تفسير سورة آل عمران [1-20]


الحلقة مفرغة

سورة آل عمران مدنية، وآياتها مائتان، سميت بذلك لأن اصطفاء آل عمران -وهم عيسى ويحيى ومريم وأمها- نزل فيه منها ما لم ينزل في غيرها، وذلك بضع وثمانون آية، وقد جعل هذا الاصطفاء دليلاً على اصطفاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعله متبوعاً لكل محب لله ومحبوب له سبحانه. وتسمى الزهراء؛ لأنها كشفت عما التبس على أهل الكتابين من شأن عيسى عليه السلام. وتسمى الأمان؛ لأن من تمسك بما فيها أمن من الغلط في شأن المسيح عليه السلام. وتسمى الكنز؛ لتضمنها الأسرار العيسوية. وتسمى المجادلة؛ لنزول نيف وثمانين آية منها في مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصارى نجران. وتسمى سورة الاستغفار؛ لما فيها من قوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]. وتسمى طيبة؛ لجمعها أصناف الطيبين في قوله: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]. والمراد بعمران هو والد مريم عليه السلام، كما يأتي التنويه به في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33].

الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [آل عمران:1-4]. قال تعالى: (( ألم )) الله أعلم بمراده بذلك، حيث إن هذا من المتشابه. ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) سبق تفسيره في سورة البقرة في آية الكرسي. (نزل عليك) يعني: يا محمد. (الكتاب) أي: القرآن. (بالحق) أي: متلبساً بالحق أي: بالصدق في أخباره. (مصدقاً لما بين يديه) يعني: مصدقاً بما قبله من الكتب. (وأنزل التوراة والإنجيل) والتوراة بالعبرانية معناها: الشريعة، والإنجيل معناه: البشارة، وأصل الإنجيل بشارة؛ لأن أحد مقاصد بعثة عيسى عليه السلام الأساسية هي ما عبر عنه في قوله: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، ولذلك تأتي في نصوص الإنجيل -حتى بعد تحريفها- كثير من النصوص التي تدل على أن هذا كان هدفاً ومقصداً أساسياً لبعثة عيسى عليه السلام. وهناك رجل من كبار أحبار الكلدانيين وهو داود الأشوري وكان من الأحبار، وقد أسلم وأنار الله قلبه بالإسلام فكتب كتباً قيمة، هي في الحقيقة من أرقى الكتب في هذا الموضوع، وأفرد بعض الفصول لهذه المسألة، وقد ناقش أن كلمة الإنجيل تعني البشارة، وقال: إن العبارة المشهورة عند النصارى عبارة محرفة وهي قولهم: المجد لله في الأعالي، وفي الناس المسرة، وعلى الأرض السلام، قال: إن حقيقة هذه الكلمة هي: المجد لله في الأعالي وفي الناس أحمد، وعلى الأرض إسلام. وأتى بالنقول التي تدل على هذا. فإذاً حتى كلمة الإنجيل تعني باللغة العبرية الأصلية: البشارة، والبشارة هي التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل) يعني: من قبل تنزيل القرآن. (هدىً للناس) هذا حال بمعنى: هاديين من الضلالة. وقوله: (للناس) يعني: لمن تبعهما، وعبر هنا في (التوراة والإنجيل بـ(أنزل)، لكن في القرآن قال: (نزل عليك الكتاب بالحق) لأن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، فكلمة (نزل) تقتضي التكرار، لأن القرآن نزل مفرقاً بحسب المناسبات والنوازل. أما التوراة والإنجيل فقد أنزل كل منهما دفعة واحدة. وقوله: (وأنزل الفرقان) بمعنى: الكتب الفارقة بين الحق والباطل، وذكره بعد ذكر هذه الثلاثة من الكتب ليعم كل ما عداها، فيعم أيضاً صحف إبراهيم عليه السلام، وكل كتاب أنزله الله على نبي. ثم قال تعالى: (إن الذين كفروا بآيات الله) أي: بالقرآن وغيره، (لهم عذاب شديد). (والله عزيز) أي: غالب على أمره، فلا يمنعه شيء من إنجاز وعده ووعيده. (ذو انتقام) يعني: ذو عقوبة شديدة لمن عصاه لا يقدر على مثلها أحد، وليس من أسماء الله الحسنى المنتقم، لكن قال سبحانه: (والله عزيز ذو انتقام).

((إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:5-6]. قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض) يعني: لا يخفى عليه شيء كائن في الأرض (ولا في السماء) لعلمه تبارك وتعالى بما يقع في العالم من كليٍّ وجزئي، وخصهما بالذكر لأن الحس لا يجاوزهما أعني الأرض والسماء. (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) من ذكورة وأنوثة وبياض وسواد وغير ذلك. (لا إله إلا هو العزيز) أي: في ملكه (الحكيم) في صنعه.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:7-9] قال تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) أي: واضحات الدلالة. (هن أم الكتاب) يعني: أصل الكتاب المعتمد عليه في الأحكام. (وأخر متشابهات) يعني: لا تفهم معانيها، فلها معانٍ لكن لا تفهم كأوائل السور. وفي موضع من القرآن وصف الله كل القرآن بأنه محكم، وذلك في قوله تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] ومعنى كونه محكماً: أنه ليس فيه عيب في ألفاظه ولا في معانيه. وفي موضع آخر وصفه بأنه متشابه، وذلك في قوله تبارك وتعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23] ومعنى كونه متشابهاً: أنه يشبه بعضه بعضاً في الحكم والصدق. قوله تعالى: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)) أي: ميل عن الحق. ((فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)) أي: طلب الفتنة لجهالهم بوقوعهم في الشبهات واللبس. ((وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)) أي: ابتغاء تفسيره أو حقيقته، فإما أن يكون تأويله بمعنى تفسيره فيفسر له تفسيراً باطلاً لا أصل له، وإما أن يكون تأويله بمعنى حقيقته وهو الأقرب؛ ومعنى حقيقته كما في قوله تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:53] يعني: حقيقته واقعاً كما هو، وهذه الأشياء التي لا يعلم تأويلها إلا الله مثل الروح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] كذلك مفاتح الغيب الخمس المعروفة، كذلك مثلاً معاني الحروف المقطعة في أوائل السور، كذلك نعيم الجنة: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]. ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) وهنا تقف وقفاً لازماً، أي: لا يعلم تأويله إلا الله وحده، ثم تستأنف وتقول: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) أي: الثابتون المتمكنون في العلم، وهذا مبتدأ وخبره ((يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) يعني: بالمتشابه أنه من عند الله ولا نعلم معناه. ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) كل من المحكم والمتشابه هو من عند الله تبارك وتعالى. ((وَمَا يَذَّكَّرُ)) بإدغام التاء في الذال؛ لأن أصلها يتذكر، والمعنى: وما يتعظ (إلا أولوا الألباب) أي: أصحاب العقول. ويقولون أيضاً إذا رأوا من يتبع المتشابه: ((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا)) يعني: لا تزغ قلوبنا عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما أزغت قلوب أولئك. ((بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) أي: أرشدتنا إليه. ((وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ)) أي: من عندك. ((رَحْمَةً)) أي: تثبيتاً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]. (ربنا) أي: يا ربنا. (إنك جامع الناس ليوم) يعني: تجمعهم ليوم أو في يوم. (لا ريب فيه) أي: لا شك فيه، وهو يوم القيامة، فتجازيهم بأعمالهم كما وعدت بذلك. (إن الله لا يخلف الميعاد) يعني: موعده بالبعث، وهذا فيه التفات عن الخطاب. روى الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ))[آل عمران:7] إلى آخرها وقال: فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:10-11]. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ [آل عمران:10] يعني: لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم. (من الله) أي من عذاب الله شيئاً. (وأولئك هم وقود النار) الوقود: بفتح الواو ما يوقد به. (كدأب) المقصود به: دأبهم كدأب، يعني: عادتهم كعادة (آل فرعون والذين من قبلهم) من الأمم كعاد وثمود. (كذبوا بآياتنا فأخذهم الله) أي: أهلكهم. (بذنوبهم والله شديد العقاب). ونزلت هذه الآية لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم منتصراً من بدر ودعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا له: لا يغرنك منا أن قتلت نفراً من قريش أغماراً لا يعرفون فنون القتال، لكن إذا قاتلتنا سترى أننا نحن الناس، فنزلت هذه الآيات في الرد على اليهود لعنهم الله!

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:12-13]. (قل للذين كفروا) يعني: قل يا محمد (للذين كفروا) من اليهود. (ستغلبون) في قراءة أخرى (سيغلبون) يعني: في الدنيا بالقتل والأسر وضرب الجزية، وقد وقع ذلك. (وتحشرون) وفي قراءة (ويحشرون) أي: في الآخرة. (إلى جهنم) فتدخلونها. (وبئس المهاد): يعني الفراش. (قد كان لكم آية) أي: عبرة، وذكّر الفعل (كان) هنا مع أن فاعله مؤنث (آية)؛ وذلك لأنه فصل بينهما بالخبر (قد كان لكم آية). ومعنى (آية): علامة، أي: يا أيها اليهود قد ظهرت لكم آية على صحة دين الإسلام، إذ لو كان الإسلام غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة بالحق الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به. (في فئتين) أي: فرقتين (التقتا) يوم بدر بالقتال. ويوم بدر وصفه الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات بأنه بينة كما قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42] ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه فرقان كما في قوله تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ [الأنفال:41] وهو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل. ((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا)) يعني: أن ما حصل في بدر كان علامة على صحة دين الإسلام. ((فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: في طاعته، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ومعهم فرسان وست أدرع وثمانية سيوف، وأكثرهم رجالة لم يكونوا راكبين. ((وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ)) أي: الكفار. (يرونهم مثليهم) يعني: يرون الكفار مثليهم، أي: مثلي المسلمين، وكانوا نحو ألف رأي العين، يعني: رؤية ظاهرة معاينة، وقد نصرهم الله مع قلتهم. (والله يؤيد بنصره من يشاء) أي: يقوي بنصره من يشاء نصره. (إن في ذلك) المذكور (لعبرة لأولي الأبصار) أي: لذوي البصائر، أفلا تعتبرون بذلك فتؤمنون.

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]. قال تعالى: ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ)) وهي ما تستميل النفس وتدعو إليه، زينها الله ابتلاءً أو زينها الشيطان. (من النساء) قدم النساء لعراقتهن في الفتنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) وقال أيضاً: (فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء). ((وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ)) أي: الأموال الكثيرة (المقنطرة) أي: المجمعة. (من الذهب والفضة): وخصهما بالذكر من أنواع الأموال لأن من ملك الذهب والفضة وهما أصل المال يستطيع أن ينال كل ما يتحصل بهما. (والخيل المسومة) أي: الحسان. (والأنعام) أي: الإبل والبقر والغنم، وقد بين تبارك وتعالى أن الأنعام ثمانية أزواج فقال: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ [الأنعام:143] ثم قال: وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ [الأنعام:144]، (من الضأن اثنين) أي: الذكر والأنثى ويسميان: الكبش والنعجة، (ومن المعز اثنين) التيس والعنز (ومن الإبل اثنين) يعني: الجمل والناقة. (ومن البقر اثنين) الثور والبقرة؛ ولذلك قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الزمر:6]. (والحرث) وهو الزرع. (ذلك) أي: المذكور (متاع الحياة الدنيا) يعني: يتمتع به فيها ثم يفنى. (والله عنده حسن المآب) أي: المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره.

قال تبارك وتعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:15-17]. هذه الآيات جاءت مباشرة بعد قوله تبارك وتعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] فبعدما ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأشياء التي هي أصول الفتنة في الدنيا وجذورها أشار إليها جميعاً بقوله تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]. فهذا هو الذي زين للناس وهذا الذي يبتلى الناس بفتنته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وهذه هي التي تراد لذاتها من عباد الدنيا، أو ترغب في تحصيل ما لم يذكر من متاع الدنيا، وأشار تبارك وتعالى لكل هذا بقوله: (ذلك متاع الحياة الدنيا) أي: كالبلاغ الذي ينبغي أن يتبلغ الإنسان به لفترة وجيزة في سفر قصير. وهذا يتوافق مع ما يرد في القرآن الكريم ثم في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التحذير من فتنة الدنيا، الأمر الذي يحقق صدق تلك المقولة المشهورة: حب الدنيا رأس كل خطيئة! فإنك إذا فتشت وراء أي معصية تقع تجد حب الدنيا وراءها، فالحروب التي تقع إذا فتشت عن أسبابها تجد أنها ترجع إلى حب الدنيا، والاطمئنان لها والخلود إليها والركون إليها، فأما الشهوات فمعلوم كيف يهلك كثير من الناس بسببها، والحروب التي تقع على نطاق فردي أو على نطاق أممي وجماعي فإنما هي من أجل قطعة من الأرض فيها بترول أو معادن أو ثروات زراعية أو غير ذلك من الثروات، والتناحر والتحاسد الذي يكون بين الجار وجاره، وبين الأخ وأخيه، وبين الإنسان وشريكه كله بسبب حب الدنيا، فما يخطر ببالك شيء إلا يكون حب الدنيا هو سببه وهو من ورائه، حتى التنافس على الرئاسات وعلى الوجاهات وعلى الشهرة، وإن كان ليس تنافساً في الدنيا، فإنه تنافس في حظ من حظوظ الدنيا. فلذلك إذا أخرج الإنسان الدنيا من قلبه سلم من هذه الآفات جميعاً؛ لأنه لن يحوز شيئاً من الدنيا إلا وهناك من هو أكثر منه حظاً فيه؛ ولذلك يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ومن لم يذق الدنيا فإني طعمتهـا وسيق إليَّ عذبها وعذابها فلم أر إلا جيفة مستحيلـة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها ناهشتك كلابها فالسلامة هي في ترك الدنيا والإعراض عنها إلا ما يتبلغ به ويوصله إلى الدار الآخرة، على حد قول بعض الصالحين في الشعر الذي هو ذكره النووي في مقدمة رياض الصالحين: إن لله عبـاداً فطنـا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وقال علي رضي الله عنه للدنيا: (غري غيري، لي تشوفت أم إلي تزينتِ، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيهن) أو كما قال رضي الله تبارك وتعالى عنه. وهنا أشار الله تعالى لكل هذه الفتن الدنيوية بقوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] ثم لما أخبر الله تبارك وتعالى بحال الدنيا وفتنتها أخبر أن ما عنده خير مما في الدنيا وإن كان محبوباً؛ لأنه إذا كان قد زين لنا فتنة الدنيا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فهذا أيضاً قد زين لنا، وما زين لنا لابد أن نحبه وأن نميل إليه بطبعنا وبما ركب فينا من الميل لهذه الدنيا، فأشار أولاً بقوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]. وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال: يا رب! كيف وقد زينتها؟! فنزل قوله تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. فأراد الله تبارك وتعالى بهذه الآيات أن يخبرنا أن ما عنده خير مما في الدنيا وإن كان محبوباً؛ لنترك ما نحبه من فتنة الدنيا لما نرجوه، حيث إنه أعظم وخير؛ لشهادة الله سبحانه وتعالى هنا في الآية: (( قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا )) إلى آخر الآية. واختلف العلماء في منتهى هذا الاستفهام: فمنهم من قال: إنه يقف عند قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) ثم يكون الجواب: (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) إلى آخرها. ومنهم من قال: إن الاستفهام ينتهي عند قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم) فيكون الجواب: (جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها). قوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلك) أي: بخير من الشهوات المزينة لكم من زهرة الدنيا وزينتها الزائلة لا محالة؛ ولذلك نلاحظ أن القرآن يذم من يؤثر الحياة الدنيا، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17]، فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النازعات:37-38] فالذي يؤثر الحياة الدنيا هو الخاسر كما يعلم هذا من تتبع الكثير من الآيات في القرآن الكريم. (للذين اتقوا) يعني: للذين اتقوا الله سبحانه وتعالى ولم ينهمكوا في شهواتهم. (عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) يعني: تنخرق بين جوانبها، ونحن قلنا من قبل إن النهر هو عبارة عن الشق الذي يكون في الأرض، فالأصل أن يقال: ماء النهر هو الماء الذي يجري في هذا الشق، لكن أطلق تجاوزاً استعمال النهر في المياه التي تجري، والنهر في الأصل هو الخندق المحفور، فمعنى هذا أنها تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. و(للذين اتقوا) خبر المبتدأ الذي هو (جنات) يعني: جنات للذين اتقوا، و(تجري) صفة لها، والعندية في قوله تبارك وتعالى: (للذين اتقوا عند ربهم) مفيدة لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقاتها، لأنها أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى. (خالدين فيها) أي: ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا، والذي يعمل أعمالاً صالحة في سنوات محددة لا تساوي الحياة الخالدة إلى أبد الآباد في جنات النعيم، إنما يدخل الجنة ويخلد فيها برحمة الله سبحانه وتعالى، لكن ما هو السر في أن الكافر يخلد في جهنم مع أنه عصى الله سنوات محددة، والمؤمن يخلد في الجنة مع أن عمل كل منهما محدد، والخلود الأبدي لهما بلا نهاية؟! قد أخذنا في كتاب (فضائل النية) أن من فضائل النية أن يحصل بها الخلود في الجنة أو الخلود في النار. فالخلود في النار كان بسبب نية البقاء على الكفر، والمؤمن من كانت نيته أن يبقى على طاعة الله سبحانه وتعالى حتى لو عاش بلا نهاية، فكانت نيته تلك سبباً للخلود في جنة الرضوان. (وأزواج مطهرة) أي: أزواج مطهرة من الأرجاس والأدناس البدنية والطبيعية، مما لا تخلو منه نساء الدنيا غالباً، وتلاحظون هنا كيف أنه سبحانه وتعالى بعد ما ذكر زينة الدنيا من حب الشهوات من النساء وغيرها ذكر بعدها نعيم الجنة وما فيه من الأزواج المطهرة من الآفات والأدناس، فهن مطهرات من الحيض والنفاس وغير ذلك من الأذى الذي يوجد في نساء الدنيا، فهذه إشارة إلى أفضلية نساء الآخرة على نساء الدنيا، ولذلك يستحب علماء السلف للشباب أن يكثروا من التشوق إلى الحور العين. كان بعض السلف يقول: يا معشر الشباب! تشوقوا إلى الحور العين؛ لأنه يحرض ويحض على الأعمال الصالحة التي تبذل في خطبة الحور العين، ومن أهم وأفضل المهور للحور العين كما يقول بعض الشعراء: أيها النائم دعني لست أصغي للمنام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام الخلد والفردوس في دار السلام وعروساً فاقت الشمس مع بدر التمام أحسن الأتراب قداً في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام فالذي يخطب به الحور العين هو الأعمال الصالحة كالجهاد في سبيل الله وقيام الليل وقراءة القرآن، لا كما يحصل من العناء والشقاء في سبيل الحصول على الحور الطين. النساء في الدنيا خلقن من طين. قوله: (ورضوان من الله) هنا التنوين والتكبير للفظ (رضوان) أي رضوان من الله سبحانه وتعالى قدره عظيم، وهو أعظم لذة للروح والجسد وأكبرها، كما قال تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] أي: أنه أكبر من كل هذا النعيم، ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، وهذا يتضمن رداً على الكفرة من المستشرقين والنصارى وغيرهم ممن يطعنون في دين الإسلام بزعم أنه دين شهواني، وذلك حين رغب في الحور العين في الجنة، قال هؤلاء: لقد أتاكم من جانب الملاذ الحسية، فهذا من جهلهم وظلمة قلوبهم؛ لأن الإنسان روح وجسد، فكما أنه يتنعم ب

قال تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]. (الذين يقولون) قيل: إنها بدل من قوله: (للذين اتقوا)، فإذا قلنا إنها بدل تكون مجرورة في محل رفع بتقدير (هم الذين)، أو نصب على المدح. (ربنا) أي: يا ربنا، لكن حذفت أداة النداء. (إننا آمنا) أي: صدقنا (فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار). قال الحاكم : في الآية دلالة على أنه يجوز للداعي أن يذكر طاعاته وما تقرب به إلى الله ثم يدعو. بمعنى: أن هذا نوع من التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا الأدب يؤخذ من مواضع كثيرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53]، فتوسلوا هنا بإيمانهم. ومنها: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا .. [آل عمران:193]، إلى آخره، هذا توسل بالأعمال الصالحة، وأشرفها وأعظمها الإيمان. ومن الأدلة أيضاً: سورة الفاتحة، فإنها بدأت بالثناء على الله سبحانه وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-5]، ثم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، فقبل الدعاء أتى أيضاً بالتوسل بالعمل الصالح. ومن السنة حديث الثلاثة الذين أطبق عليهم الغار وتوسل كل منهم بصالح عمله، ثم فرج الله سبحانه وتعالى عنهم.

قال الله تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]. (الصابرين) أي: على البأساء والضراء وحين البأس، وكذلك الصبر عن المعاصي والشهوات، وقيل: الصبر على الطاعات. (والصادقين) أي في إيمانهم وأقوالهم ونياتهم. (والقانتين) أي: المطيعين لله الخاضعين له. (والمنفقين) أي: أموالهم في سبيل الله تعالى وصلة الأرحام والقرابات، وسد الخلات، ومواساة ذوي الحاجات.

اهتمام السلف بالطاعات وخاصة الاستغفار

قوله تعالى: (والمستغفرين بالأسحار) أي: أن الله سبحانه وتعالى وصفهم بهذه الطاعات، ومع هذه الطاعات الصبر والصدق والقنوت والإنفاق في سبيل الله، وختمها بالاستغفار في الأسحار؛ وفي هذا إشارة إلى أنهم شديد والخوف من ربهم، مع أنهم يأتون بهذه الطاعات، كما قال عز وجل: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، ليس معنى الآية: (يؤتون ما آتوا) أي: يؤتون ما آتوا من الطاعات من صدقة وصلاة وصيام وغير ذلك ثم هم مع ذلك يخافون أن لا يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم، فلذلك وصفهم مع الطاعات بشدة الخوف الذي يدفعهم إلى أن يستغفروا. (والأسحار) جمع سَحَر أو سَحْر، وهي الوقت الذي قبيل طلوع الفجر، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت، قال الحرالي : ويفهم من هذا أنهم يتهجدون في الليل كما قال تعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]. وقال الرازي : اعلم أن المراد منه من يصلي بالليل، ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء. أي: من يكون له ورد من قيام الليل ثم يكون له في النهاية ورد الاستغفار. يقول: لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك. وقد روى ابن أبي حاتم : (أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يصلي من الليل، ثم يقول: يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح). وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة) . وروى ابن جرير عن حاطب قال: (سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه).

علاقة حديث النزول بالعقيدة والرد على منكر نزول الرب سبحانه

ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسنن من غير وجه، عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟). وفي رواية لـمسلم : (ثم يبسط يديه تبارك وتعالى ويقول: من يقرض غير عدوم ولا ظلوم)؟ وفي رواية: (حتى ينفجر الفجر)، يعني: أن ذلك الفضل يظل إلى أن ينفجر الفجر. سبق أن تكلمنا أن المبدأ الذي أرساه السلف في عقيدة الأسماء والصفات مقتبس من قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فهو سبحانه يثبت السمع والبصر، لكن ليس كمثله شيء كما بينا ذلك مراراً، فالمشكلة أن بعض الناس لم يلتزم بهذه القواعد الذهبية في فهم العقيدة السلفية في الأسماء والصفات فيقعون حتماً في إحدى الضلالتين أو كليهما معاً، فهو ينفر طبعاً من التشبيه إلى التعطيل، فينفي الصفة. أحياناً تصدر أسئلة غريبة عن مثل هذا الحديث، فإذا قلت: ينزل ربنا لا كنزول المخلوقين لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، تجد البعض يتصور نزولاً كنزول المخلوقين والعياذ بالله، فلذلك تجد الأسئلة الشيطانية الغريبة كقولهم مثلاً: الكرة الأرضية مستديرة، ومعروف أن الليل يكون في مكان والنهار في مكان آخر ومعنى ذلك: أن الليل يكون موجوداً مدة أربعة وعشرين ساعة، فمعنى ذلك: أن هذا النزول سيستمر طول الليل؟ وهذا السؤال صادر عن اعتقاد تشبيه الخالق بالمخلوق، أما إذا قلت: (ليس كمثله شيء) فلن تحتاج أبداً لذكر هذه الأسئلة. وبعضهم يسأل: هل هذا النزول يستلزم أن يخلو منه العرش أم لا؟ لماذا تسأل هذه الأسئلة؟ إن نزول الله عز وجل لا كنزول المخلوقين، أما أنت فنزولك يستلزم أن تنزل عن شيء، ويستلزم خلو هذا المكان منك، لكن الله سبحانه وتعالى في استوائه على عرشه ليس كمثله شيء، ونزوله في الثلث الأخير ليس كنزول المخلوقين، فلا نحتاج إذا طبقنا فهم السلف الصالح لمثل هذه الإيرادات. لكن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى لما تكلم عن تفسير هذا الحديث في هذه الآية قال: وقد اختلف في تأويله، وأولى ما قيل فيه: ما جاء في كتاب النسائي مفسراً عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول، ثم يأمر منادياً فيقول: هل من داع يستجاب له؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من سائل يعطى؟)، والفرق في الرواية واضح! فالحديث المشهور الذي ذكرناه: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟) والمتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى. فهنا الإمام القرطبي قال: إننا نحمل هذا الحديث على ذاك الحديث ونفسره به، يقول: لو صححه أبو محمد عبد الحق فإنه يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وتكون الرواية الأولى: (ينزل ربنا) من باب حذف المضاف، وقد روي: (ينزل ملك ربنا). وهو الشاهد من هذا الكلام الذي استروح له الإمام القرطبي رحمه الله تعالى والإمام ابن عطية . واسم الإمام ابن عطية الأندلسي هو أبو محمد عبد الحق بن غالب كان من أعيان أئمة المالكية المضربين في العلم. وللإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب يسمى (شرح حديث النزول)، ناقش فيه هذه النقطة فقال رحمه الله تعالى رداً على هؤلاء الذين قالوا في تأويل الحديث: (ينزل ربنا) أنه بمعنى: أنه ينزل ملك من عند ربنا: فإن قلت: الذي ينزل ملك، قيل: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الملائكة لا تزال تنزل بالليل والنهار إلى الأرض كما قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، وقال تعالى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم:64]، وفي الصحيحين أيضاً في الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، إلى آخر الحديث، كذلك حديث (إن لله ملائكة سياحين يتتبعون مجالس الذكر)، إلى آخر الحديث. فإذاً نزول الملائكة أمر مستمر فما وجه تخصيص ثلث الليل الآخر؟ الوجه الثاني: أنه قال فيه: (من يسألني فأعطيه؟ من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، وهذه العبارة لا يجوز أن يقولها الملك! بل الذي يقول الملك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وذكر في البغض مثل ذلك، فهذا فعلاً ينادي به ملك من عند الله، فالملك إذا نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطبة كما قال جبريل في الحديث هنا: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه). يقول شيخ الإسلام معلقاً على تأويل حديث نزول الله: هذا تأويل من التأويلات القديمة للجهمية، فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى عليه السلام، وقالوا: إنه أمر ملكاً فكلمه، فقالوا في قوله: (وكلمه ربه) أي: كلمه ملك ربه. يقول شيخ الإسلام : هذا من تأويلات الجهمية، وهو باطل إذا لو كلمه ملك لما قال الملك: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، لقوله عز وجل: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء:29]، فالملائكة رسل الله إلى الأنبياء، تقول كما كان جبريل عليه السلام يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ [مريم:64]، ويقول: إن الله يأمرك بكذا، ويقول كذا، ولا يمكن أن يقول ملك من الملائكة (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ))، ولا أن يقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، ولا يقول: (لا يسأل عن عبادي غيري) كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما وسندهما صحيح. وهذا أيضاً مما يبطل حجة بعض الناس، فإنه احتج بما رواه النسائي في بعض طرق الحديث أنه يأمر منادياً ينادي، إشارة إلى الحديث الذي احتج به القرطبي تبعاً للإمام ابن عطية رحمه الله، فإن هذا إن كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الرب يقول ذلك، ويأمر منادياً بذلك، جمعاً بين الحديثين، لا أن المنادي هو الذي يقول: (من يدعوني فأستجيب له)، ومن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المنادي يقول ذلك فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه خلاف للفظ المتواتر، الذي نقلته الأمة خلفاً عن سلف.

فضل الاستغفار بالأسحار

قال بعض الصالحين لابنه: يا بني! لا يكن الديك أحسن منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم. والحكمة في تخصيص الأسحار كونها وقت غفلة الناس عن التعرض للنفحات الرحمانية والنفحات السبحانية، ومعروف أن أفضل أوقات العبادة وقت غفلة الناس عنها، لذلك يعظم ثواب من ذكر الله سبحانه وتعالى في السوق؛ لأن السوق مكان الغفلة والاشتغال بالدنيا، فمن ذكر الله في الغافلين فإنه ينال ثواباً عظيماً، كذلك ثبتت فضيلة شهر شعبان، وعللها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهر يغفل عنه الناس ما بين رجب ورمضان، هكذا أوقات غفلة الناس تضاعف فيها الأجور، وعند ذلك تكون العبادة أشق، والنية خالصة، والرغبة وافرة من عباده مع قربه تعالى وتقدس. في الآية فضيلة الاستغفار في السحر، وأن هذا الوقت أفضل الأوقات. وجاء في كتب التفسير في قوله عز وجل: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:97-98] أنه أراد أن يؤخر ذلك إلى وقت السحر؛ لأنه أدعى للإجابة. يقول الرازي : واعلم أن الاستغفار في السحر له مزيد أثر في قوة الإيمان، وفي تمام العبودية، من وجوه: الأول: أن وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء، فهناك وقت الجود العام والفيض التام، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب. الثاني: أن وقت السحر أطيب أوقات النوم، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية كانت الطاعة أكمل. الثالث: نقل عن ابن عباس وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، يريد المصلين صلاة الصبح. قالوا: إن الصلاة هنا سميت استغفاراً؛ لأنهم طلبوا بفعلها المغفرة. إذاً: ينبغي أن نتواصى بهذا الأمر، وهو الاهتمام بالاستغفار في السحر؛ لأننا إذا كنا محتاجين إلى الاستغفار من قبل حاجة ماسة وشديدة، فنحن الآن في ظروف يعتبر الاستغفار فيها مثل سفينة نوح ، فنحن في أوضاع كلها شؤم، وكلها تنذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتنذر بنزول عذاب من الله سبحانه وتعالى يستأصل من شاء من عباده، وقد بارزنا الله بكل أنواع المعاصي، ومن آخرها ما يسمى بمؤتمر السكان وغير ذلك من ألوان محاربة الإسلام. والآن نسوا كلمة التطرف والإرهاب وعادوا للحقيقة وهي محاربة دين الإسلام محاربة صريحة بلا خجل ولا استحياء، لا من الخالق ولا من المخلوقين، ولا يرفع هذا البلاء إلا الاستغفار، أعني: أن الاستغفار قد يحول دون نزول البلاء والعذاب؛ لأننا حشدنا كل ما يستنزل غضب الله سبحانه وتعالى، وأصبح الطعن في الكتاب والسنة وظيفة عند الملحدين كما ترون في مزبلة الصحافة المصرية المسماة روز اليوسف، ولا يجوز لأحد أن يدخل هذه المجلة في بيته، وأن يريها أولاده وبناته وزوجته؛ لما تحويه من الفسوق والفجور، ويكفي أن أمثال هؤلاء الملاحدة الزنادقة حينما يكتبون فيها يكتبون بالخط العريض مقالة عنوانها كفر بواح وردة عن الدين مثل "الأخطاء النحوية في القرآن الكريم" ومقالة مثلاً في الدفاع عن المرأة الهندية التي شتمت الرسول عليه السلام وطعنت في القرآن، وإظهارها في مظهر المظلومة، وأن هذا ضد الحريات، وأنها مضطهدة، وغير ذلك من الأشياء التي ذكرنا مقتطفات منها ومن بعض الكتب الممنوعة مثل: "آيات شيطانية" لـسلمان رشدي ورواية "أولاد حارتنا" للخبيث نجيب محفوظ وغير ذلك من كتب الإلحاد والكفر والزندقة، والله تعالى أعلم. إذا لم يتداركنا الله سبحانه وتعالى برحمته فسيعمنا جميعاً عذاب، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء والملاحدة والزنادقة منا. يقول تبارك وتعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فالاستغفار قد يكون مانعاً يحول دون نزول العذاب على العامة والخاصة. ويقول الله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ * فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32-32]، فجاء الجواب من الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، يعني: كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجوده صلى الله عليه وسلم أمن من العذاب، وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، هذا هو الأمان الثاني ضد العذاب، وذكر بعض العلماء أقاويل كثيرة في تفسير هذه الآية منها: أن (هم) هنا تعود على من هو موجود في وسطهم من المؤمنين ممن يستغفر، فلما خرجوا وتزيلوا عذبهم الله سبحانه وتعالى يوم بدر وغيره. حكي: (أن رجلاً من العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم رجع عما كان عليه، وأظهر الدين والنسك، فقيل له: لو فعلت هذا والنبي صلى الله عليه وسلم حي لفرح بك، قال: كان لي أمانان مضى واحد وبقي الآخر، قال الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33]، فهذا أمان. والثاني: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]. إذاً فهذه الأمة كان لها أمانان: الأول: في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وهو وجوده فيهم، فلا ينزل العذاب كرامة له عليه الصلاة والسلام. الثاني: هو الاستغفار، فهو سبب آخر للأمن من العذاب. فالذي بقي لنا أن نستغفر الله سبحانه وتعالى من هذه الذنوب. قال الزمخشري : الواو المتوسطة بين الصفات في قوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] للدلالة على كمالهم في كل واحدة منهم.