تفسير سورة الإخلاص


الحلقة مفرغة

سورة الإخلاص هي السورة الثانية عشرة بعد المائة من القرآن الكريم وهذه السورة مكية، وآياتها أربع. روى الإمام أحمد بسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! انسب لنا ربك، أي: اذكر نسب ربك، فأنزل الله تعالى هذه السورة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] ). وروى البخاري بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن -وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله سلم- عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخبروه بأن الله تعالى يحبه)؛ أي: لأنه أحب صفة الله تبارك وتعالى. وفي بعض الروايات عند البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، فكلمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة، ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى، فإما أن تقرأ بها، وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت، وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم، فكرهوا أن يؤمهم غيره، فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: (يا فلان! ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك؟ وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ فقال: إني أحبها، قال: حبك إياها أدخلك الجنة). وثبت أيضاً أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن، فروى البخاري بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! إنها لتعدل ثلث القرآن). وروى البخاري بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ ! فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: الله الواحد الصمد ثلث القرآن) يعني: سورة قل هو الله أحد. وروى الإمام الترمذي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احشدوا -يعني: اجتمعوا وأحضروا الناس- فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، فحُشد من حُشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبراً جاء من السماء -يعني: جاءه خبر من السماء يأمره بأن ينصرف ولم يشرع في قراءة ثلث القرآن ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن). وقال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب، ورواه مسلم في صحيحه. وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2] في ليلة فقد قرأ ليلتئذٍ ثلث القرآن). ومما صح أيضاً في فضيلة هذه السورة العظيمة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات حتى يختمها بنى الله له قصراً في الجنة، فقال عمر : إذاً نستكثر يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكثر وأطيب). قوله: (إذاً نستكثر) يعني: إذاً نقرؤها كثيراً. قوله: (الله أكثر وأطيب) أي: الله أكثر أجراً وثواباً من عملكم. وعن بريدة : (أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا رجل يصلي ويدعو، يقول: اللهم! إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فسمعه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: والذي نفسي بيده! لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب). ومن الأحاديث الواردة في فضيلة هذه السورة العظيمة أيضاً ما رواه الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله! بم نجاة المؤمن؟ قال: يا عقبة ! أخرس لسانك -أي: تصرف كأنك أخرس، أي: أمسك عليك لسانك، وجاء في بعض الروايات الأخرى: أملك عليك لسانك، أمسك عليك لسانك-، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك). وهكذا سلوك المؤمن في الفتن أن يكف لسانه ولا يخوض؛ لأن اللسان إذا أطلق فهو سبع عقور، يقطع في أعراض الناس، ويجني ويحصد صاحبه بهذه العضلة القصيرة الآثام والكبائر والذنوب، فتهلكه. قوله: (أمسك عليك لسانك) أي: أغلق هذا الباب من الشر. (قال عقبة : ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدأني فأخذ بيدي، فقال: يا عقبة بن عامر ! ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم؟ قال: قلت: بلى، جعلني الله فداك، قال: فأقرأني: قل هو الله أحد، وقول أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم قال: يا عقبة! لا تنسهن، ولا تبت ليلة حتى تقرأهن ... إلى آخر الحديث). وأيضاً ثبت الاستشفاء بهذه السورة العظيمة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما -أي: ينفخ بريق لطيف، فهذه رقية يومية كان الرسول عليه السلام يرقي بها نفسه قبل أن ينام-، فقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات). وقوله هنا في هذا الحديث: (ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما) ليس على ظاهره وإنما المقصود: أنه قرأ أولاً، ثم نفث بعد القراءة؛ حتى تحصل بركة تلاوة القرآن في كفيه. قوله: (نفث فيهما) أي: بعد القراءة، فينبغي أن يحمل الحديث على هذا، فإذا أراد الإنسان أن ينام فإنه يجمع كفيه، ثم يقرأ المعوذات الثلاث، وإذا قيل: المعوذات فالمراد بها: قل هو الله أحد، والفلق، والناس، المعوذات بالجمع. قوله: (يجمع كفيه ثم ينفث فيهما) أي: بعد أن يقرأ. قوله: (ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده)، فيبدأ أولاً برأسه ووجهه، ثم ما أقبل من جسده، ثم ما استطاعت يده أن تصل إليه من جسده، فيرقي نفسه بهذه السور الثلاث.

قال تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]. يقول الشيخ عطية سالم -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة الإخلاص: قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، (قُلْ) أي: لا تقله من عند نفسك؛ بل قل: هذا الذي عرفته صادقاً يقول لي: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي: الواحد الوتر الذي لا شيبه له ولا نظير ولا صاحبة ولا ولد ولا شريك. ومعلوم أن هذه المعاني كلها صحيحة في حقه تبارك وتعالى؛ فالله هو الواحد الوتر، الذي لا شريك له ولا ند ولا نظير. فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى أَحد في ذاته وفي صفاته، فلا شيبه له ولا شريك ولا نظير ولا ند له سبحانه وتعالى. فهذه صفات الرحمن كما جاء في الحديث الذي سبق أن ذكرناه، وفيه قصة ذلك الصحابي الذي قال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن -تبارك وتعالى-. وهذا مما يدل على خطورة موقع قضية معرفة الله سبحانه وتعالى. ومعرفة الله كما يقول البعض: زلة حاضرة، فكيف يعرف الله؟ إن معرفة الله سبحانه وتعالى لا تكون بالعقل، وإنما يعرف بالوحي، فصفات الله وأسماؤه لا يمكن أن يجتهد الإنسان فيها بعقله حتى يصل إليها، فكيف لهذا المحدود أن يدرك المطلق سبحانه وتعالى؟ ! إذاً: فمعرفة الله لا تكون إلّا بالوحي، فيأتي الوحي ويخبرنا عن أسماء الله وصفاته وأفعاله عز وجل، وليس الأمر كما يقول بعض الناس: ربنا عرفناه بالعقل، فبالعقل نتأمل في مخلوقات الله، فنصل بذلك إلى حكمته وعلمه وقدرته، وآيات توحيده، وأما معرفة الله فإنما تكون عن طريق الوحي. وقضية الأسماء والصفات قضية في غاية الخطورة، خلافاً لبعض الجهلة ممن لم تسبقهم إلى بدعتهم وقولهم وجهلهم أي طائفة، لا من أهل السنة ولا من أهل البدعة؛ لأن الفرق كلها تعطي هذه القضية الأولوية المطلقة في قضايا الدين، فقضية معرفة الله وأسمائه وصفاته قضية لها الأولوية المطلقة، معرفة الله وما يليق به وما لا يليق به؛ لأن علم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق، فالعلم يشرُف بشرف المعلوم، فمثلاً: هل علم الطب مثل علم الحشرات؟ لا؛ لأن موضوع علم الطب هو رأس مال الإنسان في الحياة الدنيا، وهي الصحة، وأما علم الحشرات فعلم أقل من ذلك بكثير، وهكذا.. ، فبشرف المعلوم يشرف العلم، فأشرف معلوم في الوجود هو الله سبحانه وتعالى، فمن ثَم فإن علم التوحيد هو أشرف العلوم على الإطلاق؛ لأن موضوعه معرفة الرب عز وجل، ومعرفة ما يليق بالله، ومعرفة ما ينبغي أن ننزه الله تبارك وتعالى عنه. إذاً: فقضية التوحيد قضية محورية جوهرية لها مرتبة أولية على كل ما عداها من القضايا. ومع ذلك نسمع بعض الجهلة يقولون: التوحيد يفرق الناس، فدعونا في الأمور التي وراءها عمل، فالمسكين يظن أن هذا ليس بعمل! أليس القلب إذا عرف الله وصدّق فهذا منه عمل؟ ! ألم يقل تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:225]، فالكسب هو اليقين في القلب، أليس هذا عملاً، وأليس هذا تصديقاً؟ ! إذاً: فهذه السورة هي ثلث القرآن، وقد بشر الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك الصحابي الذي كان يختم بها في الصلاة أن الله تعالى يحبه؛ لأنه يحب صفة الرب تبارك وتعالى، فليس فيها إلا الصفة، وليس فيها حلال ولا حرام، ولا أمر ولا نهي، وإنما فيها خبر عن صفات الله، وما يليق بالله وما لا يليق بالله. وأيضاً فإن أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي، ومع ذلك ليس فيها الأمر أو النهي أو العمل الذي يزعمونه، وليس فيها سوى الخبر عن الله: إثباتاً لما يليق به، ونفياً لما لا يليق به، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] فيه نفي وإثبات، (( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ )) فالحي القيوم لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم، لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]. وقد سبق مراراً أن نبهنا على هذا الأمر، فنكتفي بهذه الإشارة. وقد دلت هذه الآية الكريمة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ على أن الله سبحانه وتعالى أحد، أي: في ذاته وصفاته، فلا شبيه له ولا شريك ولا نظير ولا ند. فقوله تبارك وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فسره ضمناً قوله تبارك وتعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]؛ أي أن الله سبحانه وتعالى واحد فرد لا شريك له ولا ند ولا نظير ولا شبيه، لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله. وكذلك أيضاً (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يفسرها قوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )). (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) تفسيرها: ليس كالله شيء. وأما المعنى العام: فإن الرسالة المحمدية كلها، بل وجميع رسالات الأنبياء إنما جاءت لتقرير هذا المعنى؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد أحد، ولا يدل على هذا آيات القرآن الكريم فقط، ولا الكتب المنزلة على الأنبياء من قبل فقط، بل يحوم ويدندن حول هذه القضية كل ما في الوجود، كما يقول الشاعر: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ويقول الآخر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خُطَّ فيها لو تأملت خطَّها ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطل وأما نصوص القرآن على هذه الحقيقة الخالدة، والتي هي أعظم حقيقة في الوجود، فكثيرة جداً، وكل الوجود يدور حول إثبات هذه الحقيقة وهي: التوحيد لله تبارك وتعالى، ونفي النظير والشريك والند والمثل له. يقول تبارك وتعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]. ويقول تعالى في سورة التوبة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [التوبة:31]. وفي سورة ص: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ص:65]. وقال تعالى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [إبراهيم:52]. فسبحانه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزهت صفاته، فهو واحد أحد في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله. وقد جاء القرآن أيضاً بتقرير هذا المعنى عقلاً كما أقره نقلاً، أي أنه جمع بين العقل والنقل. فما مضى فتملك أدلة نقلية، وإخبار من الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له. وقد عرض القرآن هذه القضية على سبيل الاستدلال العقلي، فقال تبارك وتعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:42-43]. وقال تبارك وتعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، فدلل على عدم فسادهما بعدم تعددهما، فهل فسدت السموات والأرض؟ الجواب: لم تفسد، بل هي على نظام ثابت مستقر بمشيئة الله، فيدل هذا على عدم تعدد الآلهة. وجُمع العقل والنقل في قوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91].

قال تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2]. قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ يفسره قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، قال ابن كثير : وهذا معنىً حسن. وقال بعض العلماء: الصمد هو المتناهي في السؤدَد، وفي الكمال من كل شيء. وقيل: الصمد من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم، ولا يحتاج هو إلى أحد. فكل الخلق محتاجون إليه، وهو سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى أحد، ومن ذلك قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، وقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. ونبدأ في تفسير ما بعده الذي أشرنا إليه، فقد قلنا في قوله تعالى: اللَّهُ الصَّمَدُ: إنه يفسره ما بعده، وهو قوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وفي إمعان النظر في مبدأ: يفسره ما بعده، يتضح لنا أن السورة كلها هي تفسير لأول آية فيها. فسورة الإخلاص هي أربع آيات، والثلاث الآيات الأخيرة منها تفسير للآية الأولى. فقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فسرها وشرحها قوله: اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:2-4]؛ لأن الأحدية هي تفرد الله سبحانه وتعالى بصفات الجلال والكمال كلها، ولأن المولود ليس بأحد؛ لأنه جزء من والده. فلو وُلد لرجل مولود، فهذا المولود لا يقال له: أحد؛ لأنه ليس بأحد، وإنما هو جزء من والده الذي تناسل منه، وكذلك الوالد لا يقال له: أحد؛ لأن جزءاً منه في ولده. وكذلك لو لم يكن له والد ولا ولد لكنه له كفؤ وله نظير وله شبيه ومثيل، فليس بأحد أيضاً، فكل من له كفؤ ونظير ومثيل لا يوصف بأنه أحد؛ لأنه غير منفرد فله نظير، فكيف يكون منفرداً، وكيف يكون واحداً أحداً؟! إذاً: فالسورة كلها تقرير لمعنى (أحد) في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1].

قال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]. قوله: (لَمْ يَلِدْ)، ومثله قوله تعالى: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء:111]، وهذه الآية هي آخر آية في سورة الإسراء، وتسمى آية العزة. إن نفي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة؛ لأنه يمكن أن يتخذ الشخص ولداً بطريقة غير طريقة التناسل المعروفة، وذلك عن طريق التبني مثلاً، ففي قصة يوسف عليه السلام يقوله سبحانه وتعالى عن عزيز مصر: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [يوسف:21]. إذاً: فيمكن أن يُتخذ الولد عن طريق الإلحاق، أو عن طريق التبني، فيكون في هذه السورة نفي أخف. فقوله: (لم يلد) أخف من قوله: (ولم يتخذ ولداً)، ففي هذه السورة نفي أخف. فقوله: (ولم يتخذ ولداً) نفي لاتخاذ الولد مطلقاً بالنسب وغيره. فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة التي هي سورة الإخلاص والتي تعدل ثلث القرآن؛ لأن هذه السورة مختصة بحق الله تبارك وتعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ونفي الولادة والولد ونفي الكفؤ، وكلها صفات انفرد الله سبحانه وتعالى بها، ولذلك جاء في هذه السورة (سورة الإخلاص) النص الصريح بعدم الولادة في قوله: (لم يلد) وأنه سبحانه وتعالى (لم يلد ولم يولد)، فهي أخص من تلك، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعاً بدون شك ولا نزاع، ولم يؤثر فيها أي خلاف. وهذه الحقيقة ليس فيها شك على الإطلاق، وليس فيها أدنى خلاف بين من ينتسب إلى الإسلام، ومن قال بخلاف ذلك فليس بمسلم، بل يصير كافراً. إذاً: فقد سلم جميع المسلمين بهذه الحقيقة: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:3-4]، ولكن غير المسلمين لم يسلموا بهذه الحقيقة. فاليهود قالوا: عزير ابن الله، وهذه صورة من صور الشرك، ولهم صور أخرى في الشرك كتشبيه الله بخلقه، وهذا باب آخر، فإن كلامنا الآن في نفي الوالدية لله سبحانه وتعالى، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، فاتفقوا على ادعاء الولد لله، ولم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود، أي: أن له أبوين. وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه، وهذه السورة وهي المختصة بصفات الله لم يأتِ فيها السليم عن المانع من اتخاذ الله للولد، ومنه كونه سبحانه وتعالى لم يولد. يقول الشيخ عطية سالم : جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلاً - أي: بأن الله لم يلد ولم يولد- مع الإشعار بالدليل العقلي وذلك في قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، فهذا تنزيه لله؛ لأن هذا شتم لله كما جاء في الحديث القدسي: (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني) أي: أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى الولد. وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:116-117]. فهذا نص صريح فيما قالوه: اتخذ الله ولداً، وهو أيضاً نص صريح في تنزيه الله سبحانه وتعالى عما يقولون. ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم فقال: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) ففيه بيان المانع عقلاً من اتخاذ الولد بما يُلزم الخصم، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون باراً بوالده، وأن ينتفع الوالد بولده كما جاء في قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، أو يكون الولد وارثاً لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:5-6]. أما الله سبحانه وتعالى فهو حي باقٍ، يَرث ولا يُورث كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال تعالى: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:180]. إذاً: فكل ما في السموات والأرض في قنوت وامتثال طوعاً أو كرهاً لله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:92-93]، إذاً: فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى الولد؛ لغناه عنه. ثم بيّن سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع فقال: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117]، وهذا واضح في نفي الولد عن الله عز وجل. وقد تمدّح سبحانه في قوله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء:111] أي: الله أكبر كبيراً. وأما أنه لم يولد فلم يدع أحد عليه ذلك؛ لأنه ممتنع عقلاً بدليل الممانعة المعروف، فلو توقف وجود الله سبحانه وتعالى على أن يولد لكان محتاجاً في وجوده إلى من يلده، ثم يكون من يلده بحاجة إلى والد وهكذا، وهذا يسمى بالتسلسل أو الدور، وهو من الأمور المستحيلة. وأورد بعض المفسرين سؤالاً في هذه الآية، وهو: لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة؟ فقوله: (لم يلد) نفي للولد. وقوله: (ولم يولد) نفي للولادة. والأصل في المشاهدة أن الإنسان يولد أولاً ثم يلد بعد ذلك. والجواب: أن هذا من باب تقديم الأهم؛ لأنه رد على النصارى في قولهم: عيسى ابن الله، وعلى اليهود في قولهم: عزير ابن الله، وعلى المشركين في قولهم: الملائكة بنات الله، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه وتعالى مولود لأحد، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى كما قال تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]، وقال عز وجل: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:88-93]. فمع أن أحداً لم يدع لله سبحانه وتعالى الولادة جاء القرآن بنفي كلا الاحتمالين؛ لتسليم النفي والتنزيه كما في حديث البحر لما سئل الرسول عليه السلام عن الوضوء بماء البحر فقيل له: (إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته). فلأن الشيء الذي يحتمل أن يسأل عن مائه، يحتمل -أيضاً- الاشتباه في حكم ميتته، فهذا جواب للسائل بأكثر مما سأل عنه.

قال تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]. يقال: كفواً، وكفؤاً، وكفاءً، وهي كلها بمعنى واحد، وهو المثْل. وكل أقوال المفسرين في هذه الآية الكريمة تدور على معنى نفي المماثلة، وأنه سبحانه ليس له مثيل ولا نظير ولا شبيه. فعن كعب وعطاء : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا) -بضم الفاء- لم يكن له مثلٌ ولا عَديل. وعن ابن عباس أنه بمعنى: ليس كمثله شيء. وعن مجاهد أي: لا صاحبة له. وقد جاء نفي الكفؤ والمثل والند والعِدل عن الله سبحانه وتعالى. فنفي الكفؤ عن الله في قوله: ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا). أما نفي المثل جاء في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وفي قوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ [النحل:74]. أما نفي الند ففي قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]. أما نفي العِدل ففي قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] أي: يساوونه بغيره. وهو مأخوذ من العِدل، وهو أحد شقي حمل البعير.

روي في سبب نزول هذه السورة أن المشركين قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: انسب لنا ربك؛ فنزلت هذه السورة، وقال عز وجل فيها: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، رداً على إثبات النسب له سبحانه وتعالى. وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عليه السلام عن ربه فقال له: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] فجاء جوابه: قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:24-27]. فما موجب قول فرعون -لعنه الله- عن موسى عليه السلام إنه لمجنون؟ لأنه سأله بـ(ما) فقال: (وما رب العالمين)؟ و(ما) يُسئل بها عن شرح الماهية، فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب عز وجل، من أي شيء هو؟ كما يقال في جواب قول القائل:-ولله المثل الأعلى- ما الإنسان؟ فيجاب: هو حيوان ناطق مثلاً. ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون؛ لأنه جاهلٌ بالله ولا يعرف ما الذي يليق أن يُسئل به عن الله وما الذي لا يليق؛ فسأل فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى، أو لتجاهله عن هذه الحقيقة، أو كان ذلك منه جحوداً وعناداً، كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]. فأتى الجواب بما يخصه هو، فالله سبحانه وتعالى لا يعلم كيفيته إلا هو. إذاً: لا يوجد أي أمل على الإطلاق في أن يدرك الإنسان ربه، أو يحيط به علماً، فهذا لا مطمع لأحد فينا به على الإطلاق، فلا يعرف كيفية الله إلا الله عز وجل، فغير وارد أبداً أن يحاط بالله سبحانه وتعالى علماً، فأي إنسان مهما حاول أن يُعمل عقله وخاض بكل ما أوتي من قوة ومن علم أن يعرف كيفية الله فالله قطعاً بخلاف ما توهمه؛ لأنه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] أي: ليس كالله شيء. فأنت تستطيع أن تتصور في خيالك وفي عقلك الشيء الذي رأيته من قبل، فإذا قلت لك مثلاً: قلم، كوب، طائرة، دبابة، سيارة، عمود، حجر، ماء، فهذه أسماء وألفاظ قلتها، وكل منكم في مخيلته صورة لها فتستطيعون أن تتخيلوها؛ لأنكم رأيتموها، فيستطيع المرء أن يتصورها بالكيفية التي رآها عليها، وأما الله تعالى فمتى رآه حتى يتصوره ويكيفه بصورة معينة؟ ! ! إذاً: فهذا الأمر في غاية الأهمية، وقد أيأسنا الله سبحانه وتعالى من تخيل بعض المخلوقات كالجنة مثلاً، فقد جاء في الحديث القدسي: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) أي: أنك مهما حاولت أن تتخيل نعيم الجنة وما فيها من فاكهة ونخيل وأعناب وأنهار فلا تستطيع، مع أننا قد رأينا في الدنيا هذه الأشياء، ومع ذلك فالجنة بخلاف ذلك، ولا موافقة بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا في الأسماء فقط، فإذا كان هذا في المخلوقات فكيف بحق الله سبحانه وتعالى؟ ! فلا أمل على الإطلاق في هذا، فينبغي للإنسان ألّا يهدر طاقته العقلية والذهنية في التفكير في شيء أيأسنا الله من أن نصل إليه، ولذلك لما كان بعض الناس يخوض في تشبيه الله بخلقه أفحمه بعض العلماء، فاستقرأه حديث الإسراء، وكيف أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (رأيت جبريل في صورته وله ستمائة جناح، ما منها جناح إلا قد سد ما بين المشرق والمغرب). فإذا كان هذا في مخلوق من مخلوقات الله تعالى فكيف بالله تعالى! فقال له: صف لي خلقاً من خلق الله له ستمائة جناح؟ فعجز، فقال له: فأنا أضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين جناحاً، فصف لي خلقاً من خلق الله له ثلاثة أجنحة؟ فبهت وتحير، فقال له: يا أبا فلان! قد عجزنا عن صفة المخلوق فنحن عن صفة الخالق أعجز. إذاً: فلا مطمع ولا أمل على الإطلاق في أن يعرف أحد كيفية الله أبداً، فعلينا أن نثبت له الصفات كما وردت في القرآن والسنة، ولا نكيف، ولا نمثل، ولا نعطل. إذاً: ففرعون يسأل عن ماهية رب العالمين في قوله: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، وهذا سؤال لا يمكن أن يدرك أحد جوابه، فموسى عليه السلام رد عليه بما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أن الله سبحانه وتعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وليست كربوبية فرعون الكاذبة. ومثل ذلك في القرآن: عندما سألوا عن الأهلة لماذا تبدو صغيرة وبعدها تكبر؟ فهذا سؤال عن حقيقة تغيرها، فترك القرآن الجواب على سؤالهم، وأجابهم بما يخصهم، وما يلزمهم وينفعهم، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]. وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمرود عندما حاجه في ربه كما في قوله تعالى: إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]، فهذا أسلوب في المناظرة، فإبراهيم عليه السلام لم ينتقل عجزاً عن جواب السؤال الأول، فالنمرود كان عنده مخارج في المشاغبة، فقال: أنا أحيي وأميت، فأتى برجلين فحكم على أحدهما بالإعدام والثاني أطلقه، فقال له: أنا الآن أحيي وأميت، فهذا نوع من الشغب، فلم يتفرغ إبراهيم لمناقشة شغبه، وانتقل إلى حجة لا يمكن بحال من الأحوال أن يدعي أن له قدرة عليها، فقال تعالى: قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ [البقرة:258]. وقد جاء أيضاً أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حقيقة ربه كما جاء في بعض الرويات: وإلهك هذا من نحاس، أم من خشب، أم من كذا أم من كذا؟ وفي بعض الرويات أنهم قالوا: انسب لنا ربك، فجاء الجواب بصفات الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، لأن النسب لا يكون إلّا للمخلوق، وعندما تسأل عن الماهية فهذا في المخلوق، لكن الله سبحانه وتعالى لا يسأل عنه أبداً بهذا السؤال، فما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه وتعالى، وفي الممكن لا في الواجب الوجود، فهو سبحانه لا يدرك كنهه غيره عز وجل، وصدق الله العظيم في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وفي قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110]. ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتابان في تفسير سورة الإخلاص، وهذه السورة لو مكثنا سنة كاملة في تفسيرها لا نفرغ؛ لأن فيها من المعاني والأسرار والحكم ما تنقطع دونه الأعناق، والكتابان هما: (تفسير سورة الإخلاص)، والثاني: (جواب أهل العلم والإيمان في ما ورد من أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن)، وهذا من أبدع كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فنكتفي بهذا القدر من تفسير سورة الإخلاص.