رحلة الإنسان إلى الخلود


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

منزلة البشر بين صنفي الملائكة والحيوان

فإن الله تعالى خلقنا وهو غني عنا، وقد شرف هذا الجنس البشري بكثير من أنواع التشريف، وكرمه بأنواع التكريم؛ فخلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وكرم ذريته بعد بأنواع التكريم؛ فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70].

وقد أنعم الله علينا في هذه الأمة بنعم لم ينعم بها على من سبقنا من الأمم؛ فاختار لنا أفضل الرسل، وأنزل إلينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، وكل هذا التكريم لا بد في مقابله من تكليف؛ لأن التكليف على قدر التشريف، فلذلك كان هذا الجنس البشري بين الصنفين، صنف أسمى منه وهو الملائكة، وصنف أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، فالصنف الأسمى وهو الملائكة محضهم الله لطاعته وعبادته؛ فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، كلفهم الله بالتكاليف ولم يسلط عليهم الشهوات.

والصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي لم يكلفه الله بتكاليف وسلط عليه الشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بالتكاليف ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44].

مثل من أعرض عن الحكمة التي خلق لأجلها

فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يعرف أنه كائن شريف على الله تعالى كريم، وأنه لم يخلق لما خلق له سائر الحيوان، فإن كثيراً من الناس لا يعرف ذلك؛ فيظن أنه خلق من أجل جمع الرزق؛ كأنواع الحيوانات الأخرى؛ فيشتغل طيلة عمره في جمع الأرزاق، وهذه مهنة وحرفة تتقنها النملة وتتقنها الفأرة، والإنسان مشرف عنها ومكرم؛ فقد ضمن الله له الرزق وكلفه بأداء العبادة التي من أجلها خلقه، وإنما تقويم الإنسان وشرفه باعتبار ما يؤديه من هذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فهذا الجهاز مثلاً صنع من أجل التسجيل، فإذا لم تكن فيه هذه المصلحة لم تكن له قيمة ولم يشتره أحد.

والإنسان خلق من أجل عبادة الله؛ كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا لم يقم بهذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فإنه لا قيمة له ولا نفع فيه؛ ومن هنا فإن كثيراً من الذين نراهم يمشون على أرجلهم على هذه الأرض وأشكالهم أشكال البشر، ويتكلمون بلغة البشر إنما هم من أمثال البهائم؛ لأنهم ما عرفوا ما من أجله خلقوا ولم يتجهوا إلى ذلك ولم يُدر أمره بَخلَد أحد منهم؛ فلذلك غفلوا عن أنفسهم ونسوا الله تعالى فنسيهم، ولم يرد الله بهم الخير حين لم ينبههم على الحكمة التي من أجلها خلقوا؛ فهم مقبلون مدبرون في معصية الله سبحانه وتعالى، لا يبالون بأمره وطاعته، ويستمرون طيلة أعمارهم في الانشغال بما لم يخلقوا من أجله، وهذا دليل على أن الله لا يقدرهم ولا ينزلهم بالمكان الشريف عنده؛ فإن الله تعالى يصرف الذين لا يرتضي خدمتهم عن عبادته، وكل من لا يرتضي الله خدمته يحول بينه وبين الطاعة والعبادة؛ فيسلطه على نفسه ويتبعه هواه، ويجعله كالبهائم تعيش وهي لا تدري لماذا تعيش.

فإن الله تعالى خلقنا وهو غني عنا، وقد شرف هذا الجنس البشري بكثير من أنواع التشريف، وكرمه بأنواع التكريم؛ فخلق آدم بيمينه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في الأرض، وكرم ذريته بعد بأنواع التكريم؛ فقال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70].

وقد أنعم الله علينا في هذه الأمة بنعم لم ينعم بها على من سبقنا من الأمم؛ فاختار لنا أفضل الرسل، وأنزل إلينا أفضل الكتب، وشرع لنا خير شرائع الدين، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس، وكل هذا التكريم لا بد في مقابله من تكليف؛ لأن التكليف على قدر التشريف، فلذلك كان هذا الجنس البشري بين الصنفين، صنف أسمى منه وهو الملائكة، وصنف أدنى منه وهو الحيوان البهيمي، فالصنف الأسمى وهو الملائكة محضهم الله لطاعته وعبادته؛ فهم عباد مكرمون، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، كلفهم الله بالتكاليف ولم يسلط عليهم الشهوات.

والصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي لم يكلفه الله بتكاليف وسلط عليه الشهوات، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بالتكاليف ممتحن بالشهوات، فإن هو أدى التكاليف ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي؛ ولذلك قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44].

فلهذا يحتاج الإنسان إلى أن يعرف أنه كائن شريف على الله تعالى كريم، وأنه لم يخلق لما خلق له سائر الحيوان، فإن كثيراً من الناس لا يعرف ذلك؛ فيظن أنه خلق من أجل جمع الرزق؛ كأنواع الحيوانات الأخرى؛ فيشتغل طيلة عمره في جمع الأرزاق، وهذه مهنة وحرفة تتقنها النملة وتتقنها الفأرة، والإنسان مشرف عنها ومكرم؛ فقد ضمن الله له الرزق وكلفه بأداء العبادة التي من أجلها خلقه، وإنما تقويم الإنسان وشرفه باعتبار ما يؤديه من هذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فهذا الجهاز مثلاً صنع من أجل التسجيل، فإذا لم تكن فيه هذه المصلحة لم تكن له قيمة ولم يشتره أحد.

والإنسان خلق من أجل عبادة الله؛ كما قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58]، فإذا لم يقم بهذه الحكمة التي من أجلها خلق؛ فإنه لا قيمة له ولا نفع فيه؛ ومن هنا فإن كثيراً من الذين نراهم يمشون على أرجلهم على هذه الأرض وأشكالهم أشكال البشر، ويتكلمون بلغة البشر إنما هم من أمثال البهائم؛ لأنهم ما عرفوا ما من أجله خلقوا ولم يتجهوا إلى ذلك ولم يُدر أمره بَخلَد أحد منهم؛ فلذلك غفلوا عن أنفسهم ونسوا الله تعالى فنسيهم، ولم يرد الله بهم الخير حين لم ينبههم على الحكمة التي من أجلها خلقوا؛ فهم مقبلون مدبرون في معصية الله سبحانه وتعالى، لا يبالون بأمره وطاعته، ويستمرون طيلة أعمارهم في الانشغال بما لم يخلقوا من أجله، وهذا دليل على أن الله لا يقدرهم ولا ينزلهم بالمكان الشريف عنده؛ فإن الله تعالى يصرف الذين لا يرتضي خدمتهم عن عبادته، وكل من لا يرتضي الله خدمته يحول بينه وبين الطاعة والعبادة؛ فيسلطه على نفسه ويتبعه هواه، ويجعله كالبهائم تعيش وهي لا تدري لماذا تعيش.

شرف الإنسان بهذا العقل؛ ليعلم أنه ما شاوره الله على صورة خلقته؛ هل يكون طويلاً أو يكون قصيراً، هل يكون أبيض أو يكون أسود، هل يكون ذكياً أو يكون غبياً، هل يكون ذكراً أو يكون أنثى، هذه أمور ما شاوره الله عليها، وقد قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ[الانفطار:8]، وقال تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُدًا[الكهف:51].

