تفسير سورة القلم [1-33]


الحلقة مفرغة

هذه سورة (نون) وتسمى (سورة القلم)، وهي سورة مكية، وآيها ثنتان وخمسون آية، وهي السورة الثامنة والستون في ترتيب المصحف. يقول الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم:1]. (ن) بالسكون على الوقف، فهي ساكنة إذا وقفت، أما إذا وصلت فاختلف القراء، فمنهم من أدغم النون في الواو، وهم أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب ، والباقون بالإظهار. و(نون) اسم للحرف المعروف قصد به التحدي، أو هو اسم، والكلام فيه كالكلام على سائر الحروف المقطعة في أوائل السور. وقد يكون (نون) مفعولاً لفعل تقديره (اذكر) أو مرفوعاً خبراً لمحذوف. (والقلم) هذا قسم، وهو القلم الذي يخط ويكتب به، (وما يسطرون) (ما) مصدرية أو موصولة. وللمفسرين أقوال عدة في المراد بهذا القلم: فمن قائل: القلم الذي يكتب به. ومن قائل: الذي كتب الله سبحانه وتعالى به كل ما هو كائن في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس : هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وعن الوليد بن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بني! اتق الله، واعلم أنك لن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحدة والقدر خيره وشره، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: يا رب! وما أكتب؟ فقال: اكتب القدر. فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد). وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى على عباده. وقد فصل أفضل وأحسن تفصيل عن القلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (التبيان في أقسام القرآن)، وذكر فيه أقوالاً كثيرة جداً، فليرجع إليه. وللشعراء أيضاً صولات وجولات في المفاضلة بين السيف والقلم أيهما أفضل، ومنها قول الشاعر: إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم وعدوه مما يكسب المجد والكرم كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم وقوله: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ يعني: وما يكتبون. والمقصود الملائكة حين يكتبون أعمال بني آدم، أو المعنى: ما يكتبه الناس ويتفاهمون به ويحصل به البيان. (ما) موصلة، أو مصدرية: فإذا قلنا إنها موصولة فالمعنى: والذي يسطرون به. وإذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى: والقلم وسطرهم. ويراد به كل من يسطر، أو المراد به الحفظة، على خلاف بين المفسرين في ذلك.

قال تعالى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:2]. (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) هذا جواب القسم، وهو نفي، وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه مجنون به شيطان. ويأتي قولهم الذي قصه الله تعالى عز وجل في قوله وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]، فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، أي: برحمة ربك، فمعنى النعمة هنا الرحمة. ويحتمل أن النعمة مقسم به، وذلك على أن الباء باء القسم، والتقدير: ما أنت -ونعمة ربك- بمجنون. لأن الواو والباء من حروف القسم. وقيل: هو كما تقول: ما أنت بمجنون والحمد لله. وقيل: معناه: ما أنت بمجنون والنعمة لربك. كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك. أي: سبحان الله والحمد لله. والباء في (بنعمة ربك) متعلقة بمجنون منفياً كما يتعلق بغافل مثبتاً كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل، ومحل قوله تعالى مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ، النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك. (( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا )) أي: ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوة (( غَيْرَ مَمْنُونٍ )) أي: غير مقطوع ولا منقوص. يقال مننت الحبل إذا قطعته، وحبل منين: إذا كان غير متين. قال الشاعر: غبس كواسب لا يمن طعامها وقال مجاهد : (غير ممنون): غير مكبل بالمن. وقال الضحاك : أجراً بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدر، والتفضل غير مقدر. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم قصد به تكذيب المشركين في إفكهم المحدث عنه بآية: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6]. (( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا )) أي: ثواباً على أذى المشركين واحتمال هذا الطعن والصبر عليه (( غَيْرَ مَمْنُونٍ )) يعني: غير منقوص ولا مقطوع. قال ابن جرير : من قولهم: حبل منين إذا كان ضعيفاً. وتقول: قد ضعفت منته: أي قوته. أو: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير ممنون به عليك، زيادة في العناية به صلى الله عليه وسلم والتنويه بمقامه.

قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. قال ابن جرير : أي أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه. قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) تعني: كان خلقه كما هو في القرآن. وقال الرازي : هذا كالتفسير لقوله: (بنعمة ربك)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:2-4]، فهذا كالتفسير لقوله: (بنعمة ربك). والدلالة القاطعة على براءته مما رمي به من الجنون؛ لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرضية، والفصاحة التامة، والعقل الكامل، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة؛ كانت ظاهرة منه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت ظاهرة محسوسة فوجودها ينافي حصول الجنون، فكذب من أضافه إليه وضل، بل هو الأحرى بأن يرمى بما قذف به. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قال ابن عباس ومجاهد : على دين عظيم من الأديان. والخلق يأتي أحياناً بمعنى الدين، كقوله تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137] أي: دين الأولين. فيقول ابن عباس ومجاهد : (على خلق): على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحب إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن خلقه صلى الله عليه وسلم كان القرآن). وقال علي رضي الله عنه وعطية : هو أدب القرآن. وقيل: رفقه بأمته وإكرامه إياهم. وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه مما نهى الله عنه. وقيل: إنك على طبع كريم. وحقيقة الخلق في اللغة هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب، فإنه يصير كأنه مفطور عليه وكأنه مسلوك به، وأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم. والخيم بمعنى السجية والطبيعة، لا واحد له من لفظه، وسيكون الخلق هو الطبع المتكلف، والخيم: الطبع الغريزي. وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال: وإذا ذو الفضول ضن على المو لى وعادت لخيمها الأخلاق أي: رجعت الأخلاق إلى طبائعها.

فضيلة حسن الخلق

ثم يعلق القرطبي بعدما ذكر الخلاف في المقصود بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فقال: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك. ولذلك قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، ولمُ يذكَر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد : سمي خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق). وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أدبني ربي تأديباً حسناً إذ قال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، فلما قبلت ذلك منه قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ). ولم يعزه القرطبي إلى أي مصدر. وروى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم)، وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه. (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج)، وقال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون) والمتشدق: الذي يتطاول على الناس ويبذو عليهم بالكلام البذيء. هذه جملة من الأحاديث في فضيلة حسن الخلق، وهو ما اتصف به النبي صلى الله عليه وسلم وزكاه الله تبارك وتعالى به. وهذه الآية لا أقول: تحتاج شهوراً ولا سنوات، بل تحتاج عمراً حتى يستطيع الإنسان أن يعطيها حقها من التأمل في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من أنه في هذا الوقت المتأخر قام بعض العلماء الأفاضل فجمع موسوعة كاملة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحد المؤلفين لها فضيلة الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد ، إمام الحرم المكي، حيث أشرف على تأليف موسوعة اسمها (روضة النعيم في أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، في حوالي اثني عشر مجلداً ضخماً في ذكر أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. فلا شك أننا مهما أطلنا الكلام لم نوف هذه الآيات حقها، فأعظم ما مدح الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الوصف الشامل الجامع. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، فسيرته صلى الله عليه وسلم لا شك أنها هي التي تشرح لنا كيف كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيماً، فنحيل من استطاع الرجوع إلى هذه الموسوعة الرائعة التي فيها بيان وتفسير لأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

ثم يعلق القرطبي بعدما ذكر الخلاف في المقصود بقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فقال: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال، وسئلت أيضاً عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك. ولذلك قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، ولمُ يذكَر خلق محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر. وقال الجنيد : سمي خلقه عظيماً لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى. وقيل: سمي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق). وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أدبني ربي تأديباً حسناً إذ قال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، فلما قبلت ذلك منه قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ). ولم يعزه القرطبي إلى أي مصدر. وروى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء)، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم)، وقال الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه. (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: الفم والفرج)، وقال: هذا حديث صحيح غريب. وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حسن الخلق فقال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال المتكبرون) والمتشدق: الذي يتطاول على الناس ويبذو عليهم بالكلام البذيء. هذه جملة من الأحاديث في فضيلة حسن الخلق، وهو ما اتصف به النبي صلى الله عليه وسلم وزكاه الله تبارك وتعالى به. وهذه الآية لا أقول: تحتاج شهوراً ولا سنوات، بل تحتاج عمراً حتى يستطيع الإنسان أن يعطيها حقها من التأمل في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من أنه في هذا الوقت المتأخر قام بعض العلماء الأفاضل فجمع موسوعة كاملة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أحد المؤلفين لها فضيلة الدكتور صالح بن عبد الله بن حميد ، إمام الحرم المكي، حيث أشرف على تأليف موسوعة اسمها (روضة النعيم في أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، في حوالي اثني عشر مجلداً ضخماً في ذكر أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم. فلا شك أننا مهما أطلنا الكلام لم نوف هذه الآيات حقها، فأعظم ما مدح الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الوصف الشامل الجامع. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ، فسيرته صلى الله عليه وسلم لا شك أنها هي التي تشرح لنا كيف كان خلقه صلى الله عليه وسلم عظيماً، فنحيل من استطاع الرجوع إلى هذه الموسوعة الرائعة التي فيها بيان وتفسير لأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم:5-7]. (فستبصر ويبصرون) أي: أولئك الجاحدون المتفوهون بتلك العظيمة، وهي زعمهم أو رميهم النبي صلى الله عليه وسلم. بالجنون. يعني: ستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق والباطل. (بأيكم المفتون)، يعني: أيكم الذي فتن بالجنون، فهو كقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)[المؤمنون:20] يعني: تنبت الدهن، وقوله يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:6] أي: أن الباء زائدة. وقيل: الباء ليست بزائدة، والمعنى: بأيكم الفتنة، وهو مصدر على وزن المفعول، ويكون معناه (الفتون)، أي: فستبصر ويبصرون بأي الفريقين الجنون، أفي الفرقة التي أنت فيها من المؤمنين أم بالفرقة الأخرى؟ وهل الفتنة فيمن كوشف بأسرار العلوم وأوتي جوامع الكلم، أم فيمن حجب نفسه عن آيات الله والعبر، وقتل بعبادة الصنم؟ والمفتون: المجنون الذي فتنه الشيطان. وقيل: المفتون المعذب. من قول العرب: فتنت الذهب بالنار إذا حميته، ومنه قوله تعالى: في الوليد بن المغيرة وأبي جهل : يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات:13] أي: يعذبون. قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أي: إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين هم على الهدى، وسيجازي كلاً غداً بعمله، فهو أعلم بمن حاد عن طريق الحق الذي أمر به، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، أي: بمن اتبع الحق وسلك سبيله.

قال تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم:8]. أي المكذبين بآيات الله وما جاءهم من الحق. قال الزمخشري هذا تهييج وإلهاب على معاصاتهم، فلا يطيعهم. فهنا نهاه تعالى عن مهادنة المشركين؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه، فبين الله تعالى أن مهادنتهم كفر، قال تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]. فهل يفهم من هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كاد أن يركن إليهم شيئاً قليلاً؟ إن قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74] يفهم منه العكس، فهي تمنع وجود هذا الركون أو قليل منه؛ لأن (لولا) حرف امتناع لوجود، فلوجود التثبيت امتنع منه صلى الله عليه وسلم الركون إليهم شيئاً قليلاً. وقيل: قوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ أي: فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث.

قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]. أي: ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم. وعن ابن عباس : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك. وقال الفراء والكلبي : ودوا لو تلين فيلينون لك. وقال مجاهد : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك. وقال الربيع وأنس : ودوا لو تكذب فيكذبون. وقال الحسن : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم. وعنه أيضاً: ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم. وقال زيد بن أسلم : ودوا لو تنافق وترائي فينافقون ويراءون. وقيل: ودوا لو تضعف فيضعفون. وقيل: ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم. وقيل: طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة. فهذه اثنا عشر قولاً، قال ابن العربي : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقول كلها دعاوى على اللغة والمعنى، وأمثلها قولهم: ودوا لو تكذب فيكذبون، ودوا لو تكفر فيكفرون. وعلق القرطبي على قول ابن العربي بأنها كلها صحيحة -إن شاء الله تعالى- على مقتضى اللغة والمعنى، فإن الدهان: اللين والمصانعة. وقيل: مجاملة العدو وممايلته. وقيل: المقاربة في الكلام، والتليين في القول، فلا شك أنها على هذا الوجه مذمومة، ولا شك أن هذا كله لم يقع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول مجاهد في قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ : ودوا لو تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك. وإنما هو مأخوذ من الدهن أو الدهن، شبه التليين في القول بتليين الدهن.

وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [القلم:10-15]. (حلاف) صيغة مبالغة، يعني: كثير الحلف؛ وقال الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. فهذه الآية فيها زجر قبيح عن كثرة الحلف؛ لأن بعض الناس يعتادون كثرة الحلف فيما يستحق وما لا يستحق، فهذه إشارة إلى ذم من يكثر الحلف، وأن الإنسان لا يحلف إلا في الأمور العظيمة، أو الأمور المهمة والجسيمة، لكن الحلف في كل شيء حتى وإن كان تافهاً ينبغي أن يتحرج منه الإنسان.

حكم الحلف بالله

ومع هذا نقول: إن الحلف عبادة من العبادات القولية التي تؤدى باللسان، وفيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد لله، لذلك لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بأفعاله، أما الحلف بالمخلوقين فهو شرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك )، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بنبي ولا بولي ولا بملك، ولا أبٍ، ولا شرف، ولا غير ذلك، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أن واحداً من الصحابة حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذه عبادة ولا يجوز أن تصرف إلا الله. والحلف بالله وراءه معان كثيرة وعظيمة، منها أنك تحلف بمن يعلم أنك صادق، وهو الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما تكنه النفوس وتخفيه، وأنه قادر على عقابك إن كنت كاذباً، وقادر على إثابتك إن كنت صادقاً. فالمسلم يحلف تعظيماً لله، ويدخر الحلف للأمور العظيمة التي تستحق، بخلاف ما عليه بعض النصارى، حينما يترفعون عن الحلف ويعتبرون أن الحلف شيء مذموم، فالحلف ليس مذموماً إلا إذا كان كثيراً، أو إذا كان على كل شيء قليل أو حقير، لكن الحلف في موضعه وبشروطه هو عبادة وتوحيد لله تبارك وتعالى، فبعض المسلمين يقلدون النصارى، فيقول لك: صدقني. وهذه كلمة لا بأس بها في حد ذاتها؛ لكنه استعارها من ألفاظ الكفار، ولا ينبغي للإنسان أن يستعملها حتى لا يبدو منه أنه يستحسن ما عليه الكفار من أنهم يحرمون الحلف، فليس كل حلف مذموماً، والأدلة على هذا أكثر من أن تذكر. قوله تعالى هنا: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هذه أول صفة من صفات الشخص الذي ذمه الله هنا، وهو أنه كثير الحلف، يقول الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومنه قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، على أحد التفسيرين.

معنى المهين والهماز بنميم المناع للخير

والمهين: حقير الرأي والتمييز. هَمَّازٍ ، عياب طعان. قال ابن جرير : والهمز أصله الغمز، فقيل للمغتاب: هماز لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون، وذلك غمز عليهم. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقال لحديث الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ أي: بخيل بالمال ضنين به. والخير هنا المال، ولهذا نرى آيات في القرآن الكريم يطلق فيها الخير على المال، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] وقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً. فكذلك هنا مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي: بخيل بالمال ضنين به. وقيل: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ صاد عن الإسلام. (معتدٍ) أي: على الناس متجاوز في ظلمهم، (أثيم) أي: كثير الآثام. (عتل): جافٍ غليظ. بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ دعي ملصق في نسب القوم وليس منهم. أو (زنيم) بمعنى أنه مريب يعرف بالشر. قال ابن جرير : ومعنى (بعد ذلك) في هذا الموضع (مع). أي: عتل مع ذلك زنيم. وقال الشهاب : الإشارة لجميع ما قبله من النقائص لا للأخير فقط. يعني أن الله سبحانه وتعالى ذم هذا الشخص المذكور فقال: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)) أي: بعد هذه الأوصاف المذكورة هو زنيم. وقال بعض العلماء: الإشارة في قوله: (بعد ذلك) إلى صفة العتل، أي: هو عتل مع كونه زنيماً. وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القبح، فـ(بعد) هنا، كـ(ثم) الدالة على التفاوت الرسلي، كما قال تبارك وتعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]. واختلف المفسرون في المقصود بالخطاب، قيل: هو الأخنس بن شريق . وقيل: الأسود بن عبد يغوث . وقيل: عبد الرحمن بن الأسود . وقيل: الوليد بن المغيرة . ولعل الأشهر أنها في الوليد بن المغيرة . ثم يقول الله تبارك وتعالى: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ قال الزمخشري : أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . متعلق بقوله .(ولا تطع). يعني: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ...)) إلى قوله: (( أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ))، يعني: ولا تطعه مع هذه المساوئ لأن كان ذا مال وبنين، فما فائدة المال والبنين إذا كان متصفاً بهذه الصفات والأخلاق السيئة كلها.؟ يعني: لا تطعه ليساره وحظه من الدنيا. ويجوز أن تكون متعلقة بما يأتي، وهو إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ يعني: لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين. كذب بآياتنا. ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا)) أي: تقرأ عليه آيات كتابنا (قال أساطير الأولين) أي: هذا مما كتبه الأولون؛ استهزاءً به وإنكاراً أن يكون ذلك من عند الله تبارك وتعالى.

معنى قوله: (عتل)

وقوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ العتل: هو الجافي الشديد في كفره. وقيل: هو الشديد الخصومة بالباطل. وقيل: هو الذي يعتل الناس فيجرهم إلى حبس أو عذاب، مأخوذ من (العتل) وهو الجر، ومنه قوله تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ [الدخان:47]، يعني: جروه، وفي (الصحاح): عتلت الرجل أعتله وأعتل، إذا جذبته جذباً عنيفاً، ورجل يعتل، وقال يصف فرساً: نقرعه قرعاً ولسنا نعتله. والعتل: الغليظ الجافي، والعتل -أيضاً-: الرمح الغليظ، ورجل عتل بين العتلة أي سريع إلى الشر، ويقال: لا أنعتل معك: أي لا أبرح مكاني. وقال عبيد بن عمير : الأكول الشروب القوي الشديد، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة. يعني: عند الله سبحانه وتعالى. وقال علي بن أبي طالب والحسن : العتل الفاحش السيئ الخلق. وقال معمر : هو الفاحش اللئيم. قال الشاعر: بعتل من الرجال زنيم غير ذي نجدة وغير كريم وفي صحيح مسلم عن حارثة بن وهب رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ قالوا: بلى. قال: كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره)، أي: يستضعفه الناس ويحتقرونه ويتجبرون عليه لضعف حاله في الدنيا، ومعناه: متواضع متذلل خاملٌ واضع من نفسه. وقال القاضي : قد يكون الضعف هنا رقة القلوب ولينها وإخباتها للإيمان. قال (ألا أخبركم بأهل النار؟ قالوا بلى.قال: كل عتل جواظ مستكبر)، وفي رواية عنه: (كل جواظ ذليل متكبر)، والجواظ قيل: هو الجموع المنوع. وقيل: الكثير اللحم المختال في مشيته. وقيل: الجواظ: العتل الذي جمع ومنع. والعتل الذميم الشديد الخلق الرحيب الجوف، الوفير الخَلْق، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم.

معنى قوله: (زنيم)

قوله: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ، والزنيم الملصق بالقوم الدعي. عن ابن عباس وغيره. قال الشاعر: زنيم تداعاه الرجال زيادة كما زيد في عرض الأديم الأكارع وعن ابن عباس أيضاً: أنه رجل من قريش كانت له ذنبة كذنبة الشاة يعني: جلدة متدلية. وروى عنه ابن جبير أنه الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها. وقال عكرمة : هو اللئيم الذي يعرف بلؤمه كما تعرف الشاة بزنمتها. قيل: كان الوليد دعياً في قريش ليس من نسخهم -والنسخ هو الأصل- ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة من مولده، قال الشاعر: زنيم ليس يعرف من أبوه بغي الأم ذو حسب لئيم وقال حسان : وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد وعن علي : الزنيم: الذي لا أصل له. يقول القرطبي : معظم المفسرين على أن هذا نزل في الوليد بن المغيرة ، وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام، وينادي: ألا لا يوقدن أحد تحت برمة، ألا لا يدخنن أحدكم بكراع، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة . وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً أو أكثر، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً، فقيل: مناع للخير لأنه كان لا يعطي المساكين، وفيه نزل قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [فصلت:6-7]. وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة، فلذلك سمي (زنيماً) يعني: بعيداً وملحقاً بالقوم وليس منهم. وقال ابن عباس : في هذه الآية نعت فلم يعرف حتى قتل فعرف، وكان له زنمة في عنقه معلقة يعرف بها. وقال مرة الهمداني : إنما ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة.

ومع هذا نقول: إن الحلف عبادة من العبادات القولية التي تؤدى باللسان، وفيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وفيها توحيد لله، لذلك لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى أو بأسمائه أو بصفاته أو بأفعاله، أما الحلف بالمخلوقين فهو شرك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك )، (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت). فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بنبي ولا بولي ولا بملك، ولا أبٍ، ولا شرف، ولا غير ذلك، حتى النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أن واحداً من الصحابة حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعرفون أن هذه عبادة ولا يجوز أن تصرف إلا الله. والحلف بالله وراءه معان كثيرة وعظيمة، منها أنك تحلف بمن يعلم أنك صادق، وهو الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ما تكنه النفوس وتخفيه، وأنه قادر على عقابك إن كنت كاذباً، وقادر على إثابتك إن كنت صادقاً. فالمسلم يحلف تعظيماً لله، ويدخر الحلف للأمور العظيمة التي تستحق، بخلاف ما عليه بعض النصارى، حينما يترفعون عن الحلف ويعتبرون أن الحلف شيء مذموم، فالحلف ليس مذموماً إلا إذا كان كثيراً، أو إذا كان على كل شيء قليل أو حقير، لكن الحلف في موضعه وبشروطه هو عبادة وتوحيد لله تبارك وتعالى، فبعض المسلمين يقلدون النصارى، فيقول لك: صدقني. وهذه كلمة لا بأس بها في حد ذاتها؛ لكنه استعارها من ألفاظ الكفار، ولا ينبغي للإنسان أن يستعملها حتى لا يبدو منه أنه يستحسن ما عليه الكفار من أنهم يحرمون الحلف، فليس كل حلف مذموماً، والأدلة على هذا أكثر من أن تذكر. قوله تعالى هنا: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هذه أول صفة من صفات الشخص الذي ذمه الله هنا، وهو أنه كثير الحلف، يقول الزمخشري : وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. ومنه قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة:224]، على أحد التفسيرين.

والمهين: حقير الرأي والتمييز. هَمَّازٍ ، عياب طعان. قال ابن جرير : والهمز أصله الغمز، فقيل للمغتاب: هماز لأنه يطعن في أعراض الناس بما يكرهون، وذلك غمز عليهم. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقال لحديث الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ أي: بخيل بالمال ضنين به. والخير هنا المال، ولهذا نرى آيات في القرآن الكريم يطلق فيها الخير على المال، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] وقوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] يعني: إن ترك مالاً. فكذلك هنا مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي: بخيل بالمال ضنين به. وقيل: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ صاد عن الإسلام. (معتدٍ) أي: على الناس متجاوز في ظلمهم، (أثيم) أي: كثير الآثام. (عتل): جافٍ غليظ. بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ دعي ملصق في نسب القوم وليس منهم. أو (زنيم) بمعنى أنه مريب يعرف بالشر. قال ابن جرير : ومعنى (بعد ذلك) في هذا الموضع (مع). أي: عتل مع ذلك زنيم. وقال الشهاب : الإشارة لجميع ما قبله من النقائص لا للأخير فقط. يعني أن الله سبحانه وتعالى ذم هذا الشخص المذكور فقال: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)) أي: بعد هذه الأوصاف المذكورة هو زنيم. وقال بعض العلماء: الإشارة في قوله: (بعد ذلك) إلى صفة العتل، أي: هو عتل مع كونه زنيماً. وهي للدلالة على أن ما بعده أعظم في القبح، فـ(بعد) هنا، كـ(ثم) الدالة على التفاوت الرسلي، كما قال تبارك وتعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]. واختلف المفسرون في المقصود بالخطاب، قيل: هو الأخنس بن شريق . وقيل: الأسود بن عبد يغوث . وقيل: عبد الرحمن بن الأسود . وقيل: الوليد بن المغيرة . ولعل الأشهر أنها في الوليد بن المغيرة . ثم يقول الله تبارك وتعالى: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ قال الزمخشري : أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . متعلق بقوله .(ولا تطع). يعني: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ...)) إلى قوله: (( أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ))، يعني: ولا تطعه مع هذه المساوئ لأن كان ذا مال وبنين، فما فائدة المال والبنين إذا كان متصفاً بهذه الصفات والأخلاق السيئة كلها.؟ يعني: لا تطعه ليساره وحظه من الدنيا. ويجوز أن تكون متعلقة بما يأتي، وهو إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ يعني: لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين. كذب بآياتنا. ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا)) أي: تقرأ عليه آيات كتابنا (قال أساطير الأولين) أي: هذا مما كتبه الأولون؛ استهزاءً به وإنكاراً أن يكون ذلك من عند الله تبارك وتعالى.