ثقافة المرأة
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
للآنسة أسماء فهمي (درجة شرف في الآداب)
اتجه خاطري نحو هذا الموضوع بعد قراءة تعليق (الرسالة) على خطاب الآنسة حياة التي تشكو من أن أصحاب (الرسالة) قد حرم المرأة أن يكون لثقافتها مظهر في مجلته بجانب ثقافة الرجل، ورد صاحب الرسالة بأنه لم يرد أن يسمح للرجال بالتحدث عن شؤون النساء الخاصة. ولست أفهم تماماً المقصود بشؤون النساء، أهي أمور الدار وتربية الأطفال، أم المراد مساهمة المرأة في ميدان التحرير وطبع الأدب بطابعها الأنيق الخاص، بصرف النظر عن الموضوعات النسوية البحتة؟ وسواء أكان المقصود الأمر الأول أم الثاني أم الاثنين معاً فأن موضوع ثقافة المرأة العامة، هو ما ينبغي أن يبدأ ببحثه حتى نتبين ما إذا كانت ثقافة المرأة تنحصر في دائرة خاصة، وهل يحسن أن يكون لها تعليم وتهذيب يختلفان عن تعليم الرجل وتهذيبه. وقد لا يكون من غير الملائم لفت الأنظار إلى هذا الموضوع في الوقت الذي تطور فيه تعليم الفتاة في العشر سنين الأخيرة تطوراً عظيماً، فبعد أن كان تعليمها قاصراً على بعض الفنون المنزلية ومبادئ القراءة والكتابة وقشور اللغات الأجنبية، أصبحت تتلقى من العلوم ما يتلقى الفتى في المدارس الابتدائية والثانوية، كما أصبحت تدرس معه جنباً إلى جنب في الجامعات. وبالرغم من أن مصر لم تبتدع ذلك النظام، وإنما نسجت فيه على منوال الأمم الراقية التي تأخذ عنها جل نظم الحضارة والعمران، فأن ذلك الانتقال لم يتقبله الكثيرون قبولاً حسناً بعد، لأنهم يرون فيه ضياعاً لوقت الفتاة التي خلقت لأن تكون أماً، زاعمين أن سيكولوجية المرأة وتركيبها النفسي، ووظيفتها في الحياة تستدعيان أعداداً خاصاً وتعليماً غير تعليم الرجل.
ويظهر أن أنصار هذا المبدأ لهم تفسير خاص، لأغراض التعليم ومعنى الثقافة! أما ما يفهم عادة من الثقافة فهو كل ما من شأنه تهذيب النفس وصقل العقل وتقويم العاطفة وتوسيع المدارك وعلى ذلك يدخل تحت الثقافة العلوم بأنواعها والفنون والآداب والأخلاق، وكل ما يكتسب المرء من تجارب وتعليم عملي في الحياة.
ولما كان هذا النوع من الغذاء العقلي والروحي لا يستغني عنه الإنسان الذي يصبو إلى الكمال، وكانت المرأة إنساناً تختلف، عن الرجل من هذه الناحية، فلا بد لها من غذاء عقلي ومعنوي أيضاً، ولما كان التكافؤ العقلي بين الجنسين أصبح من الأمور المسلم بها، وجب إذن أن يتغذّى عقل المرأة كما يتغذى عقل الرجل حتى تصل إلى حظ مثل حظه من الثقافة.
نعم لا مفر الآن من تثقيف المرأة بالطريقة التي تتبع في تثقيف الرجل، إذ أصبح من الجلي الآن إن الطريقة القديمة لتعليم الفتاة لم تنتج غير مخلوق ناقص من نواح كثيرة، بدليل هجران الرجل لمنزله في كثير من الأوقات، لأن شريكة حياته تعجز عن أن تمده بالنصح والمعونة، كما تعجز عن جعل دارها مهبطاً للجمال والتسلية.
أقول هذا القول وأشعر إنني لو قلته في بلد آخر متمدن غير مصر، لنظر الناس إليّ بمنتهى الدهشة، نظرتهم إلى من يخبرهم مثلاً إن النهار في الصيف أطول منه في الشتاء، ظاناً إنه يذكر لهم أمراً طريفاً!.
.
ولكن مصر التي سارت بخطى واسعة جداً في نواح كثيرة من نواحي التقدم والرقي مازالت تتردد في قبول بعض المبادئ التي تعد أساس الرقي الصحيح وعنوان الحضارة، أعني مساواة المرأة بالرجل في الحقوق وخصوصاً الثقافة. وليس الغرض الرئيسي من تعليم الفتاة كما يظن الكثيرون تأهيلها لمزاولة مهنة من المهن كالمحاماة أو الطب أو الهندسة، وإنما الأهم أن تصل إلى حقها الطبيعي من اعتيادها التفكير المنظموإكسابها خلق الاعتماد على النفس والاعتداد بالكرامة، وذلك لا ينشأ إلا عند تبيّن مبلغ المقدرة الشخصية والاستعداد.
ولا ضير إذا هي لم تستخدم تلك المعلومات بالذات في حياتها المنزلية إذ الغرض الأساسي من التعليم كما يقول أفلاطون في (الجمهورية): توجيه الروح إلى النور باعتياد التفكير المنتجوبالابتعاد زمناً ما عن قيود الماديّات.
والواقع إننا نحط من شأن التعليم كثيراً إذا نظرنا إليه قبل كل شيء كوسيلة لتحقيق غرض مادي.
فالتعليم يجب أن يعتبر غرضا في ذاته قبل أن ينظر إليه بتلك النظرة المادية سواء في حالة تعليم المرأة أو تعليم الرجل.
سأل مرة أستاذ في إحدى الجامعات الكبرى تلميذه لماذا يتعلم تعليماً جامعياً ولم اختار التاريخ لفرع تخصصه.
فكان جواب الطالب الصريح مما أهاج الأستاذ الذي لم ير مغضباً من قبل.
وذلك انه أجاب إنما يتعلم ليحصل على درجة عالية تمكنه من الحصول على وظيفة تضمن له رغد العيش.
ثار الأستاذ وغضب لأنه شعر أن تلميذه لا يتعلم لوجه العلم، وعلى ذلك فهو يفقد أهم شروط التهذيب الصحيح. فبغير هذا الشرط لا يمكن أن يمتزج العلم بالنفس أو بعبارة أخرى لا يمكن أن تحدث الثقافة.
وعلى ذلك تكون المرأة امتن ثقافة وأعمق تهذيباً لو تعلمت تعليم الرجل لأنها في الغالب تتعلم العلم فيكون لإنتاجها مظهر جذاب لأنه بعيد عن المؤثرات المادية التي كثيراً ما تعترض تقدم الرجل.
إلا أن ثقافة المرأة لا تكمل ولا يصبح لها أثر محسوس إذا علمناها علوم الرجل بينما تحرم مما يستمتع به من حرية وإرادة مستقلة، وتحاط بسياج من التقاليد العتيقة والرقابة الخانقة، فهي في هذه الحال تقول بمرارة: من لي بعيش الأغبياء.
كما أنه لا يمكن أن يصدر عنها ثقافة عالية، إذ ينقصها بسبب قيودها الشخصية والابتكار والصراحة والنظرة العلمية.
.
وهكذا تبدو ثقافتها مبتورة وان تناهت في الظرف وتألق فيها الذكاء الباهر. وهنا قد يسأل سائل: وما مبلغ أثر التعليم المنزلي في ثقافة المرأة؟ إني وإن كنت أريد تعليم المرأة تعليماً عالياً ابتغاء وجه العلم، أو استعداداً للعمل فلست ممن ينكرون ما للتعليم المنزلي من أهمية في ثقافة المرأة.
وهو لا ينفعها عملياً فحسب، وإنما لهذا التعليم أثر جميل في إنتاجها العقلي أو مظهر ثقافتها.
وقد كان يقال عن (جين أوستن) الكاتبة الإنجليزية التي اشتهرت ببراعة الأسلوب وسمو الخيال ودقة التحليل إنها إنما اكتسبت الطلاوة في التعبير، والدقة في التفاصيل، من تدريبها الطويل على استعمال الإبرة والمنسج.
والواقع أن مثل هذا التعليم يكسب المرأة المقدرة على مراعاة النسب ودقة الأسلوب ودقة الحساسية، وكل ذلك يبدو واضحاً إلاّ أن ما يعترض عليه بشدة هو تضحية التعليم العام من أجل هذا التعليم المنزلي، بحجة عدم استخدامه عملياً في وظيفتها الخاصة.
انه لمنتهى الظلم إلاّ ننظر إلى المرأة كإنسان له حق كامل في الحرية والتعليم قبل أن ننظر إليها كأم أو دمية منزل، بل أن منتهى الاستهتار بمواهب المرأة أن نكتفي منها بالقشور دون اللباب، فلا نحاسبها على عدم تعمقها في التعليم وإنما ننظر إليها نظرة كنظرة أهل العصور الوسطى، الذين كانوا لا يطلبون من المرأة أكثر من اتصافها بالعفة والصيانة.
أما الصفات الأخرى كالذكاء وبُعد النظر والشجاعة والصراحة فلم يكن عليها إقبال يذكر؛ وإنما الاستكانة والخشوع كانا من أهم مميزات الكمال النسوي في تلك العصور.
ولقد كانت (جرزلدا الصبور) التي تحملت مرارة هجر الزوج وقسوته مثل الفضيلة والأمومة الصالحة عندهم.
وأخشى أن تكون (جرزلدا) هذه لا تزال المثل الأعلى للزوجة عند الكثير من الرجال.
إن التطورات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي تبعد الشقة كل يوم بين العصور الوسطى والعصر الحديث، تفرض علينا تغيير الآراء القديمة بالنسبة إلى مركز المرأة وثقافتها.
ففي حياتنا الحديثة المتشعبة المسالك الكثيرة المطالب، المملوءة بالصراع والتنافس لم يبق مكان للمرأة الساذجة الضعيفة.
وعلى ذلك كان من الخطأ الكبير أن نتعمد إنقاص تثقيف المرأة عن تثقيف الرجل، بل يجب أن يتناسب مقدار الثقافة مع وظيفة تلك التي تهز العالم بيسارها إذا ما هزت المهد بيمينها؛.
.
ولكن ماذا تكون النتيجة لو تعلمت المرأة كما يتعلم الرجل؟ هل تفقد مميزاتها الخاصة ولا يصبح هناك فرق بين ثقافتها وثقافته؟ الواقع أن الثقافتين لا تختلفان إلاّ شكلاً فقط، فيكون لثقافة المرأة وان اتحدت في الجوهر مع ثقافة الرجل طابعها الخاص، إذ تتجلى فيها ما تمتاز به المرأة من حنان ورقة وتأثر بالعواطف والهام وحدة ذكاء وشدة حساسية. وإنا لنأمل أن نرى أثراً واضحاً لتلك الثقافة النسوية (في الرسالة) التي تعتبر بحق رسالة الروح الحديثة المملوءة قوة وابتكاراً وتجديداً.