تفسير سورة التحريم


الحلقة مفرغة

نشرع في تفسير سورة التحريم، وهي السورة الثالثة والستون، وهي مدنية، وآيها اثنتا عشرة آية. يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1]. قوله تعالى: ((يا أيها النبي)) ناداه بالنبوة تعظيماً له صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه من مظاهر تعظيم الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حيث إنه ما ناداه باسمه قط، فلا توجد آية في القرآن فيها: يا محمد! في حين نودي غيره بالاسم: يا آدم، يا موسى، يا نوح، يا عيسى، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فما ناداه الله إلا بوصفه؛ تعظيماً لجنابه صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أنه سيد الأولين والآخرين. وناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن، وعبر عنه بالمبهم إشعاراً منه بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهي. قوله: ((لم تحرم ما أحل الله لك)) ليس المراد بالتحريم هنا اعتقاد الحلال حراماً، ولكن المقصود امتناعه من الحلال وحظره إياه على نفسه، وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح. يعني: لو أن شخصاً منع نفسه من طعام معين لسبب من الأسباب، أو حلف ألا يأكل هذا الطعام وهو لا يعتقد أن هذا الطعام حرام فلا بأس. إذاً: المقصود بالتحريم هنا أنه منع الطعام على نفسه وليس بقصد أنه صار حراماً، لأن تحليل الحرام وتحريم الحلال من الأمور المكفرة، فالخمر مثلاً من استحله واعتقد أنه حلال فإنه يصير كافراً بذلك قطعاً. فمعنى: (( لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ )) لم تمتنع عن شيء أحله الله لك لترضي أزواجك؟ وهذا القدر مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قال عز وجل له: ((لم تحرم ما أحل الله لك)) رفقاً به وشفقة عليه، وتمييزاً لقدره ومنصبه صلى الله عليه وسلم أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، فهذاً جرياً على ما ألف من نصح الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليظهر الله كمال نبوته.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك...)

نذكر اختلاف العلماء الأثريين في هذا الشيء الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، فقد جاءت في ذلك روايات منها: روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، ولا تخبري بذلك أحداً، فنزلت الآية). وروى الشيخان أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فغِرتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لـسودة فقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: وما هذه الريح التي أجد، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وإذا دخل علي فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت له مثلما علمتها عائشة وأجابها بما تقدم، فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك. فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر فدخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به! قالت: تقول سودة : والله لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي). يعني عائشة قالت لـسودة : اسكتي. والمغافير: صبغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط، وفي هذه الرواية أن التي شرب منها العسل حفصة ، وفي سابقتها أنها زينب ، والاشتباه في الاسم لا يضر بعد ثبوت أصل القصة. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كانت حفصة وعائشة متحابتين، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته -في بعض الروايات أنها مارية القبطية - فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة فوجدتها -يعني مارية -في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ودخلت حفصة ، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأرضينك، فإني مسر إليك سراً فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضاً لك حتى أرضيك، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرت إليها بذلك، فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2] إلى آخر الآيات) وروي أيضاً عن الضحاك قال: (كانت لرسول صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة -وكانتا متظاهرتين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمي علي ولا تذكري لـعائشة ما رأيت، فذكرت حفصة لـعائشة ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف ألا يقربها أبداً فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته). وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية). ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية على عادته في أمثالها، ولذا قال: والصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك جاريته ، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان قد أحله له، وبين له تحلة يمينه.

ما رجحه القاسمي في سبب نزول أول سورة التحريم

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والذي يظهر لي هو ترجيح رواية تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه: منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات ويهتم به لهن. وذلك لأنه أمر حساس يثير الغيرة عند الضرائر. ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. ثم رغب إلى عائشة ألا تحدث صاحبة العسل سواء كانت زينب أو حفصة ؛ حتى لا تتأذى وتقول: إنها السبب في أنها أطعمته هذا الطعام الذي يصدر منه هذا الريح، إلا أن يكن عاتبنه في ذلك ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك فحرمه، ولكن ليس في الروايات ما يشعر به، وما زاد على ذلك فمن اجتهاده هو. ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة. يعني: لأن تأثير الغيرة في موضوع الجارية أقوى، وأن الذي جعلهن يتظاهرن هذه المظاهرة ويخططن هذا التخطيط ليس هو موضوع العسل بل موضوع الجارية. ثم يقول القاسمي : كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة. وأما تحديد رواية العسل في هذه الآية وقول بعض السلف: نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مراراً، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه.

