خطب ومحاضرات
تفسير سورة (ق) [20-29]
الحلقة مفرغة
قال الله تبارك وتعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] وقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55] فأمر الله سبحانه وتعالى بالتذكير أمراً مشروطاً فقال: ((إن نفعت الذكرى)) ثم بين في الآيات الأخرى من هم الذين ينتفعون بالذكرى، فقال عز وجل ((وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)) فما أكثر معلومات الإنسان عن أمر معين، لكن يحتاج إلى من يذكره لاسيما في المناسبات التي نحتاج فيها إلى أن نتعاون على البر والتقوى، ومنها أن يذكر بعضنا بعضاً بهذه المناسبة العظيمة التي نحن مقبلون عليها، وهي استقبال شهر رمضان المعظم. اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة، وأن يجعلها ميداناً للتنافس، وكان من فضل الله تبارك وتعالى أنه يجزي على القليل كثيراً، ويضاعف الحسنات، فمن ثم جعل لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه عز وجل بما أمكنه من وظائف الطاعات، عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. قال الحسن رحمه الله تعالى في قول الله عز وجل: (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62]: جعل الليل يخلف النهار، فمن فاته عمل صالح في الليل استطاع أن يستدركه في النهار، ومن فاته شيء في النهار استطاع أن يستدركه بالليل. يقول الحسن : من عجز بالليل كان له من النهار مستعتب، ومن عجز بالنهار كان له من الليل مستعتب. ولا شك أن أعظم هذه المواسم المباركة وأجلها شهر رمضان الذي أنزل الله سبحانه وتعالى فيه القرآن، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وأسألك العزيمة على الرشد)، فالعزيمة من أقوى مراتب الإرادات التي يجزم الإنسان عندها ويصمم على أن يمضي العمل. فمن العزيمة على الرشد أن ينوي الإنسان اغتنام هذه المناسبات المباركة، وخاصةً مناسبة شهر رمضان المعظم، فنحن محتاجون في هذه الأيام إلى العزيمة على الرشد، فندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العزيمة على الرشد، أعني النية الصادقة والهمة العالية في أن نغتنم هذا الشهر الكريم؛ ليغفر الله لنا، ونرجو من الله أن نبقى أحياء إلى أن يأتي رمضان، فمن يدري منا لعله يكون آخر رمضان في حياته، ومن يدري لعله لا يستقبل رمضان!
قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:20]. كم عدد النفخات في الصور؟ الراجح أنها نفختان كما في سورة الزمر: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى [الزمر:68]. والله تعالى أعلم. قوله: ((ونفخ في الصور)) هذه هي نفخة البعث والنشور، بدليل قوله: ((ذلك يوم الوعيد)) أي: ذلك النفخ يوم الوعيد، أي: وقت تحقق الوعيد بشهود ما قدم من الأعمال وما أخر.
قال تعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21]. قال ابن جرير : أي: سائق يسوقها إلى الله، وشاهد يشهد عليها بما عملت في الدنيا من خير أو شر. وظاهر الآية أنهما اثنان: واحد يسوقه إلى المصير المحتوم، والآخر يشهد عليه بعمله، وقد اختلف العلماء: فقيل: هما ملكان، ملك سائق، وملك شهيد. وقيل: بل هو ملك واحد لكنه متصف بصفتين، فهو سائق، وهو أيضاً شهيد على عمل الإنسان. وقيل: ((وجاءت كل نفس معها سائق)) أي: ملك، و((شهيد)): هو الإنسان نفسه يشهد على نفسه. وقيل: سائق من أعمالها إلى مكان ندائها، وشهيد من أجزائها.
قال تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]. هذا أيضاً فيه حذف، والتقدير: (لقد كنت في غفلة من هذا -أي: الموت- فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). من المخاطب في هذه الآية؟ في المخاطب في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لقد كنت يا محمد- صلى الله عليه وسلم في غفلة من هذا، فهذه جملة معترضة أتي بها خلال أمر النبأ الأخروي؛ تنويهاً بمنة الإعلام والتعريف به، فهنا اعتراض، فإن سياق الكلام في وصف أحوال الآخرة، حيث يقول تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:19-21]ثم يذكر تعالى جملة اعتراضية هنا: لقد كنت -يا محمد- في غفلة من هذا؛ لبيان منة الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث أعلمه بهذه الأمور الغيبية عن طريق الوحي، وعرفه بها. وليس هذا فحسب، بل إن بصره بها بصر شديد النفاذ يدركها في غاية الوضوح وغاية القوة، بل إن الله سبحانه وتعالى أوقفه على غوامض هذا الخبر وهذه الوقائع التي ستحصل في الآخرة، وقد كان ذهنه خالياً من علمها، بل كان أمياً لم يتعلم، ووصفه بالغفلة في سياق الامتنان، بمعنى خلو ذهنه عن هذا العلم الذي امتن عليه به، فهو يعلم ما لا يعلمون، والمعنى: لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك، فكشفنا غطاءك بإنزاله، فبصرك حديد حيث تعلم ما لا يعلمون. وهذا كقول الله تبارك وتعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف:3] أي: كنت غافلاً عن هذا الخبر. ومثله أيضاً قوله تبارك وتعالى: (( مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ))، وقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى:7] أي: كنت عارياً عن الوحي وعن العلم الذي أوحاه الله إليك، فهداك لهذا الوحي، وليس ((ضالاً)) كما يوصف غير النبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: ((ووجدك ضالاً فهدى)) يفسره قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] إذاً: القول الأول: إن المخاطب في هذه الآية هو النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجملة معترضة في خلال أمر النبأ الأخروي تنويهاً بمنة الله عليه بإعلامه بذلك وتعريفه به، وبيان شدة نفوذ بصره به، ووقوفه على غامضه. وقوله: ((فبصرك اليوم حديد)) معروف عندنا استعمال: البصر ستة على ستة في أنه حاد، فكلمة ليس المقصود بها حديد المعدن المعروف، بل من حدة النظر وقوته وشدته. وعلى القول بأن الرسول عليه السلام هو المخاطب بالآية لا نحتاج إلى أن نقدر جملة: (يقال له)، حتى يكون التقدير: ((وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد)) يقال له: ((لقد كنت في غفلة من هذا))؛ لأن هذا السياق لا يكون يوم القيامة. فالله سبحانه وتعالى يخاطب الرسول هنا كما في سورة الحجر: في سياق قصة قوم لوط، حيث قطع السياق وقال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، فكذلك السياق هنا في ذكر أحوال الآخرة، ثم خاطب الله نبيه بقوله: ((لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ))، ثم رجع السياق من جديد للآخرة: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23]. القول الثاني: أن المخاطب به الكافر، وأن الكلام على تقدير القول، أي: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) يقال للكافر حينئذ: (لقد كنت في غفلة من هذا) الذي عاينته اليوم من الأهوال (فكشفنا عنك غطاءك) بأن جلينا لك ذلك وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته فزالت الغفلة عنها. ومثل هذا قول الله تبارك وتعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا)[مريم:38] وهذا أسلوب تعجب، بمعنى: ما أسمعهم وما أبصرهم! ففيها الإشارة إلى شدة السمع والبصر عندهم، وأنهم يدركون بسمعهم وأبصارهم حقائق اليوم الآخر. وكذلك قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]. القول الثالث: أن المقصود هو الإنسان مطلقاً، أي: ((لقد كنت)) أيها الإنسان ((في غفلة من هذا)). ويؤيده قول الله تبارك وتعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) فهذا العموم في قوله: (كل نفس) يؤيد القول بأن المخاطب هنا كل إنسان، والمقصود كشف الغطاء عن البر والفاجر، فكل يرى ما يصير إليه. ولا شك أن الحجب سوف تنكشف يوم القيامة، ويرى الإنسان ما كان ينكره من قبل، أو ما كان يؤمن به بظاهر الغيب، فالغيب يصبح شهادة، فيرى الملائكة، ويرى النار، ويرى الجنة، ويرى الصراط، والموازين، ويرى كل الأشياء التي كانت في الدنيا خبراً، وكان يوقن بها عن طريق الإيمان بالغيب، أو كان يكذب بها لأنه لا يراها كما هو حال الملحدين الكافرين. رجح شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله القول الثالث، وهو أن المراد بالخطاب هنا الإنسان مطلقاً. قال الزمخشري : جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله. أي فكلمة (في غفلة) تفيد كأن شيئاً شمله وهو غارق فيه أو كأن شيئاً يحيط به تماماً. قال: جعلت الغفلة كأنها غطاء غطي به جسده كله، أو كأنها غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحق.
قال تعالى: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ [ق:23]. ((وقال قرينه)) أي: قرين هذا الإنسان الذي جيء به يوم القيامة معه سائق وشهيد. (هذا ما لدي عتيد) أي: حاضر غير غائب. ويفهم من السياق أن الإنسان يكون مع سائق وشهيد وقرين، وهذا القرين هو إما الملك الموكل في الدنيا بكتابة أعماله، وهو الرقيب المتقدم ذكره، أو هو الشيطان الذي قيض له مقارناً له يغويه. والأظهر -كما اعتمده الزمخشري - أن القرين هنا هو المذكور في قوله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] ويشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ [ق:27]. ونلاحظ أن الواو موجودة في الآية التي فيها ذكر القرين أولاً، وفي الثانية ليس فيها واو: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [ق:23-26] ((قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ)) فالأقرب والأظهر أن القرين هو الشيطان الذي يغويه. وقد ثبت في الحديث: (ما من إنسان إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) (هذا ما لدي عتيد) أي: هذا شيء حاضر لدي معد محفوظ، والإشارة على الأول لما في صحفه، وعلى الثاني للشخص نفسه. أي: لو قلنا إن القرين هو الملك الذي كان موكلاً بحفظ الأعمال، وهو الرقيب المتقدم فتكون الإشارة إلى صحف الأعمال، أي: يقول قرينه: إن الأعمال مسجلة وموثقة ومحفوظة عندي، ولو قلنا إن قرينه هو الشيطان الذي وكل به ليغويه، فالإشارة للشخص نفسه، أي: هذا المجرم موجود الآن لدي عتيد، بمعنى: حاضر لجهنم، قد هيأته لها بإغوائي.
قال تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق:24]. يوجد اختلاف بين العلماء في المراد بقوله تعالى: ((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)): قيل: إن الخطاب هنا من الله عز وجل للسائق والشهيد، وهما ملكان، أي: أيها الملكان السائق والشهيد ((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ)). وقيل: الخطاب من الله لملكين من خزنة النار. وقيل: الخطاب لملك واحد، وتثنية الفاعل منزل منزلة تكرير الفعل، فالأصل: ألق ألق، فحذف الفعل الثاني وأبقي ضميره مع الفعل الأول، فصارت (ألقيا) أي: فبقي الضمير للدلالة على ما ذكر. أو أن الألف بدل من نون التأكيد المخففة كما في قوله تعالى: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ [العلق:15]، وقوله: وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] وهذه النون تبدل ألفاً في الوقف، فأجري الوصل مجراه. وقال ابن جرير (أخرج الأمر للقرين وهو بلفظ واحد مخرج خطاب الاثنين، وفي ذلك وجهان من التأويل: أحدهما: أن يكون القرين بمعنى الاثنين كالرسول والاسم الذي يكون بلفظ الواحد في الواحد والتثنية والجمع، فرد قوله: (ألقيا) إلى المعنى. والثاني: أن يكون كما كان بعض أهل العربية يقول، وهو أن العرب تأمر الواحد والجماعة بما تأمر به الاثنين. يعني أن العرب أحياناً يخاطبون الواحد والجماعة بخطاب الاثنين، فتقول للرجل: ويلك أرحلاها وازجراها، أي: الناقة مثلاً، ومعنى أرحلاها: أي: ضع عليها الرحل، قال الشاعر: فقلت لصاحبـي لا تحبسـان بنـزع أصوله واجتز شيحا هو يخاطب واحداً لكن بخطاب المثنى. وقال أبو ثروان : فإن تزجراني يا بـن عفان أنزجـر وإن تدعـاني أحمِ عرضـاً ممنعّــا وهذا رابع أبيات ثلاثة أولها: تقول ابنة العوفي ليلى ألا ترى إلى ابن كراع لا يزال مفزعا ثم قال بعد ذلك: فإن تزجراني يا بن عفان .... فواضح أن الخطاب هنا لواحد لكن خوطب بخطاب المثنى. ولماذا يخاطب العرب أحياناً الواحد والجمع بخطاب المثنى؟ سبب ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرفقة أدنى ما تكون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، فبدلاً مما يخاطب ثلاثة يخاطب واحداً ويشرك الاثنين الآخرين في الخطاب؛ لأن الغالب أن الاثنين بجانب هذا المخاطب، ألا ترى الشعراء أكثر شيء قيلاً: يا صاحبيّ، يا خليليّ. وخطاب المثنى والمقصود به الواحد كثير في الشعر، مثل قول امرئ القيس : قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل (قفا) مثنى وهو يخاطب واحداً، وكذلك قوله: خليليّ مرا بي على أم جندب نقضِّ لبانات الفـؤاد المعـذب فقال: (مرا بي) والخطاب لواحد، فهذا كثير نلاحظه في الشعر. ((كل كفار)) الكَفَّار: كل جاحد وحدانية الله تعالى، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والعنيد المعاند للحق وسبيل الهدى، لا يسمع دليلاً في مقابلة كفره.
قال تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [ق:25-26]. ثم أضاف الإنسان إلى الكفر المبالغ فيه وإلى العناد والجحود ذنباً ثالثاً وهو أنه مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ . (مناع للخير) يعني: للخير الكلي الجامع الذي هو دين الإسلام، فهو يبخل على نفسه بالدخول في الخير العميم الذي هو الإسلام. وأحياناً يطلق الخير في القرآن الكريم على المال، مثل قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وليس المراد حب الإنسان الأعمال الصالحة، فإن السياق يبين أن المقصود حب المال: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:6-8]. والإنسان في القرآن الكريم عموماً يأتي في سياق الذم، والناس الآن يستعملون لفظة الإنسانية بمعنى الرأفة والرحمة والرفق بالناس، لكن هذا الاستعمال غير معروف في القرآن الكريم، فالإنسان في القرآن يقصد به الآدمي ناقص الهداية الربانية، فهو يرجع لأصله وطبعه الأصلي الذي هو البخل والسحت والظلم والجهل، وسائر صفاته التي ذكرت في القرآن وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6] إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]. فلفظة الإنسان في القرآن الكريم هي في سياق الذم لهذا المخلوق الآدمي قبل أن يتحلى بالوحي، وقبل أن يهتدي بنور القرآن والسنة، فإذا انخلع عن التأديب الرباني والتهذيب المحمدي، فهو الإنسان الكنود الظلوم الجحود العنيد الكفار وهكذا. فالسياق في هذه الآيات ذم: ((إن الإنسان لربه لكنود. وإنه على ذلك لشهيد. وإنه لحب الخير لشديد)) وهو يؤيد أن الخير المقصود به هنا المال، فمن صفات الإنسان شدة الحرص على المال، فهو جموع منوع. وشاهد آخر يدل على أن الخير يراد به المال، قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180] أي مالاً. إذاً: قوله تعالى في هذه الآية في صفات الكافر: ((مناع للخير)) معناه: مناع للمال، أي: لا ينفق المال في أوجه الخيرات. والخير إما كلي أو جزئي، فالخير الكلي هو الإيمان فمعنى ((مناع للخير)) على هذا أنه يستنكف عن أن يدخل في الإسلام، ولا يحسن إلى نفسه بأن ينقذها من النار، ويدخلها في أمة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم. أو أنه مناع للخير الجزئي، وهو المال، وهذا قول ثان. وقال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: إن الخير هنا كل حق وجب لله أو لآدمي في ماله؛ لأنه لم يخصص منه شيء، فدل على أنه كل خير يمكن منعه طالبه. فالأقوال ثلاثة. وقوله: ((معتد)) أي: متجاوز للحد في الاعتداء على الناس بلسانه بالبذاء والفحش في المنطق، وبيده بالسطوة والبطش ظلماً، قال قتادة : معتد في منطقه وسيرته وأمره. وقوله: ((مريب)) أي: شاك في الحق، أو موقع صاحبه في الريب مع كثرة الدلائل على الوحدانية وعلى قضايا الإيمان. وأدلة التوحيد مبثوثة في الآفاق وفي أنفسنا. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ أي: عبد معه معبوداً آخر من خلقه فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ أي: في عذاب جهنم. ولا شك أن هذه الصفات هي ثمرات الكفر بالله سبحانه وتعالى.
وقفة مع الجهاد الشيشاني ضد الروس
وأنا أتلو عليكم هذه الصفات من صفات الكفار تلح علي نفسي أن أقف وقفة مع ملاحدة الروس لعنهم الله وأذلهم، فالإنسان قد يحدث نفسه حينما يعايش محنة المسلمين، وقد يسأل نفسه سؤالاً ويود أن يعرف جوابه مباشرةً: فهؤلاء الملاحدة الروس يعيثون الآن فساداً بهذا العدوان الظالم على إخواننا المسلمين في الشيشان، ويسمون المجاهدين عصابات وهم أصحاب البلد، وقد ارتبطوا بدولة لها رئيس اسمه أصلان مسخادوف، فكيف يكونون عصابات؟ نعم. فهم بحمد لله قد أدبوا ثاني أكبر قوة في العالم، ومرغوا كرامتها في الوحل، وفي كل مدة يصرح بعض القادة بأن الانتصار بعد شهر، أو بعد شهرين، ومنذ أربعة أشهر أو أكثر وهم يجزمون بالنصر، والسؤال الذي يلح علي هو أنهم في هذه الشدة الفريدة خسروا نائب القائد الأعلى لهم في الشيشان، فقد قتل ولله الحمد، وأحد الإخوة الشيشان كان في حديث صحفي مع مراسل في مصر، فقال: نحن لا نجزع حتى لو أخذ الروس الشيشان، فنحن حددنا خيارات فإما النصر وإما الشهادة، وهي نصر، فكل مسلم يدعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة في سبيل الله؛ لأنه على يقين أن هذه هي بداية السعادة الأبدية، وأضمن شيء لغفران الذنوب ونيل الدرجات العليا في الجنة، فالمسلم يتمنى أن يقتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا, وهذا الجندي الروسي أو القائد الروسي في سبيل ماذا يقاتل؟ وعند الشدة إلى من يلجأ؟ الروس بدءوا يتهمون جورجيا بأنها تؤوي هؤلاء الشيشان المقاتلين، وجورجيا وضحت وقالت: الحقيقة أن الجنود والضباط الروس يبيعون أسلحتهم للمجاهدين الشيشان! ويحملونها في السيارات، وينقلونها إلى داخل الشيشان، وهم يعلمون أن المجاهدين يقاتلون بها جيشهم، لأنهم لا إيمان عندهم! تخيل إنسان لا يؤمن بالغيب كيف يكون؟ وكالات الأنباء التي هي منحازة ضد الإسلام، ولا أقول: محايدة، بل هي لا تملك نفسها، ومع هذا تثني على صمود الإخوة الشيشان أمام الروس، والروس أنفسهم يقولون: نحن لا نقاتل بشراً، بل نقاتل جناً أو شياطين، ويقولون: إن نسبة الخطأ في إصابة الهدف عند المقاتلين الشيشان واحد بالمائة، ولو تسمعونهم في الأخبار يضجون ويصرخون لكون القناصة المسلمين لا يسمحون لأي روسي يمشي من غير أن يوقعوه في الأرض، ولذلك فإنهم بفعلتهم قد دخلوا في الفخ؛ لأن الإخوة الشيشان قالوا: ليس الروس هم الذين دخلوا قروزني، بل نحن سمحنا لبعض قواتهم أن تدخل العاصمة لنجعلها مقبرةً لهم، ووكالات الأنباء نفسها تقول: إن الحرب السابقة في الشيشان منذ عدة سنوات حولت قروزني إلى مقبرة للجنود الروس. فالشاهد هو الفارق بين أخلاق الإيمان وأخلاق الكفر، وبين ثبات المؤمنين وتزعزع الكافرين، وهم يسمونهم عصابات تحقيراً لهم، وازدراء لهم، وروسيا تدعي أن الشيشان جزء من الجمهورية الروسية، فهل توجد دولة في العالم تفعل في مواطنيها ما تفعله روسيا الآن في الإخوة الشيشان وفي المدنيين؟ ينبغي ألا نكف عن الدعاء لهم، وهذا هو الشيء الوحيد الذي نستطيع أن نقدمه لإخواننا، فاجتهدوا في الدعاء لإخواننا أن ينصرهم الله سبحانه وتعالى، ويجعلهم مسماراً آخر في نعش إمبراطورية الشرق من الروس الملحدين. تأمل في صفات الملاحدة وانظر إلى صفات المؤمن، قال خالد بن الوليد للكفار: أتيتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة! بل أشد، فالمسلم عندما يقاتل يضحي بكل شيء؛ لأنه يضمن الجنة بإذن الله، كما قال النبي عليه السلام (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج بسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه). والإنسان لابد أنه ميت، فلتكن هذه الموتة الشريفة التي ينتقل بعدها مباشرة إلى الجنة. المسلم على يقين بأن الشهيد لا يجد من ألم الإصابة إلا كما يجد الإنسان ألم القرصة. فهذا هو أثر العقيدة، أعني أن هؤلاء الذين يسمونهم عصابات تحقيراً لهم قد أذلوا كبرياءهم، ومرغوا كرامة دولة الكفر والإلحاد في الوحل، والأخبار تأتي بين وقت وآخر بنصر الله سبحانه وتعالى، قال بعض المجاهدين الشيشان: تأتي أحياناً طلقات من جهة من جهاتنا إلى الروس، وليس أحد منا يضرب بالنار! وكأنها ملائكة تقاتل معهم، والله تعالى أعلم، فهذه ثمرات الإيمان بالله واليوم الآخر. وفي الجهة الأخرى هذه ثمرات الإلحاد، فهم أنفسهم يبيعون الأسلحة للشيشان! فماذا قال الروس في تبرير بعض انتصارات الإخوة الشيشان؟ قالوا: الحقيقة أن بعض القوات الروسية أخذت رشوة من القوات الشيشانية، وهذا مثل أصحاب كرة القدم إذا انهزم فريق، حيث يقولون: إن الحكم أخذ رشوة من الفريق المنتصر. فلعل الله سبحانه وتعالى أن يبشرنا قريباً بنصر إخواننا، واندحار هؤلاء الملاحدة، وأن تكون الشيشان مقبرة لكل المجرمين ما بين قتيل وأسير، وأن يرفع الله سبحانه وتعالى كلمته، ويعز أهل الإسلام وأهل التوحيد.
يقول الله تعالى: قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق:28]. أي: لا فائدة في اختصامكم ولا ثمرة ترجى من ورائه؛ لأنكم الآن في دار الجزاء، ولستم في دار العمل. (( وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ )) في الدنيا (( بِالْوَعِيدِ )) لمن كفر بي وعصاني وخالف أمري ونهيي في كتبي وعلى السنة رسلي. فقوله تعالى: (( لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ )) ليس المراد به الانتهاء والتوقف عن الخصام؛ لكن المقصود أن يعلموا أنه لا فائدة من الاختصام؛ لأنه لن يعود عليكم الخصام والجدال وتبرؤ بعضكم من بعض واتهام بعضكم بعضاً بفائدة، وكذلك الاستماع لهذا الخصام لن يفيد بشيء، كأنه قال: لا اختصام مسموع عندي، وقد سبق وصح تقديم الوعيد حيث أمكن انتفاعكم به، لسلامة الآلات من السمع والبصر والعقل، وأنتم الذين عطلتم هذه الآلات عن أن تعمل فيما خلقت من أجله، فلم تنتفعوا بكل هذا ولم ترفعوا بذلك أساً، فحق عليكم القول بالعذاب. وعن ابن عباس في هذه الآية الكريمة قال: إنهم اعتذروا بغير عذر فأبطل الله حجتهم، ورد عليهم قولهم، فقوله: (( قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ )) أي: هذا عذر غير مقبول. ((وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)) أقمت عليكم الحجة في الدنيا.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |