تفسير سورة الجاثية [1-20]


الحلقة مفرغة

سورة الجاثية تسمى سورة الشريعة؛ لقوله تعالى فيها: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ [الجاثية:18]. أما تسميتها بالجاثية؛ فلتضمن آياتها بيان أن سبب تأخير البعث إلى يوم القيامة اجتماع الأمم للمحاكمة أمام الله سبحانه وتعالى، وفصله بينهم يوم القيامة، وقد وصف الله سبحانه وتعالى الأمم أنها تكون جاثية حينئذ فقال: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا [الجاثية:28]، وهذه من المطالب الشريفة في القرآن الكريم. وتسمى سورة الشريعة؛ لتضمن آياتها وجه نسخ هذه الشريعة سائر الشرائع، ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]، فسميت الشريعة أيضاً؛ لأن نفس هذه الآية التي ذكر فيها لفظ الشريعة تثبت أن هذه الشريعة ناسخة لما قبلها من الشرائع؛ لفضلها وتقدمها عليها، وهذه أيضاً من المطالب العزيزة في القرآن الكريم. وهذه السورة مكية، واستثنى بعضهم منها آية: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ [الجاثية:14]، فقد قيل: إنها مدنية نزلت في شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: إن هذا الأثر لا يصح. أي: لا يصح أن الآية نزلت في هذا الشأن كما سنبين إن شاء الله تعالى. وآياتها سبع وثلاثون آية.

قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:1-6]. قال المهايمي: فعزته تقتضي: إفاضة الحجج التي بها الغلبة على الخصوم، وإفاضة الكمالات التي يعسر الوصول إليها، وأنواع السعادات، وحدة النظر، والحكمة تقتضي: محو الشبه، وإزالة المخاوف، وإحراق الشقاوة، وتهذيب الفكر. وقد نزله من مقام عزته بمقتضى حكمته؛ لتشمير القوة النظرية والعملية؛ لنتوسل بها إلى الكمالات الحقيقية من الإيمان والإيقان والعقل، وذلك إنما يكون بالنظر إلى أنواع الآيات المتضمنة للحجج ورفع الشبه، فمنها آيات الأجسام. يقول عز وجل: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية:3-5]. حذف حرف الجر الذي تكرر في الآيتين السابقتين: (إن في السموات والأرض) (وفي خلقكم)، ثم قال: (واختلاف الليل والنهار)؛ لتقدم ذكره. وأنشد سيبويه في الحذف: أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل ناراً يعني: وكل نار توقد بالليل ناراً، فهذا شاهد الحذف. قوله تعالى: (( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ )) أي: مطر، وسمي رزقاً؛ لأنه سببه. (فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) أي: عن الله ما وعظهم به ودعاهم إليه. قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6]. (تلك آيات الله)، الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته. (نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون)، أي: بعد الله وبعد آياته ودلائله الباهرة. وتقديم اسم الله للمبالغة والتعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد وكرمه.

كلام الشنقيطي على صدر سورة الجاثية

وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره من صدر هذه السورة: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده. الأول منها: خلقه السماوات والأرض. الثاني: خلقه الناس لقوله: (وفي خلقكم). الثالث: خلقه الدواب. الرابع: اختلاف الليل والنهار. الخامس: إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به. السادس: تصريف الرياح. وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال: (لآيات للمؤمنين)، ثم قال: (آيات لقوم يوقنون)، ثم قال: (آيات لقوم يعقلون). وذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيل هذه الآيات كما بينتها المواضع الأخرى من القرآن الكريم. ونتوقف فقط عند أحد هذه الأدلة وهو الخامس منها؛ لأن الكلام تكرر عما سبق من قبل مراراً، فنتكلم عن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به، وإنبات الرزق فيها، كما في قوله: (( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))، فقد بينته آيات أخرى من القرآن الكريم، كقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا [عبس:24-28]، إلى قوله: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:32]، وهذه الآية تدل على وجوب النظر والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وقوله: (فلينظر) أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه الذي يأكله ويعيش به، إنما هو من خلق الله الذي كان سبباً لنباته، وهل يقدر أحد غير الله سبحانه وتعالى أن يخلق هذا النبات أو الماء أو البذر الذي كان منه هذا الخبز؟ الجواب: لا. ثم هب أن الماء الذي كان سبباً لحياة النبات قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض حتى تروى به الأرض تدريجياً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق، كما قال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43]؟ الجواب: لا. لا توجد قوة بشرية تتحكم في الماء الذي هو سبب أساسي جداً بالنسبة لحياة كل الكائنات الحية، فما هي إلا رحمة الله سبحانه وتعالى. هذا الهواء الذي نتنفسه متاع لجميع الناس، هل هناك شركة تصرف لنا الهواء الذي نتنفسه؟ تخيل لو أن أحداً من البشر يملك خزائن رحمة الله سواء من الهواء الذي نتنفسه، أو من الماء الذي نشربه ونحيا به إلى غير ذلك من هذه النعم العامة! ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها من ثمار النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أنك وضعت البذرة في وضع غير الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه في التربة، فسوف تجدها بعد حين اعتدلت وأخذت الوضع الصحيح، بحيث أن الجذر يتجه إلى أسفل، والساق يتجه للأعلى، من الذي يفعل هذا؟ إنه الله سبحانه وتعالى. ثم هب أن النبات خرج من الأرض فانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ هذه كلها من آيات الله سبحانه وتعالى التي يجب علينا أن نمتثل أمره الواجب في التفكر فيها، (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، فواجب وفريضة وحتم ولازم أن نتفكر في هذه النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا. فلابد أننا نلتفت إلى أن هناك قوة، فكل هذه الأشياء لا تحصل بدون مدبر وصانع، وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه وراء كل مظاهر كل شيء في هذا الوجود، فلا حول ولا قوة إلا بالله. فأي نبات أو أي حركة في هذه الدنيا وفي هذا العالم إنما هي بإرادة الله وبقوة الله عز وجل ومشيئته، فالناس ينظرون إلى النبات وهو ينمو، لكن يجب أن نتفكر ما الذي يُنمِّي هذا النبات؟ هي قوة الله سبحانه وتعالى. الجنين ينمو فمن الذي ينميه من نطفة من ماء مهين، فيجعله بشراً سوياً؟ إنها قوة الله سبحانه وتعالى. ولذلك تحداهم الله عز وجل فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]، تحداهم الله سبحانه وتعالى، وقطع بأنهم يعجزون عن الخلق، ولذلك جزم بقوله: (لن يخلقوا ذباباً)، الذي هو أهون شيء، (ولو اجتمعوا له)، وهذا التحدي قائم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لن يستطيعوا أبداً أن يخلقوا شيئاً مهما كان هذا الشيء حقيراً، بل إن من أخطر وأضر مخلوقات الله التي نعرفها الفيروسات، انظر كيف تأتي بالدمار وبالأمراض الخطيرة جداً مع أنها من الكائنات الدقيقة، ومع ذلك هي جند من جنود الله يسلطها على أعدائه المتمردين عليه. فالشاهد: أننا لابد أن نلتفت إلى هذه القوة، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه تفكير المؤمن؛ أن ينسب هذه القوة التي لا نراها -لكن نحس أثرها- إلى فعل الله عز وجل. يقول: ثم هب أن النبات خرج من الأرض وانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى ينبت ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا، وقد قال تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:99]. وكقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:14-16]. وقال سبحانه وتعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]. واعلم أن إطلاق الله سبحانه وتعالى الرزق على الماء في آية الجاثية هذه، إنما هو باعتبار أن الماء سبب لحصول الرزق، كما قال في سورة المؤمن (سورة غافر): هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:13].

دلالة صدر سورة الجاثية على براهين البعث

قال العلامة الشنقيطي : اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة الجاثية ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث كثرة مستفيضة. الأول منها: خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن مَن خَلق الأعظم الأكبر لاشك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر، كما قال سبحانه وتعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وقال تبارك وتعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، وقال سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف:33]، وقال سبحانه وتعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا [الصافات:11]، (أم من خلقنا) يشير إلى خلق السموات والأرض وما ذكر معهما كما في قوله: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات:5]. أما الثاني من البراهين المذكورة فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى؛ لأن من خلقهم على غير مثال سابق لاشك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى كما لا يخفى. ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، إلى آخر الآيات. وقال سبحانه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، ولاشك أن إعادة الخلق أسهل من ابتدائه. وقال سبحانه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51]، وقال سبحانه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، وقال عز وجل: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]، وقال عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62]، وقال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى [النجم:45-47]. وقال سبحانه وتعالى أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .. [التين:1-6]، إلى قوله تبارك وتعالى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7] يعني: أي شيء يحملك على التكذيب بالدين؟! والدين المقصود به هنا البعث والجزاء، أي: ما يحملك على التكذيب بالبعث والجزاء؟! وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من استطاع الإيجاد الأول فلاشك في قدرته على إعادته مرة أخرى. وأما البرهان الثالث من براهين البعث في هذه الآيات: فهو إحياء الأرض في قوله: (( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ))، وقال سبحانه وتعالى موضحاً ذلك: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]، وقال سبحانه وتعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57] أي: كذلك نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت. (( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ )) أي: تلك آيات الله الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته. ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب، كما في قوله هنا: (تلك آيات الله)، والمقصود: هذه آيات الله القريبة، وكقوله تعالى: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2] بمعنى: هذا الكتاب. ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي : أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلك يعني: أنني أنا هذا. وقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6] أي: بعد آياته ودلائله الباهرة.

وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره من صدر هذه السورة: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده. الأول منها: خلقه السماوات والأرض. الثاني: خلقه الناس لقوله: (وفي خلقكم). الثالث: خلقه الدواب. الرابع: اختلاف الليل والنهار. الخامس: إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به. السادس: تصريف الرياح. وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال: (لآيات للمؤمنين)، ثم قال: (آيات لقوم يوقنون)، ثم قال: (آيات لقوم يعقلون). وذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيل هذه الآيات كما بينتها المواضع الأخرى من القرآن الكريم. ونتوقف فقط عند أحد هذه الأدلة وهو الخامس منها؛ لأن الكلام تكرر عما سبق من قبل مراراً، فنتكلم عن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به، وإنبات الرزق فيها، كما في قوله: (( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))، فقد بينته آيات أخرى من القرآن الكريم، كقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا [عبس:24-28]، إلى قوله: مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس:32]، وهذه الآية تدل على وجوب النظر والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وقوله: (فلينظر) أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه الذي يأكله ويعيش به، إنما هو من خلق الله الذي كان سبباً لنباته، وهل يقدر أحد غير الله سبحانه وتعالى أن يخلق هذا النبات أو الماء أو البذر الذي كان منه هذا الخبز؟ الجواب: لا. ثم هب أن الماء الذي كان سبباً لحياة النبات قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض حتى تروى به الأرض تدريجياً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق، كما قال تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43]؟ الجواب: لا. لا توجد قوة بشرية تتحكم في الماء الذي هو سبب أساسي جداً بالنسبة لحياة كل الكائنات الحية، فما هي إلا رحمة الله سبحانه وتعالى. هذا الهواء الذي نتنفسه متاع لجميع الناس، هل هناك شركة تصرف لنا الهواء الذي نتنفسه؟ تخيل لو أن أحداً من البشر يملك خزائن رحمة الله سواء من الهواء الذي نتنفسه، أو من الماء الذي نشربه ونحيا به إلى غير ذلك من هذه النعم العامة! ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها من ثمار النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أنك وضعت البذرة في وضع غير الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه في التربة، فسوف تجدها بعد حين اعتدلت وأخذت الوضع الصحيح، بحيث أن الجذر يتجه إلى أسفل، والساق يتجه للأعلى، من الذي يفعل هذا؟ إنه الله سبحانه وتعالى. ثم هب أن النبات خرج من الأرض فانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ هذه كلها من آيات الله سبحانه وتعالى التي يجب علينا أن نمتثل أمره الواجب في التفكر فيها، (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، فواجب وفريضة وحتم ولازم أن نتفكر في هذه النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا. فلابد أننا نلتفت إلى أن هناك قوة، فكل هذه الأشياء لا تحصل بدون مدبر وصانع، وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه وراء كل مظاهر كل شيء في هذا الوجود، فلا حول ولا قوة إلا بالله. فأي نبات أو أي حركة في هذه الدنيا وفي هذا العالم إنما هي بإرادة الله وبقوة الله عز وجل ومشيئته، فالناس ينظرون إلى النبات وهو ينمو، لكن يجب أن نتفكر ما الذي يُنمِّي هذا النبات؟ هي قوة الله سبحانه وتعالى. الجنين ينمو فمن الذي ينميه من نطفة من ماء مهين، فيجعله بشراً سوياً؟ إنها قوة الله سبحانه وتعالى. ولذلك تحداهم الله عز وجل فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الحج:73-74]، تحداهم الله سبحانه وتعالى، وقطع بأنهم يعجزون عن الخلق، ولذلك جزم بقوله: (لن يخلقوا ذباباً)، الذي هو أهون شيء، (ولو اجتمعوا له)، وهذا التحدي قائم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لن يستطيعوا أبداً أن يخلقوا شيئاً مهما كان هذا الشيء حقيراً، بل إن من أخطر وأضر مخلوقات الله التي نعرفها الفيروسات، انظر كيف تأتي بالدمار وبالأمراض الخطيرة جداً مع أنها من الكائنات الدقيقة، ومع ذلك هي جند من جنود الله يسلطها على أعدائه المتمردين عليه. فالشاهد: أننا لابد أن نلتفت إلى هذه القوة، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه تفكير المؤمن؛ أن ينسب هذه القوة التي لا نراها -لكن نحس أثرها- إلى فعل الله عز وجل. يقول: ثم هب أن النبات خرج من الأرض وانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا. ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى ينبت ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا، وقد قال تعالى: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:99]. وكقوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ:14-16]. وقال سبحانه وتعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [يس:33]. واعلم أن إطلاق الله سبحانه وتعالى الرزق على الماء في آية الجاثية هذه، إنما هو باعتبار أن الماء سبب لحصول الرزق، كما قال في سورة المؤمن (سورة غافر): هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:13].

قال العلامة الشنقيطي : اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة الجاثية ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث كثرة مستفيضة. الأول منها: خلق السماوات والأرض؛ لأن خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت؛ لأن مَن خَلق الأعظم الأكبر لاشك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر، كما قال سبحانه وتعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، وقال تبارك وتعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [يس:81]، وقال سبحانه وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف:33]، وقال سبحانه وتعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا [الصافات:11]، (أم من خلقنا) يشير إلى خلق السموات والأرض وما ذكر معهما كما في قوله: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات:5]. أما الثاني من البراهين المذكورة فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى؛ لأن من خلقهم على غير مثال سابق لاشك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى كما لا يخفى. ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج:5]، إلى آخر الآيات. وقال سبحانه تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79]، وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، ولاشك أن إعادة الخلق أسهل من ابتدائه. وقال سبحانه: فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51]، وقال سبحانه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، وقال عز وجل: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:15]، وقال عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ [الواقعة:62]، وقال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى [النجم:45-47]. وقال سبحانه وتعالى أيضاً: بسم الله الرحمن الرحيم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .. [التين:1-6]، إلى قوله تبارك وتعالى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7] يعني: أي شيء يحملك على التكذيب بالدين؟! والدين المقصود به هنا البعث والجزاء، أي: ما يحملك على التكذيب بالبعث والجزاء؟! وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من استطاع الإيجاد الأول فلاشك في قدرته على إعادته مرة أخرى. وأما البرهان الثالث من براهين البعث في هذه الآيات: فهو إحياء الأرض في قوله: (( وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ))، وقال سبحانه وتعالى موضحاً ذلك: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]، وقال سبحانه وتعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57] أي: كذلك نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت. (( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ )) أي: تلك آيات الله الدالة على كمال قدرته وحكمته وإرادته. ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب، كما في قوله هنا: (تلك آيات الله)، والمقصود: هذه آيات الله القريبة، وكقوله تعالى: ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2] بمعنى: هذا الكتاب. ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي : أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافاً أنني أنا ذلك يعني: أنني أنا هذا. وقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6] أي: بعد آياته ودلائله الباهرة.

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية:7-11]. قال الله عز وجل: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الجاثية:7] أي: كذاب يتكلم في حق الله وصفاته على خلاف الدليل. (أَثِيمٍ) أي: بترك الاستدلال، لاسيما إذا لم يترك عن غفلة، بل مع كونه يسمع آيات الله، فليست له حجة بترك الاستدلال؛ لعدم وجود الأدلة، بل بلغته الحجة فإنه يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . قوله تعالى: ((يسمع آيات الله)) أي: يسمعها بنفسه لا بالإخبار عنها بالغيب، بل (تتلى عليه ثم يصر) أي: على إنكارها، وعدم قبولها، ولا يتأثر بها أصلاً. (مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم). يقول تعالى: وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا [الجاثية:9]، استهانة بها، وفي قراءة: (وإذا عُلِّم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً)، كما فعل أبو جهل لما نزل قوله تبارك وتعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ [الدخان:43-44] ، فأحضر زبداً وتمراً ونادى أصحابه ودعاهم إلى أن يأكلوا، وقال: هذا هو الزقوم الذي يهددنا به محمد؛ استهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك من مظاهر استهزاء الكفار بآيات الله عز وجل. مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية:10]، السياق من أوله: (أفاك أثيم) مفرد (يسمع)، (تتلى عليه)، (ثم يصر)، (كأن لم يسمعها)، (فبشره)، (وإذا علم)، (اتخذها)، ثم قال: (أولئك لهم عذاب مهين)، فاسم الإشارة ورد بالجمع، لأنه رد الكلام إلى معنى لفظ (كل)؛ لأن قوله تعالى: (( وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ )) إلى آخره، جمع بالنظر إلى معنى كلمة (كل). وقوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم) يعني: من بعد انقضاء آجالهم عذاب جهنم. وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا ، أي: من الأموال والأولاد، (( شَيْئًا ))، من عذاب الله. وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ يعني: آلهتهم التي عبدوها، أو رؤساءهم الذين أطاعوهم في الكفر، واتخذوهم نصراء في الدنيا. وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . قال تعالى: هَذَا هُدًى أي: هذا القرآن بيان ودليل على الحق، يهدي إلى صراط مستقيم من اتبعه وعمل بما فيه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ . قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ ، أي: بتسخيره. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الجاثية:12] أي: باستفادة علم وتجارة وأمتعة غريبة، وجهاد وهداية، وغوص فيه لاستخراج لآليه، وفيض منه. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: نعمة هذا التسخير، فتعبدوه وحده، وتصرفوا ما أنعم به عليكم إلى ما خلقتكم له.

وقفة يسيرة مع قوله تعالى: (من ورائهم جهنم)

قوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم)، وقال تعالى في سورة إبراهيم: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ [إبراهيم:15-16]، والوراء هنا بمعنى أمام على أصح الوجهين. فقوله: (من ورائهم جهنم) يعني: أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة. ومن ذلك قوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، يعني: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، كما في قراءة ابن عباس : (وكان أمامهم ملك)، فهل معنى ذلك أن المعنى يختلف للاختلاف في القراءة؟ لا، لكن المقصود أن هذه القراءة تفسيرية، ولهذا نظائر كثيرة، فكان ابن عباس يقرؤها: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً)، يريد بذلك تفسير وراءهم بأمامهم. ومنه قول لبيد : أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أي: إذا امتد بي العمر حتى صرت شيخاً هرماً، ماذا أتوقع أن يكون؟ ألست أتوقع أن ألزم العصا تحنى عليها الأصابع؟! ويروى أيضاً: أليس ورائي إن تراخت منيتي أدب مع الولدان أزحف كالنسر يشير بذلك إلى حالة الشيخ الهرم. ومنه قول الشاعر أيضاً: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا وقول الآخر: ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي ومن ورائك أي: أمامك. وقوله تبارك وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13]. (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)، وقرئ: (مِنّة)، وقرئ أيضاً: (جميعاً مَنُّهُ) أي: فضل الله وتكرمه تبارك وتعالى. (إن في ذلك لآيات)، أي: في آيات الله وحججه وأدلته. (لآيات لقوم يتفكرون) يعتبرون بها. قال المهايمي : منها: أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده، وجعل البعض سبباً لبعض دليل حكمته، وجعل الكل مسخراً للإنسان دليل كمال وجوده، فمن أنكر هذه الآيات ولم يذكره عند النعم استوجب أعظم وجوه الانتقام.

قوله تبارك وتعالى: (من ورائهم جهنم)، وقال تعالى في سورة إبراهيم: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ [إبراهيم:15-16]، والوراء هنا بمعنى أمام على أصح الوجهين. فقوله: (من ورائهم جهنم) يعني: أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة. ومن ذلك قوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف:79]، يعني: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، كما في قراءة ابن عباس : (وكان أمامهم ملك)، فهل معنى ذلك أن المعنى يختلف للاختلاف في القراءة؟ لا، لكن المقصود أن هذه القراءة تفسيرية، ولهذا نظائر كثيرة، فكان ابن عباس يقرؤها: (وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً)، يريد بذلك تفسير وراءهم بأمامهم. ومنه قول لبيد : أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع أي: إذا امتد بي العمر حتى صرت شيخاً هرماً، ماذا أتوقع أن يكون؟ ألست أتوقع أن ألزم العصا تحنى عليها الأصابع؟! ويروى أيضاً: أليس ورائي إن تراخت منيتي أدب مع الولدان أزحف كالنسر يشير بذلك إلى حالة الشيخ الهرم. ومنه قول الشاعر أيضاً: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا وقول الآخر: ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا بادي ومن ورائك أي: أمامك. وقوله تبارك وتعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13]. (وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه)، وقرئ: (مِنّة)، وقرئ أيضاً: (جميعاً مَنُّهُ) أي: فضل الله وتكرمه تبارك وتعالى. (إن في ذلك لآيات)، أي: في آيات الله وحججه وأدلته. (لآيات لقوم يتفكرون) يعتبرون بها. قال المهايمي : منها: أن ربط بعض العالم بالبعض دليل توحيده، وجعل البعض سبباً لبعض دليل حكمته، وجعل الكل مسخراً للإنسان دليل كمال وجوده، فمن أنكر هذه الآيات ولم يذكره عند النعم استوجب أعظم وجوه الانتقام.

قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية:14]. (قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه. (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) قيل: لا يرجون ثوابه، أو لا يخافون بأس الله ونقمته، على أن الرجاء يأتي أحياناً بمعنى الخوف، كقوله سبحانه وتعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] أي: لا تخافون له عظمة. وقيل: معنى: (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخشون مثل العذاب الذي نزل بالأمم الخالية، والأيام يعبر بها عن الوقائع والأحداث. وقيل: لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. وقيل: لا يخافون البعث والنشور. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (قل للذين آمنوا)، أي: صدقوا بالله واتبعوه. (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله)، أي: لا يخافون بأس الله ونقمه ووقائعه بأعدائه في الأمم الخالية. (ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون)، أي: من عملهم، ومنه العفو والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، فيجزي المؤمنين على صبرهم على أذى المشركين الذي أخبرهم الله سبحانه وتعالى به في قوله: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، فهذا أمر بالصبر والتجاوز والعفو عن بعض ما يؤذي وما يوحش، أي: سوف تجزون على ذلك: لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية:14]. وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فنزلت هذه الآية. قال ابن العربي : هذا لم يصح من حيث السبب. وقيل: إنها نزلت في غزوة بني المصطلق لما أرسل عمر من سقى وجمع الماء، واستوفى الماء، فقيل لبعض المشركين: إن المسلمين هم الذين أخذوا هذا الماء، فقال: ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك! فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاخترط سيفه وأراد قتله، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي، فإنه عندما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245] قال قولته الشنيعة، ونسب الله سبحانه وتعالى إلى الحاجة والعوز. وإذا قيل: إن الآية نزلت في كذا، فلا يشترط أن يكون بالفعل هو سبب النزول الذي نزلت الآية من أجله؛ لأن هذه الوقائع كلها بعد الهجرة. هذا السبب هو الذي جعل البعض يقول: إن هذه السورة مكية إلا هذه الآية، بناء على ما روي فيها من أسباب النزول، ولكن السبب لم يصح، وحتى لو ثبت فلا يستلزم ذلك كونها مدنية، فنزولها في عمر -إن صح ذلك- إنما يعني ذلك أنها تصدق على قضيته، فالمعنى: أن هذه الآية الكريمة تصدق على المناسبة الفلانية، حتى ولو لم يكن نزل فيها بالفعل، وقد سبق التنبيه على هذا. يقول: وقد روي أنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد شتمه رجل من غفار، فهم أن يبطش به، فتكون الآية المدنية. قيل: يؤيده ما أورد على كونها مكية، من أن من أسلم بها كانوا مقهورين، فلا يمكنهم الانتصار منهم، والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح، أي: أن البعض استدل على كون هذه الآية مدنية بالأخبار التي أشرنا إليها، وهي لا يصح منها شيء، فأيدوا ذلك بمعنى آخر، فقالوا: إن العفو لا يؤمر الإنسان به إلا إذا كان عن قدرة وتمكن من التنفيذ، فكونها مكية، والمؤمنون في مكة كانوا مستضعفين؛ قد يتعارض مع قوله تعالى: (( يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ))، فالعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح؛ لأنه مقهور لا يمكنه أصلاً الانتصار ممن يؤذيه، فيتعين أن تكون هذه الآية مدنية. وأجيب: بأن المراد أنه يفعل ذلك بينه وبين الله في قلبه ليثاب عليه، حتى لو كان مقهوراً، فهو يشكو إلى الله سبحانه وتعالى ليثاب على ذلك، مع العلم أنه ليس كل أحد من المؤمنين الموجودين في مكة كانوا مقهورين مغلوبين، بل كان منهم من يستطيع الانتصار لنفسه، وأولهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فالصواب: أن الآية مكية مثل بقية السورة، ومعنى نزولها في عمر -إن صح الأثر- صدقها على قضيته، والاستشهاد بها لسماحه كما حققنا المراد من النزول غير ما مرة. ثم قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [الجاثية:15] لكونه فكها من العذاب. وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [الجاثية:15] أي: أساء عمله بمعصية ربه، فعلى نفسه جنى؛ لأنه أوبقها بذلك. ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:15] أي: تصيرون، فيجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية:16-17]. (الكتاب): التوراة. (والحكم): الفهم للكتاب، والعلم بالسنن التي لم تنزل بالكتاب. (والنبوة): جعلنا منهم أنبياء ورسلاً إلى الخلق. وقوله تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) هل يصلح أن نقول: ابتداء من إسحاق؟ لا؛ لأن إسحاق هو أبو إسرائيل وليس ابن إسرائيل، ولا يصلح أن تقول: ابتداء من يعقوب؛ لأن يعقوب هو نفسه إسرائيل، وإنما أول أنبياء بني إسرائيل هو يوسف عليه السلام، كما قال الله: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ [غافر:34]. إذاً: المقصود بقوله: (والنبوة)، من وقت يوسف إلى زمن عيسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. (ورزقناهم من الطيبات)، المن والسلوى. (وفضلناهم على العالمين)، على عالم أهل زمانهم، بإيتائهم ما لم يؤت غيرهم. يقول العلامة الشنقيطي: رحمه الله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وفضلناهم على العالمين): ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين، ووضحه في قوله في البقرة: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:47]، وقال في الدخان: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان:32]، وقال في الأعراف: قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف:140]. ولكن الله جل وعلا بين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من بني إسرائيل، وأكرم على الله كما صرح بذلك في قوله عز وجل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] يعني: أنتم، فخير صيغة تفضيل، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع أمم بني إسرائيل وغيرهم. ومما يزيد ذلك إيضاحاً: حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أمته: (أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله). رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وهو حديث مشهور، قال ابن كثير : حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما نحوه. قال الشنقيطي رحمه الله وغفر له: ولاشك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور رضي الله عنه؛ لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر، في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وفي قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143]. فقوله: (وسطاً) أي: خياراً عدولاً. إذاً: لا تعارض بين هذه الآية التي تدل على الأفضلية المطلقة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على جميع العالمين، وبين ما دل على تفضيل بني إسرائيل على العالمين؛ لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: (وفضلناهم على العالمين) الموجودين. فهل كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم موجودة في ذلك الوقت؟ لم تكن أمة محمد عليه الصلاة والسلام قد وجدت بعد، وبنو إسرائيل المفضلون ليسوا أجداداً للقردة والخنازير الموجودين الآن؛ لأن العلاقة بيننا وبين هؤلاء المذكورين الذين فضلهم الله على العالمين أنهم إخواننا، فهم مسلمون مثلنا، وهؤلاء لو عاشوا حتى أدركوا النبي عليه الصلاة والسلام لدخلوا في الإسلام؛ لأنهم أتباع موسى على دين الإسلام، وعلى التوراة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى؛ فهم مسلمون مؤمنون موحدون يعبدون الله، وإذا كان نبيهم نفسه قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فكيف بأتباع موسى؟ لاشك أنهم سيكونون أحرى وأولى أن ينقادوا للنبي صلى الله عليه وسلم ولشريعته. فليس لليهود الكفرة -لعنهم الله- أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم شعب الله المختار؛ لأن الذين اختارهم الله كانوا مسلمين مؤمنين موحدين، ولو قدر أنهم يعيشون الآن لانضموا إلى المسلمين في محاربة اليهود؛ لأنهم كفار، لأن الإيمان يميز الناس إلى حزب الله وحزب الشيطان. يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14]، فكلهم بنو إسرائيل، لكن انفصلوا بمجرد الإيمان، وبمجرد الدخول في الإسلام؛ (( فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ))، وانظر ماذا قال عز وجل بعدها مباشرة: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، صاروا أعداء بمجرد المفارقة والمفاصلة في ضوء العقيدة وفي ضوء الإيمان، فمن كفر فهو عدو للمؤمن حتى لو كان أباه أو أخاه أو قريبه أو صفيه، فهو عدو له وعدو للجميع. الشاهد: ليس لهؤلاء الكفار أن يحتجوا بهذه الآية على أنهم مختارون، وكيف يختارهم الله وهم يشتمون الله؟ كيف وهم قتلة الأنبياء، وهم الطاعنون في كتاب الله وفي سنة رسول الله، وفي دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! إذاً: التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه، ولكنه تعالى بعد وجود أمة محمد صلى الله عليه وسلم صرح بأنها خير الأمم، وهذا واضح؛ لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل إنما يراد به ذكر أحوال سابقة؛ لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا وكذبوا به، كقوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، والله سبحانه وتعالى في سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة والنساء ذم كفار بني إسرائيل الذين أبوا الانقياد لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام، ففي وقت نزول القرآن هل يمكن أن يكونوا ما زالوا مفضلين على العالمين وقد كفروا وكذبوا به؟ هل يتصور أنهم لا يزالون هم شعب الله المختار، والله سبحانه وتعالى يقول لهم: (( فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ))، ويقصد بذلك اليهود؟ لا يمكن، فالتفضيل إنما هو في حال عدم وجود أمة محمد عليه الصلاة والسلام، لكن بعد نزول القرآن كفروا بالقرآن وكذبوا، كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]. ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلاً إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق لا في وقت نزول القرآن، فمعلوم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف تفضيل بني إسرائيل، وأنها بعد وجودها صرح الله عز وجل بأنها خير الأمم كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. يقول تبارك وتعالى: وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأَمْرِ [الجاثية:17] أي: حججاً وبراهين وأدلة قاطعة تأبى الاختلاف، ولكنهم أبوا إلا الاختلاف. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الجاثية:17] أي: ظلماً وتعدياً منهم؛ لطلب الحظوظ العاجلة. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية:17] أي: بالمؤاخذة والمجازاة. قال ابن كثير : وفي هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم، وأن تقصد منهجهم، يعني: في الاختلاف والفرقة.