تفسير سورة التكوير والانفطار


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:140-14]. (وإذا الصحف نشرت) أي: صحف أعمال العباد نشرت لهم، بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات. (وإذا السماء كشطت) أي: قلعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]. (وإذا الجحيم سعرت) أي: أوقد عليها فأحميت، قال قتادة : سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. (وإذا الجنة أزلفت) أي: قربت للمتقين. (علمت نفس ما أحضرت) أي: علمت كل نفس عند ذلك ما قدمت من خير فتصير به إلى الجنة، أو شر فتصير به إلى النار. أي: أن المراد من قوله: (علمت نفس ما أحضرت) أنه تبين لها عند ذلك ما كانت جاهلة به، وما الذي كان فيه صلاحها من غيره. وقوله: (علمت) جواب لجميع ما سبق من الشروط، كل ما سبق من الشروط من قوله: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله: وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ .

قال تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]. (الخنس) هي الرواجع من النجوم، من خنس إذا رجع وتأخر. قال الزمخشري : الخنس الرواجع بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله. والجوار جمع جارية من الجري. وأصلها (الجواري) بالياء. (الكنس) أي: تغيب وتدخل في بروجها التي تغيب فيها. مأخوذة من كنس الوحش إذا دخل في كناسه، وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، فهو في الأصل مجاز بطريق التشبيه، ثم صارت الغلبة في استعماله على الحقيقة.

قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير:18]. (عسعس) أي: أدبر بظلامه ولم يبق منه إلا اليسير، وذلك وقت السحر آخر جزء من الليل. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ، أي: أقبل وتبين. أو إذا هب نسيمه اللطيف. أو إن زالت عنه غمة الليل وكربته، فتقول: تنفست بعد هذه الكربة، وهذا تشبيه بمن نفست عنه كربة باعتبار أن الليل كربة، فزال عنه ذلك الظلام. إن لله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه، لكنه لا يقسم إلا بما فيه آيات ودلائل على قدرته وحكمته تبارك وتعالى، ومع ذلك أقسم الله سبحانه وتعالى بهذه الأجرام السماوية، وفي أثناء القسم بها وصفها بما ينفي عنها صفة الألوهية؛ وذلك في قوله: (فلا أقسم بالخنس) وهي الرواجع من النجوم فهي تسترجع بعدما تغيب، فكذلك قوله: (والجوار الكنس) أي: التي تغيب وتدخل في بروجها، فذهابها وغيابها يدل على حدوثها وأنها مخلوقة لله سبحانه وتعالى. فالخنوس والكنوس هو الغياب، قال عز وجل: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] فالإله الحق لا يأفل ولا يغيب عن خلقه، فهذا تقريع لمن خصها بالعبادة، واتخذها من دونه أرباباً. وفي الليل إذا أدبر زوال تلك الغمة التي تغمر الأحياء بامتداد الظلمة، بعدما استعادت أسباب نشاطها، وانتعشت من فتورها. وفي الصبح إذا تنفس بشرى الأنفس بالحياة الجديدة في النهار الجديد، تنطلق فيه الإرادات إلى تحصيل الرغبات وسد الحاجات، والاستعداد لما هو آت.

يقول تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير:19]. أي: أنه روح القدس الذي ينفث في روعه صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. هذا هو جواب القسم لما تقدم. المقصود بنسبة القول إلى جبريل عليه السلام: (إنه لقول رسول كريم) أنه يبلغ الوحي من الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما قوله تبارك وتعالى في سورة الحاقة: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة:38-42] فالمقصود بالرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه قال: (وما هو بقول شاعر)، (ولا بقول كاهن). فنسب القول مرة إلى الرسول الملكي، ومرة إلى الرسول البشري؛ باعتبارهما مبلغين عن الله، فالرسول الملكي واسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين النبي عليه الصلاة والسلام؛ والنبي عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين خلقه في إبلاغهم ما أوحي إليه، لكن في الحقيقة هو كلام الله عز وجل، فالنسبة لمعنى التبليغ وحمل هذه الأمانة والرسالة. قوله: (إنه) هذه الهاء إما أنها للبعث والجزاء والنشور؛ لأن البعث والجزاء والنشور مأخوذ من قوله تبارك وتعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:14]؛ لأن النفس لا تعلم ما أحضرت إلا في يوم البعث والنشور. وإما أنها للقول المذكور، وهو القرآن الكريم.

قال تعالى:ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:19-22]. ذِي قُوَّةٍ أي: قوة على تحمل أعباء الرسالة، وعلى كل ما يؤمر به، كما تقدم في قوله تبارك وتعالى: شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] وهو جبريل عليه السلام. قوله: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي: صاحب مكانة وشرف ومنزلة لديه تبارك وتعالى. قوله تعالى: مُطَاعٍ ثَمَّ أي: في الملأ الأعلى. (أمين) على وحيه ورسالته. قوله تعالى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ أي: ليس محمد صلى الله عليه وسلم ممن يتكلم عن ذلة ويهذي هذيان المجانين، كما قال تعالى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:37] وهذا نفي لما كان يبهته به أعداؤه صلى الله عليه وسلم حسداً وجرماً. وفي قوله: (صاحبكم) تكذيب لهم بألطف وجه، إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم، وأنتم تعرفونه جيداً بأنه أتم الخلق عقلاً، وأرجحهم قولاً، وأكملهم خلقاً، وأتقاهم لله، فلا يسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون، فالله در البحتري إذ يقول في القصيدة التي مطلعها: في الشيب زجر له لو كان ينزجر وبالغ منه لـولا أنه حجـر إلى أن قال: إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر يعني: إذا الخصم رأى المحاسن التي أدل بها وأفخر بها ذنوباً وتقصيراً فكيف أعتذر؟! فكذلك هنا قوله تبارك وتعالى: (وما صاحبكم بمجنون) فهو صاحبكم وأنتم تعرفون أنه منزه عن الكذب، وتقرون بأنكم ما جربتم عليه كذباً قط، حتى كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23]. أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بالأفق الأعلى على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح. قال ابن كثير : والظاهر والله تعالى أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية فهي المذكورة في قوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء. والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليه السلام أن أمره مبني على مشاهدة وعيان لا على ظن وحسبان، فما سبيله كذلك فلا مدخل للريب والتكذيب فيه. فالله سبحانه وتعالى هنا ينزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل هذه الأشياء المسماة بالخيالات والعوارض، فهو صلى الله عليه وسلم حينما رأى الملك رآه حقيقة، وليس كما يتخيل المجنون أنه يرى أشياء لا حقيقة لها، بل هي رؤية حسية بعينه، وليست خيالاً. (ولقد رآه) حقيقة، وحسب المكان قال: (بالأفق) أي: في الأفق المرتفع الظاهر. (المبين) أي: الواضح الذي لا شك فيه.

قال تعالى: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24]. (وما هو على الغيب بضنين) أي: ببخيل، قال مجاهد : ما يضن عليكم بما يعلم من الوحي بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء : يأتيه غيب السماء وهو شيء نفيس فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسي : المعنى: أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلانه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ: (وما هو على الغيب بظنين) بالظاء أي: وما هو بمتهم على ما يخبر به من الغيب. قال القاشاني : لامتناع استيلاء شيطان الوهم من التخييل عليه فيخلف كلامه أو يمزج المعنى القدسي بالوهمي والخيالي. كما قال هرقل لـأبي سفيان : (وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الرب سبحانه وتعالى). فيما يتعلق بقراءة: (وما هو على الغيب بظنين) يقول الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: وأولى القراءتين في ذلك عندي هي ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به وذلك بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. ثم يقول: فأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأول: وما محمد على ما علمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين: أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه، فنفي التهمة أولى من نفي البخل. ثانيهما: أن الضاد والظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة قراءة إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة. أقول: وهو كما قال، ويعرفه من قرأ الخط المسند، وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما يتوهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة، ولابد مما ذكره أبو عبيدة بأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثماني، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى. وقال ابن كثير : وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.

قال تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير:25-26]. أي: ما هو من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، كما في قوله تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212] فهذا أيضاً نفي لقولهم: إنه كهانة، فرد الله هذا بقوله: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ . فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ أي: أي مسلك تسلكون، وقد قامت عليكم الحجة، لا جرم أنكم بعد هذه المزاعم في الوحي قد بعدتم عن الصواب. قال الزمخشري قوله تعالى: (فأين تذهبون) استضلال لهم كما يقال لتارك الجادة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل.

قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:27-29]. ( إن هو ) أي: القرآن المتلو عليكم. (إلا ذكر للعالمين) أي: تذكرة وعظة للعالمين، يتذكرون بها ما غرز الله في طباعهم من الميل إلى الخير بمقتضى الفطرة، وما طرأ على طباعهم من ملكات السوء التي تحدثها أضرار الاستماع. قوله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بدل من العالمين، أي أنه ذكرى لمن أراد الاستقامة على طريق الحق، لصرف إرادته وميله إليه والثبات عليه؛ لأن من أعرض ونأى فمن أين تنفعه الذكرى وقد زاده الران عمى؟! قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أي: وما تشاءون شيئاً من فعالكم إلا أن يشاء الله تمكينكم من مشيئتكم، والتخلية بينكم وبينها. وفائدة هذا الإخبار هو الإعلام بالافتقار إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا قدرة للعبد على ما لم يقدره الله عز وجل عليه، فهو خاضع لسلطان مشيئته مقهور تحت سبيله وإرادته.

قال تعالى:إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:1-5]. نشرع بإذن الله في تفسير سورة الانفطار وهي السورة الثانية والثمانون حسب ترتيب المصحف الشريف، وهي مكية، وآيها تسع عشرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ أي: انشقت كما في قوله تعالى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ . وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ أي: تساقطت، والانتثار يراد به إنزال الكواكب، حيث شبهت بجواهر قطع سلكها فتناثرت وتساقطت.