علو الهمة [4]


الحلقة مفرغة

كبار الهمم فئة نادرة في الناس، وهم الذين تصلح بهم أمم وتحيا همم، فعالي الهمة لا يرضى بالدون، ولا يرضى بما دون الجنة؛ إذ إن الهمة لا تزال تترقى به حتى يطمح إلى أعلى مراتب الجنة، وهو الفردوس الأعلى من الجنة، وما ذلك إلا لأن الدنيا جيفة، وعالي الهمة لا يرضى بالجيف، كما أن الأسد لا يرضى بالجيفة. وقد ذكرنا أنه ليس في علو الهمة إفراط. ثم أجبنا عن سؤال: لماذا لا يوصف الكافر بعلو الهمة؟! وقلنا: لأن الكافر يريد الدنيا، أو يريد الآخرة من غير طريق محمد صلى الله عليه وسلم، بحيث يئول به الأمر في النهاية إلى الخسار والبوار والخلود في النيران، فمن ثم لا يستحق كافر أبداً أن يشرف بوصف كبر الهمة. وحديثنا هنا -إن شاء الله تعالى- سيكون في بيان همة السلف الصالح الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، فقد استخفوا بأعراض الدنيا لأنهم فقهوا الحقائق، فكبير الهمة على الإطلاق لا يرضى بالهمم الحيوانية، ولا يكون عبداً لبطنه وفرجه، بل يجتهد في أن يتمسك بمكارم الشريعة، فيصير من أولياء الله وخلفائه في الدنيا ومن مجاوريه في الآخرة. وكبير الهمة صغرت الدنيا في عينيه، فيكون خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، ويكون خارجاً عن سلطان فرجه، فلا يتعدى حدود الله. ولما فقه سلفنا عن الله عز وجل أمره، وتدبروا حقيقة الدنيا ومصيرهم إلى الآخرة؛ استوحشوا من زخرفها، وتدبروا حقيقتها، فمالت قلوبهم عن زينتها، وارتفعت هممهم فوق سفاسفها، وجعلوا الهموم هماً واحداً، هو إرضاء الله عز وجل ومجاورته في دار كرامته. إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا. وحرصوا على إزاحة كل ما قد يعوقهم عن المضي قدماً نحو غايتهم، فلم يستووا مع سائر الناس؛ لأنهم انشغلوا بمعالي الأمور وتنزهوا عن سفاسفها، فكان لهم معايير يختلفون فيها عن سائر الناس، مثال ذلك ما قاله الحافظ أبو الحسن علي بن أحمد الزيدي مخاطباً كبيري الهمة في أنهم ليسوا كالناس، وأن اشتغالهم بمعالي الأمور يجعل لهم معايير تخالف ما لسائر الناس من المعايير، فيقول رحمه الله: اجعلوا النوافل كالفرائض، والمعاصي كالكفر، والشهوات كالسم، ومخالطة الناس كالنار، والغذاء كالدواء. وقال عبد القادر الجيلاني لغلامه: يا غلام! لا يكن همك ما تأكل وما تشرب وما تلبس وما تنكح وما تسكن وما تجمع، كل هذا هم النفس والطبع، فأين هم القلب؟! همك ما أهمك، فليكن همك ربك عز وجل وما عنده. ولما هم الإمام الجليل الليث بن سعد رحمه الله تعالى بفعل مفضول مباح لكنه ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري رحمه الله تعالى: لا تفعل؛ فإنك إمام ينظر إليك. وقال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: وقال لي يوماً شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة. أو نحو هذا من الكلام. ورحل يحيى بن يحيى إلى الإمام مالك وهو صغير، وسمع منه وتفقه مع صغر سنه، وكان مالك يعجبه سمته وعقله. وروي عنه أنه كان يوماً عند مالك في جملة من أصحابه، إذ أتى رجل وصرخ فيهم فقال: حضر الفيل. فخرج أصحاب مالك لينظروا إليه؛ فإنهم لم يروه من قبل، فانصرفوا عن الدرس ما عدا هذا الصغير يحيى بن يحيى ، فقال له مالك : لم لم تخرج فترى الفيل وهو لا يكون بالأندلس؟ يعني أنت من الأندلس، وليس فيها فيل، فلماذا لم تخرج مع أصحابك لتنظر إلى شكل الفيل؟! فقال له يحيى : إنما جئت من بلدي لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجئ لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك ، وسماه عاقل أهل الأندلس! فلا شك في أن مشاهدة حيوان غريب كالفيل لم يره الإنسان من قبل من المباح، لكن أمثال هؤلاء الناس الذين حلقت هممهم في طلب معالي الأمور يجدون وقتهم أضيق من أن يشتغلوا بشيء من المباح، خاصة إذا كان لا يجني المرء من ورائه شيئاً لقضيته التي تشغله ليل نهار. ولما فر عبد الرحمن الداخل من العباسيين وتوجه تلقاء الأندلس أهديت إليه جارية جميلة، فرمى إليها بصره وقال: إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها. يعني: همتي مشغولة في طلب معالي الأمور، فإن اشتغلت عنها بسبب همتي العالية فسوف أظلمها وأضيع حقها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردها على صاحبها! فكبيرو الهمة ليسوا كسائر الناس في انشغالهم بفضول المباحات من الأكل أو الشراب أو المنكح أو الملبس أو غير ذلك؛ لأنهم يرون في ذلك نوعاً من الغفلة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: الراحة للرجال غفلة. وقال أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج رحمه الله تعالى: لا تقعدوا فراغاً؛ فإن الموت يطلبكم. وسأل رجل ابن الجوزي : أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟ فقال: عند نفسك من الغفلة ما يكفيها.

مما يؤسف أننا في هذا الزمان ما زلنا نجد كثيراً من الناس حينما يجلس بعضهم إلى بعض فيرون علائم الجد على رجل من الرجال يقولون له: ساعة وساعة، أعط نفسك حضها، وإن لبدنك عليك حقاً، فيستدلون بشطر من الحديث ويدعون حقوقاً أخرى، وفي الحقيقة أن الناس في هذا الزمان لا يحتاجون إلى تذكيرهم بحقوق الدنيا، لأنه لا يوجد أحد منهم يقصر في أمر الدنيا، وكل الناس مشتغلون بعلم الدنيا وبمال الدنيا وبزخارف الدنيا، وقل من يشتغل بأمر الآخرة، فعند الناس فعلاً من الغفلة ما يكفيهم، والناس الآن في حاجة إلى من يزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في الآخرة، وهذا الكلام للإمام ابن الجوزي وكان في عصر كانت فتنة الدنيا فيه أخف بكثير مما نقاسيه الآن.

فإن اعترض معترض على هذا المعنى، فنأتيه بكلام الإمام الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: لا بد من سمة الغفلة، ورقاد الغفلة، ولكن كن خفيف النوم، ولا تتمادى في الغفلة.

فالمراد تقليل الراحة إلى أدنى ما يكفي الجسم كل حسب صحته وظروفه، خاصة وأن المؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية، لأن المسلمين فيما مضى كانوا يجدون على الخير أعواناً، وكانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، والرذائل والمعاصي تجهد نفسها في التستر والتواري عن أعين العلماء وسيوف الأمراء.

أما الآن فإن المدنية الحديثة جعلت كفر جميع مذاهب الكفار مسموعاً مبصراً، جميع أنواع الكفر الآن تجوس خلال ديارنا، وتغزونا في عقر دارنا، كل أنواع الكفر، وكل أنواع الملاهي والفساد والفسق والفجور تغزونا في عقر دارنا، ولا يكاد يخلو منها شبر من الأرض، فسهلت هذه المدنية الحديثة وصول هذه الضلالات كلها عبر الإذاعات والتلفزة والصحف، وجعلت إلقاءات جميع أجناس الشياطين قريبة من القلوب، وصار سهل جداً أن يتبع الإنسان كل أنواع الضلال وكل أنواع التمويه والإفساد، فقلبه يسمم ما بين وقت وآخر، ويكفي ما يحصل بصورة أو بأخرى من الطعن في شرائع الإسلام، كأن توصف قوانين الشرائع الإسلامية بأنها قوانين قاسية أو صارمة أو وحشية والعياذ بالله، وما أكثر الملاحدة أصحاب دعوى حقوق الإنسان الذين يتكلمون بين وقت وآخر في الطعن في الإسلام من خلال استغلال الأحداث كما حصل بالأمس في إعدام أربعة من الأتراك هربوا المخدرات إلى السعودية، فاليوم يتصارخ أصحاب حقوق الإنسان، ويرون أن هذه قسوة، ومن خلال ذلك يطعنون في إقامة حدود الله سبحانه وتعالى، ويزعمون أنها تنافي ما يزعمونه من مبادئ حقوق الإنسان التي ضيعت!

في هذا الزمان إذا هلك داعية من الدعاة الواقفين على أبواب النار يدعون الناس إليها يمتدحونه بأنه ثبت على مبدئه إلى النهاية، مثل تلك المرأة التي وقفت حياتها على حرب الدعوة، وشتم الحجاب، ووصفه بأنه كفن ككفن الموتى، وهي الآن -ولله الحمد- قد كفنت وتنقبت رغم أنفها بنقاب لا تخلعه إلى أن يأذن الله، فالعجب كيف يمتدحون الذين وصفهم الرسول عليه الصلاة والسلام بأنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها!

فيمتدحون هؤلاء وينفخون فيهم كأنهم الأبطال، وكأنهم المجددون الذين يريدون الخير لهذه الأمة، كل المعايير وكل القيم انقلبت بسبب الغزو الفكري، وسهولة التسرب إلى قلوب المؤمنين، فبلا شك أنه ينبغي علينا أن نكون أعين منتبهة ومبصرة لما يأتينا من سهام الفتن التي تكاثرت علينا.

تكاثرت الظباء على خراش فلا يدري خراش ما يصيد

فهذه الوسائل كلها جعلت إلقاءات جميع إخوان الشياطين بكل أنواعهم قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المؤمن من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع أو المنظور، فضلاً عن ارتفاع حكم الإسلام عن الأرض الإسلامية التي يعيش فيها، فوجب عليه شيء من المجاهدة والمراقبة لقلبه أكثر مما كان يجب على السلف الصالح؛ لأن البيئة حول السلف الصالح كانت كلها تؤزهم على الخير أزاً، والباطل منقمع ومهزوم ومنكسر، أما الآن فالحال لا يخفى علينا.

وما أصدق تصوير إمام تركيا بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله تعالى حين بسط هذه الحقيقة وجلاها قائلاً: إن هذه المدنية السفيهة المصيرة للأرض كقرية واحدة يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحاً ومساءً، غلظ بسببها وتكاثف بملاذها حجاب الغفلة بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة. فالإنسان لا يستطيع أن يخرج من أسر هذا التأثير الإعلامي وتأثير السموم من كل مكان إلا بهمة عظيمة كالقوة التي يحتاج إليها الصاروخ كي يتحرر من جاذبية الأرض، فلا بد من قوة دافعة له أقوى من الجاذبية حتى يتحرر منها، ونحن كلما زاد الثقل علينا نحتاج إلى قوة دافعة أقوى كي نتحرر من هذه الضغوط، وليس ذلك إلا بقوة الإرادة أو الهمة كما بينا من قبل، يقول الشاعر:

وانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل

إذا قارنا أحوالنا بأحوال السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم نجد الفرق شاسعاً والبون شاسعاً، فالإمام أحمد رحمه الله تعالى بذل كل ما في وسعه من أجل الدفاع عن الدين، ولم يرض بدون بذل الجهد الأقصى في سبيل نصرة الدين، لاسيما في زمن المحنة، يقول لابنه: يا بني! لقد أعطيت المجهود من نفسي. يعني: أتيت بأقصى ما أقدر عليه في سبيل التصدي للباطل والضلال. ومن قبله قال الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معبراً عن هذا المعنى أيضاً: والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فسهوت، وإني لعلى السبيل ما زلت. فانظر كيف يصور خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصديق الأكبر حروب الردة والفتوح الإسلامية أنها شغلته حتى أنه ما كان يستغرق في نومه، فما كان يتمتع بنوم عميق حتى يحلم؛ لأن كل نومه كان نوماً من الدرجة اليسيرة دون أن يستغرق في نوم عميق؛ لأنه ما كان يتاح له أن ينعم بشيء من النوم حتى يحلم! فكبيرو الهمة التعب في حقهم لهو، فهو لهوهم الذي يحبونه ويشغفون به، فمتعتهم أن يضحوا وأن يبذلوا وأن يجاهدوا، يقول الشاعر: قلب يطل على أفكاره ويد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب فالتعب والكدح والسهر والجهاد هو اللهو عند هؤلاء القوم! وفي تراثنا الإسلامي مواقف رائعة تخبر عن علو همة سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، وتعلن عن نظرتهم العميقة إلى حقائق الأشياء وتساميهم على المظهرية الجوفاء وتَرَفُّعِهم عن سفاسف التطور الكاذب، واعتزازهم بانتمائهم إلى الدين الحنيف دين العزة والكرامة، فمن ذلك ما صح عن ابن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح ، فأتى على مخاضة من الماء وعمر على الناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين! أأنت تفعل هذا! تخلع نعليك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! لا يسرني أن أهل البلد استشرفوك. فخشي أن يراه البطارقة من سور بيت المقدس على هذه الهيئة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أوه -وهي: اسم فعل مضارع بمعنى: أتوجع- لو قال ذا غيرك -يا أبا عبيدة- لجلعته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغيره أذلنا الله. فما أعظم هذه القاعدة التي هي سنة من سنن الله سبحانه وتعالى. وهذه المنطقة التي حصلت فيها تلك المقولة العمرية تسمى اليوم ظلماً وعدوناً منطقة الشرق الأوسط، فالغربيون قسموا بلاد غيرهم إلى شرق أوسط وأقصى وأدنى بالنسبة للإمبراطورية الإنجليزية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، فهذه التسمية تسمية استعمارية تنسب إلى بريطانيا، فجعلوا بريطانيا هي الأساس، ونحن شرق أوسط وأبعد وأدنى بالنسبة إليهم، هذه المنطقة التي تمثل العالم الإسلامي كانت قبل الإسلام كما يقول عمر: إنا كنا أذل قوم. فما كان لهم أي شأن، وكانوا أحقر الأمم، وهذا يعكس تأثير البيئة، فإن البيئة في هذه المنطقة تدفع إلى الدعة والراحة والخمول والكسل والتأخر والتخلف، ومعلوم أن أعظم ما يؤثر على الإنسان هو البيئة، ولا يلغي تأثير البيئة ولا يصححه إلا العقيدة الدينية، فهذا هو الأصل في هذه المنطقة، كانوا أذل الأمم وأحقر الأمم، كانوا أميين جهلة، كانوا متخلفين محتقرين من كل الأمم، فآتاهم الله سبحانه وتعالى الإسلام وفيه شرفهم، كما قال الله: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، فأعزهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام، وكانت آية من آيات الله سبحانه وتعالى التي تدل على صدق هذا الدين، وأنه دين الله حقاً، حيث أخرج هذه الأمة الجائعة الحافية العارية الجاهلة من الظلمات إلى النور، فصارت أرقى أمة وخير أمة أخرجت للناس، وأفضل أولياء الله على الإطلاق خرجوا من هذه الأمة العظيمة، وذلك بالإسلام فقط. فالإسلام هو الذي استطاع أن يلغي تأثير البيئة في هؤلاء العرب، وبه اعتزوا، والله سبحانه وتعالى يعاقب من كفر بنعمته، فإذا كان الإسلام هو سبب عزكم فهناك قانون وسنة من سنن الله لا تتبدل ولا تتحول، وهي أنكم متى ما كفرتم بنعمة الله التي هي نعمة الإسلام التي هي عزكم ومجدكم فستعودون لتأثير البيئة من جديد، وستكونون أحقر الأمم وأذل الأمم. فكل ما نعاينه اليوم من البلاء ومن العناء ومن التخلف ومن الذل ومن الهوان هو بسبب أننا طلبنا العزة من غير دين الله، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]. فما نحن عليه الآن هو الوضع الطبيعي؛ لأننا بدون الإسلام نرجع إلى تأثير هذه البيئة، وبالإسلام فقط نعتز ونرقى، ولذلك قال عمر : إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما -ومهما أداة شرط، فكلما وجد الشرط وجد المشروط، وإذا فقد الشرط فقد المشروط-، قال: فمهما نطلب العز بغيره أذلنا الله. فهذه هي الحقيقة التي يحاول أعداء الدين أن يخفوها، ويحاولون أن يربطوا تخلفنا وتأخرنا بالإسلام، وكذبوا والله، فما أصابنا ما أصابنا إلا بسبب بعدنا عن الإسلام، فهذه هي الحقيقة التي يعرفها أعداء الإسلام جيداً، ولذلك هم حريصون أشد الحرص على أن يفصلوا بيننا وبين الإسلام، وأن يشوهوا صورة الإسلام، وأن ينفرونا من الإسلام، وأن يقضوا على اعتزازنا بالإسلام، وأن يفصلونا عن تاريخنا المجيد الذي به صرنا خير أمة أخرجت للناس. وفي الرواية الأخرى: قال له أبو عبيدة : يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام وأنت على حالك هذه! فقال عمر : إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نتبع العزة بغيره.

دخل أعرابي رث الهيئة بالي العباءة على أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه، فاقتحمته عينه، فعرف الأعرابي ذلك في وجه معاوية رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! إن العباءة لا تكلمك، ولكن يكلمك من فيها. فأدناه فإذا به مدره فصاحة في القول وبلاغة، فجعله من خاصته، والمدره: هو السيد الشريف المقدم عند الخصومة والقتال. والإمام شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إليه أن هذا الشخص الذي يلبس هذه الملابس والذي يظهر بهذه الهيئة له أي قدر يذكر! فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه وحملق بعينيه عجباً من هذه الأسمال أن تنكشف عن جوهر نفيس وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى! ولا عجب، فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذه صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضان وفكر بائس وقلب حائر. يقول الشاعر: ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليها فصلها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداءها ولا جبة موشية وقميصها. ويقول المتنبي : لا يعجبن مضيماً حسن بزته وهل يروق دفيناً جودة الكفن فإذا كان حياً وهو في الحقيقة ميت فهل الثياب التي يتباهى بها تنفعه مهما لمعت؟! فما هي إلا كفن؛ لأن هذا إنسان ميت لا يعيش لله ولا للإسلام ولا لطاعة الله، إنما يعيش للدنيا، فهو والميت سواء. فإذا أعجب بما عليه من الملابس، وظن أن هذه هي قيمته فهو كالميت الذي يعجب الناس بالكفن الذي يغطيه وهو ميت! ويقول آخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومناقب أورثن حمدا ورأينا العجب من صبر السلف على شظف العيش ومعاناة الفقر، إذ كانوا قد أحصروا في سبيل حفظ الدين، ووقفوا حياتهم على حراسة السنة، فهذا الإمام العلم إبراهيم بن إسحاق الحربي رحمه الله تعالى يقول: أفنيت عمري ثلاثين سنة برغيفين كل يوم، إن جاءتني بهما أمي أو أختي أكلت، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الثانية! وكان أسهل شيء عليه أن يخرج لطلب الدنيا ويتجر ليغنى ويثرى، لكنه أراد أن يعز الدين، وأراد أن يتعلم الدين، وأحصر نفسه في سبيل إعزاز الدين وحماية السنة الشريفة، فمن أجل ذلك لم يتفرغ لطلب هذه الدنيا، يقول: وأفنيت ثلاثين سنة من عمري برغيف واحد في اليوم والليلة، إن جاءتني امرأتي أو إحدى بناتي به أكلته، وإلا بقيت جائعاً عطشاناً إلى الليلة الأخرى! ثم يقول الإمام الحربي رحمه الله تعالى: والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة، إن كان برنياً، أو نيفاً وعشرين إن كان دقلاً، ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهراً، فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف، ودخلت الحمام واشتريت صابوناً بدانقين، فقامت نفقة شهر رمضان كله بدرهم وأربعة دوانق ونصف. وقال أبو القاسم بن بكير : سمعت إبراهيم الحربي يقول: ما كنا نعرف من هذه الأطبخة شيئاً، كنت أجيء من عشي إلى عشي وقد هيأت لي أمي باذنجانة مشوية أو لعقة بن -وهو شحم- أو باقة فجل. وقال أبو علي الخياط المعروف بالميت: كنت يوماً جالساً مع إبراهيم الحربي على باب داره، فلما أن أصبحنا قال لي: يا أبا علي! قم إلى شغلك، فإن عندي فجلة قد أكلت البارحة خضرها أقوم أتغدى بجزرتها! أكل الورق الأخضر في عشائه، وفي اليوم التالي يتغدى على الحذرة من الفجلة!

دهش المؤرخون للسرعة التي أقام بها المسلمون دولتهم، وانهارت بها أمامهم الامبراطوريتان العظيمتان في ذلك الوقت، ولم يدرك الكثير منهم سر عظمة هذه الأمة الناشئة الذي يكمن في المدد الرباني لهؤلاء المجاهدين، والمدد الرباني لا يقتصر على المدد الإلهي بالملائكة فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، لكن أيضاً أتاهم إمداد الله سبحانه وتعالى بمفاهيم وقيم ومقومات أهلتهم لقيادة البشرية، فالمسلمون الأوائل لما قادوا البشرية ما تم هذا الأمر خبط عشواء أو فلتة، وإنما كان بمؤهلات وبمسوغات استحقوا بها إمامة البشرية، فمن هذه المقومات والمفاهيم والقيم والمؤهلات التي انتزعوا بها القيادة من قيم هابطة ومفاهيم متخلفة وعقائد فاسدة ومثل مهترئه، فقد كانت المواجهة صراعاً بين حضارتين مختلفتين كل الاختلاف في القيم والمفاهيم والمنطلقات وكان من الطبيعي أن تسري سنة الله عز وجل في خلقه ويمضي قانونه المحكم في أن البقاء للأصلح فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].

فلنطالع الآن صوراً من هذه المواجهة بين الحضارتين، والتي حسمت نتيجة الصراع قبل المواجهة المسلحة لصالح حزب الله المصلحين، فمن يقارن بين الحضارة الإسلامية والقيم الإسلامية والدعوة الإسلامية وبين ما كان عليه الفرس أو الروم في ذلك الوقت لوجد أن النتيجة محسومة مسبقاً، وأنها قطعاً في صالح المسلمين قبل أن يتم التصادم الحربي.

وهذه النماذج نحن نحتاج إليها جداً في هذا الزمان في مواجهة الغرب الذي يمثل العدو الأول للإسلام، والغرب يدرك هذه الحقائق جيداً، ولكن للأسف أن المسلمين لا يقرءون ولا يلتفتون إلى هذه الأشياء، وهم يعرفون جيداً أن هذه الأمة لو مكنت أو تمكنت من إعادة تحكيم الإسلام من جديد، ولو نفخ فيها روح الإسلام من جديد؛ لما وقفت أمامهم لا قنابل نووية ولا هيدروجينية ولا صواريخ ولا أي شيء، هم يعرفون ذلك جيداً؛ ولذلك لما حددوا أن عدوهم الأول هو الإسلام لم يكن ذلك اعتباطاً، بل هو عن دراسة، وهم يدرسون تاريخنا بمنتهى العمق، ويعرفون طبيعة هذا الدين، ويعرفون أنه الدين الوحيد القادر على أن يحيي هذا الموات وأن ينفخ الروح من جديد في هذه الأمة، وهذا مجرب من قبل وحتى الآن، فمثلاً: المجاهدون الأفغان انتصروا على الروس بأشياء بسيطة جداً، وحالهم معروف لا يخفى على أحد، ومع ذلك استطاعوا أن يكونوا مسماراً قوياً في نعش الدب الأحمق، ولا نقول الآن الدب الأحمر، فقد ذهبت الحمرة وبقي الحمق، فهذا الدب الأحمق ذل واستصغر وهان وانهار وتحطم وصار أضحوكة للعالم وعبرة من العبر ومزقهم الله سبحانه وتعالى شر ممزق على يد هؤلاء المجاهدين الضعاف، وما زالوا حتى اليوم أيضاً يمزقون على يد المسلمين في الشيشان رغم ضعفهم بالنسبة لهذا الدب الأحمق.

وهكذا أيضاً بالنسبة للغرب، فهو يعرف جيداً أن الإسلام هو عدوه الأول؛ لأنه هو الوحيد القادر على أن يتحداه حضارياً، فأنت إذا قارنت بين أحكام الإسلام وأهداف الإسلام وغايات الإسلام ووسائل الإسلام ورسالة الإسلام وبين ما عليه الغرب فالمعادلة محسومة قطعاً، فالغرب يقيم حضارته على القيم الكاذبة التي يسمونها زوراً حقوق الإنسان، ومن خلالها يستعبدون الأمم، فأمريكا الآن تعيث في الأرض فساداً بهذه الشعارات الكاذبة، وهي في الحقيقة عدوة الإنسان الأول، فالقيم التي عندهم هي تهديم الأسرة، وشيوع الفواحش، وتفسخ الروابط الاجتماعية، والظلم والقهر والاستعباد الموجود في العالم الغربي، وهذا يعرفه جيداً من يعيش بينهم ومن يخبر عن أحوالهم. فالبديل الوحيد الذي يمكن أن يحل محل الغرب في قيادة البشرية بجدارة وتأهل وبمقومات حقيقية لا وهمية هو الإسلام، وهم يعرفون ذلك جيداً، وهذا هو سر محاولتهم الآن تطبيق مبدأ: الوقاية خير من العلاج، فيحاولون تجفيف منابع الإسلام، ويحاولون غسيل مخ المسلمين، ويلهونهم حتى لا تبقى لهم قضية، وحتى لا يصلحوا لا للجهاد ولا للدفاع ولا أن يعيشوا لمبدأ، كل الذي عندهم الأفلام والفنانين والرياضة والدش والتلفزيون واللهو والغناء، وكل هذه السفاهات حتى لا يبقى هناك قضية، فالذي ينظر إلى أحوال المسلمين اليوم فهل هؤلاء هم الذين نزل فيهم القرآن؟ هل هؤلاء هم الذين بعث فيهم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟

ما هذه الأحوال التي نرى عليها الشباب والبنات من الفسوق والعصيان، هل هؤلاء هم خير أمة أخرجت للناس؟

هل هؤلاء أحفاد أبي بكر وعمر وخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم من المجاهدين والأبطال؟ هم يريدون أن يقطعوا صلتنا بهذا المدد؛ كي لا ندرك ذاتنا، وكي لا نعود نهددهم بالخطر من جديد.

وبالرغم مما نحن فيه من ضعف إلا أنك إذا قارنت بين الحضارتين فأي إنسان منصف سيحسم النتيجة قطعاً لصالح الإسلام قبل أن تحسم بأي وسيلة أخرى.

من أخبار فتح مصر

في العصر الأول حسمت النتيجة للمسلمين لما قورن بين الحضارة الإسلامية وبين حضارة الفرس والروم، لما غزا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بجيشه مصر وعليها المقوقس ، بعث إليه عمرو عشرة رجال وأحدهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان عبادة شديد السواد، وكان هذا هنا على حدود الإسكندرية، وقد تشرفت الإسكندرية بهؤلاء الصحابة الذين أخرجوا مصر من الظلمات إلى النور، فكم يفخر الإنسان ويفرح ويتهلل إذا استحضر أن عمرو بن العاص أتى إلى هذه المدينة التي هي الإسكندرية، وقد كانت العاصمة، وتعرفون سور عمرو بن العاص الذي في الشلالات، فهو السور الذي كان يحيط بمدينة الإسكندرية، فلعلهم مروا على نفس هذا المكان الذي نحن الآن فيه، فشرفت هذه البقعة من بلاد الله سبحانه وتعالى بهؤلاء الأطهار الأبرار الذين جاءوا ليخرجونا من الظلمات إلى النور، وكم نتحسر حينما نرى من يحملون أسماء المسلمين وكل همهم أن يمحو تماماً أثر ما فعله عمرو بن العاص وصحابته الأبرار، وأن يعيدونا إلى ما كنا قبل تشرف مصر بالفتح الإسلامي العظيم الذي يسمونه كذباً وزوراً وتزويراً وتضليلاً بالفتح العربي، وما كان فتحاً عربياً وإنما كان فتحاً إسلامياً خالصاً لنشر دين الله سبحانه وتعالى في الآفاق.

لما أتى هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى المقوقس ، وكان عبادة شديد السواد، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس وعلى رأسهم عبادة هابه المقوقس ، وخاف من منظره؛ لأن عبادة كان طويلاً قوياً شديد البأس، وكان شديد السواد، فصرخ المقوقس قائلاً: نحو عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا، انظر من البداية صراع بين حضارتين، بين قيم وقيم، بين مثل ومثل، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فاستعجب واستغرب المقوقس جداً مما قالوا، ثم قالوا له: إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحد أحداً إلا بفضله وعقله وليس بلونه، ولا شك أن المقوقس كان مستاءً من وجود عبادة بن الصامت رضي الله عنه للونه الأسود، وظن أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيراً لمقام المقوقس وتحقيراً لشأنه، لكن لا يمكن أن يخطر هذا ببال عمرو بن العاص ولا بأحد من المسلمين رضي الله تعالى عنهم.

فلما أجمع رسل المسلمين على أن المتحدث باسمهم جميعاً عبادة لم ير المقوقس بداً من محادثة عبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة لما رآه يخاف من منظره ومن شكله بهذه الصورة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، انظر إلى الحرب النفسية! وهذا كلام صدق وعن جدارة، وليست كالحرب النفسية الكاذبة في هذا الزمان، فهو أراد أن يقذف في قلبه الرعب عندما رآه مرتعباً فقال له هذه العبارات العظيمة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً وكذلك أصحابي؛ وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلباً للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه بليله ونهاره، وشملة يلتحفها، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في طلب رضوانه وجهاد عدوه.

فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعاً شديداً، وقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض، ثم أقبل على عبادة وأراد أن يسلك معه طريقاً للإرهاب الملبس في قالب من النصح فقال له: أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشجاعة، لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به، فنظر إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه شامخاً، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلاً: يا هذا لا يغرن نفسك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري! ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وما من رجل منا إلا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا.

وقد أراد المقوقس أن يجعله يقبل شيئاً مما عرض عليه فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء، ووقف عبادة يرد عليه بعد أن نفذ صبره بقامته الشامخة، وأخذ يرفع يديه إلى السماء ويقول له: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم.

عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا: أما الأمر الأول -وهو الدخول في الإسلام- فلا نجيب إليه أبداً، فلا تتركوا دين المسيح إلى دين لا نعرفه، وبذلك رفضوا الإسلام فلم يبقى أمامهم إلا الجزية أو الحرب فقالوا: إنا إذا أذعنا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعدو أن نكون عبيداً، وللموت خير من هذا، مع أنهم سيكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وتحفظ لهم كنائسهم، ولا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم، فقال المقوقس لمن حوله: أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الخصال الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين.

هكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) يفتحون به مشارق الأرض ومغاربها، ولا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تصحح.

من أخبار فتح فارس

صورة أخرى تجلت فيها أصالة التربية المحمدية لخير أمة أخرجت للناس عندما كانت تشغل الدنيا في اهتمامهم القدر الضئيل الذي تستحقه أما الآخرة التي هي الهم الأكبر عندهم، فهي الغاية العظمى والحياة الحقيقية الخالدة.

جاء سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه حتى نزل القادسية والمسلمون الذين معه نحو سبعة آلاف، والفرس يبلغون ثلاثين ألفاً أو نحواً من ذلك، وكانت نبال المسلمين وعدتهم موضع سخرية أهل فارس، وجعلوا يشبهونها بالمغازل فيقولون: دوك دوك، وهي كلمة بالفارسية تعني المغزل، فكانوا يسخرون من الأقواس ويشبهونها بالمغزل الذي يغزل به القطن، وقالوا هذا تعبيراً عن ازدرائهم للمسلمين واحتقارهم إياهم وكأنهم يقولون لهم: لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح، فما جاء بكم؟! ارجعوا.

فلما أدخل رسل المسلمين على كسرى يزدجرد جعل أهل فارس يسوءهم ما يرون من حالهم وحال خيلهم، فلما دخلوا على يزدجرد أمرهم بالجلوس وكان سيء الأدب، فكان أول شيء دار بينه وبينهم أن أمر الترجمان أن يسألهم عما يسمون تلك الأغطية التي يلبسونها، وهذا من سوء أدبه حيث ما بدأ في الحوار مع هؤلاء المرسلين في القضية التي أرسلوا من أجلها، ولكن أراد أن يسخر من رداءة ثيابهم، فهذه هي القيم الفارسية والموازين التي يزنون بها الناس، فكان الصحابة رضي الله عنهم كلما سأل واحداً منهم يجيبه جواباً يجعله يتطير من الجواب، وهذا أيضاً من الحرب النفسية، فلما عرض النعمان بن مقرن دعوة الإسلام على كسرى قال كسرى: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم، وقد كنا نوكل عليكم القرى فيكفونناكم، لا تغزون فارس ولا تطمعون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم زاد وكثر فلا تغتروا، وإن كان الجهد -أي: الفقر- دعاكم صرفنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.

وتلاحظون الفرق في حقوق الإنسان في نظر كسرى وفي نظر كلينتون وأمثاله، فأسكت القوم فقام المغيرة بن زرارة الأسيدي فقال: أيها الملك! إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً، فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع، كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل إنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا في الجاهلية أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليقتل ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامه، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك، فبعث الله إلينا رجلاً -صلى الله عليه وسلم- نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا، وحسبه خير أحسابنا، وبيته أعظم بيوتنا، وقبيلته خير قبائلنا، وكان خيرنا في الحال التي كنا فيها، وأصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له، والإشارة هنا إلى الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، والترب قرينك في السن، قال: فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له، وكان الخليفة بعده، فآمن وكفرنا، وقلنا وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا، فلم يقل شيئاً إلا كان فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه، فصار بيننا وبين رب العالمين، فما قال فهو قول الله، وما أمرنا فهو أمر الله، فقال لنا: إن ربكم يقول: إنني أنا الله وحدي لا شريك له، كنت ولم يكن شيء، فإن رحمتي أدركتكم فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم من عذابي، ولأحلكم داري دار السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق وقال: من تابعكم على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه فأنا الحكم بينكم، فمن قتل منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه، فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تسلم فتنجي نفسك.

فقال: أتستقبلني بمثل هذا ؟! فقال: ما استقبلت إلا من كلمني، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به، فقال: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم، وقال: ائتوني بوقر من التراب، واحملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن، وارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليكم رستم حتى يدفنكم في خندق القادسية وينكل بكم، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور فتقدم عاصم بن عمرو واحتمل وقر التراب واعتبره فألاً حسناً على الظفر بأرضهم، وأن الله سبحانه وتعالى سوف يظفرهم بأرضهم، وقد تطير من ذلك رستم وجعله علامة على أن الله سلبهم أرضهم وأبناءهم للمسلمين، ثم إن كسرى بعث أهل فارس بعددهم وعددهم وعلى رأسهم رستم حتى إذا نزل رستم بالعقيق على منقطع معسكر المسلمين راسل رستم زهرة فخرج إليه حتى واقفه، فأراده أن يصالحه ويجعل له جعلاً على أن ينصرفوا عنه وجعل يقول: أنتم جيراننا، وقد كانت طائفة منكم في سلطاننا، فقال له زهرة : صدقت قد كان ما تذكر، وليس أمرنا أمر أولئك ولا طلبتنا، إنا لم نأتكم لطلب الدنيا إنما طلبتنا وهمتنا الآخرة، كنا كما ذكرت يدين لكم من ورد عليكم منا، ويضرع إليكم ويطلب ما في أيديكم، ثم بعث الله تبارك وتعالى إلينا رسولاً فدعانا إلى ربه فأجبناه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا يقرون به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به أحد إلا عز.

فقال له رستم : وما هو؟ قال: أما عموده الذي لا يصلح منه شيء إلا به فشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى، فقال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضاً ؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، قال: حسن، وأي شيء أيضاً ؟ قال: والناس بنو آدم وحواء أخوة لأب وأم، قال: ما أحسن هذا! ثم قال رستم : أرأيت لو أني رضيت بهذا الأمر وعاهدتكم عليه ومعي قومي، كيف يكون أمركم أترجعون؟ يعني: لو دخلنا في الإسلام هل تتركوننا وتعودون؟ فقال: أي والله ثم لا نقرب بلادكم أبداً إلا في تجارة أو حاجة، قال: صدقتني والله، أما إن أهل فارس منذ ولي أردشير لم يدعوا أحداً يخرج من عمله من السفلة وهم الأسافل كانوا يقولون: إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم، وعادوا أشرافهم، يعني: أن الطبقة السفلى من المجتمع لا يمكن أن يتساووا مع النبلاء والملوك والأمراء؛ لأنهم إذا خرجوا من أعمالهم تعدوا طورهم وعادوا أشرافهم، فكأنه يريد ميزة يمتاز بها على هؤلاء الضعفاء، فأجابه زهرة فقال: نحن خير الناس للناس، فلا نستطيع أن نكون كما تقولون، فنحن نطيع الله في السفلة ولا يضرنا من عصا الله فينا، فانصرف عنه وطلب رستم مندوباً آخر ثم إن سعداً أرسل ربعي بن عامر رضي الله عنه، فدخل على رستم وقد زينوا مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وأظهر اللآلئ الثمينة العظيمة، وأراد أن يهزمه بهذه المظاهر، وعليه تاج وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب مشققة، وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، فـربعي يريد أن يعلمه أن كل هذه المظاهر ما تساوي عندنا شيئاً، بل حقرها بالفعل فمزقها بالرمح من باب الحرب النفسية، فإنه نزل من فرسه وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه فقالوا له: ضع سلاحك فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت، فقال رستم : ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فمزق عامتها بالرمح، فقال له: ما جاء بكم؟ فانظر إلى جواب رجل من جنود المسلمين، وانظر كيف فقهه لغايته من الحياة، وفهمه للرسالة التي يعيش من أجلها، وقارن بين شباب المسلمين اليوم ولماذا يعيشون؟ وما هدفهم وغايتهم؟ فقال له: ما جاء بكم فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى ذلك قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى، فقال رستم لرؤساء أهل فارس: ما ترون؟ هل رأيتم كلاماً قط أوضح ولا أعز من كلام هذا الرجل؟! فقالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكل، أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، وأقبلوا يسخرون من سلاحه ومن ملابسه ومن هيئته، فأبى الفرس دعوة الحق، واختاروا المنازلة، فنصر الله المسلمين وهزموا فارس وسبوهم.

وكان يزدجرد ملك الفرس قد أرسل يستنجد بملك الصين، ووصف له المسلمين، ودعوتهم وما هم عليه، فأجابه ملك الصين: إنه يمكنني أن أبعث لك جيشاً أوله في منابت الزيتون -يعني: في الشام- وآخره في الصين، ولكن إن كان هؤلاء القوم كما تقول فإنه لا يقوم لهم أهل الأرض، فأرى لك أن تصالحهم وتعيش في ظلهم وظل عدلهم.

هذه نماذج تدل على موقع الدنيا في قلوب الرعيل الأول، ولو استطردنا لوجدنا عشرات الصور في التاريخ الإسلامي تعكس هذا المعنى.

