تفسير سورة المزمل [9-20]


الحلقة مفرغة

يقول الله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:9]. أي: لا إله إلا هو تكل إليه مهامك فإنه سيكفيكها. قال ابن جرير : ((فاتخذه وكيلاً)) أي: فيما يأمرك وفوض إليه أسبابك. ((رب المشرق والمغرب)) وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى. (( لا إله إلا هو)) أي: لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. ((فاتخذه وكيلاً)) أي: بما أنه هو رب المشرق والمغرب وبما أنه لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله معبود بحق سواه؛ فاتخذه وكيلاً بحيث لا تكل أمورك إلى غيره، وتوكل على الله وحده. فهذا مما يبين أن التوكل عبادة لا تنبغي أن توجه إلى غير الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تتوكل إلا على الله سبحانه وتعالى؛ لأن التوكل عبادة كالسجود والركوع لا ينبغي أن يوجه إلا إلى الله وإلا كان شركاً. وهذا هو معنى: حسبي الله ونعم الوكيل، ومعنى: توكلت على الله، ولذلك فإن تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64]: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، وليس معناها: حسبك الله والمؤمنون هم أيضاً حسبك فتوكل عليهم! لأن التوكل عبادة لا تنصرف إلا لله، فلا يصح أن يقول رجل لآخر: توكلت على الله وعليك؛ أو: ثم عليك؛ لأنها مثل قولك: سجدت لله ثم لك! فهل هذا يقبل؟ فكذلك لا ينفعك أن تقول: توكلت على الله ثم عليك؛ لأن التوكل لا يكون إلا على الله وحده فقط، بخلاف الأمور الأخرى، فيمكن أن تستعمل لفظة (ثم) على التراخي.

قال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا [المزمل:10-13]. ((واصبر على ما يقولون)) من الأذى والافتراء عليك. ((واهجرهم هجراً جميلاً)) أي: بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل؛ لأن الهجر الجميل هو أن تعرض عن مقابلة الأذى بأذى مثله، وهذا كقول الله تبارك وتعالى: وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ على الله [الأحزاب:48] أي: أعرض عن أذاهم وتوكل على الله. ((وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ)) أي: دعني والمكذبين، وكل أمرهم إلي، فإن لي قدرة على الانتقام منهم. ((أولي النعمة)) أي: أولي التنعم، ويريد بذلك عز وجل صناديد قريش ومترفيهم. ((ومهلهم قليلاً)) أي: تمهل عليهم زماناً أو إمهالاً قليلاً. ((إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا)) أي: قيوداً. ((وجحيماً)) أي: ناراً شديدة الحر والاتقاد. ((وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ)) أي: طعاماً يغص به آكله فلا يسيغه. ((وعذاباً أليماً)) أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه. كما يقول الله عز وجل في نعيم الجنة: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وقال سبحانه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]. أي: كما أن في الجنة ما لم يخطر على قلب بشر ولا يمكن لبشر أن يتصور كنهه، فكذلك النار فيها من العذاب ما لا يخطر على قلب بشر ولا يمكن أن يدرك كنهه، وهو فوق طاقة البشر ولا يستطيعون تخيله، فليست نار الآخرة كنار الدنيا. ((وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً)) أي: ونوعاً آخر من أنواع العذاب مؤلماً لا يعرف كنهه، فلا ترى موكولاً إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. والمعنى: إذا كان لدينا عذاب لا يتصور كنهه ولا يدركه أحد، فحقيق ألا تفوض أمرهم ولا تكل حسابهم ولا ترجو الانتقام منهم إلا من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أقدر على الانتقام منهم.

قال تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:14-16]. ((يوم ترجف الأرض والجبال)) أي: تضطرب وترتج بالزلزال. ((وكانت الجبال كثيباً مهيلاً)) أي: رملاً متفرقاً منثوراً. ((إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ)) أي: سوف يشهد عليكم -أيها الأمة- بإجابة من أجاب وإباء من أبى واستنكف عن الانقياد لشرعه. إذاً: هذا الخطاب لكل البشر من لدن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيام الساعة. ((كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً)) أي: يدعوه إلى الحق. ((فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا)) أي: أخذاً ثقيلاً، وذلك بإهلاكه ومن معه غرقاً في اليم. لقد كان فرعون يستعبد قوم موسى، وكان يطلب منهم أن يعبدوه، يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، فعتى عتواً كبيراً، وطغى طغياناً عظيماً؛ لأن قومه كانوا كالذيل تبعاً له.

قال تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]. أي: كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم ولم تؤمنوا بالحق يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر الله سبحانه بقوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل:14]، ثم قال: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [المزمل:15-16]. فإذا كان يوم القيامة حاله ما ذكر، وهو يوم يجعل الولدان شيباً، أي: الطفل الصغير يشيب رأسه من أهوال يوم القيامة، مع أنه لم يرتكب معصية ولا ذنباً، فكيف تكون الأهوال في حق هؤلاء؟! وهذا كلام جرى مجرى المثل وليس ذلك على حقيقته؛ لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير صفاتهم وصورهم في الآخرة إلى الشيب، والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعاً. على أي الأحول هذا الكلام نسبه القاسمي إلى ابن أبي الحديد الذي ينسب إليه شرح نهج البلاغة، فهو يستبعد أن يكون الكلام على حقيقته، وعندنا أنه لا يوجد ما يمنع أن يكون على حقيقته، وأن الأطفال تتغير صفاتهم وصورهم في الآخرة إلى الشيب؛ لكن نقول: إن هذا يحصل في أهوال يوم القيامة وليس في ولدان الجنة. يقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة له: والهم يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم أي: الشخص البدين المليء إذا أصابه الهم فإنه يعود نحيفاً، وكذلك الهم يشيب ناصية الصبي، ويوصله إلى الهرم والكبر.

قال تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل:18-19]. ((السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ))، قال الزمخشري : وصف لليوم بالشدة أيضاً، وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟! هنا ملاحظة في وصف السماء بقوله: (منفطر) مع أن السماء لفظ مؤنث، ووصفت هنا بالمذكر ولم تؤنث الصفة لأمور: منها تأويلها بالمشتق، ومنها: أن السماء ذات انفطار نحو مرضع وحائض، ومنها: أن كلمة السماء قد تذكر وقد تؤنث. قوله تعالى: ((منفطر به)) هذه الباء سببية، أي: بسبب يوم القيامة، أو للاستعانة، أو بمعنى في، أي أن السماء منفطر فيه. ((كان وعده مفعولاً)) أي أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده، فاحذورا ذلك اليوم. يقول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ)) أي: أن هذه الآيات الناطقة بالوعيد الشديد. ((تذكرة)) أي: موعظة لمن اعتبر بها واتعظ. ((فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)) أي: بالإيمان به والعمل بطاعته.

يقول الله تبارك وتعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20]. ((إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ)) أي أنك تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتشمر للعبادة فيه هذا التشمير؛ امتثالاً لأمره وتبتلاً إليه. ((وطائفة من الذين معك)) أي: يعلم أنهم يقومون معك كذلك. ((والله يقدر الليل والنهار)) أي: يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يستويان، وتارة يأخذ من الليل في النهار فيصير النهار أطول كما في الصيف، وتارة يأخذ من النهار في الليل فيطول الليل كما في الشتاء، مما يشق لأجله المواظبة على قيامه لما علمه منكم. أو المعنى: ((والله يقدر الليل والنهار)) أي: يقدر فيهما ما شاء من الأوامر، ومنه أن يقدر لكم الوقت الذي تقومون فيه على سبيل التخيير والتيسير، كما جاء في أول السورة حيث قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:2-4] فهذا التخيير للترخيص والتيسير. ((علم أن لن تحصوه)) الهاء تعود إلى قيام الليل على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، أي: علم أنكم لن تطيقوا ولن تقدروا على قيام الليل كله؛ لأن في هذا حرجاً ومشقة وعسراً وإنهاكاً لأبدانكم. ((فتاب عليكم)) أي: عاد عليكم باليسر ورفع الحرج. ((فاقرءوا ما تيسر منه)) أي: اقرءوا في صلاة الليل ما تيسر بلا تقدير، أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم رحمة بأنفسكم، وفيه رد عن غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه شوقاً إلى العبادة وتوقاً إلى الكمالات. قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن يحيد عما أمر به من قيام. ((علم أن سيكون منكم مرضى)) أي: يضعفهم المرض عن قيام الليل. ((وآخرون يضربون في الأرض)) للتجارة وغيرها فيقعدهم ذلك عن قيام الليل. ((وآخرون يقاتلون في سبيل الله)) أي: لنصرة الدين فلا يتفرغون للقيام في الليل. ((فاقرءوا ما تيسر منه)) أي: من القرآن ولا تحرموا أنفسكم؛ لأنه سبحانه وتعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

ذكر الخلاف في وجوب قيام الليل بسورة المزمل

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذهب كثير من السلف إلى أن الآية الأولى فيها إيجاب قيام الليل، ثم هذه الآية في آخر السورة نسخت هذا الوجوب، ولذلك قال: ((فتاب عليكم)) أي: برفع الوجوب ونسخه للتيسير. يقول ابن كثير : روى ابن جرير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: أيها الناس! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه، فنزل القرآن: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2] إلى آخر الآيات، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق)، أي: كانوا من شدة قيامهم في الليل ومكابدتهم المشقة الشديدة امتثالاً للأمر الإلهي يربط الرجل الحبل ويتعلق به ويستند عليه أثناء صلاة القيام، حتى لا يقع على الأرض؛ من شدة ما كانوا يلقون من المشقة. يقول: (حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله سبحانه وتعالى ما يبتغون من رضوانه، فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل). قال ابن كثير : والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك وإنما هي مكية.

فائدة في تعدد أسباب النزول

يقول القاسمي : وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: ونزلت الآية، الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها كما بيناه مراراً. إذاً: هذا دليل من الأدلة التي تؤيد هذا البيان الذي امتاز القاسمي رحمه الله تعالى ببيانه في كل مناسبة كما تلاحظون، بخلاف التفاسير الأخرى. فالقارئ أحياناً إن لم يكن عنده خبر في هذه القضية يضطرب ويقول: هل معظم الآيات تعدد فيها النزول؟ والجواب: أنه لم يتعدد النزول في الغالب، لكن قد يكون المقصود بقولهم: نزلت في كذا ونزلت في كذا، أي: أن حكم هذه الواقعة مما يشمله عموم هذه الآية، أو أن معناها يشمل هذه الواقعة، فكذلك هنا قوله في هذا الحديث:(ونزل القرآن: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2]) هو بمعنى الاستشهاد بالآية في قضية تنطبق عليها، وليس المقصود إطلاق سبب النزول في كل حالة. وقد يتعدد النزول، لكن هذا قليل، فلا يتوهمن متوهم أن ما يوجد في بعض كتب التفاسير من ذكر أسباب كثيرة للنزول بعد صحة السند، بل إذا صح السند في أكثر من سبب، فإما أن يكون تكرر النزول، وإما يحمل على هذا المعنى الذي ذكرناه، وهو شمول المعنى وعمومه.

ذكر الأقوال في وجوب قيام الليل ونسخه

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً، فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم وأنزل الله بعد هذا: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى [المزمل:20] إلى آخر الآية، فوسع الله وله الحمد ولم يضيق). وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1] قاموا بها حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20] قال: فاستراح الناس. وقال ابن حجر في شرح صحيح البخاري : ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقاً، ثم نسخ بالخمس، ثم نسخ بالصلوات الخمس، وأنكره المروزي . وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة. وقال السيوطي في الإكليل: قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2] هو منسوخ بعد أن كان واجباً بآخر السورة، وقيل: محكم. واستدلت طائفة على لزومه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ويستدلون أيضاً بآية أخرى على وجوب القيام على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79] واستدل به آخرون على وجوبه على الأمة أيضاً، ولكن ليس الليل كله بل صلاة ركعتين، وعليه الحسن وابن سيرين . يقول القاسمي : هناك من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه ليس منسوخاً وأنه للندب، ويرى أن آخر السورة تعليم لهم بالرفق بأنفسهم، وحملوا الآية على الندب، فبماذا يجيب هذا الفريق الذي يرى أن الأمر الأول على الندب عن قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20] إلى آخره؟ يقولون: إن المقصود بآخر السورة إرشادهم إلى أن يرفقوا بأنفسهم؛ لأنه منّ عليهم باليسر ورفع عنهم الآصار. وفيه ما يدل على شدة اهتمام وعناية الصحابة بالنوافل، يعني على هذا المذهب الذي يقول إن الأمر محكم وإن الأمر بقيام الليل على الندب، ولم يفرض على الأمة، ومع ذلك اجتهدوا هذا الاجتهاد حتى تاب الله عليهم بالتخفيف، وحتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه. ويدل عليه أثر عائشة رضي الله تعالى عنها في ربطهم الحبل للتعلق به استعانة على قراءة القرآن وكثرة تلاوته، ومعروف حديث زينب : (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً مربوطاً بين ساريتين في المسجد فقال: لمن هذا الحبل؟ قالوا: إنه لـزينب اتخذته حتى إذا قامت من الليل تتكئ عليه حتى لا تقع من شدة التعب، فأمر بقطعه وقال: عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا).

معنى قوله: (فاقرءوا ما تيسر منه)

قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]: وعبر عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة الإسراء: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء:110] أي: بقراءتك. وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذه الآية على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية أجزأه، واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن). وقد أجابهم الجمهور بحديث: عبادة بن الصامت رضي الله عنه وهو في الصحيحين، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب). أيضاً يرد على الأحناف بحديث المسيء صلاته أن في بعض الروايات: (ثم اقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم القرآن) ولا شك أن الراجح والله تعالى أعلم أن قراءة الفاتحة في الصلاة واجبة. قوله تبارك وتعالى: ((وآخرون يقاتلون في سبيل الله)) هذا علم من أعلام نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن كثير : وهذه الآية بل السورة كلها مكية، ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوة؛ لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.

فائدة تتعلق بلام العهد

قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل:15-16] الألف واللام في كلمة (الرسول) للعهد أي: أن الرسول هو موسى عليه السلام، بخلاف قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فالرسول هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة قوله: (القرآن).

فضيلة التجارة

قوله تعالى: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) فيه فضيلة التجارة لسوقها في الآية مقرونة بالجهاد. أخرج سعيد بن منصور أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله، ثم تلا هذه الآية: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)). وورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن تسعة أعشار أرزاق أمتي جعلت في التجارة)؛ لأن فيها توكلاً على الله سبحانه وتعالى.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ذهب كثير من السلف إلى أن الآية الأولى فيها إيجاب قيام الليل، ثم هذه الآية في آخر السورة نسخت هذا الوجوب، ولذلك قال: ((فتاب عليكم)) أي: برفع الوجوب ونسخه للتيسير. يقول ابن كثير : روى ابن جرير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: أيها الناس! اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديم عليه، فنزل القرآن: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:1-2] إلى آخر الآيات، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق)، أي: كانوا من شدة قيامهم في الليل ومكابدتهم المشقة الشديدة امتثالاً للأمر الإلهي يربط الرجل الحبل ويتعلق به ويستند عليه أثناء صلاة القيام، حتى لا يقع على الأرض؛ من شدة ما كانوا يلقون من المشقة. يقول: (حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله سبحانه وتعالى ما يبتغون من رضوانه، فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل). قال ابن كثير : والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك وإنما هي مكية.