تفسير سورة محمد [36-38]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:36-37]. قوله تعالى: (( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )) وقال تعالى أيضاً: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32]، أي: لقصر مدتها، كما قال الشاعر: ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم وقيل: معناه: أن متاع الحياة الدنيا لعب ولهو، فالذي يشتهونه في الدنيا لا عاقبة له فهو بمنزلة اللعب واللهو، فمثلاً: ترى الأطفال يجتمعون على اللعب بالرمل أو الدمى أو غيرها، ثم ينفض هذا اللعب وينصرفون عنه كأنه لم يكن، فكذلك الدنيا. وقيل: معنى: (لعب ولهو) أي: باطل وغرور، واللعب ما لا ينتفع به، واللهو ما يلتهى به، وكل ما شغلك فقد ألهاك. وقيل: اللعب: ما رغب في الدنيا، واللهو ما ألهى عن الآخرة وشغل عنها. إلا أنه ينبغي أن يفهم من قوله تعالى: (( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )) أي: ما كان منها متمحضاً للدنيا، فليس من اللعب ولا من اللهو ما كان من أمور الآخرة؛ لأن حقيقة اللعب هو ما لا ينتفع به، ولا يترتب عليه نفع، واللهو هو: ما يلتهى به. أما ما كان مراداً للآخرة فهو خارج عن اللعب واللهو، ولذلك قال الشاعر: لا تتبع الدنيا وأيامها ذماً وإن دارت بك الدائرة من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة فالدنيا هي المزرعة التي يزرع المؤمن فيها ليحصد في الآخرة، فليس كل أمر الدنيا مذموماً، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً ومتعلماً )، والعالم والمتعلم شريكان في الأجر، وسائر الناس همج لا خير فيهم. وروي أيضاً: (من هوان الدنيا على الله: ألا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء). ويقول الشاعر: تسمع من الأيام إن كنت حازماً فإنك منها بين ناهٍ وآمر إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر فما رضي الدنيا ثواباً لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاءً لكافر وقال ابن عباس في قوله : (( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ )) هذه حياة الكافر؛ لأنه يكون فيها في غرور وباطل، وأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهواً ولا لعباً. يقول الله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [البقرة:212]، وقال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185] أي: تغر المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء، وهي فانية. والمتاع: هو ما يتنفع به كالفأس والقدر والقصعة، ثم يزول ولا يبقى ملكه. قال الحسن في قوله : (إلا متاع الغرور) أي: كخضرة النبات، ولعب البنات، لا حاصل له. أي: أن النبات يزدهر فيصير أخضر، ثم يصير في النهاية حطاماً، أو كلعب البنات فإنه لا حاصل له. وقال قتادة : هي متاع توشك أن تضمحل بأهلها، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع. قوله: (( وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ))، الغرور هو الشيطان، فهو يغر الناس بالأماني والمواعيد الكاذبة. وقال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول، يقال: هذا من بيع الغرر، وهو: ما كان له ظاهر بيع يغر، وباطن مجهول. وقال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء:77]، فوصف متاع الدنيا بأنه قليل؛ لأنه لا بقاء له، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) . وقال تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:70]. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]، وهذا الاستفهام (ما لكم) استفهام توبيخ، وقوله: (من الآخرة) أي: أرضيتم بنعم الدنيا بدلاً من نعيم الآخرة؟!! فـ(من) هنا تتضمن معنى البدل، (( أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ )) أي: بدل الآخرة، وهذا كقوله تبارك وتعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60] أي: ( لجعلنا بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون). فعاتبهم الله سبحانه وتعالى على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله تعالى عنها وقد فاقت راشدة: (أجرك على قد نصبك) ، أي: رواه البخاري على قدر المشقة التي تعانينها.

قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض...)

وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]، وقال عز وجل: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:24-25]. (( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) أي: صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها، (كماء) أي: كمثل ماء، (( أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ )) أي: اختلط بالماء نبات الأرض، فأخرجت ألواناً من النبات، أو اختلط النبات بالمطر، أي: شرب منه، فتندى وحسن واخضر، والاختلاط هو تداخل الشيء بعضه في بعض. (( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ )) أي: مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، ومما تأكله الأنعام من الكلأ والتبن والشعير. (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: حسنها وزينتها، فالزخرف هو كمال حسن الشيء، ومنه قيل للذهب زخرف. (وظن أهلها) أي: أيقن أهلها (أنهم قادرون عليها)، أي: على حصادها والانتفاع بها. (أتاها أمرنا) أي: عذابنا، أو أمرنا بإهلاكها. (ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً) أي: محصودة مقطوعة لا شيء فيها. (كأن لم تغن بالأمس) أي: كأن لم تكن عامرة، والمغاني في اللغة هي المنازل التي يعمرها الناس. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى وصف هذه الدار -وهي دار الدنيا- وصف الدار الآخرة فقال: (( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ )) أي أنه لا يرضى لكم الدنيا التي هذه صفتها وطناً، وإنما يدعوكم إلى دار السلام، فهو سبحانه لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة؛ لتصيروا إلى دار السلام، وهي الجنة. (( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) أي: بالدعوة، إظهاراً للحجة وعدلاً منه تبارك وتعالى، فتأملوا هذا، فبعدما ذم الدنيا وبين حقارتها قال سبحانه وتعالى: (( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ )) أي: يدعوا كل الخلق، بدليل أنه أغفل ذكر المفعول به، لم يقل: (والله يدعوكم)، وإنما قال: (والله يدعو)، أي: جميع الناس إلى دار السلام، للدخول في الإسلام وطاعة الله سبحانه وتعالى. ثم قال: (( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ))، فخصّ هنا في الهداية من يشاء هدايته، وعم أولاً بالدعوة؛ إظهاراً للحجة، وعدلاً منه سبحانه وتعالى أن الجميع مدعوون إلى الدخول في الإسلام والعمل الصالح؛ لأجل أن يستحقوا دخول الجنة، ثم خص بالهداية؛ استغناءً عن خلقه، ورحمة منه وتفضلاً، وهذه الآية حجة على القدرية الذين قالوا: لقد هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، أما الله سبحانه وتعالى فيقول: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]). وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69-70]، أي: أن هذا أقصى ما ينالونه في الدنيا، فإنهم يتمتعون فيها متاعاً مؤقتاً، (( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )). وقال عز وجل أيضاً: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26] أي: في جانب الآخرة (إلا متاع) أي: متاع من الأمتعة، والمتاع هو الشيء القليل الذاهب، وهو مأخوذ من قولك: متَع النهار، أي: ارتفع، وإذا ارتفع النهار فلابد له من زوال ونهاية. وقال ابن عباس في تفسير: قوله (إلا متاع) أي: زاد كزاد الراعي، وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح. وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، والزينة هي كل ما على وجه الأرض، فهو عموم من جهة خلقه وصنعه وإحكامه، فهذه الآية بسط في التسلية في مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لا تهتم يا محمد! للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ويوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنّ عليك كفرهم، فإنا سنجازيهم. ومعنى هذه الآية: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7] كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض) أخرجه مسلم ، والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها كالثمر المستحلى، المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً، أي: من يكون أزهد فيها، وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغض ما زينه الله إلا أن يعينهم الله على ذلك، ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري : اللهم! إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فهذا هو المهم، أن يغنيك الله على إنفاق هذا المال في حقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع) ، أي: أن المكثر من الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر، فكلما شرب ازداد عطشاً، أما القانع الذي يقنع بما قسم الله سبحانه وتعالى له فإنه يبارك له في ذلك. فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها؛ لأنه لم يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفتنة حاصلة معها، وعدم السلامة غالبةعليها، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية : كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]: أحسن العمل: أخْذ بحق، وإنفاق في حق، مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه. قال القرطبي : وهذا قول حسن وجيز في ألفاظه، بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد، وهو قوله لـسفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم. وقال سفيان الثوري : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] أي: أيكم أزهد فيها. وقال العسقلاني : (أحسن عملاً) أي: أترك لها.

قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء...)

قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]. (( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) أي: قس لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين، (( مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ))، فشبه الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا لا تبقى على حال واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، وكذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى بل يذهب، وكذلك الدنيا تذهب، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، وكذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، كذلك الدنيا، فالفكاك منها ينفع، وقبولها يضر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه) . وقال تبارك وتعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، وذلك أن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوة ودفعاً، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة الدنيا المحتقرة، فلا تتبعوها نفوسكم. إذاً: فهذه الآية في الحقيقة هي رد على من افتخر بالغَناء والترف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فإنه يمر ولا يبقى، كالهشيم حين تذروه الرياح، وإنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة، ولذلك قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46] أي: التي عرفتم صفتها، فلا ينبغي لأحد أن يتفاخر بهما. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46] أي: والباقيات الصالحات أفضل عند ربك ثواباً وخير أملاً، أي: أفضل أملاً من الافتخار بالمال والبنين دون عمل صالح. وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132]. وقال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]. وقد جاء اللعب مقدماً على اللهو في أربعة مواضع من القرآن الكريم، وقد نظمت في بيتين وهما: إذا أتى لعب ولهو وكم من موضع هو في القرآن فحرف في الحديث وفي القتال وفي الأنعام منها موضعان

وقال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]، وقال عز وجل: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:24-25]. (( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) أي: صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها، (كماء) أي: كمثل ماء، (( أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ )) أي: اختلط بالماء نبات الأرض، فأخرجت ألواناً من النبات، أو اختلط النبات بالمطر، أي: شرب منه، فتندى وحسن واخضر، والاختلاط هو تداخل الشيء بعضه في بعض. (( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ )) أي: مما يأكله الناس من الحبوب والثمار والبقول، ومما تأكله الأنعام من الكلأ والتبن والشعير. (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) أي: حسنها وزينتها، فالزخرف هو كمال حسن الشيء، ومنه قيل للذهب زخرف. (وظن أهلها) أي: أيقن أهلها (أنهم قادرون عليها)، أي: على حصادها والانتفاع بها. (أتاها أمرنا) أي: عذابنا، أو أمرنا بإهلاكها. (ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً) أي: محصودة مقطوعة لا شيء فيها. (كأن لم تغن بالأمس) أي: كأن لم تكن عامرة، والمغاني في اللغة هي المنازل التي يعمرها الناس. ولما ذكر الله سبحانه وتعالى وصف هذه الدار -وهي دار الدنيا- وصف الدار الآخرة فقال: (( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ )) أي أنه لا يرضى لكم الدنيا التي هذه صفتها وطناً، وإنما يدعوكم إلى دار السلام، فهو سبحانه لا يدعوكم إلى جمع الدنيا، بل يدعوكم إلى الطاعة؛ لتصيروا إلى دار السلام، وهي الجنة. (( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) أي: بالدعوة، إظهاراً للحجة وعدلاً منه تبارك وتعالى، فتأملوا هذا، فبعدما ذم الدنيا وبين حقارتها قال سبحانه وتعالى: (( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ )) أي: يدعوا كل الخلق، بدليل أنه أغفل ذكر المفعول به، لم يقل: (والله يدعوكم)، وإنما قال: (والله يدعو)، أي: جميع الناس إلى دار السلام، للدخول في الإسلام وطاعة الله سبحانه وتعالى. ثم قال: (( وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ))، فخصّ هنا في الهداية من يشاء هدايته، وعم أولاً بالدعوة؛ إظهاراً للحجة، وعدلاً منه سبحانه وتعالى أن الجميع مدعوون إلى الدخول في الإسلام والعمل الصالح؛ لأجل أن يستحقوا دخول الجنة، ثم خص بالهداية؛ استغناءً عن خلقه، ورحمة منه وتفضلاً، وهذه الآية حجة على القدرية الذين قالوا: لقد هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم، أما الله سبحانه وتعالى فيقول: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213]). وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:69-70]، أي: أن هذا أقصى ما ينالونه في الدنيا، فإنهم يتمتعون فيها متاعاً مؤقتاً، (( ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ )). وقال عز وجل أيضاً: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]، وقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26] أي: في جانب الآخرة (إلا متاع) أي: متاع من الأمتعة، والمتاع هو الشيء القليل الذاهب، وهو مأخوذ من قولك: متَع النهار، أي: ارتفع، وإذا ارتفع النهار فلابد له من زوال ونهاية. وقال ابن عباس في تفسير: قوله (إلا متاع) أي: زاد كزاد الراعي، وقيل: ما يتزود منها إلى الآخرة من التقوى والعمل الصالح. وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، والزينة هي كل ما على وجه الأرض، فهو عموم من جهة خلقه وصنعه وإحكامه، فهذه الآية بسط في التسلية في مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أي: لا تهتم يا محمد! للدنيا وأهلها، فإنا إنما جعلنا ذلك امتحاناً واختباراً لأهلها، فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ويوم القيامة بين أيديهم، فلا يعظمنّ عليك كفرهم، فإنا سنجازيهم. ومعنى هذه الآية: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7] كمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قيل: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض) أخرجه مسلم ، والمعنى: أن الدنيا مستطابة في ذوقها، معجبة في منظرها كالثمر المستحلى، المعجب المرأى، فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملاً، أي: من يكون أزهد فيها، وأترك لها، ولا سبيل للعباد إلى بغض ما زينه الله إلا أن يعينهم الله على ذلك، ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري : اللهم! إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه. فهذا هو المهم، أن يغنيك الله على إنفاق هذا المال في حقه، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع) ، أي: أن المكثر من الدنيا كالذي يشرب من ماء البحر، فكلما شرب ازداد عطشاً، أما القانع الذي يقنع بما قسم الله سبحانه وتعالى له فإنه يبارك له في ذلك. فالمكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها، بل همته جمعها؛ لأنه لم يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فالفتنة حاصلة معها، وعدم السلامة غالبةعليها، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه. وقال ابن عطية : كان أبي رضي الله عنه يقول في قوله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]: أحسن العمل: أخْذ بحق، وإنفاق في حق، مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه. قال القرطبي : وهذا قول حسن وجيز في ألفاظه، بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد، وهو قوله لـسفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم) رواه مسلم. وقال سفيان الثوري : لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2] أي: أيكم أزهد فيها. وقال العسقلاني : (أحسن عملاً) أي: أترك لها.

قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]. (( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )) أي: قس لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقراء المؤمنين، (( مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ))، فشبه الدنيا بالماء؛ لأن الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا لا تبقى على حال واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة، وكذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى بل يذهب، وكذلك الدنيا تذهب، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل، وكذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً منبتاً، وإذا جاوز المقدار كان ضاراً مهلكاً، كذلك الدنيا، فالفكاك منها ينفع، وقبولها يضر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه) . وقال تبارك وتعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، وذلك أن في المال جمالاً ونفعاً، وفي البنين قوة ودفعاً، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة الدنيا المحتقرة، فلا تتبعوها نفوسكم. إذاً: فهذه الآية في الحقيقة هي رد على من افتخر بالغَناء والترف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فإنه يمر ولا يبقى، كالهشيم حين تذروه الرياح، وإنما يبقى ما كان من زاد القبر وعُدد الآخرة، ولذلك قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46] أي: التي عرفتم صفتها، فلا ينبغي لأحد أن يتفاخر بهما. وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46] أي: والباقيات الصالحات أفضل عند ربك ثواباً وخير أملاً، أي: أفضل أملاً من الافتخار بالمال والبنين دون عمل صالح. وقال تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:131-132]. وقال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]. وقد جاء اللعب مقدماً على اللهو في أربعة مواضع من القرآن الكريم، وقد نظمت في بيتين وهما: إذا أتى لعب ولهو وكم من موضع هو في القرآن فحرف في الحديث وفي القتال وفي الأنعام منها موضعان

وقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذم الدنيا، ودعا إلى الاعتبار بسرعة زوالها، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أُحبّ المساكين؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم أحيني مسكيناً! وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، والمساكين هم: أهل السكينة والتواضع، وذلك لأن الفقير أرق قلباً، وأقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والمسكنة مأخوذة من السكون، فهو إذا لم يستطع كسباً، أو لم يجد مالاً فإنه يسكن ويقعد. فقوله: (اللهم! أحيني مسكيناً) ليس فيه دعاء بالفقر؛ لأن الفقر إذا وقع فإنه بلاء، وقد قرنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكفر في أذكار الصباح والمساء فقال: (اللهم! إني أعوذ بك من الكفر والفقر)، إذاً: فليس هذا الدعاء دعاءً بالفقر وهو بلاء، وإنما هو دعاء بأخلاق المساكين من الخشوع والسكينة والتواضع، (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين). عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب للدنيا مثلاً فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزحه وملحه قد علم إلى ما يصير)، فهذا مثل من أمثلة الدنيا، فالطعام الذي يخرج من ابن آدم بعدما يمتص ويهضم يصير فضلات لها شكل قبيح، ورائحة نتنة، فانظر إلى عاقبتها، ولا تغتر بمظهرها، وإن قزحها وملحها ووضع عليها التوابل والمشهيات. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له). فمن كانت الآخرة همه، وجعل الهموم هماً واحداً فإن هذا يترتب عليه هذا الكسب العظيم، فيجمع الله شمله، وتلتئم أموره، وجعل غناه في قلبه، وهذا هو أعلى درجات الغنى: غنى القلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس). ويقول الشاعر: غنيت بلا مال عن الناس كلهم إن الغنى العالي عن الشيء لا به فكل من استغنى بمال فهو فقير إلى هذا المال، وأما أعلى درجات الغنى فهي أن تستغني عن الشيء ولا يستعبدك؛ ولذلك جعل عاقبة من كانت الآخرة همه أن جعل غناه في قلبه؛ لأنه إذا اغتنى قلبه طمع ولم يتطلع إلى الدنيا، ومع ذلك من إيقاع القناعة في قلبه لا يحرم عليه الدنيا، بل تأتيه الدنيا وهي راغمة ذليلة، فهي التي تأتيه وليس هو الذي يجري وراءها، (من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)، فهذه هي السعادة التي يبحث عنها الناس، ويضلون الطريق إليها حينما يعرضون عن الذكر والقرآن، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]. (ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)، ولم يأته من الدنيا التي يوغل في الجري واللهف وراءها إلا ما كتب له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه فقال: يا نبي الله! لو اتخذت فراشاً ألين من هذا، فقال: مالي وللدنيا! ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها). وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إذا أزاغه إلا هي، وايم والله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء) . وعن محمود بن لبيد مرفوعاً: (اثنان يكرههما ابن آدم، يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب). وقال صلى الله عليه وسلم: (أجملوا في طلب الدنيا، فإن كلاً ميسر لما خلق له). وقال صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع، وأشار بالسبابة) . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخلت عليّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فرجعت إلى منزلها فبعثت إليَّ بفراش حشوه صوف، فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقلت: فلانة الأنصارية دخلت عليَّ فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال: رديه، فلم أرده وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فقال: يا عائشة ! رديه والله! لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة). وقد عرضت عليه صلى الله عليه وسلم مفاتيح كنوز الدنيا فلم يأخذها، وقال: (بل أجوع يوماً وأشبع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك) ، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) . وقال أبو هريرة : (والذي نفس أبي هريرة بيده! ما شبع نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام شبعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا). وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً، ولا شاة سميطاً حتى لحق بربه). وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام البر ثلاث ليالٍ تباعاً حتى قبض). وعن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم لا يجد دقلاً يملأ بطنه). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (والذي بعث محمداً بالحق! ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي، ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله عز وجل إلى أن قبضه، قال عروة : فكيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار ونعجن الباقي). وفي مسند الحارث عن أبي أسامة عن أنس : (أن فاطمة رضي الله عنها جاءت بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة ؟! قالت: قرص خبزته فلم تطب نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة، فقال: أما إنه أول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاثة أيام). وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من الجوع) ، قال ابن القيم : وقد أسرف أبو حاتم ابن حبان في تقاسيمه في رد هذا الحديث وبالغ في إنكاره، وقال: إن المصطفى أكرم على ربه من ذلك، أي: أنه رفض الحديث من جهة المعنى، وقال: إن فرد عليه ابن القيم قائلاً: وهذا من وهمه، وليس في هذا ما ينقص مرتبته عند ربه، فذلك رفعة له، وزيادة في كرامته صلى الله عليه وسلم، وعبرة لمن بعده من الخلفاء والملوك وغيرهم، وكأن أبا حاتم لم يتأمل سائر الأحاديث في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم، وهل ذلك إلا من أعظم شواهد صدقه، فإنه لو كان كما يقول أعداؤه وأعداء ربه إنه طالب ملك ودنيا لكان عيشه عيش الملوك، وسيرته سيرتهم، ولقد توفاه الله وإن درعه لمرهونة عند يهودي على طعام أخذه لأهله، وقد فتح الله عليه بلاد العرب، وجبيت إليه الأموال، ومات ولم يترك درهماً واحداً، ولا ديناراً ولا شاة، ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة، صلى الله عليه وسلم. تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة ! -هذا عروة - فعلى أي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: على الأسودين، التمر والماء). وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد أُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد)، فقد كان المؤمن الوحيد من هذه الأمة صلى الله عليه وسلم فقط حين بعث، فكان هو فرداً واحداً، قال:(لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) . وعن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً) يعني: جاء الصحابة يشكون إلى الرسول عليه السلام الجوع، فأتى كل واحد ووقف أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ورفع ثيابه فإذا به قد شد عن بطنه بحجر، وفائدة شد الحجر على البطن، وكذلك شد الأحزمة على البطون أن ذلك يقاوم الجوع؛ لأن الضغط على المعدة بالحجر يقلل من حجمها، ويقلل من الشعور بالجوع، فكان الصحابة من شدة الجوع يربطون على بطونهم حجراً، وهذه إحدى وسائل إيقاف الوزن الآن، فيضحكون على الناس ويجعلون لهم كتلة تضغط على مكان المعدة بحيث يقل حجم المعدة فلا يشعر الإنسان بالجوع، أو تقلل الإحساس بالجوع، فالمهم أن الصحابة شكوا بلسان الحال لا بلسان المقال، فيقول أبو طلحة : (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا حجراً حجراً، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه حجرين). فهذه جملة من الأحاديث التي فيها

ومن الأمثلة التي تنبه الإنسان إلى حقيقة الدنيا ما قاله بعضهم، قال: للعبد ثلاثة أحوال: حالة لم يكن فيها شيئاً، وهي ما كان قبل أن يولد، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]. وحالة أخرى: وهي من ساعة موتك إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي في القبر، ثم البعث، ثم الخلود في إحدى الدارين، وكل واحد منا له تاريخ ميلاد وله تاريخ وفاة، فقبل أن يوجد في هذه الدنيا يحسب ما بقي من حين أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام، أو من حين أن الكون وإلى الآن كم مضى؟ فهذه أول حالة، وقد كنت فيها عدماً، ثم هناك حالة أخرى عند الطرف الآخر من الرحلة وهي: من خروج روحه إلى الحياة البرزخية في القبر، إلى البعث والنشور، ثم الخلود في إحدى الدارين. وهناك حالة متوسطة ما بين هاتين الحالتين وهي: أيام حياته، فانظر إلى مقدار زمانها ونسبتها إلى الحالتين، ولنفرض أن العمر مائة سنة مثلاً فلننظر إلى نسبة زمانها بالنسبة للحالتين، فإنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا، فتمر عليه ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها، وفي شدة وضيق أو في سعة ورفاهية، فالدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. مثال آخر: وهو أن شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت غايتها. كان بعض السلف يقول لأصحابه: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول: انظروا إلى ثمارهم، ودجاجهم، وعسلهم، وسمنهم. يعني: هذه هي النهاية. مثال ثالث: روى ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة -الصحراء المهلكة- لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءهم هذا إلا من قريب، قال: فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء! على ما أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء، ورياض خضر ما تجعلون لي؟ قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله -أي: أعطوني العهود والمواثيق أنكم لا تعصوني إذا دللتكم على مكان فيه رياض خضراء وماء عذب وكذا وكذا-، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً ورياضاً خضراً، قال: فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء! الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، ورياض ليست كرياضكم -يعني: هي أجمل وأبهى وأحلى-، قال: فقال جُلُّ القوم -وهم أكثرهم-: والله! ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش هو خير من هذا، قال: وقالت طائفة وهم أقلهم: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئاً، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره! فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم، فبادرهم عدوهم فأصبحوا بين أسير وقتيل). فهذا أيضاً مثال من أمثلة الدنيا، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من نصيحة أمته. المثال الرابع: ما رواه المستورد بن شداد رضي الله عنه قال: (كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟ قالوا: ومِن هوانها ألقوها يا رسول الله! قال: فوالذي نفس محمد بيده! للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها). المثال الخامس: مثل الدنيا مثل إناء مملوء عسلاً، فرآه الذباب فأقبل نحوه، فبعض الذباب صعد على حافة الإناء وجعل يتناول من العسل حتى أخذ حاجته ثم طار، وبعض الذباب الآخر حمله الترف على أن رمى بنفسه في لجة الإناء ووسطه فلم يدعه الانغماس فيه أن يتهنأ به إلا قليلاً حتى هلك في وسطه. فكذلك الدنيا: إن وقف الإنسان على الحافة وأخذ المقدار الذي يحتاجه في حياته نجا، وأما إذا انغمس فيها فإنه يغرق، ولذلك يكثر إخواننا في جماعة التبليغ من ضرب الأمثلة الطيبة كقولهم: إن السفينة تمشي في الماء، فما دام أن الماء خارجاً عنها فإنها تستطيع أن تمشي وتسلم، وأما إذا دخل الماء فيها فإنها تغرق، فكذلك الدنيا. ومن الأمثلة أيضاً: ما رواه بعضهم أن رجلاً كان يمشي في صحراء، فوجد بئراً على طرفيه حبلان مثبتان، حبل من اليمين وحبل من الشمال، فتعلق بالحبلين ونزل ليشرب من هذا البئر، فلما توسط البئر وجد أمامه كوه أو فجوة في جدار البئر فيها عسل، وإذا به يمكث ليتناول هذا العسل، فإذا بفأرين من أعلى: فأر أبيض وفأر أسود، فأتى كل واحد منهما ليأكل طرف هذا الحبل وكل منهما في جهة، وإذا به ينظر في القاع فيرى وحوشاً وثعابين ونحوها، فهو في هذه الحالة يرى عمره، ويرى الحبل ينقرض في أعلى، ويرى العاقبة وأنه سيقع فريسة هذا التنين أو الوحش، ومع ذلك أخذ يتمادى في تناول هذا العسل، ويتلاهى عن المصير الذي ينتظره عما قريب. فهذا مثل الدنيا، قالوا: فالفأر الأسود هو الليل، والفأر الأبيض هو النهار، فهما يأكلان عمره، وهذا الحبل هو عمره، فالحبل الأيام، والليل والنهار يقربان عمره، فالإنسان في الحقيقة ينقص عمره بمرور السنوات، فقد سبق في المقادير أن هذا الإنسان يعيش فترة مسماه كتبها له، فكلما مر يوم اقترب من القبر أكثر، فالعد في الحقيقة هو تنازلي وليس تصاعدياً، فهو يفقد من عمره كل يوم يمر خلافاً للجهلة الذين يقولون: عقبى مائة سنة، ويهنوا الإنسان، وأنا إلى الآن أعجب: كيف أن الإنسان يحتفل بما يسمى عيد الميلاد؟ فهل هذا عيد يقتضي الفرحة أم يقتضي الحزن والخوف من الله سبحانه وتعالى؟! لقد صرت الآن أقرب إلى القبر، وعمرك محدود لا محالة لا يزيد وإنما ينقص. فكلما مرت سنة صرت أقرب إلى لقاء الله، فهذا اليوم المفروض أن يكون وقت عزاء وحزن وغم وهم إن لم تكن تستدرك هذه الأيام الماضية. فالإنسان يتلهى في الدنيا، وينهمك في تعاطي هذه الشهوات، والعمر يقرض من فوق وينتظره المصير تحت في العذاب، فهذا مثال من الأمثلة. مثال آخر: عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش والجنادب يتقاحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها). فالرسول عليه الصلاة والسلام مهمته إنقاذكم من النار، فأنتم كمثل هذا الفراش الذي يجذب ناحية الضوء ولا يدرك أن فيه إحراقاً وهلاكاً، فهو يذب الفراش كي ينجو، والفراش -لقلة عقله- يندفع ويصر على أن يرمي نفسه في النار. فكذلك الناس يتهافتون ويلقون أنفسهم في النار بالانهماك في الشهوات والإعراض عن الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن ينقذهم لكنهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم. فهذه هي صفة بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فما جاء الشرع ليعكر على الناس حياتهم، ولا ليعقد لهم حياتهم، ولا ليثقل كاهلهم، وإنما أتى رحمة بهم بكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى، فلا يريد الشرع إلا مصلحتنا، ولا يريد إلا نجاتنا وسعادتنا، ومن هلك فإنه هو الذي يصر على هذه الهلكة، ويرفض أن يستجيب لداعي الله عز وجل. فانظر إلى قول الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تغلبوني وتتقاحمون فيها)، أي: أنكم أنتم الذين تصرون على أن ترموا أنفسكم في النار، أما أنا فأحاول إنقاذكم وأنتم تتقاحمون، فتخيل منظراً كهذا: شخص يريد أن يرمي نفسه بالنار، وآخر يمنعه وهو يقاومه يقول: لا، اتركني أرمي نفسي، إلى أن يغلبه فعلاً ويقع رغماً عنه. فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يحاول انجاء شخص واحد، وإنما يحاول إنجاء ملايين البشر حين يدعوهم إلى التوحيد، وإلى الإسلام، وإلى النجاة من النار، وهم يصرون على أن يهلكوا أنفسهم. مثال آخر وهو المثال السابع: مثل الإنسان ومثل ماله وعمله وعشيرته، مثل رجل له ثلاثة إخوة، فقضي له سفر بعيد طويل لابد له منه، فدعا إخوته الثلاثة فقال: قد حضر ما ترون من هذا السفر الطويل، وأحوج ما كنت إليكم الآن، يعني: أن السفر طويل وبعيد وشاق فأريد أن تصحبوني في هذا السفر، فقال أحدهم: أنا كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا. فقال له: لن تغني عني شيئاً. فقال الأخ للآخر: ما عندك؟ فقال: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب. فقال له: أنا محتاج إلى مرافقتك في مسيري. فقال: لا سبيل لك إلى ذلك. فقال: لن تغني عني شيئاً. فقال للثالث: ما عندك أنت؟ قال: كنت صاحبك في صحتك ومرضك، وأنا صاحبك الآن، وصاحبك إذا ركبت راحلتك، وصاحبك في مسيرك، فإن سرت سرت معك، وإن نزلت نزلت معك، وإذا وصلت إلى بلدك كنت صاحبك فيها لا أفارقك أبداً. فقال: إن كنت لأهون الأصحاب إليّ، يعني: أنك كنت عندي أرخص من هؤلاء الأصحاب أو الإخوة، إن كنت لأهون الأصحاب إلي، وكنت أوثر عليك صاحبيك، فليتني عرفت حقك وآثرتك عليهما. فالأول: ماله. والثاني: أقاربه وعشيرته وأصحابه. والثالث: عمله. فالأول: ماله، الذي قال له: كنت أخاك إلى هذه الحال، ومن الآن فلست لك بأخ ولا صاحب، وما عندي غير هذا؛ لأن المال بمجرد خروج الروح لم يصبح ملكه، وإنما هو مال الورثة، فانقطعت الصلة. وأما الأخ الثاني الذي قال له: كنت أخاك وصاحبك إلى الآن، وأنا معك حتى أجهزك إلى سفرك، وتركب راحلتك، ومن هنالك لست لك بصاحب، وهذا ما يفعله الأهل والعشيرة عند خروج روح الإنسان وموته، فهم لا يتركونه، لكن يبقون معه فترة مؤقتة كي يسرعوا في التخلص منه، ويبقى أعز الناس عليه وأحبهم إليه يقول: إكرام

قال علي رضي الله تعالى عنه في وصف الدنيا: أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن، ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن ساعاها -يعني: سابقها- فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن نظر بها -أي: اعتبر- بصرته. وقال وهب بن منبه : مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. وقال بعضهم: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً. ودخل أبو حازم على بشر بن مروان فقال: يا أبا حازم ! ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تنظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما ليس عندك فلا تأخذه إلا بحقه، قال: ومن يطيق هذا يا أبا حازم ؟ قال: فمن أجل ذلك ملئت جهنم من الجنة والناس أجمعين. ودخل قوم منزل عابد فلم يجدوا شيئاً يقعدون عليه، فقال: لو كانت الدنيا دار مقام لاتخذنا لها أثاثاً. وقيل لبعض الزهاد: ألا توصي؟ قال: بماذا أوصي؟! والله مالنا شيء، ولا لنا عند الله شيء، ولا لأحد عندنا شيء. وقال سليمان بن عبد الملك لـأبي حازم : مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب. ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالاً يلوي بيده ثوباً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكتسبه يوماً بيوم، فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه. وحفر الربيع بن خثيم في داره قبراً فكان إذا وجد في قلبه قسوة جاء فاضطجع في القبر فمكث فيه ما شاء الله، ثم يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، ثم يرد على نفسه فيقول: قد أرجعتك فجدي. وقال بعض السلف في يوم عيد وقد نظر إلى كثرة الناس وزينة لباسهم: هل ترون إلا خرقاً تبلى، أو لحماً يأكله الدود غداً. وقال الحسن : إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لب فيها فرحاً. وعن الحسن أيضاً قال: يا ابن آدم! طأ الأرض بقدمك؛ فإنها عن قليل قبرك، وإنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. لكن ينبغي أن نعرف أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس راجعاً إلى زمانها، أي: أنه ذم للدنيا لا ذم لليل والنهار المتعاقبين إلى يوم القيامة، فإن الله سبحانه وتعالى جعلهما خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكوراً. وكذلك ليس ذم الدنيا راجعاً إلى أجزائها من الجبال والبحار والأنهار والمعادن؛ لأن هذه من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده، لما فيها من المنافع، والاعتبار، والاستدلال على وحدانية الصانع عز وجل، وإنما يقع ذم الدنيا على أفعال بني آدم في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على غير الوجه الذي تحمد عاقبته، كما قال سبحانه وتعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20]. وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر). إذاً: فهذا هو رأس مال الإنسان: الوقت، والزمن، والعمر، فلا يذم الدهر أو الزمن لذاته، وإنما يذم لأنه يشغل عن طلب الآخرة، فيمكن أن يستعمل في الخير، وأن يستعمل في الشر. إذاً: فينبغي أن نعرف ما هو الشيء الذي يتوجه إليه الذم. وقال سعيد بن جبير : متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع غرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه. وقال يحيى بن معاذ : كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت، أكتسب بها حياة، وأدرك بها طاعة، وأنال بها الجنة؟! يعني: هل يمكن أن يصل أحد إلى الجنة إلا بالعمل الصالح في الدنيا، وإذاً: فالدنيا مزرعة لا تذم لذاتها وإنما تذم فيها أعمال بني آدم. وسئل أبو صفوان الرعيني : ما هي الدنيا التي ذمها الله في القرآن والتي ينبغي للعاقل أن يتجنبها؟ فقال: كل ما أصبت في الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد الآخرة فليس منها. أي: ليس من الدنيا المذمومة. وقال الحسن : نعمت الدار الدنيا كانت للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع لياليه وكان زاده منها إلى النار. وقد قص الله سبحانه وتعالى لنا على لسان أهل العلم والإيمان في قصة قارون حينما نصحوه فقالوا له: وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77]، وقد اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا). فقيل: هو العمل الصالح الذي تخرج به من الدنيا، فهو الذي ينفعك، فنصيب الإنسان من الدنيا في الحقيقة هو عمره وعمله الصالح، كما قال بعض السلف: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً وهذه العبارة المنسوبة إلى الحسن البصري رحمه الله، فقوله: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، أي: أن يتهالك في خدمة الدنيا وكأنه سوف يعيش إلى الأبد فيستمتع بالدنيا، وليس الأمر كما يفهمه بعض الناس، فلو كان أمامك عملان أحدهما إن فاتك غداً تستدركه بعد غد، أو بعد شهر، أو بعد سنة، أو بعد عشر سنوات، أو بعد عشرين سنة، فهو عندك إلى الأبد ويمكن أن تعوضه، وفي نفس الوقت هناك عمل آخر إن فاتتك مادته فإنها تنتهي، فإنك تقدم العاجل، فأعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً فسوّف في الدنيا، وأما في الآخرة فبادر. قوله: واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، يعني: قدم عمل الآخرة على عمل الدنيا، وهذا هو الوجه الأول في تفسير قوله تعالى: (( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ))، أي: الذي ينفعك وهو العمل الصالح. والقول الآخر: إن قوله: (( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا )) نوع من الرفق مع الشخص الذي تدعوه؛ حتى تبين له أن الالتزام بطاعة الله سبحانه وتعالى، والدخول في الدين لن يحرمه من الدنيا التي يحبها ما دام في المباح والحلال، فكأنه يقول: لن تحرم من متاع الدنيا ومن الطيبات التي أحلها الله سبحانه وتعالى، فلا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال، وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. والتفسير الثالث: أن قوله: (( وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا )) وعظ مستقل، فلا تنس أن هذه الدنيا التي أنت غارق فيها أن الذي ستخرج به منها هو الكفن، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن، كما قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط وقال آخر: هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن يقول تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ))، قال شيخ المفسرين رحمه الله تبارك وتعالى: يقول تعالى ذكره حاضاً عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به، قاتلوا أيها المؤمنون! أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعوكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلا ما كان منها لله من عمل في سبيله، وطلب رضاه، فأما ما عدا ذلك فإنما هو لعب ولهو يضمحل فيذهب، ويندرج فيمر، أو إثم يبقى على صاحبه عاره وخزيه. قوله:(( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ))، أي: وإن تعملوا في هذه الدنيا التي ما كان فيها مما هو لها فلعب ولهو، فتؤمنوا به، وتتقوه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وهو الذي يبقى لكم منها، ولا يبطل بطول اللهو واللعب، (( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ )) هذا هو جواب الشرط، (يؤتكم أجوركم) أي: فهذا ليس من اللهو واللعب، بل يترتب عليه الأجر والثواب، فيعوضكم منه ما هو خير لكم منه يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم. قوله: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، أي: لا يسألكم ربكم أموالكم، ولكنه يكلفكم توحيده، وخلع ما سواه من الأنداد، وإفراد الألوهية والطاعة له.

قال الله تعالى: إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37]. قوله: (إن يسألكموها) أي: إن يسألكم ربكم أموالكم (فيحفكم) يعني: يذهبكم بالمسألة، ويلح عليكم بطلبها منكم، (تبخلوا) أي: تمنعوها إياه ضناً منكم بها، ولكنه علم ذلك منكم ومن ضيق أنفسكم فلم يسألكموها. قوله: (ويخرج أضغانكم) أي: ويخرج جل ثناؤه لو سألكم أموالكم بمسألته ذلك منكم أضغانكم. قال: قد علم الله أن في مسألته المال خروج الأضغان، أي: أن المال أكثر شيء يكشف ما في داخل الإنسان، والمال هو مادة مهمة جداً من مواد الامتحان، فأي شخصية تريد أن تحكم عليها فلاشك أن موقع المال في قلبه هو من الموازين الحساسة والدقيقة التي تصلح أن يكشف بها على أخلاق الإنسان، ولذلك قالوا: سميت الدنيا دنيا لأنها دنيئة، وسمي المال مالاً لأنه يميل بصاحبه. فهذا بيان لشدة تعلق الإنسان بالمال، (( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، أي: أنه هو الذي يعطيكم ولا يطلب منكم شيئاً. إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ [محمد:37]، أي: سيخرج هذا المال أو هذا السؤال أضغانكم وأحقادكم. وقال القرطبي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: (( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ )) أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بناءً على أن الإضافة هنا تفيد العموم. قوله: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ )) فالإضافة من صيغ العموم، ومن صيغ العموم أيضاً أسماء الشرط وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة، والجموع المعرفة تعريف الجنس، والجموع المضافة، واسم الجنس، والنكرة المنفية، والمفرد المحلى باللام، ولفظ كل، وجميع، ونحوها مثل: معشر، ومعاشر، وعامة، وكافة، وقاطبة. فالإضافة من صيغ العموم من غير فرق بين كون المضاف جمعاً كما تقول: عبيد زيد، أي: كل عبيد زيد، أو اسم جمع كما تقول: جاءني ركب المدينة، أو اسم جنس كما في قوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18] فهذه اسم جنس لكل النعم، أو كما في الحديث: (منعت العراق درهمها ودينارها، ومنعت الشام قفيزها وصاعها) ، إلى آخر الحديث، فهي جاءت بصيغة المفرد؛ لكنها اسم جنس. الشاهد: أن من صيغ العموم الإضافة، فقوله هنا: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ )) يعني: لا يسألكم جميع أموالكم، هذا هو المنطوق، والمفهوم: وإنما يسألكم بعض أموالكم، ولكن لا يسألكم جميع أموالكم، وهذا البعض هو الزكاة، وعلى هذا الأساس فسر القرطبي قوله تعالى: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، أي: لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض وهو القليل منها فهو غيض من فيض. قول آخر: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، يعني: لا يسألكم أموالكم لنفسه، أو لحاجة منه سبحانه وتعالى إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم، فهو راجع إليكم في الحقيقة. وقيل: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، وإنما يسألكم أمواله؛ لأن هذا المال الذي في أيديكم هو مال الله، وهو الذي خولكم هذا المال، فحينما يكلفكم إنفاق هذا المال فهو ليس مالكم أنتم، وإنما هو مال الله الذي آتاكم، فلا يسألكم أموالكم وإنما يسألكم أمواله؛ لأنه المالك لها، وهو المنعم بإعطائها. وقيل: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، أي: لا يسألكم محمد صلى الله عليه وسلم أجراً على تبليغ الرسالة كما في قوله تعالى: (( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ))[الفرقان:57]. وقال صديق حسن خان : وإن تؤمنوا بالله وتتقوا الكفر والمعاصي (يؤتكم أجوركم) أي: جزاء ذلك في الآخرة، والأجر هو الثواب على الطاعة. وقال القاسمي : قال بعض المفسرين: أي: لا يسألكم جميع أموالكم، بل يقتصر منكم على جزء يسير كربع العشر، وعُشره، إشارة إلى إفادة الجمع المضاف للعموم، وهو معطوف على الجزاء، والمعنى: إن تؤمنوا لا يسألكم الجميع، أي: لا يأخذه منكم كما يأخذ من الكفار جميع أموالهم، ولا يخفى حسن مقابلته لقوله: (يؤتكم أجوركم)، فهناك نوع من حسن المقابلة بين: (( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ )) أي: يعطكم كل الأجور، ويسألكم بعض المال. وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (( وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ))، هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28]، إلى غير ذلك من الآيات. قوله: (( وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ))، في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها كما ذكرنا أن المعنى: ولا يسألكم النبي صلى الله عليه وسلم أموالكم أجراً على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [سبأ:47]، وقوله تعالى: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، وقوله تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور:40]. وعقد العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في (أضواء البيان) في موضعين (2/17-220) و(7/189 إلى 192) بحثاً مفصلاً حول بيان أن جميع الرسل لا يأخذون أجراً على التبليغ، وناقش فيه مسألة أخذ الأجر على تعليم القرآن وبين عدم جواز ذلك، والبحث مفصل لكن نكتفي بهذا الذي ذكرنا. قوله: (( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ )) يعني: يلح عليكم، يقال: أحفى في المسألة، وألحف، وألح بمعنى واحد، والحفي المستقصي بسؤاله، كذلك الإحفاء الاستقصاء بالكلام والمنازعة، ومنه: أحفى شاربه، أي: استقصى في أخذه. قوله: (( إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ )) أي: يضيق عليكم ويلح عليكم فالنتيجة: (( تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ )) أي: يخرج البخل أضغانكم، أو: يخرج الله سبحانه وتعالى أضغانكم. قال قتادة : قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد : (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا وتخرج أضغانكم). وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي : (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ونخرج أضغانكم). وفي قراءة: (ويخرج أضغانكم)، يعني: على الاستئناف، وليست معطوفة على ما قبلها. والمشهور عن أبي عمرو : (ويخرج) كسائر القراء عطف على ما تقدم. قال صديق حسن خان رحمه الله: أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها، وتمتنعوا عن الامتثال، (ويخرج أضغانكم) يعني: الأحقاد، والمعنى: أنها تظهر عند ذلك، فالمال أكثر ما يكشف خبايا النفس، ولذلك فمن الأمور المهمة التي تستطيع أن تحكم بها على الإنسان أن تعامله معاملة مالية، فالمال هو الذي يكشف حقيقة الأخلاق والطباع، ويظهر شح النفس. قال قتادة : علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان، وهذا من حيث محبة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه ظهرت طويته التي كان يخفيها. أي: أن المال محبوب للإنسان جداً، فإذا نوزع فيه طولب بإخراجه بصورة أو بأخرى فحينئذٍ يظهر هذا التعلق الذي كان مطوياً في قلبه للعيان. قال ابن كثير : وصدق قتادة فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. فلا يجود الإنسان ببذل المال إلا إذا كان متأكداً أن هذا الذي يصرف إليه المال أعز عليه من المال سواءً كان أخاً في الله، أو غير ذلك، أو كان ينفقه لوجه الله وهو موقن أن الثواب الذي عند الله أضعاف هذا المال الذي يخرجه.