فإذا كان الإنسان خلق من دون مشورته، وقدر له عمره وكتب أجله وقدر له رزقه، وكتب عليه ما يصيبه من الأمراض والأعراض، وقدر كل ما يفكر فيه، وخطط له كل ما هو بحاجة إليه فينبغي أن يعرف أنه ليس كسائر الحيوانات، ولا بد أن يراجع عقله هذا الذي شرف به؛ حتى يعرف لماذا أتى إلى هذا الوجود، ولماذا هو موجود في هذه الحياة الدنيا، ولماذا جعل الله هذه الحياة الدنيا مجرد مرحلة من مراحل سير الإنسان، يمر بها مروراً سريعاً، ثم بعدها ينطلق إلى الدار الآخرة وينساه أهل الدنيا؛ كأنه لم يمر بها، يمر فتمضي عليه سنة أو سنتان أو ثلاث أو أربع أو عشر أو خمسون سنة، ثم بعد ذلك يكون من أهل الآخرة، وبعد سنين قليلة إذا وصلت إلى قدر عمره فهذا شيء عظيم، ينسى ولا يتذكره أحد، كم هم أولئك الذين عمروا الدنيا أكثر مما عمرناها، وملكوا منها أكثر مما ملكنا، وتصرفوا فيها أكثر مما تصرفنا، وقد نسيهم الناس، وعصر نوح عليه السلام كم فيه من البشر غير نوح عليه السلام؟ ومن دونه في عصر إبراهيم كم من أسماء الخلائق؟ حتى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه ووصل تعدادهم إلى مائة وعشرين ألفاً، والذين رووا الحديث منهم يصلون إلى ثمانية آلاف صحابي، لكن من يستطيع عد ألف منهم الآن يعتبر من كبار العلماء.

فلذلك يعلم أن كل من عاش في هذه الحياة فهو إلى النسيان بانتقاله منها، ومدة بقائه فيها محصورة يسيرة، وقد جعل الله له خمسة أعمار وجعلها متفاوتة تفاوتاً عظيماً:

عمر الإنسان الأول في عالم الذر

فالعمر الأول: عمر الإنسان حينما أخرجه الله من ظهر آدم في حياة آدم ؛ فإن الله تعالى جاء بـآدم إلى بطن نعمان وهو وادي عرفة، فمسح ظهره فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون فناداهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا[الأعراف:172]؛ فنحن جميعاً قد دخلنا إلى الوجود في حياة آدم عليه السلام، وسألنا ربنا فأجبنا: قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ))، فقلنا جميعاً: بَلَى[الأعراف:172]، ما منا من أحد يعيش على هذه الأرض إلا وقد قال: بلى، جواباً لرب العزة في ذلك العالم الأول.

تجديد العهد الأول لله في كل سنة

ثم بعد ذلك أخذ الله علينا العهد أن نعبده وألا نعبد الشيطان، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61]؛ ولذلك فإن هذا العهد الذي أخذ الله علينا مطلوب من كل إنسان منا أن يجدده؛ فله موسم سنوي يجدد فيه وهو الوقوف بعرفة في نفس المكان الذي مسح الله فيه ظهر آدم، يجتمع الناس في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فيقفون لله سبحانه وتعالى مجددين لذلك العهد مقرين بتوحيده سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:199-202].

تجديد العهد الأول لله في كل يوم

والتجديد الثاني هو التجديد اليومي؛ فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول كل إنسان منا في كل يوم وليلة: ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، هو سيد الاستغفار، من قاله في يوم فمات فيه دخل الجنة، ومن قاله في ليلة فمات فيها دخل الجنة )، وهذا الذكر العظيم هو تجديد لهذا العهد مع الله؛ ولذلك تقول: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك) وتقول المرأة: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا أمتك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت). فقوله: (أنا على عهدك) هو هذا العهد الذي أخذ علينا في عالم الذر، (ووعدك) وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، (ما استطعت) فالإنسان عرضة للانحراف عن هذا العهد والوعد؛ لكثرة ما يحيط به من الملهيات والمشغلات، (أعوذ بك من شر ما صنعت) فالإنسان يعلم أنه فرط في جنب الله وعصى وبالغ في المعصية، وابتعد كثيراً عن منهج الله وعن طريقه، وكل ذلك يقر به؛ فلذلك يقول: (أبوء لك بنعمتك علي) أي: أقر لك بنعمتك علي، فأعترف بها، "وأبوء بذنبي" أي: أعترف به، وأعلم أنني أستحق العقوبة في مقابله، لكنني أرجو المغفرة منك؛ فلذلك يقول: (وأبوء بذنبي فاغفر؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

وهذا العمر الأول استمرت فيه حياتنا في تلك الحياة العجيبة منذ أخرجنا من ظهر آدم إلى أن يدخل الجنين في بطن أمه عند نفخ الروح فيه، يؤتى بروحه من السماء الدنيا فتنفخ في جسده وهو في بطن أمه؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لما أتى السماء الدنيا وجد فيها آدم عليه السلام وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، قال: ( فسألت جبريل : ما هذه الأسودة التي إذا نظر آدم فيها قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى؟ فقال: نسم بنيه، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم )، فتلك الأسودة هي نسمات بني آدم وهو محبوسة عند آدم في السماء الدنيا، وفي كل يوم من الأيام ينزل من السماء الدنيا عدد ما ينفخ فيه الروح من الأجنة من تلك الأرواح، سواءً منها من كان من أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاء.

بقايا العمر الأول في عالم الذر

وهذا العمر الطويل ليس فيه تكليف إلا بالتوحيد، وقد بقي معنا منه أمران:

الأمر الأول: الفطرة؛ فالإنسان مفطور على العبودية، فلو ولد إنسان في جزيرة من جزائر البحر ولم يلقه أحد من الناس، فعقل فلا بد أن يبحث عن شيء يعبده، ولا يمكن أن يدعي أنه رب أو أنه مستغن عن الدين، بل سيبحث عن دين، وسيبحث عما يحل له وما يحرم، وعما ينفعه وما يضره؛ لأنه مفطور على ذلك، ولذلك تجدون الصغار يسألون عن الحلال والحرام ويسألون عن النافع والضار، وسبب ذلك هو الفطرة التي سبقت العقل، وهذه الفطرة فطر الله البشر جميعاً عليها؛ كما قال الله تعالى: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ[الروم:30]، فإذا عرف الإنسان ربه هدي إليه وعبده، وإذا لم يعرفه بحث عن شيء يعبده سواه، فسيعبد حجراً أو شجراً أو صنماً أو غير ذلك من أنواع ما يعبد من دون الله.

والأمر الثاني الذي بقي معنا من هذا العمر الأول هو التعارف، فما من إنسان في هذه الحياة إلا وسيجد بعض الناس بينه وبينهم علاقة روحية لا يدري من أين اكتسبها؛ ولذلك فنحن الآن نجلس في هذا المكان وكثير منا لا يعرف اسم الآخر وما لقيه من قبل، لكن جمعنا الله في هذا الصعيد في هذه الساعة، وكان قد قدر ذلك وكتبه قبل خلق آدم ، فجلستنا هذه علمها الله قبل خلق الكون، وكتبها في الصحف التي عنده فوق عرشه، ثم كتبها في هذه السنة أنها ستكون في هذه الساعة بهذا العدد، ثم قدرها الآن فقضاها على نحو ما سبق في علمه دون أي تغيير، ولذلك ما يقع بيننا من التعارف فيجد الإنسان نفسه مائلة إلى بعض الأفراد كأنه يعرفهم من قبل وكأن بينه وبينهم سابق عهد، وما عرفهم من قبل هذا من آثار ذلك العالم الأول؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، فالذين حصلت بينهم المعرفة في عالم الذر يتعارفون الآن، فتقع بينهم الألفة؛ فمن الناس من تقع عينه على لون من الألوان، أو قامة من القامات، أو شكل من الأشكال فيحب من كان مصبوباً في هذا القالب من البشر جميعاً، وعكسه يقع لآخرين، فكل ذلك من تدبير الله سبحانه وتعالى وتقديره.

عمر الإنسان الثاني على وجه الأرض

والعمر الثاني هو: عمرنا فوق هذه الأرض، وهو أقصر الأعمار، ومدة بقاء الإنسان فيه كمدة بقائه تحت ظل الشجرة ينتظر الزوال، فيمكث ما قدر الله له من الليالي والأيام، وهي محصورة يسيرة، يغتر بها الإنسان ما دام في أثنائها، لكن عند نهايتها يتوقع أنه لم يعش إلا وقتاً يسيراً؛ ولذلك هل يوجد من عاش سليماً صحيحاً، تام الأعضاء، لا يشكو مرضاً وهو مع ذلك يتمنى الموت، ويريد الخروج من هذه الدار؟ أبداً لا يوجد، لأن الإنسان مهما طالت لياليه وأيامه فهي قصيرة قليلة لديه؛ ولهذا قال الله تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ[المؤمنون:112-116]، فمدة بقاء الإنسان في هذا العمر الدنيوي هي مدة التكليف، وهي بمثابة وقت الامتحان؛ فقد استلم قلمه وورقته وبدأ في حل الأسئلة، وستسحب عندما يحين أجله فترفع صحائفه إلى الله تعالى، ثم يقوم بالتقويم العدل الذي ليس فيه ظلم ولا وكس ولا شطط، وحينئذ ينال ما يستحقه من الجزاء، ولا يمكن أن يظلم شيئاً.

العمر الثالث للإنسان في البرزخ

ثم بعد هذا العمر الثالث: وهو عمر الإنسان في البرزخ تحت الأرض، وهو القيامة الصغرى، ( إذا مات ابن آدم فقد قامت قيامته )، وهذا العمر الذي هو تحت الأرض طويل جداً، أطول بأضعاف مضاعفة من عمر الإنسان فوق الأرض؛ ولذلك فإن آباءنا عاشوا فوق هذه الأرض ما عاشوا؛ فمنهم من عاش خمسين، ومنهم من عاش ستين، ومنهم من عاش سبعين ومنهم من عاش مائة، ولكن مكثوا تحت الأرض آلاف السنين، وإذا نظرنا إلى عمر نوح نعلم أنه قطعاً عاش فوق الأرض أكثر من ألف سنة، ومع ذلك مضى عليه وهو تحت الأرض آلاف السنين التي لا يعلمها إلا الله.

فالعمر البرزخي مدته طويلة جداً، وبالأخص أن فيه كثيراً من الانشغالات التي لا تخطر للإنسان على بال، فالإنسان يقف على المقبرة فيرى القبور متساوية، وفيها ركود وهدوء وسكوت وسكون، لكن هيهات.. هيهات! فهي إما أن تكون رياضاً من رياض الجنة، وإما أن تكون حفراً من حفر النار، وظاهرها لا يبين شيئاً من حقيقتها، وإذا صعدنا على هذا التل ورأينا المقبرة التي عليه، ونحن نعرف كثيراً من الذين دفنوا فيها وكثير منا له أقارب دفنوا فيها؛ فنحن نراها وكأن الذي قبر البارحة مثل الذي قبر قبل ثلاثين سنة أو أربعين سنة، اداركوا هنالك جميعاً فاستوى كبيرهم وصغيرهم وغنيهم وفقيرهم وصحيحهم وسقيمهم، وانقطعت أخبارهم جميعاً، وكأن من دفن منهم الليلة كالذي دفن قبل ألف عام، حالهم وما يصل إلينا من أخبارهم ليس فيه أي فرق ولا أي تفاوت؛ ولهذا فإن الإنسان بمجرد الذهاب إلى ذلك العمر يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب؛ وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[الزمر:47]، وينكشف للإنسان من الأسرار والعيوب، والأمور العظيمة العجيبة ما لا يمكن أن يخطر له على بال.

وإذا أراد الإنسان التفكير في مثال وإن كان لا يؤدي حقيقة ذلك، فليفكر لو أنه طرح فجأة في بلد لا يعرفهم ولا يعرف لهم لغتهم ولا يعرف مساكنهم، ولا يعرف أنماط معاشهم ولا هيئة ملابسهم، ولا يستطيع التفريق بين الكبير منهم والصغير، أليس هذا سيكون عجيباً لديه جداً؟ وبالأخص إذا كان خرج في نومته ووضع في الصين فجأة؛ كذلك الإنسان فإن موته هو بمثابة نومه، ثم يستيقظ بين أهل القبور ويرى ذلك العالم الآخر العجيب، الذي أول ما يواجهه فيه ضمة القبر التي تختلف منها الأضلاع وتزول منها الحمائل، ثم بعدها سؤال منكر ونكير ( يقعدانه فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، والرجل المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم، هو محمد.. هو محمد.. هو محمد - ثلاثاً - جاءنا بالبيانات والهدى فآمنا به واتبعنا، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: هاه.. هاه! لا أدري، كنت سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فجواب الملكين للمؤمن يقولان له: قد علمنا إن كنت لموقناً، نم نومة عروس، وجوابهما للمنافق يقولان له: لا دريت ولا تليت، ويضربانه بين ثوديه بمرزبة معهما لو اجتمع عليها أهل منىً ما أقلوها -جميع الحجاج لو اجتمعوا عليها ما أقلوها، أي: لما استطاعوا حملها- فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الإنس والجن )، وحينئذ يكشف عنه الحجاب، فيزول ما كان من الغشاوة على عينيه فيرى الأمور على حقيقتها؛ فنحن الآن ينكشف لنا الغيب عن العجائب، وإذا تذكر الإنسان قبل عشر سنوات بماذا كان يفكر؟ ليفكر كل واحد منا في صورته إذا وقف أمام المرآة وصورته قبل عشر سنوات، وليفكر في حاله أيضاً بعد عشر سنوات لو مد في عمره، وليفكر فيما تجدد في حياته من الوقائع والأمور، وما حصل له من العلاقات وما انفصم عنه من الأحزاب، وما انفصل عنه من الأقارب؛ فيجد أموراً ينكشف عنها الغيب لو عرفها الإنسان قبل أن تكون لتصرف تصرفاً آخر؛ كما قال الشاعر:

قل للشباب إذا مررت بحيه ولقيتهم ولقيته في منزل

لو كنت أعلم أن آخر عهده يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل

فالإنسان لو عرف ما تئول إليه الأمور قبل أن تئول إليه لكان له تدبير آخر، ولكن هذا مما أخفاه الله ولا يطلع عليه الإنسان إلا بعد كينونته وحصوله؛ فكذلك حال الإنسان في البرزخ ينكشف له من الأمور ما لم يكن يخطر له على بال؛ ولهذا قال الله تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[ق:19-22]، ينكشف عن الإنسان ما كان على عينيه من الغشاوة والغطاء، فيظهر له من الأمور ما لم يكن يتصوره بوجه من الوجوه.

عمر الإنسان يوم المحشر

ثم بعد ذلك العمر الرابع هو: عمر الإنسان فوق الساهرة في المحشر، وهو كذلك عمر مديد طويل؛ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ[الحج:47]، وبالأخص لكثرة ما فيه من الاشتغالات، فالإنسان في الأعمار السابقة يقوم ويجلس ويضطجع وينام، وهو في قبره مضطجع، وكثير من الأحداث التي تمر عليه فيها تبادل، لكن في الحياة فوق الساهرة في المحشر رتابة وهدوء، والأمر كما هو فالإنسان قائم؛ كما خلق يأتي حافياً عارياً أغرل، ليس معه إلا عمله؛ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ[الأنبياء:104]، وهو في ذلك الموقف لا يستطيع تحريك رجله ولا أن يلتفت يميناً ولا شمالاً، وهذه الساهرة أرض صغيرة جداً، إذا وقف الواقف على طرفها رأى طرفها الآخر، ومع ذلك يجتمع فيها الخلائق من لدن آدم إلى نهايتهم بتلك الصورة العجيبة، وتبدو الشمس فوق رءوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد بهم العرق حتى يسيح في الأرض سبعين ذراعاً، ثم بعد ذلك يعلو فوقها؛ فمنهم من يصل إلى كعبيه ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوته، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.

ويطول هذا الموقف طولاً غير معتاد، ليس فيه ليل ولا نهار ولا تبادل ساعات، ولا ما يزيل عن الإنسان الكرب الذي هو فيه؛ فالإنسان في هذه الحياة حتى لو كرب بمرض أو مصيبة من المصائب، فالليل ينفس عنه إذا كانت مصيبة في النهار، والنهار ينفس عنه إذا كانت مصيبته في الليل، وتبادل الساعات فيه تبادل للأجواء وتبادل للطقس وتغير لحالة الحرارة، وهذه أمور لا تتغير في الموقف فوق الساهرة، وأشد ذلك أنهم مع طول موقفهم يؤتى بجهنم وهم يرونها يركب بعضها بعضاً تجرها الملائكة من كل جهة، حتى تحيط بالناس من جميع الجهات، ولها سبعون ألف زمام وكل زمام يجذبه سبعون ألف ملك، أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة الكرام العظام يجرون النار جراً، والناس يرونها وهي شديدة السواد واللهب، يركب بعضها بعضاً ويحطمه، وهم يسمعون تغيظها وزفيرها وأصواتها المرعبة المروعة، وبعض الناس يصل إليه من دخانها، وبعضهم يصل إليه من حرها، وبعضهم يصل إليه من بردها، وبعضهم يصل إليه من رائحتها ونتنها، نسأل الله السلامة والعافية! وبذلك يطول عليهم هذا فيظنون أنهم لا يمكن أن يجدوا ما هو أشد من هذا الحال، حتى يتمنوا الخروج إما إلى جنة وإما إلى نار.

عمر الإنسان السرمدي

وبعد ذلك العمر الخامس، وهو عمر الإنسان الأبدي السرمدي، إما في جنة وإما في نار، إن كان في الجنة ففيه كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيه الخلود والرضا، وفيه النظر إلى وجه الله الكريم، وفيه من المنازل العالية والخير الذي لا انقطاع له ما لا يمكن أن يخطر على قلب أحد، ( أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ).

وإن كانت الأخرى نسأل الله السلامة والعافية! فالعيش في النار حدَّث ولا حرج، لا يسأل أحد عنه؛ ففيها من أنواع المذلة والهوان والشقاء والآلام والكدر ما لا يمكن أن يخطر على بال، وأعظم ما فيها من الكدر أنهم محجوبون عن الله؛ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ[المطففين:15-16]، لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، كلما نضجت جلودهم وسقطت وتوقعوا الخروج إذا هم يبدءون حياتهم من جديد، إذا أرادوا الخروج منها وصعدوا في سلالمها، وأذن لهم بذلك إذا وصلوا إلى آخر درجة من السلم أعيدوا إلى قعرها، فيمكث أحدهم آلاف السنين وهو يصعد في ذلك السلم يؤمل أن يخرج، ثم يعود أدراجه كأنه لم يبدأ، وتكبر أجسامهم وتضخم حتى ينالوا حظهم من العذاب؛ فمجلس أحدهم في النار كما بين مكة والمدينة، أربعمائة وستة عشر كيلو، ( وضرس أحدهم في النار كجبل أحد )، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقدامه في النار في السلاسل السود كالجبال السود المتراكمة، نسأل الله السلامة والعافية! وشرابهم فيها هو الماء الحميم الذي إذا شربوه انصهرت به الأمعاء فذابت؛ فتكون ماءً معه، وأكلهم فيها من الزقوم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وهم في ذلك لا ترويح عندهم إلا من عذاب إلى ما هو أشد منه؛ إذا أخرجوا من الحر الشديد والجحيم أدخلوا الزمهرير والبرد الشديد، وإذا أخرجوا من ذلك؛ ليأكلوا كان أكلهم أشد مما كانوا فيه، وإذا أخرجوا من ذلك؛ ليشربوا كان شربهم أشد مما كانوا فيه، وإذا عادت إليهم جلودهم من جديد كان الألم معه أشد مما كان مع الجلد السابق، نسأل الله السلامة والعافية! وهم بذلك في هذا الهوان الدائم والمذلة لا يمكن أن يجدوا أية رحمة، نسأل الله السلامة والعافية! ولا يجدون هواءً بارداً ولا نسيماً ولا نظرة ولا كلمة فيها سرور، ولا يجدون راحة من أي وجه من الوجوه، ومع ذلك لا يرجون الخروج منها، ويمكثون أربعين سنة وهم ينادون مالكاً خازن النار، يقولون: يا مالك! نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود، وهم ينتظرون جوابه أربعين سنة حتى إذا مكثوا أربعين سنة قال بعد ذلك: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ[الزخرف:77]؛ فيبدءون عمراً جديداً، ولا يكلمهم الله كلام رحمة، بل يقول لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ[المؤمنون:108]، نسأل الله السلامة والعافية!

فالعمر الأول: عمر الإنسان حينما أخرجه الله من ظهر آدم في حياة آدم ؛ فإن الله تعالى جاء بـآدم إلى بطن نعمان وهو وادي عرفة، فمسح ظهره فأخرج منه ذرية، فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك، خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية فقال آدم : أي ربي! من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون فناداهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا[الأعراف:172]؛ فنحن جميعاً قد دخلنا إلى الوجود في حياة آدم عليه السلام، وسألنا ربنا فأجبنا: قال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ))، فقلنا جميعاً: بَلَى[الأعراف:172]، ما منا من أحد يعيش على هذه الأرض إلا وقد قال: بلى، جواباً لرب العزة في ذلك العالم الأول.

ثم بعد ذلك أخذ الله علينا العهد أن نعبده وألا نعبد الشيطان، قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ[يس:60-61]؛ ولذلك فإن هذا العهد الذي أخذ الله علينا مطلوب من كل إنسان منا أن يجدده؛ فله موسم سنوي يجدد فيه وهو الوقوف بعرفة في نفس المكان الذي مسح الله فيه ظهر آدم، يجتمع الناس في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فيقفون لله سبحانه وتعالى مجددين لذلك العهد مقرين بتوحيده سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة:199-202].

والتجديد الثاني هو التجديد اليومي؛ فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول كل إنسان منا في كل يوم وليلة: ( اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، هو سيد الاستغفار، من قاله في يوم فمات فيه دخل الجنة، ومن قاله في ليلة فمات فيها دخل الجنة )، وهذا الذكر العظيم هو تجديد لهذا العهد مع الله؛ ولذلك تقول: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك) وتقول المرأة: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا أمتك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت). فقوله: (أنا على عهدك) هو هذا العهد الذي أخذ علينا في عالم الذر، (ووعدك) وهو وعده لمن مات لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، (ما استطعت) فالإنسان عرضة للانحراف عن هذا العهد والوعد؛ لكثرة ما يحيط به من الملهيات والمشغلات، (أعوذ بك من شر ما صنعت) فالإنسان يعلم أنه فرط في جنب الله وعصى وبالغ في المعصية، وابتعد كثيراً عن منهج الله وعن طريقه، وكل ذلك يقر به؛ فلذلك يقول: (أبوء لك بنعمتك علي) أي: أقر لك بنعمتك علي، فأعترف بها، "وأبوء بذنبي" أي: أعترف به، وأعلم أنني أستحق العقوبة في مقابله، لكنني أرجو المغفرة منك؛ فلذلك يقول: (وأبوء بذنبي فاغفر؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).

وهذا العمر الأول استمرت فيه حياتنا في تلك الحياة العجيبة منذ أخرجنا من ظهر آدم إلى أن يدخل الجنين في بطن أمه عند نفخ الروح فيه، يؤتى بروحه من السماء الدنيا فتنفخ في جسده وهو في بطن أمه؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج لما أتى السماء الدنيا وجد فيها آدم عليه السلام وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، قال: ( فسألت جبريل : ما هذه الأسودة التي إذا نظر آدم فيها قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى؟ فقال: نسم بنيه، أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، إذا نظر إليهم ضحك لكثرتهم، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة، إذا نظر إليهم بكى لكثرتهم )، فتلك الأسودة هي نسمات بني آدم وهو محبوسة عند آدم في السماء الدنيا، وفي كل يوم من الأيام ينزل من السماء الدنيا عدد ما ينفخ فيه الروح من الأجنة من تلك الأرواح، سواءً منها من كان من أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاء.