من (الكتاب الذهبي) قبل أن يطبع
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
لغة الأحكام والمرافعات
للأستاذ زكي عريبي
دستور (البحث)
أي شئ يراد بهذا العنوان (لغة الأحكام والمرافعات)؟
الموضوع مطلوب للكتاب الذهبي بمناسبة انقضاء خمسين عاماً على إنشاء المحاكم الأهلية. فهل يجب أن يقتصر على المرافعات القومية كيف كانت لغتها قديماً وكيف تطورت وإلام انتهت وكيف يجب أن تكون؟ أهذا هو محور البحث؟ أم إن له مدى أبعد ودائرة أوسع؟ الحق إن نواحي الموضوع حسبما يوحي عنوانه أكثر من أن تعد أو تحصى.
لقد كان للناس محاكم منذ أقدم العصور وفي جميع البلاد المتمدنة، ولكل عصر من عصور التاريخ، ولكل بلد من بلاد المعمورة، مميزاته في تسيير العدالة وما يرتبط بها، ومنه ما نحن بصدده.
ثم إنك إذا تحدثت عن لغة المرافعات استحال عليك أن تقصر بحثك على نحو الكلام وصرفه وباقي صفاته اللغوية؛ بل أنت تريد إلى جانب هذا أن تنظر في الأحكام والمرافعات من حيث الأسلوب، واختيار اللفظ، وترتيب الكلام، ومراعاة المناسبة، وملاحظة الصوت والإشارة.
ثم إن الموضوع ذو شقين بطبعه، إذ أن لغتك وأنت جالس للقضاء غيرها وأنت قائم للدفاع.
ثم إن الحال في مصر تختلف عنها في أكثر بلاد الدنيا، فنحن هنا نطبق أحكام قانون نبت في بلاد أجنبية ولم تحتضنه لغتنا إلا منذ قريب.
فأكثر المشتغلين بتطبيقه قد درسوا مبادئه ثم تعمقوا في أصوله بغير اللغة التي يكتبون بها أحكامهم أو يعدون بها دفاعهم أي ناحية من هذه النواحي الكثيرة المتعددة يجب أن تعالج في مقال أكبر الظن أن الحيز المخصص له محدود وسط الأبحاث الهامة القيمة التي سوف ينطوي عليها (الكتاب الذهبي)؟ لقد فكرنا في الأمر ملياً فانتهينا إلى أنه خير لهذا المقال إذا انفرجت حلقة البحث ف فجاوزت الحدود المصرية البحتة إلى إلمامة بالحال عند غيرنا من المعاصرين ومن سبقهم من النابهين الذين يمكن أن يعدوا بحق واضعي أسس فن الكلام القضائي.
فإذا فرغنا من ذلك، ولن نطيل فيه، عرضنا لتاريخ لغة القضاء عندنا ماضيها القريب وحاضرها وما ينتظر لها على يد حملة لواء نهضتها الحالية ولا ننتظر من هذا المقال بحثاً لغوياً عميقاً؛ فليس لنا بذلك طاقة ولا المحل هنا محله.
هذا إلى أن نواحي البحث الأخرى أجدى وأنفع.
وسوف نعنى بالتفريق بين لغة المرافعات ولغة الأحكام، فإن لكل منهما مميزات تختص بها ونحب التنبيه عليها، ولو أن كلا منهما تلقى في مصر صعوبات مشتركة يجب على العائلة القضائية بأسرها التضافر على مغالبتها وتذليلها ولنبدأ بهذا قبل أن تنفرج قاعدتا الزاوية بحكم اضطرارنا إلى الفصل بين شقي هذا البحث متاعب اللغة العربية المتاعب التي يلقاها المترافعون وصائغو الأحكام على السواء في مصر جزء من متاعب لغة قديمة كريمة نامت نومة أهل الكهف زمناً، ثم أوقظت على حين غفلة لتقف على قدميها دفعة واحدة فتتفهم والنعاس مايزال يغالبها ويعقد أجفانها أحوالاً جديدة ليس لها بها عهد ولا سابق معرفة.
