تفسير سورة التغابن [1-7]


الحلقة مفرغة

سورة التغابن هي السورة الرابعة والستون، وآيها ثماني عشرة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: هي مكية على ما يظهر من أمثالها من السور، أي: موضوع هذه السورة وسياقها يستأنس به في كونها سورة مكية؛ لأنها تشبه نظائرها من السور المكية، وقيل: مدنية. قال الله سبحانه وتعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]. قوله تعالى: ((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ)) أي: له ملك السماوات والأرض ونفوذ الأمر فيهما. قوله: ((وَلَهُ الْحَمْدُ)) أي: له الثناء الجميل؛ لأنه مُولي النعم وموجدها.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2] أي: هو الذي انفرد بإيجادكم في أحسن تقويم قابل للكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر جاحد للحق كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم، فالله سبحانه وتعالى يخلقكم على الفطرة السوية فطرة التوحيد ومع ذلك منكم كافر ومنكم مؤمن، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه، بل تشعبتم شعباً وتفرقتم فرقاً. قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) هنا قدم الكافر لأنه الأكثر، قال عز وجل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] فتقديم الكفر باعتبار أن أغلب الناس على هذا الكفر، وأيضاً تقديم الكفر هو الأنسب لمقام التوبيخ. قوله: ((وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) أي: سيجازيكم به فآثروا ما ينفعكم، وجانبوا ما يهلككم. قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) إن الله خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمناً وكافراً. وفي الصحيح من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعلم أهل الجنة فيدخلها) خرجه البخاري والترمذي ، وليس فيه ذكر الباع. وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) قال علماؤنا: والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم. لأنه لا يقع في هذا الوجود إلا ما سبق به علم الله عز وجل وقضاؤه وقدره، فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال من وقت أن يكلف إلى أن يموت فيثبته على الإيمان، ومنهم من يريد إيمانه إلى وقت معلوم ثم والعياذ بالله بعد ذلك ينتكس عن ذلك، كذلك الكفر منهم من يشاء الله سبحانه وتعالى أن يخلقه كافراً على وجه العموم، حتى إنه يقضي عمره كله في الكفر، ومنهم من يريده كافراً إلى وقت قد قضاه الله سبحانه وتعالى. فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) مثل قوله تعالى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]، وقوله: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3]. وقيل: في الكلام محذوف تقديره: فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه. يعني: يفهم من السياق أيضاً أن من الناس من يكون فاسقاً مؤمناً مرتكباً للكبائر أو المعاصي، وهذا القول قاله الحسن ، وقال غيره: لا حذف؛ لأن المقصود ذكر الطرفين: الكافر والمؤمن، أما ما بينهما فما قصد الإشارة إليه في هذه الآية الكريمة. وقال جماعة من أهل العلم: إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا، قالوا: وتمام الكلام: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) فتقف ثم تبدأ وتقول: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))، وهذا كقول الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] قالوا: فالله خلقهم والمشي هو فعلهم. وهناك تفسير لقوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) أنه إشارة إلى فعل الله فقط، وأنه هو الذي خلقكم وجعل منكم كافراً وجعل منكم مؤمناً، وهذا على أن الإنسان هو الذي شاء ذلك الكفر والإيمان، أما على القول الآخر: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) ففيه إثبات لحقيقة أن منكم من يكفر ومنكم من يؤمن، فالكلام هنا على فعل المخلوقين، مثل قوله تبارك وتعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)) وانتهى الكلام، ثم يقول تعالى: (( فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ )) فأعاد الكلام على فعل هذا المخلوق، فالله خلقهم والمشي فعلهم، ونفس هنا المعنى في هذه الآية واختاره الحسين بن القاضي وقال: لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله تعالى: (( فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ))، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). إذاً: لا يوجد تعارض بين التفسير الأول وبين هذا الحديث؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، لكن من الناس من يشاء الله سبحانه وتعالى أنه بعد التكليف يكون كافراً، ومنهم من يشاء الله أن يكون مؤمناً، وما المقصود بالفطرة؟ المقصود بها التوحيد والإسلام، أي أن كل مولود يولد على الإسلام، وعنده الاستعداد لتقبل الحق، وليس أنه يولد فقيهاً أو حافظاً للقرآن، بدليل قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78] فالمقصود هنا الاستعداد لدين الحق، فالأصل هو التوحيد ثم يأتي الشرك ويطرأ عليه بعد ذلك لسبب من الأسباب، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لأخطر سبب من هذه الأسباب -وهو تأثير البيئة على الأولاد- فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وقال الضحاك : فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كـعمار وذويه، ممن تلفظ بكلمة الكفر بسبب الإكراه. وقال عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، وهذا إشارة إلى الحديث الذي فيه أنهم أصبحوا وقد نزل المطر من السماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة: (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا ونوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) فـعطاء بن أبي رباح فسر الآية بهذا الحديث. وقال الزجاج : وهو أحسن الأقوال، لكن الذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة: أن الله سبحانه وتعالى خلق الكافر وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان، والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، ولا يجوز أن يوجب لكل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل، ولا يليقان بالله تبارك وتعالى، وفي هذا من التوسط لفهم عقيدة القضاء والقدر سلامة من بدعة الجبرية الذين يسلبون العبد إرادته، وبدعة القدرية الذين ينفون القدر السابق، فالحق وسط بين الأمرين: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو قدر وقوع الكفر من فلان ثم وقع خلاف الذي قدره الله فهذا عجز لا يليق بالله سبحانه وتعالى، وكذلك إذا علم الله سبحانه وتعالى وقوع الإيمان من شخص ثم وقع الكفر من هذا الذي علم الله منه أنه مؤمن ووقع خلاف المعلوم فهذا جهل لا يليق بالله سبحانه وتعالى، يقول الشاعر: يا ناظراً في الدين ما الأمر لا قدر صح ولا جبر لا مذهب الجبرية صحيح ولا مذهب القدرية، وإنما الحق وسط بين الطرفين. قال سيلان : قدم أعرابي البصرة فقيل له: ما تقول في القدر؟ فقال: أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه تبارك وتعالى. قضية القضاء والقدر من أخطر القضايا؛ لأنها سدس الإيمان، فهي أحد أركان الإيمان الستة، وأركان الإيمان هي: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى. إذاً: لا ينجو الإنسان ولا يصح له الإيمان حتى يؤمن بقضاء الله وقدره تبارك وتعالى. وقضية القضاء والقدر ليس كما يتصورها بعض الناس أنها عقد جلسات للجدل والمماراة كما يحصل من بعض الشباب، وكل واحد يدلي بدلوه بحسب اجتهاده، هذا يقول: الإنسان مخير، والآخر يقول: هو مسير، وكأن الموضوع متروك لاجتهادات الناس! كلا، فالإيمان بالقدر هو الركن الركين من أركان العقيدة الإسلامية، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام نصوصاً من القرآن تبين لنا ما الذي يجب أن نؤمن به في القضاء والقدر، وهذه الحقائق التي اشتملت عليها هذه النصوص لا سبيل إلى اكتشافها بالعقل، فلم يبق إلا أن يوحى إلينا عن طريق الوحي الصادق بهذه الحقائق الغيبية بالنسبة إلينا، فمثلاً: آية الميثاق هذه من الأمور المتعلقة بالخوض في القضاء والقدر وهي قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ [الأعراف:172] إلى آخره، فهذا أمر غيبي، لا يمكن أبداً للعقل أن يصل إليه، والإيمان بهذا الأمر وهذا التقدير أمر في غاية الأهمية، كذلك أنواع التقدير وأنواع الإرادة ونحو ذلك يجب أن نتعلمه بالتلقي

يقول تبارك وتعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [التغابن:3]. قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة التي ترشد إلى المصالح الدينية والدنيوية. وقال القرطبي : أي: خلقها حقاً يقيناً لا ريب فيه، وقيل: (الباء) بمعنى (اللام) في قوله: (بِالْحَقِّ) أي: للحق. ما هو هذا الحق؟ هو أن يجزي الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى. قوله: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)) أي: حيث برأكم في أحسن تقويم كما قال عز وجل لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]؛ وذلك أنه تعالى جعل الإنسان معتدل القامة على أحسن هيئة، وهذه بلا شك من معاني خلق الإنسان في أحسن تقويم، فإذا قارنت الإنسان بغيره من الدواب والمخلوقات لوجدت هذا التكريم العظيم، أولاً في الهيئة والصورة، فلا يوجد مخلوق هو أحسن هيئة من الإنسان؛ لأن من المخلوقات من يزحف على بطنه، ومن يمشي على أربع، أما الإنسان فهو المختص بأنه يمشي على رجلين معتدل القامة بقدرة الله تبارك وتعالى. وآتاه نعمة العقل الفارقة بين الإنسان وبين الحيوان، فهذا أيضاً من خلق الإنسان في أحسن تقويم. وآتاه قوة النطق حتى إنهم ليقولون: الإنسان حيوان ناطق. كذلك آتاه قوة التصرف في المخلوقات بحيث سخرها الله عز وجل له. كذلك القدرة على أنواع الصناعات، فالإنسان عنده من الطاقات والقدرات ما جعله الله عز وجل بها قادراً على تسخير ما في الأرض لصالحه، وهذا هو المعنى الأقرب، وإن كان بعض العلماء قالوا: ((وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ أي: صور أباكم آدم عليه السلام وخلقه بيده كرامة له، لكن القول الأقرب أنه خلق جميع الخلائق وجعل الإنسان أحسن الحيوانات كلها وأبهاها صورة، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، هل يوجد إنسان يتمنى أن يكون سمكة أو عصفواً أو قرداً أو حصاناً؟ يستنكف الإنسان من ذلك، فهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى كرمه قال عز وجل: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، والمخلوقات كلها مسخرة من أجل هذا الإنسان، وهذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى خلقه في أحسن صورة وفي أحسن تقويم، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكس كالحيوانات التي تمشي على أربع أو غير ذلك، كما قال عز وجل: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، فمن خلقه الله في أحسن تقويم هل يليق أن يزعم الزاعمون الكذابون أن الإنسان والشمبانزي (القرد) ينحدران من أصل واحد كما يزعم الضال داروين ومن تابعه؟ لا يمكن أبداً، وهذا الكلام لا يقوله إلا ملحد، أما نحن فقد علمنا حقيقة خلقنا بالوحي، فالله سبحانه وتعالى أخبرنا عن هذا الغيب؛ لأنا لم نر آدم عليه السلام، وإنما كان آدم يعرف ربه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة:37]، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23] أي: كان آدم وحواء يعرفان الله، وكانا على التوحيد، وكانا على أكمل صورة، وآدم كان نبياً كما جاء في الحديث، أما هؤلاء الملاحدة فإنهم يصورون ما يسمونه بالإنسان الأول على أنه أقرب ما يكون من القردة، ومن ثم يترقى كذا وكذا! فهذا مما يتصادم صراحة مع قول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]. قوله: ((وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) أي: المرجع فيجازي كلاً بعمله.

قال الله عز وجل: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [التغابن:4] أي: أنه عالم الغيب والشهادة لا يخفى عليه شيء. قوله: ((وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) أي: يعلم خفايا الصدور وما تنطوي عليه. وقوله: ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) فيه تقرير لأول الآية وهي قوله: ((يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ))؛ لأنه إذا علم السرائر وخفايا الضمائر لن يخفى عليه خافية من جميع الكائنات. قال الزمخشري : نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور؛ أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه. فالله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء على الإطلاق، ويعلم تفاصيل وجزئيات كل ما في الوجود. ثم قال: فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه، وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. أي: فتكرار صفة العلم فيها نوع من تكرار الوعيد، وأنه سوف يحاسبكم على ما يعلمه منكم. ثم قال: وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. فقوله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) فيها وعيد بأنه سوف يجازيهم، كذلك قوله: ((خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) هذه نعمة الخلق وتقتضي الشكر، وبالتالي يعاقب من كفر، وقوله: ((يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) هذه فيها معنى الوعيد.

قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التغابن:5] أي: ألم يأتكم معشر الكفرة الفجرة، وقيل الخطاب لقريش: ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط. ((فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ)) أي: من عذاب الاستئصال، والوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور. قوله: ((أَمْرِهِمْ)) أي: كفرهم، وعبر عنه بذلك؛ للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة. قوله: ((وَلَهُمْ)) أي: في الآخرة ((عَذَابٌ أَلِيمٌ)).

قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6]. قوله: ((ذلك)) تعليل، أي ذلك المذكور من ذوقهم وبال أمرهم في الدنيا وما أعد لهم من عذاب الأخرى؛ بسبب أنه أتتهم رسلهم بالواضحات من الأدلة على حقيقة ما يدعونهم إليه فنبذوها واتبعوا أهواءهم، واستهزءوا برسلهم وقالوا: ((أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)). قال ابن جرير : قالوا ذلك استكباراً منهم أن تكون رسل الله إليهم بشراً مثلهم، واستكباراً عن اتباع الحق من أجل أن بشراً مثلهم دعاهم إليه! وهذه الشبهة طالما احتج بها الكفار، وقد اقترحوا نزول الملائكة حيث زعموا أن البشرية تتعارض مع الرسالة، وقالوا: كيف يكون بشراً رسولاً وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق مثلنا؟! لكن الله سبحانه وتعالى قال لهم: وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنظَرُونَ [الأنعام:8] يعني: أن الملك لا ينزل إلا بالعذاب والاستئصال، وقال لهم: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ [الأنعام:9] يعني: الملك إما أن يأتيهم في صورة غير صورتهم، فهم لن يطيقوا رؤية صورته، أو يأتي في صورة بشر فيلتبس عليهم الأمر من جديد، أو يأتيهم الملك في صورته الحقيقة ولن يكون ذلك إلا إذا نزل للعذاب. وقال تعالى هنا: ((فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا)) بالجمع ولم يقل: أبشر يهدينا؛ لأن البشر وإن كان يطلق على واحد فإنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: ((يَهْدُونَنَا)). قوله: ((فَكَفَرُوا)) أي: بالحق والدين والرسول، أي: كفروا بهذا القول إذ قالوه استكباراً، ولم يعلموا أن الله يبعث من يشاء إلى عباده، وقيل: كفروا بالرسول وتولوا عن البرهان وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. قوله: ((وتولوا)) أي: عن التدبر في الآيات البينات. قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)) أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى لما فعل ذلك، إذاً: الله سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، وهو في كل حال مستغن عن عباده. وقيل في قوله: ((وَاسْتَغْنَى اللَّهُ)): أي: استغنى الله مما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية. وقيل: يجوز أن يكون حالاً بتقدير (قد) أي: وقد استغنى الله بكماله وذاته عرفوا أو لم يعرفوا. قوله: ((وَاللَّهُ غَنِيٌّ)) أي: بذاته عن العالمين، فإذا كان غنياً عن العالمين فهو غني بالأولى عن إيمانهم؛ لأنه لا يتوقف كمال من كمالاته عليهم، ولا على معرفتهم له. قوله: ((حَمِيدٌ)) أي: يحمده كل مخلوق، أو هو حميد مستحق للحمد بنفسه وإن لم يحمده حامد؛ لأن واقع كل مخلوق أنه يحمد الله سبحانه وتعالى ويثني عليه بما هو أهله.

قال تبارك وتعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]. قوله: ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) أي: ظنوا، والزعم هو القول بالظن، قال شريح : لكل شيء كنية، وكنية الكذب (زعموا). وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب ، ثم عمت كل كافر. ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا)) قل يا محمد: ((بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ)) أي: لتخرجن من قبوركم أحياء. ((ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ)) أي: تخبرن بأعمالكم. ((وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) إذ الإعادة أسهل من الابتداء، وقد تكلمنا في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] وقلنا: إن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا على قدر عقولنا، إذا القدرة في حقنا نحن أن إعادة الشيء أسهل من القدرة على ابتدائه، وهذا أمر معروف في طاقة وعلوم البشر وفي إمكاناتهم.