علو الهمة [10]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد انتهينا في الكلام على علو الهمة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وناقشنا بعض النقاط، وذكرنا أن كبير الهمة من خصائصه أنه يحمل هم الأمة، ولا ينغلق على نفسه، وإنما يشارك المسلمين آلامهم، ويواسي إخوانه، ويقضي حوائجهم، ويشفع لهم.

وتكلمنا عن حركة الداعية، وكيف أن الحركة ولود، وأن السكون عقيم، وبينا أن الحركة هي عبارة عن قيامة وبعث للروح، وذكرنا أيضاً أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى هي أشرف وظيفة على الإطلاق في هذا الوجود؛ لأنها وراثة النبوة، وذكرنا نماذج من هدي السلف وحركتهم وحرصهم على هداية الخلق وتعليمهم ودعوتهم إلى الحق.

وذكرنا أيضاً نماذج تبين مخاطرتهم بأنفسهم وأرواحهم في سبيل نصرة الدين، وذكرنا أن الفاسق ضالة الداعية، وأن الداعية القوي الإيمان والقوي اليقين لا يهرب من الفاسق؛ لأن الذي يهرب هو الذي يخشى أن يتأثر به، وهذه حيلة الضعيف، أما الداعية الكبير الهمة فلقوة يقينه وإيمانه لا يزحزحه شيء عن منهجه، فلذلك هو يبحث ويتحرى ويلهث وراء الفاسق؛ لأنه يريد أن يهديه، وأن يغزو قلبه بنور الله تبارك وتعالى.

والموضوع الذي نبينه الآن بإذن الله وتوفيقه هو أن كل البركة تكون في السعي والحركة، والنماذج في الحقيقة كثيرة؛ نحن اقتصرنا في الدرس الماضي على تبيان نماذج من أحوال السلف في الحركة في سبيل الدين، وفي سبيل هداية الناس إلى الحق؛ ونحن لا نريد أن نفعل كما يفعل الترجمان الذي يقف أمام الآثار، ويحدث الناس عن الماضي، ويظل يحدثهم عن الماضي والتاريخ وكأنه لا صلة له إطلاقاً بهذا الحاضر.

وحتى لا يتصور أننا مثاليون نعيش فقط في الماضي، وأن هذا الأمر كان قوي عليه السلف لما كان لديهم من علم وإرادة وقوة فاستطاعوا أن يفعلوا هذه النماذج؛ نصل ذلك بالحديث عن نماذج حاضرة؛ حتى يتبين لنا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدوق: (مثل أمتي مثل الغيث؛ لا يدرى أوله خير أم آخره)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فهناك نماذج عظيمة جداً تبين وتعكس كيف أن الخير قائم في هذه الأمة مهما اشتدت الظلمات.

جهود جماعة التبليغ في الدعوة إلى الله عز وجل

ونبدأ بذكر جماعة من الجماعات في الساحة، ساحة الدعوة، وهي جماعة التبليغ والدعوة؛ ولا شك أن هناك تحفظات كثيرة على فكرها، وعلى منهاجها، وأن في هذه الجماعة بدعاً غليظة، سواء في المنهاج أو في مستوى العقيدة أو في النواحي التطبيقية، كبعض الرسوم والصور والهيئات والقوانين التي وضعوها وقدسوها ولا يخرجون عنها، وكأنها دين منزل!

وليس هذا الآن موضوعنا، لكننا نصدر الكلام بهذه الجماعة باعتبار تعلقها بما نحن بصدده الآن؛ فإنها بلا شك أوفر الجماعات الإسلامية حظاً من علو الهمة في الحركة الواسعة الدءوبة.

وحينما نريد أن ننصف هذه الجماعة ونتحدث عن آثارها يكفي الثمار الكبيرة التي لم تضارعها فيها جماعة أخرى، خاصة إسلام كثير من المشركين، وهداية كثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله عز وجل في آفاق المعمورة.

وسبق أن تكلمنا على دراسة في فكر جماعة التبليغ، وتكلمنا بالتفصيل الكبير في هذا الأمر، وكان مما ذكرناه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

لو أن جماعة مسلمة وهي على شيء كبير من البدع، ومع ذلك تتسبب في دعوة كافر إلى الإسلام، وتدعوه إلى الإسلام، وتدخله في الإسلام، فهذا أفضل من أن يبقى على كفره، فدخوله في دائرة الإسلام مع البدعة أهون من بقائه في ظلمات الكفر؛ لأنه إذا دخل في الإسلام وفي التوحيد يرجى له النجاة بإذن الله بفضل هذا التوحيد، ويكون قد اقترب أكثر من المنهج الحق.

فجماعة التبليغ لهم مواقف كثيرة، والحقيقة المآخذ على جماعة التبليغ نسبية، مع وجود قواسم مشتركة بين الجماعة في كل بقاع الأرض، لكن تتفاوت ما بين الأعاجم وبين العرب؛ ولا شك أن البدع أغلظ وأظلم وأشد سواداً في الأعاجم منها في العرب؛ لأن العرب قربهم من اللغة العربية وقربهم من العلماء ومن مصادر العلم الشريف جعل البدع فيهم أقل وأخف؛ لأنه يسهل تنظيف مفاهيمهم ومناهجهم، أما الأعاجم فالأمر مؤلم إلى حد بعيد.

حكى رجل شهد مجلساً من مجالسهم فقال: جلسنا يوماً في المسجد للتعارف، فقام شيخ وقور، قد اشتعل رأسه ولحيته شيباً فوقف في هذه المجموعة يعرف نفسه وقد جاوز السبعين من عمره فقال: اسمي الحاج وحيد الدين ، وأعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات. قال: فاستغربنا! وقلنا له: في دهشة: تسع سنوات؟! قال: نعم؛ لأني أحفظ عمري من تاريخ دخولي في هذه الدعوة، أما قبل ذلك فإني أعتبر عمري ضائعاً، وكان هذا الرجل إذا وقف ليلقي موعظته يقول: لا تضيعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

يقول الحاكي: حدث أن سألنا أميرهم: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ ولا شك أن هذه من أبرز السمات الإيجابية في جماعة التبليغ، وأي إنسان يجحد هذه الخصيصة يعتبر مكابراً للواقع الملموس؛ فلا شك أنهم أكثر الناس إيجابية في التعامل مع الباطل؛ فهم يتحركون إليه، ولا يكتفون بأن يأتيهم الناس إلى المساجد.

فسئل أميرهم مرة: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ فقال: أرأيت إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟

قلنا: إن كان مرضه ثقيلاً نحضر له الطبيب في المنزل، وإما إذا كان مرضه خفيفاً فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب.

قال: فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب إليهم، يعني: كما يذهب الطبيب إلى المريض الشديد المرض الذي لا يقوى على الحركة إلى منزله.

حكى بعض مشائخهم نماذج من حركتهم في الدعوة وقال: إنه خرج مرة للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واستهدف رجلاً مسلماً كان يجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه، ونصحه، وذكره بالله؛ حتى لان قلبه، ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده -مع أنه كان في حالة سكر- إلى المسجد، وأخذت المرأة بذارعه الآخر تنازعه فيه، فهو يجذب من جهة بأحد الذارعين، والمرأة تجذبه من جهة أخرى، وكانت الغلبة له بعد تجاذب شديد بين الطرفين، وأتى به إلى المسجد، وعلمه كيف يتطهر ويصلي، ثم تاب وحسنت توبته.

ويلاحظ أيضاً أنهم يجتهدون في ابتكار الحيل الخيرية التي تجذب الناس إلى الدين، فذلك التبليغي الذي أراد أن يبلغ الدعوة إلى طبيب مشهور في البلد، فذهب ودفع قيمة الفحص الطبي، ثم انتظر في الدور إلى أن جاءت نوبته، فدخل على الطبيب، فتهيأ الطبيب لفحصه، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض، وإنما رغب أن يذكره بالله سبحانه وتعالى، وينصحه في الدين، وأخذ ينصحه ويذكره بالله عز وجل إلى أن رق قلب هذا الطبيب، وتأثر بموعظته، وأراد أن يرد إليه ثمن الكشف، فأبى قائلاً: هذه قيمة ما استغرقته من وقتك.

وكأنهم يقتدون في ذلك بمؤسس الجماعة، وبداية دعوة التبليغ كانت في الهند، وإن كان الشيخ إلياس مؤسس جماعة التبليغ عليه مآخذ، لكن باختصار كأنهم يقتدون به في هذا؛ لأنه كان في بداية الدعوة يفعل هذا، وبداية دعوته كانت على أساس رؤيا رآها في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل كما فعلت أنا، واخرج إلى الناس.

المهم يقولون: إنه بدأ ببعض عمال البناء أو شيء من هذا؛ فجمعهم كي يستمعوا إليه، فقالوا: لا نستطيع؛ لأننا نعمل ونتكسب، وهذا مصدر رزقنا، فأتى بهم، وكان يبذل لهم من المال مقابل الأجر الذي يفوتهم حينما يجلسون إليه، فكان يفعل ذلك معهم باستمرار، يعطيهم تعويضاً عن الأجر الذي يفوتهم بالجلوس عنده، إلى أن دخلت الدعوة وتمكنت في قلوبهم، فحينئذٍ تنزهوا عن أخذ هذا المال، وبدأت على أكتافهم هذه الحركة وهذه الدعوة.

حتى لما صعد الإنسان إلى القمر في أوائل الستينات، وكثر الكلام والافتراضات في ذلك الوقت أن الناس ممكن أن يقيموا في القمر، وأن يسكنوا هناك، وغير ذلك، فقالوا: حتى لو صعدوا إلى القمر، واتخذوا مساكن هناك لنرسلن وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله، وتصعد إلى القمر؛ لتدعوهم.

وأحد الدعاة الأفاضل يخالف جماعة التبليغ في منهجهم، لكنه مع ذلك لم يعدمهم إنصافاً، وهو: الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله، حيث يقول عن هذه الجماعة: أجادت غرس الثقة في دعاتها، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع.

وفعلاً هذا من التأثيرات الملاحظة جداً، حيث إن الواحد من أول ما ينتمي إلى الجماعة يكسر تماماً الحاجز النفسي الذي يمنع الإنسان من مواجهة الناس والخطابة فيهم بحماس، فهذا كما يفعل الذي يعلم الشخص السباحة؛ حيث يلقيه في البحر ويقول له: تصرف، فيخرج كل طاقته، وبالتالي يتعلم رغم أنفه؛ لأنه يبذل طاقته وإلا غرق، فكذلك هؤلاء؛ من أول ما يتعرفون على الشخص يبرزونه، فيتكسر الحاجز النفسي في مواجهة الناس، ويحفظونه كيف يخاطبهم.

يقول: وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع، وآخرون -يعني: من جماعات أخرى- يأمرون إخوانهم بضم الرءوس، ويقولون لفتى الصحوة: أنت في خندق، احترس وأتقن الاختباء.

كأنه ينظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فيظل مجتهداً في تطبيق: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وينسى ما بعد، وهو قوله تعالى: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71]، أما الذي ينظر إلى قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] فحسب، ويظل يعيش في أوهام وهذيانات ووساوس ينسى أن كل نفس يحصى عليه، وأن كل سكنة وحركة تكتب عليه، وأنه مرصود بها، فلا يتحرك مثل هذا في سبيل الدين.

نماذج من علو همة بعض الدعاة

ومن نماذج الحرص على الدعوة وعلو الهمة: أخ مؤذن يأسف ويحزن حزناً شديداً؛ حيث أذيع أو أشيع في بعض الأوقات أن برج الساعة المشهور في لندن والملحق بمبنى البرلمان بدأ يميل، أو حصل نوع من الميل في برج الساعة، وأنه مهدد بالانهيار، هذا الأخ المؤذن لما سمع بذلك حزن حزناً شديداً، وعلته الكآبة! فسأله إخوانه ما سبب حزنك وكآبتك، فقال: ما زلت أؤمل أن يعز الله المسلمين، ويفتحوا بريطانيا، وأصعد على هذا البرج كي أؤذن فوقه؛ فبدأ يقلق لما بدأ الكلام يكثر أن البرج قد ينهار، فخشي أن هذا الأمل الذي يراوده قد ينهار مع انهيار هذا المبنى.

وأنا شخصياً أعرف أخاً أمريكياً من أصل أسباني، أسلم لله سبحانه وتعالى، وحسن إسلامه، ويعيش في مدينة نيويورك، وزوجته أمريكية أسلمت أيضاً، وهي منقبة، فانتدب هذا الشخص نفسه للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان يخرج للدعوة أسبوعياً، وكان كل أسبوع يخرج هو وزوجته يوم الأحد، ويقفان أمام الكنيسة في البرد وفي الثلج؛ هو يلتقط ويصطاد الرجال، ويدعوهم إلى التوحيد، سواء من الخارجين أو من الداخلين إلى الكنيسة، وهي تلتقط النساء، وتخاطبهن أيضاً، وتدعوهن إلى التوحيد.

وأخ آخر يعيش في ألمانيا ممن يجتهدون جداً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ما يكاد يذوق طعماً للراحة؛ لأن الدعوة استحوذت على كل كيانه، حتى أرهق نفسه، وشغل عن بيته وأهله وولده، فأشفق عليه إخوانه، ورأوا أن يجبروه قبول عطلة أو إجازة إجبارية؛ كي يستريح فيها قليلاً من العناء الذي يعيش فيه، فأخذوه في صحبة أسرته إلى منتجع بعيد، لا يعرفه فيه أحد، ولا يعرف هو فيه أحد؛ كي يهنأ ببعض الراحة، ووعدوه أنهم بعد عدة أيام سيعودون لإرجاعه من هذا المكان، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين.

وكان يبحث في المقاهي التي عمالها أساساً من المغاربة الذين انقطعت صلتهم بالدين، وذابوا في المجتمع الكافر، ففتش عنهم في مظان وجودهم، ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وألف بينهم، فأقاموا هذه الجمعية، وأقاموا مسجداً انطلقت منه فيما بعد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في تلك البلدة.

ونبدأ بذكر جماعة من الجماعات في الساحة، ساحة الدعوة، وهي جماعة التبليغ والدعوة؛ ولا شك أن هناك تحفظات كثيرة على فكرها، وعلى منهاجها، وأن في هذه الجماعة بدعاً غليظة، سواء في المنهاج أو في مستوى العقيدة أو في النواحي التطبيقية، كبعض الرسوم والصور والهيئات والقوانين التي وضعوها وقدسوها ولا يخرجون عنها، وكأنها دين منزل!

وليس هذا الآن موضوعنا، لكننا نصدر الكلام بهذه الجماعة باعتبار تعلقها بما نحن بصدده الآن؛ فإنها بلا شك أوفر الجماعات الإسلامية حظاً من علو الهمة في الحركة الواسعة الدءوبة.

وحينما نريد أن ننصف هذه الجماعة ونتحدث عن آثارها يكفي الثمار الكبيرة التي لم تضارعها فيها جماعة أخرى، خاصة إسلام كثير من المشركين، وهداية كثير من الفاسقين، وتبليغ دين الله عز وجل في آفاق المعمورة.

وسبق أن تكلمنا على دراسة في فكر جماعة التبليغ، وتكلمنا بالتفصيل الكبير في هذا الأمر، وكان مما ذكرناه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

لو أن جماعة مسلمة وهي على شيء كبير من البدع، ومع ذلك تتسبب في دعوة كافر إلى الإسلام، وتدعوه إلى الإسلام، وتدخله في الإسلام، فهذا أفضل من أن يبقى على كفره، فدخوله في دائرة الإسلام مع البدعة أهون من بقائه في ظلمات الكفر؛ لأنه إذا دخل في الإسلام وفي التوحيد يرجى له النجاة بإذن الله بفضل هذا التوحيد، ويكون قد اقترب أكثر من المنهج الحق.

فجماعة التبليغ لهم مواقف كثيرة، والحقيقة المآخذ على جماعة التبليغ نسبية، مع وجود قواسم مشتركة بين الجماعة في كل بقاع الأرض، لكن تتفاوت ما بين الأعاجم وبين العرب؛ ولا شك أن البدع أغلظ وأظلم وأشد سواداً في الأعاجم منها في العرب؛ لأن العرب قربهم من اللغة العربية وقربهم من العلماء ومن مصادر العلم الشريف جعل البدع فيهم أقل وأخف؛ لأنه يسهل تنظيف مفاهيمهم ومناهجهم، أما الأعاجم فالأمر مؤلم إلى حد بعيد.

حكى رجل شهد مجلساً من مجالسهم فقال: جلسنا يوماً في المسجد للتعارف، فقام شيخ وقور، قد اشتعل رأسه ولحيته شيباً فوقف في هذه المجموعة يعرف نفسه وقد جاوز السبعين من عمره فقال: اسمي الحاج وحيد الدين ، وأعمل في التجارة، وعمري الآن تسع سنوات. قال: فاستغربنا! وقلنا له: في دهشة: تسع سنوات؟! قال: نعم؛ لأني أحفظ عمري من تاريخ دخولي في هذه الدعوة، أما قبل ذلك فإني أعتبر عمري ضائعاً، وكان هذا الرجل إذا وقف ليلقي موعظته يقول: لا تضيعوا أعماركم مثلي، واشتغلوا بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

يقول الحاكي: حدث أن سألنا أميرهم: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ ولا شك أن هذه من أبرز السمات الإيجابية في جماعة التبليغ، وأي إنسان يجحد هذه الخصيصة يعتبر مكابراً للواقع الملموس؛ فلا شك أنهم أكثر الناس إيجابية في التعامل مع الباطل؛ فهم يتحركون إليه، ولا يكتفون بأن يأتيهم الناس إلى المساجد.

فسئل أميرهم مرة: لماذا تذهبون إلى المقاهي لدعوة الناس؟ فقال: أرأيت إن كان عندكم مريض ماذا تفعلون له؟

قلنا: إن كان مرضه ثقيلاً نحضر له الطبيب في المنزل، وإما إذا كان مرضه خفيفاً فإنه يذهب بنفسه إلى الطبيب.

قال: فكذلك الذين لم يعرفوا طريق المسجد مرضهم الإيماني ثقيل، فنحن نذهب إليهم، يعني: كما يذهب الطبيب إلى المريض الشديد المرض الذي لا يقوى على الحركة إلى منزله.

حكى بعض مشائخهم نماذج من حركتهم في الدعوة وقال: إنه خرج مرة للدعوة في حانة خمر في مدينة أوروبية، واستهدف رجلاً مسلماً كان يجالس امرأة وهو يشرب الخمر، فوعظه، ونصحه، وذكره بالله؛ حتى لان قلبه، ودمعت عيناه، فأخذ بذراعه ليقوده -مع أنه كان في حالة سكر- إلى المسجد، وأخذت المرأة بذارعه الآخر تنازعه فيه، فهو يجذب من جهة بأحد الذارعين، والمرأة تجذبه من جهة أخرى، وكانت الغلبة له بعد تجاذب شديد بين الطرفين، وأتى به إلى المسجد، وعلمه كيف يتطهر ويصلي، ثم تاب وحسنت توبته.

ويلاحظ أيضاً أنهم يجتهدون في ابتكار الحيل الخيرية التي تجذب الناس إلى الدين، فذلك التبليغي الذي أراد أن يبلغ الدعوة إلى طبيب مشهور في البلد، فذهب ودفع قيمة الفحص الطبي، ثم انتظر في الدور إلى أن جاءت نوبته، فدخل على الطبيب، فتهيأ الطبيب لفحصه، فإذا به يخبره أنه ليس بمريض، وإنما رغب أن يذكره بالله سبحانه وتعالى، وينصحه في الدين، وأخذ ينصحه ويذكره بالله عز وجل إلى أن رق قلب هذا الطبيب، وتأثر بموعظته، وأراد أن يرد إليه ثمن الكشف، فأبى قائلاً: هذه قيمة ما استغرقته من وقتك.

وكأنهم يقتدون في ذلك بمؤسس الجماعة، وبداية دعوة التبليغ كانت في الهند، وإن كان الشيخ إلياس مؤسس جماعة التبليغ عليه مآخذ، لكن باختصار كأنهم يقتدون به في هذا؛ لأنه كان في بداية الدعوة يفعل هذا، وبداية دعوته كانت على أساس رؤيا رآها في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: افعل كما فعلت أنا، واخرج إلى الناس.

المهم يقولون: إنه بدأ ببعض عمال البناء أو شيء من هذا؛ فجمعهم كي يستمعوا إليه، فقالوا: لا نستطيع؛ لأننا نعمل ونتكسب، وهذا مصدر رزقنا، فأتى بهم، وكان يبذل لهم من المال مقابل الأجر الذي يفوتهم حينما يجلسون إليه، فكان يفعل ذلك معهم باستمرار، يعطيهم تعويضاً عن الأجر الذي يفوتهم بالجلوس عنده، إلى أن دخلت الدعوة وتمكنت في قلوبهم، فحينئذٍ تنزهوا عن أخذ هذا المال، وبدأت على أكتافهم هذه الحركة وهذه الدعوة.

حتى لما صعد الإنسان إلى القمر في أوائل الستينات، وكثر الكلام والافتراضات في ذلك الوقت أن الناس ممكن أن يقيموا في القمر، وأن يسكنوا هناك، وغير ذلك، فقالوا: حتى لو صعدوا إلى القمر، واتخذوا مساكن هناك لنرسلن وراءهم قافلة تخرج في سبيل الله، وتصعد إلى القمر؛ لتدعوهم.

وأحد الدعاة الأفاضل يخالف جماعة التبليغ في منهجهم، لكنه مع ذلك لم يعدمهم إنصافاً، وهو: الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله، حيث يقول عن هذه الجماعة: أجادت غرس الثقة في دعاتها، وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع.

وفعلاً هذا من التأثيرات الملاحظة جداً، حيث إن الواحد من أول ما ينتمي إلى الجماعة يكسر تماماً الحاجز النفسي الذي يمنع الإنسان من مواجهة الناس والخطابة فيهم بحماس، فهذا كما يفعل الذي يعلم الشخص السباحة؛ حيث يلقيه في البحر ويقول له: تصرف، فيخرج كل طاقته، وبالتالي يتعلم رغم أنفه؛ لأنه يبذل طاقته وإلا غرق، فكذلك هؤلاء؛ من أول ما يتعرفون على الشخص يبرزونه، فيتكسر الحاجز النفسي في مواجهة الناس، ويحفظونه كيف يخاطبهم.

يقول: وبخطبة واحدة يتعلمونها يجوبون الآفاق، ويواجهون المجتمع، وآخرون -يعني: من جماعات أخرى- يأمرون إخوانهم بضم الرءوس، ويقولون لفتى الصحوة: أنت في خندق، احترس وأتقن الاختباء.

كأنه ينظر فقط إلى قوله تبارك وتعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، فيظل مجتهداً في تطبيق: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وينسى ما بعد، وهو قوله تعالى: فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا [النساء:71]، أما الذي ينظر إلى قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71] فحسب، ويظل يعيش في أوهام وهذيانات ووساوس ينسى أن كل نفس يحصى عليه، وأن كل سكنة وحركة تكتب عليه، وأنه مرصود بها، فلا يتحرك مثل هذا في سبيل الدين.

ومن نماذج الحرص على الدعوة وعلو الهمة: أخ مؤذن يأسف ويحزن حزناً شديداً؛ حيث أذيع أو أشيع في بعض الأوقات أن برج الساعة المشهور في لندن والملحق بمبنى البرلمان بدأ يميل، أو حصل نوع من الميل في برج الساعة، وأنه مهدد بالانهيار، هذا الأخ المؤذن لما سمع بذلك حزن حزناً شديداً، وعلته الكآبة! فسأله إخوانه ما سبب حزنك وكآبتك، فقال: ما زلت أؤمل أن يعز الله المسلمين، ويفتحوا بريطانيا، وأصعد على هذا البرج كي أؤذن فوقه؛ فبدأ يقلق لما بدأ الكلام يكثر أن البرج قد ينهار، فخشي أن هذا الأمل الذي يراوده قد ينهار مع انهيار هذا المبنى.

وأنا شخصياً أعرف أخاً أمريكياً من أصل أسباني، أسلم لله سبحانه وتعالى، وحسن إسلامه، ويعيش في مدينة نيويورك، وزوجته أمريكية أسلمت أيضاً، وهي منقبة، فانتدب هذا الشخص نفسه للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكان يخرج للدعوة أسبوعياً، وكان كل أسبوع يخرج هو وزوجته يوم الأحد، ويقفان أمام الكنيسة في البرد وفي الثلج؛ هو يلتقط ويصطاد الرجال، ويدعوهم إلى التوحيد، سواء من الخارجين أو من الداخلين إلى الكنيسة، وهي تلتقط النساء، وتخاطبهن أيضاً، وتدعوهن إلى التوحيد.

وأخ آخر يعيش في ألمانيا ممن يجتهدون جداً في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، حتى ما يكاد يذوق طعماً للراحة؛ لأن الدعوة استحوذت على كل كيانه، حتى أرهق نفسه، وشغل عن بيته وأهله وولده، فأشفق عليه إخوانه، ورأوا أن يجبروه قبول عطلة أو إجازة إجبارية؛ كي يستريح فيها قليلاً من العناء الذي يعيش فيه، فأخذوه في صحبة أسرته إلى منتجع بعيد، لا يعرفه فيه أحد، ولا يعرف هو فيه أحد؛ كي يهنأ ببعض الراحة، ووعدوه أنهم بعد عدة أيام سيعودون لإرجاعه من هذا المكان، ولما رجعوا إليه وجدوه قد أسس جمعية إسلامية في هذا المكان قوامها بعض العمال المغاربة وغيرهم ممن انقطعت صلته بالدين.

وكان يبحث في المقاهي التي عمالها أساساً من المغاربة الذين انقطعت صلتهم بالدين، وذابوا في المجتمع الكافر، ففتش عنهم في مظان وجودهم، ودعاهم إلى الله سبحانه وتعالى، وألف بينهم، فأقاموا هذه الجمعية، وأقاموا مسجداً انطلقت منه فيما بعد الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في تلك البلدة.

فالحركة هي سر دعوة الإسلام المباركة في أرجاء الدنيا، ينطلق بها جنود لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى: كما قال تعالى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، فليست هيئات رسمية، ولا وزارات في حكومات، ولا هيئات تنفق عليها الأموال، بل إن النشاط الذي يبذل في سبيل الدعوة الإسلامية في كل أرجاء الدنيا لا يبلغ عشر معشار.. معشار.. معشار ما ينفق على الأنشطة التبشيرية التي تبشر الناس بالنار، ومع ذلك نجد هذه البركة، والإسلام قطعاً هو أعلى الأديان من حيث معدل الانتشار وغزو القلوب في كل أرجاء الدنيا، حتى إن الغرب الآن يجتهد في أن يواجه الإسلام؛ لأن الغربيين يعانون من الجفاف الروحي، فيبحثون عن تعويض لهذا الجفاف، فأصبح هناك تركيز كبير جداً، وأصبحت موضة الآن أن يتجه الغربيون إلى الديانات المنتشرة في شرق آسيا، وهناك توجيه في القائمين على الثقافة الغربية أن يحاولوا أن يجتهدوا في إبعادهم عن الإسلام، فالذين يعانون من الجفاف الروحي يبحثون عن الأديان، فيوجهونهم دائماً إلى شرق آسيا؛ حيث البوذية والبرهمية والمجوسية وهذه الأديان المعروفة التي فيها إغراق في الجانب الروحي القائم على الضلال والشرك والوثنية وعبادة الأنداد من دون الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يخافون أن يتوجهوا إلى الإسلام فيتأثروا به، لذلك جعلوا كل تركيزهم على ترويج التوجه ناحية الديانات الشرقية؛ خوفاً من المد الإسلامي الذي لا يجدون تفسيراً لانتشاره حتى في عقر دارهم.

فالإسلام ينتشر بنفسه؛ لأنه دين كثير الحركة، ويحمل في طياته جاذبية كاملة تجذب كل من اطلع عليه وكان في قلبه خير إليه، حتى يستحوذ على كل كيانه.

ويلفتنا الأستاذ محمد أحمد الراشد حفظه الله تعالى إلى ميزان غريب من الموازين التي اعتبرها معيار أو مقياس يقيس به هذه الحركة الحياتية المتفجرة في الداعية، فيحكي في كتابه (صناعة الحياة) ويقول: وقد كنت في الأيام الخوالي -يعني: أيام الشباب- ألاطف إخواني، فأعمل تفتيشاً على أحذيتهم. وإذا سمعنا كلمة التفتيش على الأحذية -كما هو في المدارس- نفهم أن التفتيش على الأحذية التفتيش على اللمعان والنظافة والبريق.

فهذا كان يعمل من وقت إلى آخر التفتيش على أحذية إخوانه، يقول: ليس على نظافتها وصبغها ورونقها كالتفتيش العسكري، بل على استهلاكها وتقطعها والغبار الذي عليها!

فكان يجعل إخوانه يخلعون النعال، فيقلب النعل، يقول: فأرى النعل، فمن كان أسفل حذائه متهرئاً تالفاً فهو الناجح، وأقول له: شاهدك معك؛ حذاؤك يشهد لك أنك تعمل وتغدو في مصالح الدعوة، وتروح وتطبق قاعدة: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس:20]، ولكثرة حركتك تلف حذاؤك، فأنت المجتاز المرضي عندي.

يقول أحدهم: قد والله! مكثت عشرين سنة يأخذني تأنيب الضمير كلما رأيت حذائي لا غبار عليه، وأتذكر ذلك التفتيش.

وقد ذكرنا من قبل أن الفاسق ضالة الداعية، فالداعية الكبير الهمة لا يخاف من الفاسق؛ لأن الذي يخاف هو الضعيف الذي يخشى أن يتأثر به، وأن تسري عدوى فسقه إليه، أما الكبير الهمة فإنه يتميز بأن عنده عنصر المبادرة وعنصر المبادأة وعنصر الحركة إلى مواقع يندر من يتأهل لاقتحامها؛ بحثاً عن الضالة المنشودة التي هي الفاسق.

فالفاسق هدف للداعية كبير الهمة، فهدفه متركز في الفاسق غير المهتدي؛ كي يهديه ويأخذ بزمامه إلى طريق الله سبحانه وتعالى.

قصة شيخ وعظ في مرقص

يحكي الشيخ علي الطنطاوي قصة توبة حدثت في مكان غريب جداً، وهو مكان للرقص والعياذ بالله! يقول الشيخ علي الطنطاوي وفقه الله: دخلت أحد مساجد مدينة حلب، فوجدت شاباً يصلي، فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً؛ يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه، وسألته: أنت فلان؟ قال: نعم، قلت: الحمد لله على هدايتك! أخبرني كيف هداك الله؟ قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص، قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم، في مرقص؛ قلت: كيف ذلك؟ قال: هذه هي القصة، فأخذ يرويها فقال: كان في حارتنا مسجد صغير، يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟ ما بال أكثر الناس -وخاصة الشباب- لا يقربون المسجد، ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي؛ قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟ فهذا الشيخ لا يعرف ما معنى مراقص وملاهي! فرد عليه أحد المصلين: المرقص: صالة كبيرة، فيها خشبة مرتفعة، تصعد عليها الفتيات كاسيات عاريات أو شبه ذلك، يرقصن، والناس حولهن ينظرون إليهن، فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس؛ قالوا له: يا شيخ! أين أنت؟ تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟! قال: نعم، حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء، وسينالهم الأذى! فقال لهم الشيخ: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأمسك الشيخ بأحد المصلين ليدله على المرقص، ولما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون؟ قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص، فتعجب صاحب المرقص! وأخذ يمعن النظر فيهم، ورفض السماح لهم، فأخذوا يساومونه ليأذن لهم، حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي؛ مقابل أن يأذن لهم بالجلوس للموعظة، فوافق صاحب المرقص، وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي.

قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة. والحقيقة أن صاحب المرقص أفضل بكثير من مخلوقات غريبة موجودة في بلادنا الآن، ففي إحدى الكليات، وبتعبير أدق الكلية التي تخرج المعلمين والمدرسين كلية التربية، اجتمع الشباب -مدرسو المستقبل ومدرسات المستقبل- في حلقة في فناء الكلية، الشبان يعزفون على المعازف والطبول وهذه الأشياء، والفتيات يرقصن أمامهم، فأتى أحد الإخوة كي يعظهم ويزجرهم، فصاحوا به، ووشوشوا عليه؛ حتى لا يسمع كلامه، فأخذ الأخ يتلو آيات من القرآن الكريم، فسكتوا جميعاً كأن على رءوسهم الطير، ثم بعدما فرغ من قراءة القرآن عاد ليعظهم، فثاروا من جديد، وشوشوا عليه؛ حتى تكرر ذلك، كلما يقرأ القرآن يسكتون، فإذا ما وعظهم ونصحهم بغير القرآن الكريم صاحوا وعادوا للرقص والغناء.

وإن شاء الله يكون فيهم بذرة خير؛ لأن احترامهم للقرآن معناه: أنه يوجد بصيص من النور في قلوبهم؛ لاحترامهم القرآن وسكوتهم عند سماع القرآن.

الشاهد في القصة: أن أحدهم هرع إلى العميد، فأتى العميد مسرعاً، فالشاب المتدين حينما رآه فر هارباً من العميد؛ لأنه أتى ليحمي هؤلاء الشباب في هذا الفعل! فلما رأوا العميد ظلوا يرقصون ويغنون، ويفعلون هذه الأشياء.

فلا شك أن صاحب المرقص هذا أفضل من مثل هذا الشخص الذي نزل من مكتبه متخصصاً ليحمي الفساد.

فطلب منهم صاحب المرقص أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي، فلما انتهى الرقص أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة، وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أنما يرونه جزء من فقرة فكاهية، لكن تبدأ هذه البداية الجادة، فلما عرفوا أن أمامهم شيخاً يعظهم أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء، وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور، وأمرهم بالسكوت والإنصات؛ حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.

قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص؛ حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين، وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً، وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟! لقد ذهبت اللذة، وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى.

أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟! إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان. فبكى الناس جميعاً، وخرج الشيخ من المرقص، وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.

يحكي الشيخ علي الطنطاوي قصة توبة حدثت في مكان غريب جداً، وهو مكان للرقص والعياذ بالله! يقول الشيخ علي الطنطاوي وفقه الله: دخلت أحد مساجد مدينة حلب، فوجدت شاباً يصلي، فقلت: سبحان الله! إن هذا الشاب من أكثر الناس فساداً؛ يشرب الخمر، ويفعل الزنا، ويأكل الربا، وهو عاق لوالديه، وقد طرداه من البيت، فما الذي جاء به إلى المسجد؟! فاقتربت منه، وسألته: أنت فلان؟ قال: نعم، قلت: الحمد لله على هدايتك! أخبرني كيف هداك الله؟ قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص، قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم، في مرقص؛ قلت: كيف ذلك؟ قال: هذه هي القصة، فأخذ يرويها فقال: كان في حارتنا مسجد صغير، يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟ ما بال أكثر الناس -وخاصة الشباب- لا يقربون المسجد، ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي؛ قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟ فهذا الشيخ لا يعرف ما معنى مراقص وملاهي! فرد عليه أحد المصلين: المرقص: صالة كبيرة، فيها خشبة مرتفعة، تصعد عليها الفتيات كاسيات عاريات أو شبه ذلك، يرقصن، والناس حولهن ينظرون إليهن، فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم؛ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس؛ قالوا له: يا شيخ! أين أنت؟ تعظ الناس وتنصحهم في المرقص؟! قال: نعم، حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهون بالسخرية والاستهزاء، وسينالهم الأذى! فقال لهم الشيخ: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأمسك الشيخ بأحد المصلين ليدله على المرقص، ولما وصلوا إليه سألهم صاحب المرقص: ماذا تريدون؟ قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص، فتعجب صاحب المرقص! وأخذ يمعن النظر فيهم، ورفض السماح لهم، فأخذوا يساومونه ليأذن لهم، حتى دفعوا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي؛ مقابل أن يأذن لهم بالجلوس للموعظة، فوافق صاحب المرقص، وطلب منهم أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي.

قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة. والحقيقة أن صاحب المرقص أفضل بكثير من مخلوقات غريبة موجودة في بلادنا الآن، ففي إحدى الكليات، وبتعبير أدق الكلية التي تخرج المعلمين والمدرسين كلية التربية، اجتمع الشباب -مدرسو المستقبل ومدرسات المستقبل- في حلقة في فناء الكلية، الشبان يعزفون على المعازف والطبول وهذه الأشياء، والفتيات يرقصن أمامهم، فأتى أحد الإخوة كي يعظهم ويزجرهم، فصاحوا به، ووشوشوا عليه؛ حتى لا يسمع كلامه، فأخذ الأخ يتلو آيات من القرآن الكريم، فسكتوا جميعاً كأن على رءوسهم الطير، ثم بعدما فرغ من قراءة القرآن عاد ليعظهم، فثاروا من جديد، وشوشوا عليه؛ حتى تكرر ذلك، كلما يقرأ القرآن يسكتون، فإذا ما وعظهم ونصحهم بغير القرآن الكريم صاحوا وعادوا للرقص والغناء.

وإن شاء الله يكون فيهم بذرة خير؛ لأن احترامهم للقرآن معناه: أنه يوجد بصيص من النور في قلوبهم؛ لاحترامهم القرآن وسكوتهم عند سماع القرآن.

الشاهد في القصة: أن أحدهم هرع إلى العميد، فأتى العميد مسرعاً، فالشاب المتدين حينما رآه فر هارباً من العميد؛ لأنه أتى ليحمي هؤلاء الشباب في هذا الفعل! فلما رأوا العميد ظلوا يرقصون ويغنون، ويفعلون هذه الأشياء.

فلا شك أن صاحب المرقص هذا أفضل من مثل هذا الشخص الذي نزل من مكتبه متخصصاً ليحمي الفساد.

فطلب منهم صاحب المرقص أن يحضروا في الغد عند بدء العرض اليومي، فلما انتهى الرقص أسدل الستار، ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة، وحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أنما يرونه جزء من فقرة فكاهية، لكن تبدأ هذه البداية الجادة، فلما عرفوا أن أمامهم شيخاً يعظهم أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء، وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور، وأمرهم بالسكوت والإنصات؛ حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.

قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص؛ حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين، وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً، وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟! لقد ذهبت اللذة، وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى.

أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟! إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان. فبكى الناس جميعاً، وخرج الشيخ من المرقص، وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.

إن النماذج -بلا شك- كثيرة، وإذا حاولنا أن نستوفيها فهذا مما يحتاج إلى وقت طويل، ونحن نذكر نماذج فقط، فإذا كنا قد اطلعنا على هذه النماذج -سواءٌ أكانت من سيرة السلف الصالح رحمهم الله تعالى أم من مواقف الخلف والمتأخرين- وإذا كان سعي الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وحركتهم في نصرة الدين هي ثمرة أو أثر من آثار علو همتهم، ولئن كان نشر مناقبهم وإذاعة أخبارهم من أسباب إيقاظ الغافلين، فإنه قد ينضم إلى هذه الأسباب تقريع النائمين والسادرين في الغفلة، وذلك بأن نذكر لهم شيئاً من التوبيخ كي تتحرك الهمم، ليس بأن نذكر نماذج أهل الحق من السلف والخلف فحسب، وإنما ربما يثير هممهم وينشطها ويوقظها من رقدتها أن نذكر نماذج لا من علو همة أهل الباطل، لكن من حركة أهل الباطل في الانتصار لباطلهم، وكيف أنهم يبذلون ويصبرون ويضحون في سبيل إطفاء نور الإسلام، وهيهات هيهات! قال عز وجل: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]. فالكافر لا يصح أن يوصف بعلو همة، ولا يمكن أن يوصف بعلو الهمة، وإنما نذكر أنفسنا كي نستحيي من الله سبحانه وتعالى. ألم تسمع قوله تعالى في وصف حركة أهل الباطل: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]؟! وقص الله عز وجل عن قوم إبراهيم عليه السلام أنهم قالوا: حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]. وقال في شأن الكافر: (( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى )) أي: تحرك فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]. وقال أيضاً: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ [المائدة:62]. وقال أيضاً: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176]. فهي حركة، لكنها حركة مذمومة مشئومة، تعود عليهم بالوبال والنكال وحبوط الأعمال. ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]. وقال أيضاً: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ* عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:2-3] يعني: كانت في الدنيا عاملة ناصبة، تتعب وتدأب في سبيل التقرب إلى الشركاء من دون الله تبارك وتعالى. وقال عز وجل أيضاً: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:103-105]. وقال عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. إن حبوط أعمال الكافرين راجع إلى فقدانهم الإيمان، كما قال تعالى: أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ [الأحزاب:19]. فكما أن حركتهم كانت وبالاً عليهم فحركة الكافر -أيضاً- تصير وبالاً عليه في الآخرة؛ لأن هذه الحركة إما أنها تكون في طلب الدنيا، وإما في سبيل دين باطل لا يؤدي الإيمان به إلا إلى جهنم والعياذ بالله، يقول تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. وإما أن هذه الحركة كانت في سبيل الصد عن سبيل الله عز وجل، قال عز وجل: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:1] أي: الذين كفروا في أنفسهم وفي ذواتهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله أضل أعمالهم. وقال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:25] فكما أن الدال على الخير كفاعله، وكما أن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فكذلك في الجانب الآخر يحمل المبطل الداعي إلى الباطل وزره ووزر من يضلهم بغير علم. ومع هذا كله فإن الله سبحانه وتعالى واسى أهل الإيمان وعزاهم فيما يلقون من الألم فقال عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وهذا أعظم عزاء ومواساة لما يلقاه المؤمن في زمن غربة الدين حين يكون القبض عليه أشد من قبضه على الجمر. فلا شك في هذا أعظم عزاء؛ لأن كل إنسان في دار الدنيا مبتلى، وكل إنسان يبتلى، ولا أحد أبداً يخرج من ابتلاء الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2]، وقال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]. إذاً: الابتلاء عام في كل الخلق، لكن كلما اقترب الإنسان من منهج الأنبياء عليهم السلام كلما زاد حظه من البلاء بسبب قوة دينه وقوة إيمانه، كما بين ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم. فلا يظنن أي واحد من المسلمين الموحدين المستقيمين على طاعة الله حينما يحترق دمه وتحترق أعصابه من الظلم والقهر ومحاربة الدين صباح مساء من السخرية ومن الحملات والاضطهاد بكل أنواع الاضطهاد في مثل هذا الزمان، لا يظن أن هذا التعب ضائع سدى، بل هذا الانفعال في حد ذاته هو عبادة يثاب عليها، فانفعالك وغضبك لله وتمعر وجهك بسبب انتهاك الفجار لحرمات الله عبادة تثاب عليها، والله سبحانه وتعالى مطلع عليك، ويعرف من قلبك أنك تكره هذا، وأنك تألم له، وأنت تثاب على مجرد هذا الشعور. ومع ذلك ليس هذا فحسب، فلست فقط الذي تتعب، بل أهل الباطل يتعبون، ويسهرون الليالي، لكن ليس في قيام الليل، ولا في تلاوة القرآن، وإنما في الكيد لهذا الدين وأهله، ويبذلون الأموال، ويوظفون الموظفين، وكثير من الجهود يُبذل في سبيل إطفاء نور الإسلام وهدم ما بناه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، واقتلاع الإسلام من جذوره، ومع ذلك يكون مصيرهم هو ما قال عنه عز وجل: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ [النساء:104]، أي: لا تضعفوا إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، لكن مع فارق، وهو أنكم ترجون بصبركم من الله ما لا يرجون، فأنت إذا صبرت على الأذى ترجو الثواب من الله سبحانه وتعالى، وأما الظالم الذي يحارب الإسلام فليس معه أحد، قال تعالى: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [الحج:71]، فلا يمكن أبداً أن يكون لهم ناصر، بل كلهم أعداء لبعضهم في الدنيا وفي الآخرة، كما قال عز وجل: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت:25]. فليس المؤمنون وحدهم الذين يحتملون الألم والقرح، بل إن أعداءهم كذلك يتألمون وينالهم القرح واللأواء، ولكن شتان بين المؤمنين الذين يتوجهون إلى الله سبحانه وتعالى بجهادهم ويرتقبون عنده جزاءهم، وبين الكافرين الذين هم حيارى تائهون ضائعون مضيعون لا يتجهون إلى الله، فأنت في الشدة وفي العناء تتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وتستنصره، وتقول: رب! إني مغلوب فانتصر. أما الكافر فإلى من يتجه؟! هل يستطيع أن يتجه إلى الله سبحانه وتعالى ويدعوه أن ينصره ويعينه على إطفاء نوره والقضاء على دينه؟! فالكافر لا ناصر له ولا ولي له، قال عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]. ولذلك كان الصحابة يرفعون هذا الشعار في مواجهة المشركين حينما يلتقون، وقد أخذ أبو سفيان قبل إسلامه يقول لهم في أحد يوم كانت لهم الجولة: اعل هبل، اعل هبل. ينادي بالعلو لهبل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يردوا عليه ويقولوا: الله أعلى وأجل. فرد الصحابة: الله أعلى وأجل. وحينما قال الكفار لهم: لنا العزى ولا عزى لكم. أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردوا عليهم قائلين: الله مولانا ولا مولى لكم. فهؤلاء الكافرون ضائعون مضيعون، لا يتجهون إلى الله ولا يرتقبون عنده شيئاً في الحياة ولا بعد الحياة، فإذا كانوا مع ذلك يصرون ويدأبون في محاربة الحق فمن الأولى بالإصرار والمثابرة والصبر؟! فما أجدر المؤمنين بأن لا يكفوا عن ابتغاء القوم وتطلبهم وتعقب آثارهم حتى لا تبقى للباطل قوة، وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وهذا المعنى هو عين ما نقصده مما سنذكره -إن شاء الله تعالى- من سعي الكافرين ودأبهم في تحصيل الدنيا أو في الصد عن سبيل الله تعالى. وبجانب هذا معنىً ثان أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم فيما روي عنه من قوله: (ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نا

قصة هوستن وولاية تكساس

فهذا أنموذج حصل في حدود سنة (1830م) يعني: في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي:

رجل يدعى هوستن وقف أمام الكونجرس الأمريكي وخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين أمامه، وكان قد مدح لتوه في تسكين ثائرة الهنود الحمر، وجلبهم إلى توقيع اتفاقات مع الحكومة الأمريكية، استدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولابد من ضمها، وأريدها منك ضمها، فقال هوستن : أنا لها! زودني بمال ورجال. فقال الرئيس الأمريكي: لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفرداً، وبلا دولار واحد، وأبعث معك حارساً حتى تعبر نهر المسيسبي، ويعود. يعني: أن الحارس سيوصلك إلى حد نهر المسيسبي ويرجع هو، وتدخل أنت وحدك؛ كي تحقق لي هذا الهدف.

ومع ذلك قبل المهمة، وودعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهماً، والمتهم يخرج بريئاً؛ بسبب بلاغة وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس، فوثقوا به، واجتمعوا حوله، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى ضرورة الاستقلال عن المكسيك.

وهو أخذهم على مراحل، فهو لما أراد أن يضم تكساس إلى أمريكا دعاهم أولاً إلى الاستقلال عن المكسيك، وبين لهم أنه لابد أن نقيم دولة مستقلة بنا عن المكسيك هي تكساس، فأنشأ حركة قوية أتمت الاستقلال، فاستقلت تكساس عن المكسيك.

ثم غرس معنىً جديداً وهو: وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت تكساس طواعية بإقناع هوستن .

وجاء بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي، وسلمه مفتاح تكساس؛ إذ لم تطلق طلقة أمريكية، ولم يصرف دولار واحد، فشكره الرئيس الأمريكي، وخلدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة هوستن التي هي الآن من أهم مدن أمريكا وعاصمة النفط فيها.

وطبعاً نحن لا نذكر هذا للإعجاب بهؤلاء الكفرة؛ فإن هذا إذ كان مات على الكفر فهو إلى جهنم والعياذ بالله! لكن المقصود من ذكر هذه النماذج هو النظر إلى حال أهل الباطل؛ حيث إن أحدهم إذا أصر على أن يحقق هدفاً يجند كل طاقاته من أجل إنجاز ذلك.

الحرب بين العرب والأتراك العثمانيين

إننا لنذكر في العهد القريب لورنت براون الجاسوس البريطاني المعروف، فقد أقام حرباً ضارية بين المسلمين والمسلمين، بين العرب والأتراك، وظل يغذي نزعة القومية العربية في الجيوش العربية، خاصة التي كان يقودها الشريف حسين الخائن المعروف، أقام حرباً ضارية بين المسلمين والمسلمين، بين العرب والأتراك، على أساس القومية والانفصال عن الخلافة العثمانية، وأريقت فيها دماء الآلاف من المسلمين بأيدي المسلمين في سبيل التاج البريطاني! ولم ترق قطرة دم واحدة من جسم رجل إنجليزي في سبيل بريطانيا، بل تقاتل المسلمون فيما بينهم.

حركة أبناء اليابان في النهوض ببلادهم

وهذا مثال آخر من الأمثلة على إصرار أهل الباطل في سبيل تحقيق مآربهم حتى لو كان في سبيل الدنيا، وهو أنموذج من اليابان: فقد أرسلت الدولة اليابانية في بدء حضارتها بعوثاً دراسية إلى ألمانيا كما بعثت الأمة العربية بعوثاً، فرجعت بعوث اليابان لتحضر أمتها، ورجعت بعوثنا خاوية الوفاق، فما هو السر؟! السر نحكيه في هذه القصة التي يحكيها الذي قام بهذا الأمر، وهو الطالب الياباني أوساهير : بعثته حكومته للدراسة في ألمانيا، يقول: لو أنني اتبعت نصائح أساتذتي الألمان الذين ذهبت لأدرس عليهم في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء، وكانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية، أو ما يسمى بالموديل الذي هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تصنع فقد وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها. وبدلاً من أن يأخذني الأساتذة إلى معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتباً لأقرأها، وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها، ولكنني ظللت أمام المحرك -أياً كانت قوته- وكأني أقف أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، وكان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، ووجدت في المعرض محركاً بقوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك، وكان ثقيلاً جداً، وذهبت إلى حجرتي، ووضعته على المنضدة، وجعلت أنظر إليه كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر، وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا، لو استطعت أن أصنع محركاً كهذا لغيرت تاريخ اليابان. وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال شتى، مغناطيس كحذوة الحصان، وأسلاك، وأذرع ذات سعة، وعجلات وتروس، وما إلى ذلك. فلو أنني استطعت أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها ثم شغلته فاشتغل أكون قد خطوت خطوة نحو سر موديل الصناعة الأوروبية. وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة للمحركات، وأخذت ورقاً كثيراً، وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل: رسمت المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه، ثم جعلت أفككه قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة، وأعطيتها رقماً، وشيئاً فشيئاً فككته كله، ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل، فكاد قلبي أن يقف من الفرح! استغرقت العملية ثلاثة أيام، كنت آكل في اليوم وجبة واحدة، ولا أنال من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل. وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: حسناً ما فعلت! الآن لابد من أن أختبرك، سآتيك بمحرك متعطل وعليك أن تفككه وتكشف موضع الخطأ وتصححه وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل. كلفتني هذه العملية عشرة أيام، عرفت أثناءها مواضع الخلل، فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد. بعد ذلك قال رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحياً: عليك الآن أن تصنع القطع بنفسك، ثم تركبها محركاً، ولكي أستطيع أن أفعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمنيوم، وبدلاً من أن أعد رسالة الدكتوراة -كما أراد مني أساتذتي الألمان- تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء، وأقف صاغراً إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت أخدمه وقت الأكل، مع أنني من أسرة سامرائي -ويظهر أنها أسرة من النبلاء في اليابان-، ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء. قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم، وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة، وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة. وعلم الميكادو بأمري -وهو الحاكم الياباني، ومعلوم أنهم كانوا يعبدون إمبراطورهم- فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي من الذهب، فاشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة، وأدوات وآلات، وعندما أردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت، فبذلت راتبي وكل ما ادخرت، وعندما وصلت إلى ناجازاكي قيل لي: إن الميكادو يريد أن يراك. فقلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً، واستغرق ذلك تسع سنوات، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات صنعت في اليابان قطعة قطعة، حملناها إلى القصر، ودخل الميكادو ، وانحنينا نحييه، وابتسم، فقال: هذه أعذب موسيقا سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة. هكذا ملكنا الموديل، وهو سر قوة الغرب، ونقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان، ونقلنا اليابان إلى الغرب. فهذا أنموذج من الدأب والحركة والإصرار في سبيل الهدف الذي يصر عليه الإنسان. نحن ننزه كلمة الهمة من أن نصف بها مثل هذا المشرك، لكن نقول للاعتبارات التي صدرنا بها الكلام: إن المسلمين أولى بأن يكونوا كذلك.