في العصر الأول حسمت النتيجة للمسلمين لما قورن بين الحضارة الإسلامية وبين حضارة الفرس والروم، لما غزا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه بجيشه مصر وعليها المقوقس ، بعث إليه عمرو عشرة رجال وأحدهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان عبادة شديد السواد، وكان هذا هنا على حدود الإسكندرية، وقد تشرفت الإسكندرية بهؤلاء الصحابة الذين أخرجوا مصر من الظلمات إلى النور، فكم يفخر الإنسان ويفرح ويتهلل إذا استحضر أن عمرو بن العاص أتى إلى هذه المدينة التي هي الإسكندرية، وقد كانت العاصمة، وتعرفون سور عمرو بن العاص الذي في الشلالات، فهو السور الذي كان يحيط بمدينة الإسكندرية، فلعلهم مروا على نفس هذا المكان الذي نحن الآن فيه، فشرفت هذه البقعة من بلاد الله سبحانه وتعالى بهؤلاء الأطهار الأبرار الذين جاءوا ليخرجونا من الظلمات إلى النور، وكم نتحسر حينما نرى من يحملون أسماء المسلمين وكل همهم أن يمحو تماماً أثر ما فعله عمرو بن العاص وصحابته الأبرار، وأن يعيدونا إلى ما كنا قبل تشرف مصر بالفتح الإسلامي العظيم الذي يسمونه كذباً وزوراً وتزويراً وتضليلاً بالفتح العربي، وما كان فتحاً عربياً وإنما كان فتحاً إسلامياً خالصاً لنشر دين الله سبحانه وتعالى في الآفاق.

لما أتى هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إلى المقوقس ، وكان عبادة شديد السواد، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، ولا يجيب الروم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى الخصال الثلاث، فلما دخلت رسل المسلمين إلى المقوقس وعلى رأسهم عبادة هابه المقوقس ، وخاف من منظره؛ لأن عبادة كان طويلاً قوياً شديد البأس، وكان شديد السواد، فصرخ المقوقس قائلاً: نحو عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا، انظر من البداية صراع بين حضارتين، بين قيم وقيم، بين مثل ومثل، فقال الوفد جميعاً: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا لما أمره، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله، فاستعجب واستغرب المقوقس جداً مما قالوا، ثم قالوا له: إن الأسود والأبيض سواء عندنا، لا يفضل أحد أحداً إلا بفضله وعقله وليس بلونه، ولا شك أن المقوقس كان مستاءً من وجود عبادة بن الصامت رضي الله عنه للونه الأسود، وظن أن اختيار عمرو له ليكون متكلم القوم إنما كان تصغيراً لمقام المقوقس وتحقيراً لشأنه، لكن لا يمكن أن يخطر هذا ببال عمرو بن العاص ولا بأحد من المسلمين رضي الله تعالى عنهم.

فلما أجمع رسل المسلمين على أن المتحدث باسمهم جميعاً عبادة لم ير المقوقس بداً من محادثة عبادة ومفاوضته، فأومأ إليه أن يتكلم برفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة لما رآه يخاف من منظره ومن شكله بهذه الصورة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي، انظر إلى الحرب النفسية! وهذا كلام صدق وعن جدارة، وليست كالحرب النفسية الكاذبة في هذا الزمان، فهو أراد أن يقذف في قلبه الرعب عندما رآه مرتعباً فقال له هذه العبارات العظيمة: إن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم أشد سواداً مني، وإني ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً وكذلك أصحابي؛ وذلك إنما رغبتنا وهمتنا في الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلباً للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يسد بها جوعه بليله ونهاره، وشملة يلتحفها، لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا الله وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في طلب رضوانه وجهاد عدوه.

فوقع هذا القول في نفس المقوقس وقعاً شديداً، وقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل؟! إن هذا وأصحابه قد أخرجهم الله لخراب الأرض، ثم أقبل على عبادة وأراد أن يسلك معه طريقاً للإرهاب الملبس في قالب من النصح فقال له: أيها الرجل الصالح! قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك، ولعمري ما بلغتم وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشجاعة، لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإننا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين، ولأميركم مائة مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوام لكم به، فنظر إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه شامخاً، وخاطبه بصوت كله ثقة وإيمان قائلاً: يا هذا لا يغرن نفسك ولا أصحابك ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمري! ما كان هذا بالذي تخوفنا به، ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك، وإن الله عز وجل قال في كتابه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وما من رجل منا إلا وهو يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وألا يرده إلى بلده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث خصال فاختر أيتها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبه أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا.

وقد أراد المقوقس أن يجعله يقبل شيئاً مما عرض عليه فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء، ووقف عبادة يرد عليه بعد أن نفذ صبره بقامته الشامخة، وأخذ يرفع يديه إلى السماء ويقول له: لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم.

عند ذلك اجتمع المقوقس بأصحابه فقالوا: أما الأمر الأول -وهو الدخول في الإسلام- فلا نجيب إليه أبداً، فلا تتركوا دين المسيح إلى دين لا نعرفه، وبذلك رفضوا الإسلام فلم يبقى أمامهم إلا الجزية أو الحرب فقالوا: إنا إذا أذعنا للمسلمين ودفعنا الجزية لم نعدو أن نكون عبيداً، وللموت خير من هذا، مع أنهم سيكونون آمنين على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، مسلطين في بلادهم على ما في أيديهم وما يتوارثونه فيما بينهم، وتحفظ لهم كنائسهم، ولا يتعرض لهم أحد في أمور دينهم، فقال المقوقس لمن حوله: أجيبوني وأطيعوا القوم إلى خصلة من هذه الخصال الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة، وإن لم تجيبوا إليهم طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين.

هكذا سار هؤلاء الربانيون بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) يفتحون به مشارق الأرض ومغاربها، ولا يستعصي عليهم منها قطر، فالحصون تفتح، والقلوب تفتح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تصحح.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
علو الهمة [13] 2474 استماع
علو الهمة [8] 2409 استماع
علو الهمة [6] 2258 استماع
علو الهمة [7] 2159 استماع
علو الهمة [9] 2038 استماع
علو الهمة [5] 1905 استماع
علو الهمة [16] 1818 استماع
علو الهمة [15] 1788 استماع
علو الهمة [3] 1631 استماع
علو الهمة [17] 1630 استماع