قال الله تبارك وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]. يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: يعني بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، إنا حكمنا لك -يا محمد- حكماً لمن سمعه أو بلغه على من خالفك وناصبك من كفار قومك، وقضينا لك عليهم بالنصر والظفر؛ لتشكر ربك، وتحمده على نعمته بقضائه لك عليهم، وفتحه ما فتح لك، ولتسبحه وتستغفره، فيغفر لك لفعالك ذلك ربك ما تقدم من ذنبك قبل فتحه لك ما فتح، وما تأخر بعد فتحه لك ذلك ما ذكرته واستغفرته. وبهذا يتبين ما قد يستشكل بعض الناس من العلاقة بين قوله تعالى: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))، وبين قوله: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، فما وجه الارتباط بينهما يقول الإمام ابن جرير : (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يعني: لتحمد الله سبحانه وتعالى على هذا الفتح، ولتسبحه وتستغفره، فبكل هذا يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك: قبل الفتح، وما تأخر أي: بعد الفتح. يقول الإمام شيخ المفسرين: وإنما اخترنا هذا القول في تأويل هذه الآية لدلالة قول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، يعني: بعد الفتح أمره بقوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، يغفر لك بعد الفتح، ولذلك قال في سورة الفتح: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ )) يعني: فتحنا لك فتحاً مبيناً، حتى إذا ما جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره؛ يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. إذاً: لابد أن نفهم هذه الآية في ضوء آية سورة النصر، فهذه السورة تدل على صحة هذا التفسير. يقول الحافظ الإمام ابن جرير : إذ أمره تعالى ذكره أن يسبح بحمد ربه إذا جاءه نصر الله وفتح مكة، وأن يستغفره، وأعلمه أنه تواب على من فعل ذلك، ففي ذلك بيان واضح أن قوله تبارك وتعالى: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) إنما هو خبر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم على توحيده وشكره له على النعمة التي أنعم بها عليه، وإظهاره إياها؛ والله تعالى لا يجازي عباده إلا على أعمالهم دون غيرها؛ لأنه سبحانه وتعالى يقول: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ))، وهذا كله جزاء، والجزاء والثواب دائماً يكون مبنياً على فعل العبد نفسه وليس على فعل الله، يعني: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ))، فمغفرة الله وإتمام النعمة على النبي عليه الصلاة والسلام تكون جزاء لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، أنه يسبح الله ويحمده، ويستغفره فيغفر له، وقد صح الخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يقوم حتى تتورم قدماه، فقيل له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً)، ففي ذلك دلالة واضحة على أن الذي قلنا من ذلك هو الصحيح من القول، وأن الله تبارك وتعالى إنما وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم غفران ذنوبه المتقدمة على شكره له على نعمه التي أنعمها عليه، وكذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة)، ولو كان القول في ذلك أنه من خبر الله تعالى لنبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر على غير الوجه الذي ذكرنا؛ لم يكن لأمره إياه بالاستغفار بعد هذه الآية ولا لاستغفار النبي صلى الله عليه وسلم ربه جل وعلا من ذنوبه بعدها معنى يعقل؛ لأن الاستغفار معناه: أن العبد يطلب من الله غفران ذنوبه، فإذا لم يكن له ذنوب تغفر لم يكن لمسألته إياه غفرانها معنى؛ لأنه من المحال أن يقال: اللهم اغفر لي ذنباً لم أعمله، وقد تأول ذلك بعضهم بمعنى: ليغفر لك ما تقدم من ذنبك قبل الرسالة، وما تأخر إلى الوقت الذي قال فيه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )). وأما الفتح الذي وعد الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم هذه العدة على شكره إياه عليها فإنه فيما ذكر الهدنة التي جرت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش بالحديبية.