حب اليابانيين للعمل والكد والتعلم

حدث من عايش الطلاب اليابانيين الذين يبتعثون إلى أمريكا عن أحوالهم، فقال: ربما يلبثون في مكتبة الجامعة إلى نصف الليل، وربما نام أحدهم وهو جالس على كرسيه، ويواصل الدراسة في اليوم الثاني من غير ذهاب إلى البيت.

وكل من احتك باليابانيين يعرف هذه الطبيعة الغريبة فيهم.

حدثني أحد الإخوة منذ سنوات: أنه كان هناك رجل ياباني يأتي في الإجازة الأسبوعية يوم الخميس تقريباً إلى الإسكندرية، والإجازة تمتد إلى الجمعة، ويمكن إلى أيام تالية، فكان الرجل بالليل لا يطيق أن ينام، فيأمر السائق بأن يحمله من الإسكندرية إلى القاهرة، فيلقي نظرة على العمل، ثم يعود أيضاً في نفس الليلة إلى الإسكندرية!

وهذا سبب ولوعهم بالعمل والكدح في سبيل الدنيا، يعني: كل هذا في سبيل الدنيا، فانظر! كيف علت همم القوم، حتى إنهم كانوا يثورون على الحكومة إذا أعطتهم إجازات، يثورون أن كيف نأخذ إجازة، يريدون أن يعملوا ويكدحوا، وهذا تماماً كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ سخاب في الأسواق جيفة بالليل حمار بالنهار)، أي: حمار بالنهار في سبيل الدنيا.

فأولى بنا أن نطلب الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن نكون أشد إصراراً في سبيل هذا المطلب العظيم.

يحكي أيضاً الأستاذ الراشد حفظه الله فيقول: شفعت مرة لداعية أن يقبله الأستاذ فؤاد تذكين طالباً بمعهده في فرانكفورت، معهد تاريخ العلوم الإسلامية، فاشترط الأستاذ تذكين : أن يشتغل الطالب ست عشرة ساعة يومياً، فرفض! ثم أراني الأستاذ تذكين من بعد عدداً من الطلاب اليابانيين في معهده وقد انكبوا على المخطوطات العربية يدرسونها ويبعثونها إلى الحياة، وقد رضوا بهذا الشرط، فتأمل!

ويحكي أيضاً الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه (في محكمة التاريخ)، فيقول: أذكر أنني ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: هذا مركز لتدريب المبشرين -المنصرين- أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض في سبيل المسيح -عليه السلام-، أي: في سبيل الباطل؛ ومع ذلك يتكلمون معهم بهذه الصراحة!

حركة دعاة التنصير

يحكي الدكتور عبد الودود شلبي في كتابه (في محكمة التاريخ) فيقول: أذكر أنني ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: هذا مركز لتدريب المبشرين -أي: المنصرين-، أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض في سبيل المسيح -عليه السلام-. أي: في سبيل الباطل، ومع ذلك يقابلونهم بهذه الصراحة! وأذكر أن في أحدى البلاد العربية أو الخليجية عمل أحد الشباب خطة لتحفيظ القرآن للشباب في المساجد، وجعل لها جدولاً بأسماء المدرسين المقترحين. فالمسئول عنهم الذي هو من المواطنين في هذه البلدة عرض عليه هذا الموضوع ففرح جداً بخطة تحفيظ القرآن وهذا النشاط الجيد، وقال لهذا الشاب: احضر الإخوة هؤلاء ليعملوا في التحفيظ بعد الظهر. يعني: في وقت الفراغ بالنسبة إليه. فمن الناس من تجهم حينما علم أنه ليس هناك مرتب، ومنهم من فرح؛ لأنه يريد أن يتعبد بتحفيظ الشباب والأطفال القرآن الكريم، فانقسموا فريقين، وحصل كلام وقيل وقال يعبر عن التذمر والتضجر من هذا الأمر. فما كان من هذا الرجل المسئول هناك إلا أن جمعهم وتكلم فيهم، وقال: لقد اخترناكم لأنكم حملة كتاب الله. وقال نحو ذلك من الكلام الطيب، وأردف: إنه كان يمكننا أن نحضر أضعافكم أربع مرات من بلاد أخرى بنفس الراتب الذي يأخذه الواحد منكم، لكننا آثرناكم لأنكم عرب وأهل علم. ثم ضرب لهم هذا المثل، فقال لهم: لا تكونوا مثل آلة البيبسي؛ إن أعطيتها ريالات أخرجت لك البيبسي، وإن لم تبذل فإنها لا تعطيك شيئاً، فالإنسان إذا عمل في الدعوة لا ينبغي أن تكون الفلوس هي التي تحركه؛ فإن طالب الآخرة همة الآخرة هي التي تحركه، وثواب الله سبحانه وتعالى هو الأبقى والأعظم والأوفر. فهؤلاء المنصرون في مركز إعداد المبشرين في مدريد -وهي مدينة من مدن الفردوس المفقود- يعلقون هذه اللوحة أمام وجوه الداخلين: أيها المبشر الشاب! نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، وكل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء. هذه الكلمات حركت كثيراً من جند الشيطان المبشرين بالنيران، حركت حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها من التخصصات للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والميكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب ودون منصب، ولو أراد أحدهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته. حكى بعض الشباب المسلمين في ألمانيا فقالوا: منذ السادسة صباحاً ينتشر دعاة فرقة (شهود يهوه) الذين هم فرقة من اليهود ضحكوا على النصارى، وعملوا لهم تغييراً في العقيدة النصرانية، وهذه الفرقة من أشد الفرق تعصباً للنصرانية المحرفة هذه، فالنصرانية محرفة، وهؤلاء حرفوها -أيضاً- تحريفاً جديداً. فينتشر هؤلاء الدعاة من السادسة صباحاً في الشوارع، وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم. وحكى أحد الشباب المسلمين أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحاً، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها بين لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها، فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق من أجل المسيح، فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها وتغريه باعتناق دينها! فما بالنا -معشر المسلمين- يجلس الواحد منا شبعان متكئاً على أريكته إذا طلب منه نصرة دين الحق، أو كلف بأيسر المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه انطلق كالصاروخ مردداً قوله صلى الله عليه وسلم: (يا حنظلة ! ساعة وساعة) وكأنه لا يحفظ من القرآن ولا من السنة غير قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ساعة وساعة)؟!


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2479 استماع
علو الهمة [8] 2441 استماع
علو الهمة [6] 2260 استماع
علو الهمة [7] 2161 استماع
علو الهمة [9] 2042 استماع
علو الهمة [5] 1907 استماع
علو الهمة [16] 1822 استماع
علو الهمة [15] 1791 استماع
علو الهمة [3] 1653 استماع
علو الهمة [17] 1634 استماع