أرشيف المقالات

الشرق كما يراه الغرب:

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الصين الجديدة للأستاذ أحمد أبو زيد (تتمة ما نشر في العدد الماضي) ليست الديمقراطية مجرد نظام صوري من نظم الحكم تفرضه الدولة على رعاياها وتنتحله لسياسة أمورهم؛ بل الديمقراطية شيء أبعد من ذلك، إذ أنها تعتمد في أصلها على مزاج الشعب ذاته وعلى طبيعته وعلى مدى استعداده لتلقي ذلك النظام وقبوله؛ أو بقول آخر يتوقف نجاح الديمقراطية على مدى رغبة الشعب وميله إلى الاتحاد والتعاون والتضامن فيما بينهم، وعلى مقدار قابليته لتأليف الجماعات التعاونية المختلفة؛ فحيث يكون الناس أقدر على التضامن والتعاون فيما بينهم بروح سمحة يكون الأمل في قيام الديمقراطية كبيراً.
ومن هنا تنتقل السيدة جالبريت إلى دراسة الحركات التعاونية في الصين لترى مدى نجاحها.

وهي تعتقد أن الصينيين يميلون بطبعهم إلى التعاون والتآزر؛ فقد ظهرت منذ أقدم العصور أنواع شتى من الزمر والهيئات والجمعيات التي تقوم في أساسها على التعاون مثل جماعات العائلات (ويتألف كل منها من مائة عائلة) وغيرها.
فالهيئات التعاونية نشأت إذن في الصين منذ أمد بعيد واتخذت صوراً مختلفة وأغراضاً متفاوتة أشد التفاوت.
وقد قامت الحكومة الصينية في عام 1935 بإحصاء عام لحركات التعاون فزادت الجمعيات هناك على مائة ألف جمعية تعاونية، ولا تزال الحكومة المركزية تولى حركة التعاون جانباً كبيراً من اهتمامها. وقد خطت الحركة التعاونية في الصين خطوة جبارة منذ عام 1938، بعد ظهور جمعيات التعاون الصينية للصناعة: وما لاقته من نجاح واسع سريع.
وقد انبثقت فكرة هذه التعاونيات في أذهان بعض الصينيين ممن لهم سابق خبرة بالتعاون لأول مرة في أغسطس من عام 1938، إذ أدركوا أنه لا مندوحة لهم - أمام التوغل الياباني - عن إعادة تنظيم موارد الصين واستخدام كل القوى فيها حتى يمكن تعويض ما فقدته البلاد من المراكز الصناعية الرئيسية التي دمرتها الحرب.
وبدأت تلك الجماعة من الخبراء عملها بتقس الصين إلى مناطق ثلاث؛ فالمنطقة الأولى أزالوا منها كل وسائل الإنتاج وجميع المصانع حتى لا تقع في أيدي الأعداء، وخصصوا المنطقة الثانية لقيام بعض الصناعات الخفيفة التي يمكن نقلها بسهولة وسرعة إذا حدث ما يستدعي ذلك.
أما المنطقة الثالثة - وهي في وسط الصين حيث تكون بعيدة عن متناول الأعداء - فقد تركزت فيها كل الثروة الصناعية لإنتاج ضروريات الحرب.
وقد نتج عن ذلك التنظيم الجديد لمواجهة حاجات الحرب وأخطارها أن انضم كثير من المصانع بعضها لبعض واندمجت معاً وبذلك أمكن إيجاد تعاونيات لصنع الملابس الصوفية والزجاج ودبغ الجلود وتكرير السكر والطباعة وغير ذلك.
ولما كانت الصين تنقصها الأيدي العاملة وخاصة بسبب الحرب التي تستنفذ معظم العمال المدربين فإن الصناعة الآن تعود على المهاجرين المدنيين وعلى الجنود الجرحى؛ ولا شك أن هؤلاء تنقصهم الخبرة والدربة ولذلك بنيت مدارس تعاونية لتمرينهم على العمل، كما أنشئت لهم وحدات علاجية تعاونية؛ بل وأفضل من ذلك إنشاء مدارس تعاونية لتعليم أطفالهم على نفقة أصحاب المصانع.
وهكذا تنتهي الكاتبة إلى أن هذه الحركة التي أظهرتها ضرورة مواجهة أخطار الحرب قد عادت على الصين بخير عميم، وهي ترى أن هذه الحركة سوف تؤدي في نهاية الأمر - إن لم تتدخل الحكومة فيها وإن لم تدب الخلافات ويستبد الطمع مرة أخرى بأصحاب المصانع - إلى نوع من الاشتراكية الصحيحة الصالحة. ولكن مهما يكن من أمر التقدم الصناعي في الصين ومستقبله، فإن مشكلة الصين الأساسية لا تزال - ولن تزال - تنحصر في الميدان الزراعي.
فالصين بلد زراعي قبل كل شيء، وسوف تظل هكذا أبداً، والصينيون أنفسهم يعرفون ذلك، ولذا ظهرت حركة جديدة قوية هي بمثابة رد فعل لانصراف الناس إلى الاشتغال بصناعة الحرب، وهي تدعو إلى العودة إلى الأرض التي تقوم فيها حياة الصين كلها.
والحكومة ذاتها لا تألو جهداً في العمل على تحسين حال الزراعة وحال الفلاح؛ وهي تنفق في ذلك عن سخاء حتى في أيام الحرب؛ وترجو أن يعود عليها ذلك بالخير.
وقد أنشأت الحكومة مدارس زراعية تجريبية ومحطات للبحث - بلغ عددها الآن خمساً وعشرين مدرسة ومحطة - وكل غرضها هو إقامة التجارب لتحسين إنتاج الأرز والقمح والشعير وحفظها من الأوبئة والآفات.
كذلك تعمل الحكومة - عن طريق الجمعيات التعاونية الزراعية - على تحسين حال الفلاح ورفع مستوى المعيشة في القرى على العموم.
ولكن كل تلك الجهود لم تأت حتى الآن بالثمرات المنشودة.

ولعل ذلك يرجع أولاً وأخيراً إلى طبيعة الفلاح نفسه؛ فالفلاح الصيني - كأي فلاح آخر - محافظ بطبعه على القديم وعلى الوسائل التي اعتادها وورثها عن آبائه، فليس من الأمور السهلة الميسرة إقناع الفلاح بأن ينبذ وسائله العتيقة وأن يأخذ بتلك الوسائل والآلات الحديثة التي تحاول الجمعيات التعاونية ومدارس التدريب نشرها بين الفلاحين؛ وإن كان ذلك لا يمنع من أنه سوف يجيء اليوم - قرب أو بعد الذي تحل فيه تلك الوسائل الحديثة محل الوسائل القديمة لأربعة آلاف عام مضت. ولكن لا يمكن للصين ولا غيرها من الأمم أن تجني ثمار ما تقوم به من الإصلاحات المختلفة وأن تصل إلى ما تبغيه لنفسها من حياة سعيدة راقية ما دام شعبها يرسف في أغلال الجهل، فكل حركة يراد بها الإصلاح، وكل تحسين يدخله المصلحون على أي مظهر من مظاهر الحياة سوف يكون عبثاً، ولن يتأصل في الدولة ما لم يتعلم الشعب أولاً؛ فمحاربة الجهل والقضاء عليه ونشر التعليم بين الناس هو أول ما ينبغي للدولة أن تأخذ نفسها به إن أرادت لنفسها رقياً.
ولقد شعرت الصين بما يتهددها من جراء الجهل الفاشي بين الناس، فاتخذت وسائل كثيرة شتى للقضاء عليه، وقد أفلح بعض تلك الوسائل والبعض الآخر لم يفد شيئاً مذكوراً.
ولا شك أن القضاء على الجهل في بلد واسع كثير السكان كالصين يعتبر من أشق المهام؛ ولكن الدولة بذلت مع ذلك الكثير من الجهد والمال لتحقيق تلك الغاية.
ومن أشيع الوسائل المتبعة في الصين لذلك تنظيم سلسلة من الدروس القصيرة في المدن تجبر الدولة الناس على الاستماع إليها؛ إلا أن هذه الدروس القصيرة تنتهي سريعاً، وهي وإن كانت تعلم الناس بعض العلم وبعض القراءة إلا أن الكاتبة تشك في أن لها قيمة جدية لأن ما يتعلمه الإنسان سريعاً دون أن يبذل فيه جهداً كبيراً ينساه سريعاً أيضاً.
وفي الصين مشروع ضخم الآن يرمي إلى إنشاء مدرسة واحدة لكل جماعة تتألف من مائة عائلة، وذلك في بحر خمس سنوات؛ وسوف تقوم تلك المدارس بتعليم الصغار والكبار على السواء - ما بين الخامسة عشر والخامسة والأربعين - القراءة والكتابة.
والأمل أن يفلح هذا المشروع في القضاء على الجهل تماماً في الصين. ولكن من ناحية أخرى نجد في غرب الصين حركة فكرية ناهضة تتمشى معها ثورة صناعية يقوم بهما الشباب المتعلم المثقف.
وتشبه السيدة المؤلفة هذه الحركة الناشئة بحركة النهضة الأوربية (الرينسانس) وقد كان الدافع الأول عليها هو الحرب اليابانية أيضاً؛ فقد اضطرت الجامعات من جراء الغزو الياباني للصين أن تتقهقر من أماكنها في المدن الكبرى إلى المدن الصغيرة في غرب الصين تاركة وراءها كل آلاتها الفنية ومعامل الأبحاث التي كان الطلبة يتمرنون فيها، ومكتباتها الزاخرة بالكتب، وعلى ذلك كان يتعين على الطلبة أن يعتمدوا في حياتهم العلمية الجديدة على مجهوداتهم الخاصة، وقد أحدث ذلك بلا ريب انقلاباً هائلاً في طرق التعليم الجامعي ومناهجه ومادته أيضاً، وبدلاً من أن يدرس الطلبة تلك المعلومات التي كانوا يقرؤون عنها قي الكتب الأوربية، وبدلاً من أن يقوموا بتجاربهم العلمية في معاملهم المدرسية الصغيرة نزلوا إلى ميدان الحياة والواقع وذهبوا للعمل والدراسة في المصانع والمعامل والحقول، وبذلك أصبحت المناهج أقرب إلى الواقع وترمي إلى أهداف ونتائج واقعية.
ولا ريب أن الصين سوف تفيد كثيراً من جراء هذه النزعة الواقعية العملية في التعليم، وسوف يساعدها ذلك إلى حد كبير على حل مشكلاتها. إن الصين تبذل الآن بغير شك مجهودات جبارة في سبيل الاتجاه نحو مثال جديد ونحو حياة جديدة، ومع أن السيدة جالبريت تعترف بأن الصين قد أفلحت في تحقيق جانب كبير مما رسمته لنفسها إلا أنها مع ذلك تحتاط ولا تبالغ في قيمة الإصلاحات التي تمت بالفعل حتى الآن.
وهي ترى أن كثيراً من الوسائل والطرق التي تتبعها الصين وسائل عقيمة وطرق غير مجدية.
يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الأعمال التي أنجزت بالفعل وقعت في أيدي الأعداء فخربوها، كما أن سكان المقاطعات الصينية التي وقعت تحت سطوة اليابانيين قد تدهوروا ورجعوا إلى حالة من الانحطاط لا تبشر بخير؛ وذلك ذل العبودية التي فرضها المنتصرون عليهم من ناحية، وبتأثير الأفيون والمخدرات الفتاكة التي كان اليابانيون يوزعونها عليهم بسخاء من ناحية أخرى.
فقيام الحرب اليابانية ولو أنه كان أهم الدوافع التي دفعت الصين إلى التقدم وإلى التطلع إلى حياة أفضل من حياتهم التي حيوها آلاف السنين إلا أن الحرب كانت هي أيضاً العقبة الكؤود في سبيل استكمال تلك الحياة والوصول إليها.

ولقد انتصرت الصين أخيراً على غزاتها، ولكنها وقعت في حرب أهلية لا يعرف بالضبط مدى تأثيرها وإن كان لا شك في أن عاقبتها تكون وخيمة.
ثم إن مستقبل الصين ليس في يدها وحدها، فهو لذلك لا يزال متقلقلاً غير ثابت تتقاذفه كثير من التيارات، ولكن الصين في أحلك ساعاتها كانت تتمسك بأهداب الأمل وكانت تؤمن بنفسها وبمستقبلها، ودفعها ذلك الإيمان إلى العمل وإلى الإصلاح وهي مشغولة بالحرب.
ولعل ذلك الإيمان الراسخ يساعدها على التغلب على ما تلاقيه في طريقها من صعاب.
لقد قال كونفشيوس حكيم الصين (إن شعباً يعيش بلا إيمان لا يمكن أن يعيش). أحمد أبو زيد

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