كلام السرخسي في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قال العلامة
السرخسي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: قوله تعالى:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ))، لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها؛ لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له! والجواب عن هذا من وجهين: الأول: وهو اختيار
ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه، أن المعنى: إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح. الدلالة الوضعية للألفاظ إما أن تكون دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام، ودلالة المطابقة هي أن اللفظ يدل على المعنى الذي وضع له، مثل: لفظة (الإنسان) فيها دلالة مطابقة على الحيوان الناطق، فتنطبق تماماً عليه، أما دلالة التضمن فهي تدل على جزء المعنى، أي: دلالة اللفظ على جزء معناه، كما إذا قلت مثلاً: (الإنسان)، فتدل على جزء معنى الإنسان، أما دلالة الالتزام فهي دلالة تدل على لازم المعنى العقلي، يعني: إذا قلنا: أربعة فنفهم من هذا أن ذلك يلزم منه أن الأربعة عبارة عن عدد زوجي، فهذه دلالة الالتزام. فقوله تعالى: (
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يدل بدلالة الالتزام أنه يلزم من ذلك شكر النبي صلى الله عليه وسلم لنعمة الفتح، فإذا شكر الله على نعمة الفتح كافأه الله بأن يغفر له ذنوبه المتقدمة والمتأخرة بسبب شكره؛ لأنه يشكر الله بأنواع من العبادات يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، والجزاء إنما يكون على فعل العبد، لا على فعل الرب سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يقول:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ، وهذا الفتح في حد ذاته لا يترتب عليه مغفرة الذنوب؛ لأن الذي فتح هو الله، وإنما الذي فعله النبي عليه السلام هو أنه بعدما فتح الله عليه قال بشكر نعمة الفتح، وامتثل ما أمره الله تعالى في قوله:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، حينئذ فكان بعد الفتح يكثر من التسبيح والاستغفار، فغفر الله له طبقاً لذلك ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكراً على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه؛ لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، ثم قال:
فَسَبِّحْ فهذا فيه ترتيب المعلول على علته، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله تعالى:
إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا . فهذا من حيث الدلالة من القرآن بتفسير الآية بسورة النصر، وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أزواجه: (
أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبداً شكوراً ؟!) يعني: قد غفر الله لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فيترتب على ذلك أن أشكر الله سبحانه وتعالى، فبين عليه الصلاة والسلام أن اجتهاده في العمل هو لشكر تلك النعمة، وترقب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به، فـ: (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) هذه عاقبة وثمرة اجتهاده في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالاستغفار والتسبيح والعبادة. الوجه الثاني في تفسير الآية: أن قوله: (
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله، بمعنى: بما أنك -يا نبي الله- قد جاهدت في الله حق الجهاد، وترتب على هذا الجهاد الفتح من الله سبحانه وتعالى، فإن جهادك يكون سبباً لغفران ذنوبك المتقدمة والمتأخرة، فيكون المعنى هنا: ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح؛ لأن فتح الله له سبب، والسبب هو الجهاد في سبيل الله، فالمعنى: أنه ترتب على جهادك في سبيل الله سبحانه وتعالى حق الجهاد أن فتح الله عليك، فبسبب جهادك يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، هذا حاصل ما قاله المفسرون في هذه الآية، كذلك قال
القاسمي كلاماً قريباً من هذا، وقال:
أبو السعود : قوله: (ليغفر لك الله) غاية للفتح من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب. قوله: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) أي: جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل صلى الله عليه وسلم.
كلام ابن كثير في معنى قوله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قال الحافظ
ابن كثير القرشي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: لم تثبت هذه الفضيلة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً في عاشوراء يكفر السنة الماضية، ويوم عرفه صيامه يكفر سنة ماضية وسنة مقبلة، أما أن يقال لعبد من عباد الله: إنه قد غفر الله له على سبيل التحقيق ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهذه من تشريف الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة صلى الله عليه وسلم، ولما كان أطوع خلق الله لله وأكثرهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة: (
حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) وقوله: (حبسها حابس الفيل) أي: الذي حبس الفيل عن أن يدمر الكعبة المشرفة، ففيه إشارة إلى أن هذا أمر إلهي من عند الله سبحانه وتعالى، فحينما بركت الناقة -كما سيأتي إن شاء الله في القصة المطولة لصلح الحديبية- فمعنى ذلك أن هذا من عند الله، ثم قال لهم: (والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أجبتهم إليها)، فهو أطاع الله سبحانه وتعالى في هذا الفعل، وأجاب إلى الصلح الذي حصل مع المشركين، فلما أطاع الله هذه الطاعة، وانقاد لأمره قال الله له:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ )) أي: في الدنيا والآخرة (( وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا )) أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم، والدين القويم، ثم قال:
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:3] أي: بسبب خضوعك لأمر الله، يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح: (
وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد إلا رفعه الله). وعن
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
المراد من قوله: (ما تقدم من ذنبك وما تأخر)
قوله تبارك وتعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )، هو كقوله تعالى:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، وقوله تعالى:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]، وقوله:
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر:3]، وبعض المفسرين قالوا: معناه ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعدها. وقال بعضهم: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ) يعني: من ذنب أبويك آدم و
حواء ، ( وَمَا تَأَخَّرَ ) أي: من ذنوب أمته، وما أبعد هذا التفسير عن معنى القرآن كما قال الشيخ
صديق حسن خان رحمه الله تعالى! فهذا تأويل بعيد جداً عن قواعد علم التفسير. وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده، وهذا أيضاًً بعيد كالذي قبله. وقيل: ما تقدم من ذنب يوم بدر، وما تأخر من ذنب يوم حنين، وهذا كالقولين السابقين في البعد عن المدلول، وقوله: ما تقدم من ذنب يوم بدر، هو إشارة إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام يوم بدر: (
اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبداً)، فقال: هذا هو الذنب المتقدم! لكن هذا يحمل على الوجه الصحيح، حيث لم يكن على الأرض مسلمون غير تلك الفئة؛ فليس فيها أي معنى محذور، وقوله: ( وَمَا تَأَخَّرَ ) أي: يوم حنين، هو إشارة لما روى أنه لما رمى المشركين بالحصباء قال: (
لو لم أرمهم لم ينهزموا؛ فأنزل الله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17])، وهذا هو المتأخر، وهذا قول بعيد. وقيل: ( مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ) أي: لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك، وقيل غير ذلك مما لا وجه له، والأول أولى، فيكون المراد بالذنب الأول هو ما تقدم من ذنب قبل الرسالة، وما تأخر بعد الرسالة، والمراد بالذنب بعد الرسالة ترك ما هو الأولى، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره عليه الصلاة والسلام، وإن لم يكن ذنباًً في حق غيره، فهو من باب: (حسنات الأبرار سيئات المقربين). وقوله تعالى:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ *
الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:2-3]، الوضع يكون للحط والتخفيف، ويكون للحمل والتثقيل، فإن عدي بـ(عن) كان للحط كقوله:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، وإن عدي بـ(على) كان المعنى الحمل، فوضعت عنك، غير وضعت عليك. والوزر لغة: الثقل قال تعالى:
حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4] أي: ثقلها من سلاح ونحوه، ومنه الوزير؛ لأنه يتحمل ثقل أميره وشغله. والوزر شرعاً: هو الذنب، كما في الحديث: (
من سن سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)، وقد يترادفان في التعبير، كقوله تعالى:
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [النحل:25]، وقوله:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت:13]، أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق، ولم يبين ما هو وما نوعه، فلذلك اختلف المفسرون فيه اختلافاً كبيراً كقوله:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ، قيل: ما كان فيه من أمر الجاهلية، وحفظه من مشاركته معهم، فلم يلحقه شيء منه، مع أنك كنت بعيداً عن أهل الجاهلية، لكن وضعنا عنك وزرك، أي: حفظناك من أن تفعل ما كان يفعله الجاهليون، وقيل: ثقل تألمه مما كان عليه أمر الناس ولم يستطع تغييره، وشفقته صلى الله عليه وسلم بهم، يعني: أن هذه الآية: (
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ) كقوله تعالى -على هذا التفسير-:
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، يعني: أسفاً عليهم. وقال
أبو حيان : (
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ): كناية عن عصمته صلى الله عليه وسلم من الذنوب، وتطهيره من الأوزار. ومهما يكن من شيء فإن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها؛ لنص القرآن الكريم في قوله تعالى:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] ولوجوب التأسي به، وامتناع أن يكون في شيء من ذلك خطأ، فحكمة الله أن جعل الأنبياء معصومين؛ لأننا مأمورون بالاقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم، فلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الرسالة معصوم من الصغائر والكبائر، أما قبل البعثة فلا شك في العصمة من الكبائر أيضاً؛ لأنه كان في مقام التهيؤ للنبوة منذ صغره، وقد شق صدره الشريف في سن الرضاع، وأخرج منه حظ الشيطان، كما ثبت ذلك في صحيح
البخاري ، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته، ولم يذكر من ذلك شيء، فلم يبق إلا القول في الصغائر، فهي دائرة بين الجواز والمنع، فإن كانت بعد البعثة فهو معصوم من الصغائر والكبائر، وقبل البعثة فقطعاً هو معصوم من الكبائر، أما الصغائر فالأمر يدور فيها بين جواز وقوع ذلك أو منعه، وإن كانت جائزة الوقوع فوقعت فإنها لا تمس بمقامه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها وقعت قبل البعثة وقبل التكليف، وقد غفرت وحط عنه ثقلها، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه فهذا هو المطلوب. وقد ساق
الألوسي رحمه الله تعالى خبر أن عمه
أبا طالب قال لأخيه
العباس يوماً: لقد ضممته إلي وما فارقته ليلاً ولا نهاراً، ولا ائتمنت عليه أحداً، وذكر قصة مبيته ومنامه في وسط أولاده أول الليل، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظاً عليه، ثم قال: ولم أر منه كذبة ولا ضحكاً ولا جاهلية، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون. ومما جاء في كتب التفسير: أنه عليه الصلاة والسلام أراد مرة في شبابه أن يذهب إلى مكان عرس ليرى ما فيه، فلما دنا منه أخذه النوم، ولم يستيقظ إلا على حر الشمس، فصانه الله من رؤية أو سماع شيء من ذلك، ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة، حين سقط منه الرداء ومنع منه وفي الحال استتر، فهذه أدلة أصحاب المذهب الذي يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم حتى من الصغائر قبل البعثة. فما هو الجواب عن قول الله تبارك وتعالى:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]؟ ما هو هذا الوزر؟ ولماذا قال:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]؟ قيل في الجواب: إنه تكريم له صلى الله عليه وسلم، فكلمة: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) هذا تكريم له، وكما جاء في أهل بدر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (
لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، مع أنهم لم يفعلوا محرماً، ولكنه تكرم منه لهم، ورفع لمنزلتهم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوب ويستغفر، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه فقال: (
أفلا أكون عبداً شكوراً)، فكان كل ذلك منه شكراً لله تعالى ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قال في أحد أصحابه -وهو
صهيب رضي الله عنه- : (
نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه)، و
صهيب حسنة من حسنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء يقول: (
غفرانك)، فبالنسبة لمقامه الشريف هو يرى أنه توقف لسانه عن الذكر، وبلا شك أنه كان يذكر الله بقلبه حتى في حال التخلي، لكن كان يضطر إيقاف لسانه عن ذكر الله في هذه الفترة التي لا يليق فيها ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان، ويقتصر على ذكر الله بالقلب، فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن هذا منه ذنب وتقصير، حيث حرم من ذكر الله باللسان، فكان إذا خرج من الخلاء قال: (غفرانك)، يعني: لإمساك لساني عن ذكرك في هذه الحال، فهو سأل الله المغفرة مع أنه لم يأت في الحقيقة بموجب للاستغفار، وإنما شعوره بترك الذكر في تلك الحالة هو الذي استوجب منه الاستغفار، وقد استحسن العلماء قول
الجنيد : (حسنات الأبرار سيئات المقربين)، فالمسألة نسبية بالنسبة لمقام العبد عند الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا في حق أمهات المؤمنين:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ.. [الأحزاب:32]، إلى آخر الآية، وقال:
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:30-31]، وهذا لعظم مقامهن، فإذا صدر من أي أم من أمهات المؤمنين ذنب فإنه يضاعف لها العذاب؛ لشرف وعلو مقامها عند الله سبحانه وتعالى في الجهتين، فما بالك بالنبي نفسه صلى الله عليه وآله وسلم؟! أو أن المراد بمثل هذه الآيات:
وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]،
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]، هو ما جاء في القرآن الكريم من بعض اجتهاداته صلى الله عليه وسلم في سبيل الدعوة، فما ظن أنه ذنب في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو وصفه ربه على أنه ذنب فهو في الحقيقة واحد من اثنين: إما أنه من باب ترك الأولى، وهو ذنب بالنسبة لمقامه الشريف، أو أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد وظن أن في هذا الأمر الذي فعله رضوان الله، فبعد ما فعله أعلم أن رضاء الله كان في الاجتهاد الآخر؛ فعد ذنباً في حقه صلى الله عليه وآله وسلم، أما أن يتعمد معصية فلا وألف لا، ومثال