أوقظت بشدة ودفعت بعنف لضرورة ملحة لتساير وتلاحق في ميدان لا تحده سوى حدود العقل البشري لغاتٍ وثيقة الصلة بنهضة العلوم التي رفعت أوربا إلى مقامها الممتاز الحالي، وجعلت منها منارة العلم والفلسفة والأدب والتشريع والاختراع.
لغات صقلتها قرون متعاقبة عامرة بجهود متواصلة ربطت طارفها بتليدها وهيأتها أداة مرنة صالحة لما يطلب منها في مختلف ميادين النشاط العقلي وأنت في مصر كاتباً كنت أو أستاذاً في جامعة، محامياً أو قاضياً، مهندساً أو طبيباً، لا تكاد تذكر أمامك اللغة حتى تتجه بفكرك إلى مختلف الصعوبات التي تعانيها إذا طلب منك أن تكتب أو تحاضر في فرعك الخاص.
لقد أخذت كما أخذ أفراد هذا الجيل والذي تقدمه العلم عن أوربا؛ أخذته سهلاً ميسوراً بلغة أجنبية لقنتها صغيراً في طرازها الأخير فحصلت بها على أداة دقيقة مطواعة لحاجات العصر قد استوفت دقائقها من مسميات وأفعال وتعبيرات لها دلالتها الخاصة المحدودة.
درست بهذه الواسطة في لين وسهولة، ثم إذا بك وقد انتقلت فجأة بمحصولك العلمي إلى محيط يريد أن يفهم منك ما فهمته ويأخذ منك ما أخذته، وليس سبيل للتفاهم مع هذا المحيط إلا لغة قد يكون معدنها ذهباً ولكنه ذهب ما يزال تبراً مخلوطاً بأتربة تراكمت منذ أجيال.
فأنت مضطر إلى تطهيره من كل عنصر زائف، ثم عليك بعد ذلك صهره في بوتقة العصر ثم صقله ثم ضربه نقوداً من أعيرة وفئات مختلفة.
فإذا ما استقام لك هذا كله لزم أن يجرب الناس عملتك هذه الجديدة وأن يتداولوها زمناً قبل أن تستقر نظاماً مألوفاً معمولاً به ليس مركز المتكلم أو الكاتب باللغة العربية إذن سهلاً ميسوراً في هذا العصر.
اللهم إلا أن يقول شعراً يحتذي فيه المتنبي، أو يكتب نثراً ينسج فيه على منوال عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفع.
أما أن يعرض بقلمه لشيء من مختلف العلوم والفنون الحديثة فهو أعزل إلا من العزم الذي تبعثه الصعاب، فقير إلا من عناصر الثروة المخبوءة في لغة مجيدة تتطلب كثيراً من الجهد في استكشافها ثم مثابرة وصبراً لإقرار ما يكتشف وإحلاله محله من نظام مقبول ولكن أيمكن حصر هذه الصعوبات ومعالجتها؟ ليس في هذه العجالة متسع للخوض في موضع قلنا ونكرر إنه خارج اختصاصنا وفوق مقدورنا.
ولكن ما نراه في عالم الحقوق يجيز لنا أن نعتقد أنه ليس في اللغة العربية أدواء أصيلة تمنعها من أن تأخذ مكانها تحت الشمس كلغة عصرية تضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون.
فقد سبق لها أن دعيت إلى مثل ما تدعى إليه اليوم وهي بعد أقرب إلى البداوة منها إلى استقرار الحضارة، فوثبت إلى غايتها العلمية وثبة الجواد الكريم.
ودرس العرب حضارة الإغريق وفلسفتهم وطبهم بالعربية وحلوا محل الرومان في حمل مشكاة الحضارة قروناً يؤلفون في كل علم وفن بل ويزيدون في ثروة العالم العلمية بما استنبطوا من معارف جديدة.
فهل تعجز العربية ولها هذه السابقة المجيدة وذلك التراث الباهر أن تصل فجرها الجديد المتألق بمسائها الباهر؟ إن لنا أن نأمل بل لنا أن نطمئن إلى غد سعيد أخذاً بالقياس ولكن لنعد إلى ما كنا فيه ولنتحدث قليلاً عن صعوبات الحاضر فقد يتعين هنا التنويه باثنتين: تجاوز القصد كثيراً ما عيرنا - وأخشى أن نكون قد عيرنا بحق - بأننا نجاوز إذا جلسنا للكتابة أو قمنا للكلام الغرض الذي نتوخاه بأحدهما، وأن اللغة التي نستعملها في عصر اللاسلكي أو الكهرباء ما تزال تغشاها المحسنات اللفظية وتغمرها المترادفات ويفسدها الحشو ويرهقها استطراد يمكن التخفيف من كثير منه.
فأغلب الكتاب إذا ذكر الظلم ألحق به الاستبداد، وإذا تكلم عن الرحمة أردفها بالشفقة والحنان.
وليس الذنب في هذا على اللغة العربية بل على تقاليد سيئة وجهل بمقتضيات العصر.
إن لغتنا موسيقية بلا مراء ولكن بإعرابها.
وهي غنية غاية الغنى بأسمائها وأفعالها ونعوتها.
ولكن هذه الثروة لم تجمع للزينة فحسب، ولم تدخر في بطون المعاجم لكي يتزن بها الروي وتستقيم القافية ويحسن السجع، وإنما لتكون منها وسائل لأداء معان مختلفة وان تقاربت.
وأول واجب على الكاتب في هذا العصر أن يستعمل كل لفظ فيما أعد له من الأصل؛ فيعرف مثلاً متى ينعت صاحبه بالإقدام ومتى يسميه شجاعاً ومتى يصفه بالجرأة.
وبعبارة أخرى نحن أحوج ما نكون اليوم إلى فقه صحيح دقيق للغة العربية نعرف منه متى نستعمل لفظاً معيناً في معنى معين.
وهذا إذا تم استتبع حتما سير قلم الكاتب ولسان المتكلم في سبل مرسومة وطرق معبدة، فلا يكتب ولا يقول إلا بقدر حاجة الموضوع دون استطراد يحاول به تمكين المعنى في نفس القارئ أو سامع يخشى أن يفوته القصد على أنه من الإنصاف أن نقرر هنا أن لغة الجدل الفقهي في مصر قد قطعت شوطاً بعيداً فيما نتمناه لأسلوب الكتابة على وجه العموم وأول مثل يحضرني أسلوب أستاذي طيب الله ثراه المرحوم أحمد بك لطفي، فقد كانت لغته مرآة مصقولة لفكره الرائق المرتب: ألفاظ سهلة مختارة، وجمل على قدر حاجة الكلام لا أقل ولا أكثر لا تستطيع حذف عبارة منها حتى يختل المعنى وتضيع الفائدة أنظر إليه يترافع عن الورداني في قضية اهتزت لها جوانب القطر كيف يروي وقائعها في بساطة وسهولة توطئة لبحثه القانوني: (نزل رئيس الوزارة المصرية يوم الحادث من ديوانه يحيط به كعادته رجال الحكومة حتى بلغوا به سلم نظارة الحقانية ولم يكد يودع مشيعيه حتى ابتدره هذا الفتى فأفرغ فيه عدة رصاصات طرحته على الأرض يتخبط في دمه؛ أطلقها من مسدس كانت تحمله يد لم تخنها قواها، يقلبه بقلب كأنه قد من الحديد، فأنفذ حشوها فيه كما ينفذ الجلاد حكم القضاء في المنكودين، ولكن مع الأسف لم يكن حول الفقيد يد شهم مخلص مقدام كيد أحمد البحراوي التي أنقذت سعادة حكمدار العاصمة من الرصاص الذي صوب إليه، ولذلك وجدت رصاصات ذلك الفتى سبيلاً إلى جسم رئيس الوزارة) بل استمع إليه وهو يختتم هذه المرافعة بتوجيه الخطاب إلى المتهم كيف يطلق العنان للعاطفة دون أن يختل ميزان أسلوبه السهل الممتنع: (أما أنت أيها المتهم: فقد همت بحب بلادك حتى أنساك ذلك الهيام كل شيء حولك.
أنساك واجباً مقدساً هو الرأفة بأختك الصغيرة وأمك الحزينة فتركتهما يبكيان هذا الشباب الغض.
تركتهما يتقلبان على جمر الغضا.
تركتهما يقلبان الطرف حولهما فلا يجدان غير منزل معفر غاب عنه عائله.
تركتهما على ألا تعود إليهما وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبراً على فراقك لحظة واحدة فأنت أملهما ورجاؤهما.
دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب وحجب عنك كل شيء غير وطنك وأمتك وأخيك فلم تعد تفكر في تلك الوالدة اليائسة وهذه الزهرة اليانعة ولا فيما سينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه.
ونسيت كل أملك في هذه الحياة وقلت إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك: أي أعز شيء لديك ولدى أختك ووالدتك فأقدمت على ما أقدمت راضياً بالموت لا مكرهاً ولا حباً في الظهور.
أقدمت وأنت عالم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك؛ ففي سبيل حرية أمتك بعت حريتك بثمن غال فاعلم إذن أيها الشاب أنه إذا تشدد معك قضاتك ولا أخالهم إلا راحميك، فذلك لأنهم خدمة القانون، وهو هذا السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية.
وإذا لم ينصفوك ولا أظنهم إلا منصفيك، فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الأجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك.
وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أو خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها وإن هنالك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرماً سفاكا للدماء ولا فوضياً من مبادئه الفتك ببني جنسه ولا متعصباً دينياً، وإنما أنت مغرم ببلدك هائم بوطنك، فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك، وتقبل حكم قضائك باطمئنان، واذهب إلى مقرك بأمان) ومثل آخر لإيراد الكلام على قدر المعنى المطلوب تجده في مذكرات صديقي الأستاذ سليمان حافظ المحامي، وأغلب ظني أنه يحتذي إمامنا الراحل.
قال في صدر إحدى هذه المذكرات يحدد موضوع البحث ويبين ما سبق من الرأي، وينتهي إلى غرضه من الاستشهاد بحكم محكمة النقض.
وهذا كله في أسطر معدودة (بيعان أحدهما من مورث والثاني من وارث عن عين بذاتها.
وبيع الوارث أسبق تأجيلا.
فأيهما أحق بالتفضيل؟ وأي المشترين تملك؟ المشترى من المورث أو المشترى من الوارث؟ ذلك هو موضوع البحث ومناط الفصل في هذه الدعوى قد يقال إن العقد الأسبق تسجيلاً هو العقد الأحق بالتفضيل؛ غير أن نظرية التفاضل بالتسجيل لا محل لها ما لم يكن البيعان صادرين من مالك واحد.
وهنا يحق البحث فيما إذا كان الوارث والمورث شخصاً واحداً بمعنى أن الوارث استمرار لشخص المورث، أو أن لكليهما شخصية قانونية مستقلة عن الأخرى؟ وقع الخلاف فيما مضى على هذه المسالة فقال فريق إن شخصية الوارث تكمل شخصية المورث أخذاً بقواعد القانون الفرنسي.
وقال فريق آخر إنها مغايرة لشخصية المورث طبقاً للشريعة الإسلامية.
وتزاحمت الأحكام بين الرأيين، وانقسم الفقهاء المصريون إلى شطرين، حتى طرحت هذه المسألة أمام محكمة النقض وأصدرت فيها حكمها بتاريخ 3 ديسمبر سنة 1931: أخذ بالرأي الثاني ووضع نهاية للخلاف السابق) ترجم هذا الكلام حرفاً بحرف إلى اللغة الفرنسية أو إلى الإنكليزية التي اشتهر أهلها بحب الإيجاز فلن يجد فيها الفرنسي أو الإنكليزي أثراً لحشو أو تزيُّد مما يؤخذ على كثيرين من كتابنا (يتبع) زكي عريبي المحامي أمام محكمة النقض والإبرام