خطب ومحاضرات
تفسير سورة محمد [22-27]
الحلقة مفرغة
قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]. قوله تعالى: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ )) أي: إن أعرضتم عن تنزيل الله تعالى، وفارقتم أحكام كتابه، وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوليتم عن الجهاد، ونكلتم عنه. قوله: (( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ )) أي: أن تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، فتسفكوا الدماء، وتقطعوا الأرحام؛ ولهذا قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . إذاً: فهذا نهي عن الفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل إن الله سبحانه وتعالى قد أمر بالإصلاح في الأرض، وصلة الأرحام، وهو: الإحسان إلى الأقارب في المقال، والفعال، وبذل الأموال. قوله: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ))، يقال: عسيت أن أفعل كذا، وعسيت أن أفعل كذا.. بالكسر، والكسر لغتان ذكره الجوهري وهما سبعيتان، أي: قراءتان من القراءات السبع في القرآن. قوله تعالى: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ )) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب؛ لتأكيد التوبيخ، وتشديد التقريع، والمعنى: هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم؟! قوله: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ )) قيل: هو من الولاية، أي: ولاية الأمور أو الحكم بين الناس. قال أبو العالية : المعنى: فهل عسيتم إن توليتم الحكم فجعلتم حكاماً أن نفسدوا في الأرض بأخذ الرّشا؟! وقال الكلبي : فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم؟! وقال ابن جريج: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي وقطع الأرحام؟! وقال كعب: فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يقتل بعضكم بعضاً؟! وقيل: (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ)، هي من التولي والإعراض عن الشيء. قال قتادة: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ )) عن كتاب الله، (( أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ )) بسفك الدماء الحرام، (( وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )). وقيل: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ )) أي: فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن، وفارقتم أحكامه أن تفسدوا في الأرض، وتعودوا إلى جاهليتكم. وقال بكر المزني : إنها نزلت في الحرورية الخوارج وفيه بُعد؛ لأن الخوارج لم يكونوا قد ظهروا بعدُ، والأظهر أنه إنما عني بها المنافقون كما سيأتي بيان هذه الجملة من الآيات. وقال ابن حيان : المقصود بها: قريش. وقال المسيب بن شريك والفراء : نزلت في بني أمية وبني هاشم، وبنو أمية وبنو هاشم هما من قريش، أي: كأن فيها إشارة إلى ما وقع من القتل، وتقطيع الأرحام، والفساد في صراع بين العباسيين والأمويين، ودليل هذا التأويل ما روى عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ))، ثم قال: هذا الحي من قريش، أخذ الله عليهم إن ولّوا الناس ألا يفسدوا في الأرض، ولا يقطعوا أرحامهم). هناك قراءة أخرى: (فهل عسيتم إن تُولِّيتم)، فيكون المعنى على هذه القراءة: إن وَليتْكم ولاةٌ جائرة خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم!! أي: إن حكمكم حكام جائرون ظالمون، خرجتم معهم في الفتنة وحاربتموهم.
قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . قوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ )) أي: طردهم وأبعدهم من رحمته، (( فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )) أي: فأصمهم عن استماع الحق، (( وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ))، أي: قلوبهم عن الخير، أو أعمى أبصارهم عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد، والبعث، وحقيقة سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتبع الإخبار بأن من فعل ذلك حقت عليه اللعنة، وسُلب الانتفاع بسمعه وبصره حتى لا ينقاد للحق وإن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل. قيل: إن الله سبحانه وتعالى بعد ما قال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ، قال: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ )) يعني: من فعلوا ذلك، (فَأَصَمَّهُمَْ) أي: عاقبهم، (( وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ )). وقال: (( فَهَلْ عَسَيْتُمْ ))، ثم قال: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ))، فرجع من الخطاب إلى الغيبة، فهذا أيضاً التفات على عادة العرب في ذلك، وهذا فيه التفات للإيذان؛ لأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم. أي: أنه كان في الأول: ((فَهَلْ عَسَيْتُمْ)) بتوجيه الخطاب إليهم، (( إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ))، ثم أعرض في الخطاب عنهم؛ لأنهم إذا فعلوا هذين الفعلين فلا يستحقون أن يخاطبهم الله مباشرة، فمن ثم انتقل إلى الغيبة فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، فرجع من الخطاب إلى الغيبة على عادة العرب في ذلك للإيذان بأن ذكر جناياتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم. قال عز وجل في آخر الآية: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: فأصم آذانهم وأعماهم، وإنما قال: ((فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ))، والحكمة في ذلك أنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب الاستماع، ويلزم من ذهاب الأعين ذهاب الإبصار، فلو أن إنساناً قطعت أذنه فإنه لا يفقد حاسة السمع تماماً، لكن لا شك أنه سيتأثر؛ لأن الأذن لها فائدة عظيمة، لكن يبقى له السمع؛ فلذلك قال: (( فَأَصَمَّهُمْ ))، فلو قال: فقطع آذانهم، أو ذهب بآذانهم لما دل ذلك على انتفاء السمع؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الأذن ذهاب السمع، ثم قال: (( وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ))، ولم يقل: (وأعماهم) لأن الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبصار. وقد جعل الله سبحانه وتعالى العينين مقدمتين، وجعل الأذنين في الجانبين، والحكمة في ذلك: أن العينين بمنزلة الكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم، وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه، أما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العقل من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه، فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور، فسبحان من بهرت حكمته العقول! وكذلك جعل للعينين غطاء؛ لأن الأذن تجلب الأصوات، والأصوات عبارة عن طاقة لا بقاء لها، فلو جعل على الأذنين غطاء لذهب الصوت قبل ارتفاع الغطاء. فتزول المنفعة المقصودة، وأما نظرة العين فأمر فائت، فالعين محتاجة إلى غطاء يقيها، وحصول الغطاء لا يؤثر في الرؤية قال بعض أهل العلم: عينا الإنسان هاديان، وأذناه رسولان إلى قلبه، ولسانه ترجمانه، ويداه جناحان، ورجلاه بريدان، والقلب ملك، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث خبثت جنوده. وقد جعل الله سبحانه وتعالى بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطاً ونفوذاً يقوم به بعضها مقام بعض؛ ولهذا يقرن بينهما سبحانه كثيراً في كتابه، فقال عز وجل: ِإنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، وقال تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً [الأحقاف:26]، وقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179]، وقال أيضاً: َفإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، إذاً: فالعبرة ببصيرة القلب لا بالعين الباصرة؛ ولذلك جاء في حديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (انطلقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى، ونجد العلماء يقولون عند وصف العالم الضرير: الشيخ فلان بن فلان البصير بقلبه، وهذه إشارة إلى أنه لا يرى بعينه، لكنه بصير بقلبه، كيف لا وقد آتاه الله كتابه! فهذا تأدُّبٌ بأدب النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال: (انطقوا بنا إلى البصير الذي في بني واقف نعوده)، وكان رجلاً أعمى. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار، وقال قتادة وغيره: معنى الآية: يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض لسفك الدماء. وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى؟! ألم يسفكوا الدماء الحرام، ويقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن؟ فالرحم على هذا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله أخوة. فإذاً: إذا كان المقصود بقوله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]: أن تقطعوا رحم الإسلام والإيمان بالقتل الذي يكون بين المسلمين، فالرحم على هذا هو عام وليس الرحم الخاص، فالمقصود به رحم الأخوة الإيمانية التي سماها الله أخوة بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. وعلى قول الفراء : أن الآية نزلت في بني هاشم وبني أمية فالمراد: من أضمر منهم نفاقاً، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من القرابة؛ لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم.. إلى آخره.
قال الله تبارك وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]. وهذه آية جامعة عظيمة، والكلام فيها يطول جداً، وإذا أفردنا الكلام الذي ينبغي أن نقوله حتى نستوفي جزءاً من فوائد هذه الآية الكريمة فسوف يكون الكلام كثيراً جداً، ويكفي أن العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر هذه الآية في مائة وخمسة وخمسين صفحة في كتابه الرائع: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، ففسر فيها هذه الآية العظيمة، واستنبط منها العبر، وربط ما دلت عليه بواقع المسلمين في العلم والعمل. قوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ، قرأ الجمهور: (( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))، وقرئ: (أم على قلوب إِقفالها) بكسر الهمزة، على أنها مصدر. قال ابن القيم رحمة الله عليه: يريد على قلوب هؤلاء أقفال. (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ))، قد بدت على قلوب أقفالها يعني: على قلوب هؤلاء المذكورين في الآية. وقال مقاتل : يعني: أن هذه الأقفال قد طبعت على القلوب. عن عروة بن الزبير قال: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )) فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به)، أي: لأنه فقه معنى هذه الآية. وأصل القفل: اليبس والصلابة، يقول القرطبي : فالأقفال هنا إشارة إلى إرتياج القلب وخلوه عن الإيمان، أي: فلا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأن الله طبع على قلوبهم، وقال: (( عَلَى قُلُوبٍ ))؛ لأنه لو قال: على قلوبهم لم يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة، والمراد: أم على قلوب هؤلاء وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها؟! وهذا الاستفهام قيل: إنه للإنكار، وقيل أيضاً: (( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))، أم: هي المنقطعة، (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ))، بل: (( عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ))، فهم لا يفهمون ولا يعقلون، والمراد قلوب هؤلاء المخاطبين. قوله: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ))، يقول: أصل التدبر: التفكر في عاقبة الشيء، وما سيئول إليه أمره. وتدبر القرآن لا يكون إلا مع حضور القلب، وجمع الذهن، ويشترط فيه تقليل الغذاء والكلام، وإخلاص النية، والآيات بعمومها تشمل كل من لا يتدبر القرآن ولا يتأثر به، ويدخل فيه من نزلت فيه الآية أولاً، والمقلدة الشاردة عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم الذين: (( عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )). وإن كان في هذا الحصر نظر. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: الهمزة في قوله: (( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ )) للإنكار، والفاء عاطفة على جملة محذوفة على أصح القولين، والتقدير: أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن؟! وقال رحمه الله: وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ [المؤمنون:68]، وقوله تعالى: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]. وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة، كقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57]. وقال الشنقيطي أيضاً: وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن، كما قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. وكما ذمت النصوص من لا يتدبر القرآن ففي الجانب الآخر مدحت وأثنت على من تدبر القرآن وتعلمه وعمل به، فجعلهم صلى الله عليه وسلم خير الناس، فكما أن خير الكلام كلام الله فكذلك خير طلبة العلم من طلب علم القرآن، فالقرآن أفضل وأكمل وأعظم ما يشتغل به، وقد وردت خيرية هذا في حديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فخير العلماء من علم القرآن، وخير المتعلمين من تعلم القرآن، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم أهل القرآن فقال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته). وقال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]. قال البغوي في تفسيرها: قال ابن عباس : ((كُونُوا رَبَّانِيِّينَ )) أي: كونوا فقهاء معلمين. وقيل: سمى العلماء ربانيين لأنهم يربون العلم، أي: يقومون به، يقال لكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد ربه يربه، فهو رباً له، وقيل: سمو ربانيين لأنهم يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، وزيدت الألف والنون للمبالغة في النسب، وقيل: (الربانيون): هم العلماء بالحلال والحرام.
قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]. أما القراءات في هذه الآية الكريمة فقرئ قوله عز وجل: (( وَأَمْلَى لَهُمْ )). في قراءة أخرى: (وأُملِيَ لهم)، والقراءة الثالثة: ( وأُمليْ لهم). فعلى القراءة الأولى: (( وَأَمْلَى لَهُمْ )) إما أن يكون الذي أملى لهم هو الشيطان، وإما أن الله سبحانه تعالى هو الذي أملى لهم. والقراءة الثانية: (الشيطان سول لهم وأُملِيَ لهم) فيها نفس الاحتمالين. والقراءة الثالثة: (الشيطان سول لهم وأُمليْ لهم) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملي لهم. وقال ابن جرير : وأولى هذه القراءات بالصواب التي عليها عامة قراء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك؛ لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار. يعني قراءة: (( أَمْلَى لَهُمْ )). قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ )) فجملة المبتدأ والخبر: (( الشَّيْطَانُ سَوَّلَ ))، وهذه الجملة في محل نصب خبر إنّ. والظاهر في قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى )) أنهم قوم كفروا بعد إيمانهم. وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بُعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به. إذاً: فقوله: (( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ )) لو قلنا: إن المقصود بها اليهود لعنهم الله، فإن ارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوه وتيقنوه، وهذا هو سبب استعمال كلمة: (( ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ ))، أي: رجعوا عما كانوا عليه من التصديق والإيمان بنبي يبعث صفته كذا وكذا، فلما عرفوه وتيقنوه كذبوه، كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]. فكلمة: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ) تشير إلى معنى قوله تعالى: (( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ))، فهم قد عرفوه كما في قوله: (( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا ))[البقرة:89]. وقوله تعالى: (كَفَرُوا بِهِ) يشير إليه قوله تعالى: (( ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ )). وقال ابن عباس والضحاك والسدي : هم المنافقون قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن. قال بعض العلماء: وهذا أولى؛ لأن السياق في المنافقين، وهذا القول في التفسير نصره شيخ المسلمين وإمامهم بلا منافس ولا منازع الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فقد قال: هم أهل النفاق، وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا أشبه منها بصفة أهل الكتاب وذلك أن الله عز وجل أخبر أن ردتهم كانت لقيلهم للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، ولو كانت من صفة أهل الكتاب، لكان في وصفهم بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم الكفاية من الخبر عنهم أنهم إنما ارتدوا من أجل قيلهم ما قالوا، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى هو إغواء الشيطان لهم، كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) أي: زين لهم الكفر والارتداد عن الدين. قوله: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) أي: مد لهم في الأمل، ووعدهم طول العمر، وطول الأمل من أعظم أسباب الكفر وارتكاب المعاصي. ويشهد لهذا المعنى أي أن يكون الإملاء من الشيطان قوله تبارك وتعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120]، وقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [الإسراء:64]. ويشهد: لكون هذا الإملاء والإمهال من الله عز وجل قوله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:44-45]، وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه الكفار، فهم في قبضته، وتحت سلطانه، لكنه يستدرجهم ويملي لهم، فيزدادون بذلك اغتراراً، ويتمادون في الكفر والصد عن سبيل الله، فلذلك يستحقون المزيد من العقوبة كما قال هنا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم:75] وقال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56] أي: إنما هو استدراج، وقد صح في هذا المعنى حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ))[الأنعام:44]). فهذا استدراج وليست هذه علامة اختيار واصطفاء كما يزعم بعض الناس، فإنهم يقولون: إن الله يحبنا؛ فقد أعطانا كذا وكذا..، وهذه المقاييس تدل على على الاغترار بالله، قال تعالى: وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:14] فهذا اغترار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6]، وبعض الناس يتمادى في المعاصي ثم يقول: ربنا كريم، وربنا غفور رحيم، وغير ذلك من التعلق بنصوص الرجاء مع قطعها عن نصوص الوعيد، فتجد المرأة متمادية في التبرج والسفور ثم تقول: هذا بيني وبين ربنا، والمهم القلب، فالقلب أبيض، والقلب صافٍ، فهذا نوع من الاغترار، بل هو استدراج كما يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)، فهو يتمادى في المعاصي والله يعطيه ويزيده وهذا استدراج له، فليتفطن الإنسان لذلك، (ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ))[الأنعام:44])، من الرزق.. والمال.. والصحة.. والبركات.. والخيرات، حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً [الأنعام:44]، أي: فرحوا فرحاً لا يحبه الله، وهذا كما قال فيهم: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]. قوله: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]، فهذا فيه زيادة حسرة عليهم، أي: إذا أخذوا بغتة وهم في هذا الرغد.
قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ . قوله: (ذَلِكَ) أي: ما تقدم من التمهيل والإملاء، أو أن المراد ارتدادهم على أعقابهم. قوله: (( بِأَنَّهُمْ قَالُوا )) يعني: هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، (( قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ ))، قيل: هم المشركون. قوله: (( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ ))، هذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة ما جاء به. وفي قول آخر في: (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ )) أن القائلين هم اليهود، (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا ))، أي: اليهود ((قالوا للذين كرهوا ما نزل الله)) وهم المنافقون، وقيل المعنى: إن المنافقين قالوا لليهود: ((سنطيعكم في بعض الأمر)) كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم إذا خرجوا،والتظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا القول قول الله سبحانه وتعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11]، فقال الشنقيطي : التحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله، يعني: سواء كانوا من المنافقين أو اليهود أو المشركين، فهي عامة في كل من كره ما أنزل الله سبحانه وتعالى. قوله: والله يَعْلَم إِسْرَارَهُمْ قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم : ( والله يعلم أسرارهم )، هذه قراءة عامة القراء ( والله يعلم أسرارهم ) بفتح الهمزة، جمع سر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (إسرارهم) بكسر الهمزة على أنها مصدر أسر كقوله : وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح:9] وقد قالوا لهم ذلك سراً، فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون. قال شيخ المفسرين رحمه الله: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمفيدة. قال ابن كثير رحمه الله: والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل، أنه كافر بالله، بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:27-28].
الشرك في الحكم كالشرك في العبادة
ورود الأدلة على أنه لا حكم إلا لله سبحانه وتعالى
بيان صفات من يستحق أن يكون الحكم له وحده
الكفر بالشيطان شرط في صحة الإيمان
هناك بعض التوضيحات التي تتعلق بهذه الآية الكريمة وهي مستقاة من (أضواء البيان)، قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى مبيناً بعض المسائل منها: أن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة، قال الله سبحانه وتعالى في حكمه: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف:26] وهذا على أساس أن (لا) هنا نافية، أي: أن الله لا يشرك في حكمه أحد، تأمل استعمال الإشراك في الحكم، ذلك لعلم الله أن هناك شركاً في الحكم كالشرك في العبادة. وفي قراءة ابن عامر من السبعة: ( ولا تشرك في حكمه أحداً ) يعني: لا تشرك يا نبي الله في حكمه أحداً، أو لا تشرك أيها المخاطب! في حكم الله أحداً. وقال سبحانه في عبادته: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، فالأمران سواء، وكلاهما شرك بالله العظيم، فالحلال حلال الله، والحرام حرام الله، والدين هو ما شرعه الله، فكل تشريع من غيره باطل، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه كفر بواح لا نزاع فيه. أي: إذا حكم إنسان بغير ما أنزل الله سبحانه وتعالى معتقداً أن شرع المخلوق مثل شرع الله فهو كافر، أو أن شرع المخلوق أفضل من شرع الله فهو -من باب أولى- كافر مشرك، وكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137]، أي: لما أطاعوهم في قتل الألاد. وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فسمى هؤلاء الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء. وذكر تعالى أن الشيطان يقول للذين كانوا يشركون به في الدنيا: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]. إذاً: فهذه هي المسألة الأولى، وهي: أن الشرك في الحكم كالشرك في العبادة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |