومي، ولا تتحرجوا من كلمة ورد؛ فهي ليست حكراً على الصوفية، ولا كلمة حزب، بل هذه ألفاظ شرعية مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عليه الصلاة والسلام حينما تأخر على قوم كانوا ينتظرونه قال: (كان حبسني ورد أو حزب من القرآن، فكرهت أن أخرج حتى أتمه) ، وجاء أيضاً عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (من فاته ورده من الليل فليقضه إذا أصبح بالنهار). أو كما قال رضي الله تعالى عنه.

فالشاهد أن الورد أو الحزب أو القدر المعين الذي تحدده لنفسك كل يوم ينبغي أن تحافظ عليه، وينبغي أن يكون لكل واحد ورد ثابت من القرآن الكريم؛ بحيث يختم القرآن، وسنتكلم على المدد المقترحة بذلك في التفصيل إن شاء الله تعالى، فهناك ورد الختم، وهناك ورد المراجعة، وهناك حفظ ما لم يحفظه من كلام الله تبارك وتعالى.

وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكانوا يحزبون القرآن على سبعة أيام، حسب ترتيب السور، يعني: يبدءون بالثلاث السور الأولى من القرآن الكريم بعد الفاتحة: البقرة وآل عمران والنساء، ثم اليوم الثاني يقرءون قدرها، ثم اليوم الثالث كذلك، وهكذا، ثم حزب المفصل يجعلونه في اليوم السابع وحده، وهو الحزب الذي يبدأ بسورة (ق) وينتهي بسورة (الناس).

هكذا كان الصحابة يفعلون، وكان الصحابة يجعلون تحزيب القرآن على سبعة أيام بالنحو الذي بينا.

وأيضاً: مراجعة المحفوظ، فلابد أن الإنسان يكون له نظام معين في المراجعة؛ حتى لا يتفلت منه القرآن، وهذا ما سنشير إليه بإذن الله فيما بعد.

أما فيما يتعلق بالوظيفة الثالثة فهي: حفظ ما لم يحفظه من القرآن الكريم، ولا شك أن الحفظ يحتاج إلى همة عالية، وأفضل شيء في فترة الحفظ لمن لم يتم حفظ القرآن أن يتفرغ تماماً لحفظ القرآن الكريم، ولا يشتت همته، فلا يقرأ في الحديث ويقرأ في الفقه ويقرأ في كذا وكذا من العلوم في آنٍ واحد؛ فأمامك هدف محدد، وهذا الهدف مطلوب أن تسابق به الزمن؛ والصغير كلما اشتغل بحفظ القرآن مبكراً كلما كان أسهل عليه؛ لأنه لا هموم ولا مشاغل ولا مسئوليات عليه، فيكون ذهنه صافياً؛ فيستطيع أن يحفظ بسرعة.

فأعظم هدية يقدمها الأب إلى ولده أن يؤدبه بأن يحفظه القرآن الكريم، ويشغله بالقرآن بقدر استطاعته، ولا يشتته، ولا يشتت نفسه أيضاً إذا كان قد انتدب نفسه لهذه المهمة العظيمة.

فحفظ القرآن شرف ليس بعده شرف، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين) ، يعني: بإيمانهم.

فمن أعظم الشرف أن يجعل الله سبحانه وتعالى صدرك مستودعاً لكلامه، وإذا نلت حفظ القرآن الكريم فهذا أعظم من مليون شهادة دكتوراه؛ لأن هذا هو الشرف الحقيقي، وهذا هو الذي ينفعك في الدنيا، وينفعك في قبرك، وينفعك في الآخرة، يكفي أن تتخيل أن الملائكة يوم القيامة تضعك أمام اختبار، وتقول لك: سمع ما كنت تحفظه في الدنيا من القرآن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارتق، ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

فإذا نلت حفظ القرآن الكريم فهذا أعظم من ملايين شهادات الدكتوراة، وهذا أعظم من ملايين الدولارات والجنيهات والذهب، وأنت ستكون أغنى خلق الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)؛ لأن القرآن فيه الغنى كل الغنى.

هذا هو الغنى الحقيقي، وبذلك نجد الشريعة الشريفة قد وضعت أحكاماً خاصة لحفظة القرآن تميزهم بها عمن عداهم، فمثلاً: الإمارة تكون لمن هو أحفظ، ولما استعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجموعة من الناس من الشباب كان فيهم رجل يحفظ سورة البقرة، وكان الآخرون يحفظون مما عداها، فجعله أميراً عليهم. أي: أنه قدمه عليهم لحفظه سورة البقرة.

وهكذا أحق الناس بأشرف الأماكن في الصف الأول حملة كتاب الله؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (ليلني أولو الأحلام منكم والنهى) ، فيقدم في الإمامة ويقدم في الصف الأول وراء الإمام من هم أكثر حملاً لكتاب الله عز وجل.

حتى عند الدفن يقدم حافظ القرآن الكريم، فإذا وجد أكثر من ميت أو شهيد يدفنون جميعاً فيقدم أولاً الأكثر حفظاً للقرآن، ثم الذي يليه.

فالنصيحة المهمة جداً هي: أن يغتنم المسلمون سني الحفظ الذهبية، وهي من خمس سنوات إلى حوالي ثلاث وعشرين سنة، وطبعاً لا ييأس من تجاوز هذا السن، فمن بعد ثلاث وعشرين هناك الفضية والنحاسية وهكذا.

فالفترة الذهبية هي هذه الفترة العظيمة، وكلما كان الحفظ مبكراً كلما كان أعظم وأسهل؛ لأن من يحفظ في الصغر يختلط القرآن بلحمه ودمه، ويثبت في قلبه ثبوتاً عظيماً جداً.

فالطفل قد لا يدرك مصلحته، لكن الأب مهمته أن يقيه النار، وأن يسهل له طاعة الله سبحانه وتعالى، وأن يحسن تربيته، وينبغي أن يضع هذا الهدف هو الهدف الأساس والهدف الرئيس في خططه في تربية أولاده، فإذا وجد الطفل النابغة الذي عنده القدرة على الالتقاط وعلى الحفظ فينبغي الاهتمام به، وهذه القدرة موجودة عموماً في الأطفال، لكن هناك أطفالاً يتميزون، فخسارة كبيرة جداً أن نشغلهم بالأناشيد، فضلاً عن الإعلانات والقصص الكاذبة والأغاني وغير ذلك، وإنما ينبغي أن يصرف الاجتهاد كله إلى تحفيظهم كلام الله تبارك وتعالى.

ففي الحقيقة يحصل من بعض الناس شيء من هذه النتوءات التي أشرنا إليها، فيوجد محاولة للقفز فوق السلم في طلب العلم، ونجد كثيراً من الأخوة يشتغلون بعلم الحديث، وبأشياء هي من فروض الكفايات في علم الحديث، مثل العلل والرجال والأسانيد وكذا وكذا، وينفقون أوقاتاً طويلة جداً في ذلك، وهم قد يلحنون في كلام الله، أو قد يهملون حفظ كتاب الله تبارك وتعالى.

ولذلك كانت سنة العلماء أنهم كانوا إذا أتاهم طالب العلم يطلب الحديث -مثلاً- كانوا يسألونه: هل حفظت القرآن؟ فإن قال: لا، لم أحفظ القرآن يرفضون أن يحدثوه، ويطرد من المجلس، إلى أن يتم حفظ القرآن ويختبر، ثم بعد ذلك يشرع في تلقي ما عداه من العلوم الشرعية.

فمن المؤلم أن يصير هذا شعار بعض الناس في بعض البلاد ممن ينتسبون للسلفية، فهل هذه هي السلفية؟! فإهمال كلام الله عز وجل، وإشغال الشباب بما عدا كلام الله عز وجل ليس من السلفية في شيء، ونحن لا نقول: إنك تهجر العلوم الأخرى، لكن ممكن أن الإنسان يترفق إذا أراد أن ينجز هذا الهدف، فينبغي أن يفرغ ذهنه، ويفرغ قلبه لهذه المهمة، وإذا تشتت فلن ينجز الهدف بالصورة المطلوبة، لكن عليه أن يركز في هذا الهدف ليل نهار، إلى أن يوفقه الله سبحانه وتعالى، فإذا فتح له حفظ القرآن يفتح له كل باب من أبواب الخير بإذن الله تبارك وتعالى.

فالاشتغال بعلوم الحديث والأسانيد وهذه الأشياء هذه من فروض الكفايات، ويوجد الآن من العلماء -ولله الحمد- من هم أعظم باعاً من إخواننا طلبة العلم وقد أنجزوا كثيراً من الإنجازات في هذا المجال.

فلا مانع من الاهتمام بهذه العلوم، لكن بشرط ألا تشغل عن القرآن، فإذا كان ما زال هناك نقص في القرآن فاشتغل أولاً بالقرآن الكريم، ثم بعد ذلك إذا فرغت لك أن تتحول إلى غيره.

وقد حذر الله سبحانه وتعالى من هجر القرآن، فقال عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30] ، فقد هجر الكثير كلام الله سبحانه وتعالى، حتى إن المصحف لتتراكم عليه أكوام الأتربة، أو ربما ينفضها لكن لمجرد الزينة في البيت أو السيارة، وكل حياتنا أصبحت مضادة لكتاب الله سبحانه وتعالى.

فهذا هو هجر القرآن، وهؤلاء هم الذين يشتكيهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربهم، أو بالأحرى هم الذين يشكوهم رسول الله إلى ربه عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، يعني: متروكاً معرضاً عنه.

وهذه الآية وإن كانت أصالة في المشركين -وإعراض المشركين هو: عدم إيمانهم بكلام الله- إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل بالقرآن والأخذ بآدابه، الذي هو حقيقة الهجر؛ لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك، ولا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها، ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها.

وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (الفوائد) حينما كان يتكلم عن هذه الآية في سورة الفرقان أنواع الهجر فقال: هجر القرآن أنواع. أي: هذا الهجر الذي يحصل من بعض الناس للقرآن الكريم هو أنواع:

أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه. أي: لا يسمع القرآن، ولا يؤمن به، ولا يصغي إليه.

الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.

الثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.

الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.

الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به. وهذه بلا شك من أعم المصائب الآن، فنحن لا ننتبه إلى أن كل ما فينا من أمراض -خاصة الأمراض القلبية- إنما دواؤها في القرآن الكريم، كما قال عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82] ، فكأننا لا نوقن بهذا الكلم، فنحن نتلوه، لكن لا نتدبر فيه، ونطلب الشفاء في غير كلام الله سبحانه وتعالى.

ونجد كثيراً من الناس يدعون الشباب -مثلاً- إلى قراءة (إحياء علوم الدين) أو كتب الصوفية أو كذا وكذا، ويشغلونهم بهذا، مع أن الدواء الناجع لقلوب المؤمنين هو الاشتغال بكلام الله عز وجل، وأصبح حالنا كحال الشاعر الذي قال:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول

وهو حقيقة ليس كالعيس، لكنه أسوأ من العيس؛ لأن العيس -وهي: الجمال أو النوق- التي تحمل الماء فوق ظهورها ويكاد يقتلها الظمأ، هذه العيس قد لا تعرف أن الذي فوق ظهرها ماء، وإذا عرفت فقد لا تستطيع أن تصل إليه، لكننا نحن نعرف أن دواءنا هو في القرآن الكريم، وأن شفاء قلوبنا هو في كلام الله عز وجل، فبالتالي نكون أسوأ حالاً من هذا العيس التي يقتلها الظمأ في البيداء والماء فوق ظهورها محمول.

فكل من أراد أن يداوي قلبه فعليه أن يقبل على القرآن؛ فإن القرآن الكريم هو الذي يعالج ما في قلبه من الأمراض ومن الشهوات ومن الأدواء.

فيقول ابن القيم : النوع الخامس من هجر القرآن الكريم: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.

قال ابن القيم : وكل هذا داخل في الآية، وإن كان بعض الهجر أهون من بعضه.

وفي الإكليل يقول السيوطي : إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه.

وقال أبو السعود في قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]: فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن؛ كي لا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم.

ثم قال: وفيه من التحذير ما لا يخفى، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا.

ثم نعيد التركيز أو التنبيه على وجوب إعطاء القرآن الأولوية المطلقة في طلب العلم، حتى لو كان الإنسان قد كبر في السن؛ لأن كل حرف من القرآن تقرؤه فأنت تتعبد بتلاوته، فحفظ القرآن ليس كحفظ غيره من العلوم، فهل الثواب الذي تناله من حفظ القرآن مثل الثواب الذي تناله من حفظ متن في الفقه أو في الأصول أو منظومة في النحو أو في كذا أو كذا من العلوم؟ فلا شك أن حفظ القرآن له المزايا العظيمة التي سنتحدث عنها؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى وكل هذه الفضائل لا يمكن تحصيلها من غير كلام الله عز وجل، فلا ينبغي أبداً أن ينشغل الإنسان بالمفضول عن هذا الفاضل.

وقد روى ابن المديني عن عبد الوهاب بن همام عن ابن جريج قال: أتيت عطاء وأنا أريد هذا الشأن - أي: الحديث والعلم- وعنده عبد الله بن عبيد بن عمير ، فقال لي ابن عمير : قرأت القرآن -يعني: حفظت القرآن-؟ قلت: لا، قال: اذهب فاقرأه، ثم اطلب العلم -أي: بعد حفظ القرآن تطلب العلم- فذهبت -يعني: غبت- زماناً حتى قرأت القرآن، ثم جئت عطاء وعنده عبد الله ، فقال: قرأت الفريضة؟ قلت: لا، قال: فتعلم الفريضة ثم اطلب العلم. والفريضة هي: المواريث؛ لأن هذه من العلوم الأساسية التي تكاد تنقرض الآن، فهو كان يقصد بالفريضة: علم الفرائض الذي هو علم المواريث.

يقول: ثم جئت عطاء وعنده عبد الله ، فقال: قرأت الفريضة، قلت: لا، قال: فتعلم الفريضة، ثم اطلب العلم، قال: فطلبت الفريضة، ثم جئت، فقال: الآن تطلب العلم.

وقال أبو العيناء : أتيت عبد الله بن داود فقال: ما جاء بك؟ قلت: الحديث -أي: أريد طلب الحديث-، قال: اذهب فتحفظ القرآن؟ قلت: قد حفظت القرآن، قال: اقرأ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ [يونس:71]، فقرأت العشر حتى أنفذته، فقال لي: اذهب الآن فتعلم الفرائض -المواريث-، قلت: قد تعلمت الصلب والجدة والكبر -أي: مسائل الفرائض الكبرى- قال: فأيما أقرب إليك ابن أخيك أو عمك؟ قال هذا ليمتحنه.

قال: قلت: ابن أخي، قال: ولمَ؟ قلت: لأن أخي من أبي وعمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم العربية، قال: قد علمتها قبل هذين، قال: فلمَ قال: عمر حين طعن: (يا لَله ولِلمسلمين)؟ يعني: فتح اللام الأولى (لله) وكسر اللام الثانية (للمسلمين) قال: لمَ فتح تلك وكسر هذه؟ قلت: فتح تلك اللام -يا لله- على الدعاء، وكسر هذه -للمسلمين- على الاستغاثة؛ لأن المكسورة للاستغاثة والانتصار، فبعد كل ذلك قال: لو حدثت لحدثتك. يعني: أنه حتى الآن يراه غير أهل للتحديث، لكن يقول: لو كان لي أن أحدث أحداً لاخترتك أنت كي أحدثك، وأبى أن يحدثه أيضاً.

قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل.

إذاً: أول العلم: حفظ كتاب الله عز وجل وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه، فوكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه.

ولا نقول: إن حفظه كله فرض على كل الناس، ولكن نقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالماً.

فمن حفظه قبل بلوغه ثم فرغ إلى ما يستعين به على فهمه من لسان العرب كان ذلك له عوناً كبيراً على مراده منه ومن سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

تكلم العلماء في حكم نسيان القرآن الكريم:

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة؛ إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت) ، متفق عليه.

فهذه إشارة إلى أهمية تعاهد القرآن بالمراجعة باستمرار، وقوله: (الإبل المعقلة)، أي: المربوطة بالعقال.

قال ابن عبد البر في التمهيد: وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعيد شديد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، كل ذلك حض منه على حفظه والقيام به.

وعن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة وهو أجذم) ، قال في التمهيد: معناه عندي: منقطع الحجة، والله تعالى أعلم. وهذا الحديث أحسبه ضعيفاً.

وقال ابن عيينة في معنى حديث سعد بن عبادة هذا وما كان مثله: إن ذلك في ترك القرآن وترك العمل بما فيه، وإن النسيان أريد به ههنا: الترك، نحو قوله: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية:34] ، قال: وليس من اشتهى حفظه وتفلت منه بناسٍ له، إذا كان يحل حلاله ويحرم حرامه، قال: ولو كان كذلك ما نسي النبي صلى الله عليه وسلم منه شيئاً، وقد نسي. قال الله عز وجل: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى [الأعلى:6] * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:7].

والصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم الذين خوطبوا بهذا الخطاب- لم يكن منهم من يحفظ القرآن كله ويكمله على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا قليل منهم، منهم: أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد الأنصاري ، وعبد الله بن مسعود ، وكلهم كان يقف على معانيه ومعاني ما حفظ منه، ويعرف تأويله، ويحفظ أحكامه، وربما عرف العارف منهم أحكاماً من القرآن كثيرة وهو لم يحفظ سورها.

قال حذيفة بن اليمان : (تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، وسيأتي قوم في آخر الزمان يتعلمون القرآن قبل الإيمان).

فهنا إشارة إلى أن النسيان ليس المقصود به فقط النسيان من حيث الذاكرة، ولكن المقصود به أساساً: هجر تطبيق القرآن والعمل به.

ولا خلاف بين العلماء أن تأويل قول الله عز وجل: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [البقرة:121] ، أي: يعملون به حق عمله، ويتبعونه حق اتباعه، قال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2] ، يعني: تبعها، فتلا بمعنى: تبع.

فنفهم قوله عز وجل: (( يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ )) بقوله في هذه الآية: وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2] ، يعني: اتبعها أو تبعها، فكذلك قوله: (( يَتْلُونَهُ ))، يعني: يتبعونه ويطبقونه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2479 استماع
علو الهمة [8] 2441 استماع
علو الهمة [6] 2260 استماع
علو الهمة [7] 2161 استماع
علو الهمة [9] 2042 استماع
علو الهمة [5] 1907 استماع
علو الهمة [16] 1822 استماع
علو الهمة [15] 1791 استماع
علو الهمة [3] 1653 استماع
علو الهمة [17] 1634 استماع