حكم تحريم المرء على نفسه شيئاً حلالاً

قوله: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) قال في الإكليل: أستدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاماً أو زوجة لم تحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في الحرام يكفر،لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. وذهب ابن جرير : إلى أنه كان مع التحريم يمين. أي: أنه قال: والله لا أقرب الجارية، أو العسل. وهذا فيه نظر. والأرجح والله تعالى أعلم أن التحريم بمجرده بدون يمين بالله عز وجل هو في حد ذاته يمين. وقال قتادة : إن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها -يعني: جاريته- فكانت يميناً. ابن جرير ذهب إلى أنه كان مع التحريم يمين، وهذا رده بعض المحققين؛ لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، فمنها ما يكون قسماً بالله، ومنها ما يكون بصيغة التحريم. في هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1] يعاتب الله سبحانه وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم على تحريم ما أحل الله له ليرضي أزواجه، فكأنه يقول: لا تضيق على نفسك بتحريم سريتك لترضي أزواجك، بل هن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن. ثم هددهن الله سبحانه وتعالى إن لم يتبن عن ذلك فسوف يبدله الله أزواجاً خيراً منهن بالصفات التي ستأتي فيما بعد.

نذكر اختلاف العلماء الأثريين في هذا الشيء الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، فقد جاءت في ذلك روايات منها: روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: بل شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، ولا تخبري بذلك أحداً، فنزلت الآية). وروى الشيخان أيضاً عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا صلى العصر دخل على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فغِرتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له، فذكرت ذلك لـسودة فقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: وما هذه الريح التي أجد، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وإذا دخل علي فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت له مثلما علمتها عائشة وأجابها بما تقدم، فلما دخل على صفية قالت له مثل ذلك. فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك، فلما كان اليوم الآخر فدخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به! قالت: تقول سودة : والله لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي). يعني عائشة قالت لـسودة : اسكتي. والمغافير: صبغ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له: العرفط، وفي هذه الرواية أن التي شرب منها العسل حفصة ، وفي سابقتها أنها زينب ، والاشتباه في الاسم لا يضر بعد ثبوت أصل القصة. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كانت حفصة وعائشة متحابتين، فذهبت حفصة إلى أبيها فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته -في بعض الروايات أنها مارية القبطية - فظلت معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة فوجدتها -يعني مارية -في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته ودخلت حفصة ، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله لأرضينك، فإني مسر إليك سراً فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إني أشهدك أن سريتي هذه علي حرام رضاً لك حتى أرضيك، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرت إليها بذلك، فلما أخبرت بسر النبي صلى الله عليه وسلم أظهر الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم عليه، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:1-2] إلى آخر الآيات) وروي أيضاً عن الضحاك قال: (كانت لرسول صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة -وكانتا متظاهرتين- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتمي علي ولا تذكري لـعائشة ما رأيت، فذكرت حفصة لـعائشة ، فغضبت عائشة فلم تزل بنبي الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف ألا يقربها أبداً فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يكفر يمينه ويأتي جاريته). وروى النسائي عن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها، فأنزل الله هذه الآية). ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية على عادته في أمثالها، ولذا قال: والصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئاً كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك جاريته ، وجائز أن يكون شراباً من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان قد أحله له، وبين له تحلة يمينه.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: والذي يظهر لي هو ترجيح رواية تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه: منها: أن مثله يبتغى به مرضاة الضرات ويهتم به لهن. وذلك لأنه أمر حساس يثير الغيرة عند الضرائر. ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه. ثم رغب إلى عائشة ألا تحدث صاحبة العسل سواء كانت زينب أو حفصة ؛ حتى لا تتأذى وتقول: إنها السبب في أنها أطعمته هذا الطعام الذي يصدر منه هذا الريح، إلا أن يكن عاتبنه في ذلك ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك فحرمه، ولكن ليس في الروايات ما يشعر به، وما زاد على ذلك فمن اجتهاده هو. ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك بالاستبدال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءه مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة. يعني: لأن تأثير الغيرة في موضوع الجارية أقوى، وأن الذي جعلهن يتظاهرن هذه المظاهرة ويخططن هذا التخطيط ليس هو موضوع العسل بل موضوع الجارية. ثم يقول القاسمي : كل ذلك يدل على أن أمراً عظيماً دفعهن إلى تحريمه ما حرم، وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية، فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة. وأما تحديد رواية العسل في هذه الآية وقول بعض السلف: نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مراراً، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه.

قوله: ((لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ)) قال في الإكليل: أستدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاماً أو زوجة لم تحرم عليه وتلزمه كفارة يمين، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: في الحرام يكفر،لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. وذهب ابن جرير : إلى أنه كان مع التحريم يمين. أي: أنه قال: والله لا أقرب الجارية، أو العسل. وهذا فيه نظر. والأرجح والله تعالى أعلم أن التحريم بمجرده بدون يمين بالله عز وجل هو في حد ذاته يمين. وقال قتادة : إن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها -يعني: جاريته- فكانت يميناً. ابن جرير ذهب إلى أنه كان مع التحريم يمين، وهذا رده بعض المحققين؛ لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، فمنها ما يكون قسماً بالله، ومنها ما يكون بصيغة التحريم. في هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التحريم:1] يعاتب الله سبحانه وتعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم على تحريم ما أحل الله له ليرضي أزواجه، فكأنه يقول: لا تضيق على نفسك بتحريم سريتك لترضي أزواجك، بل هن أحق أن يسعين في رضاك ليسعدن. ثم هددهن الله سبحانه وتعالى إن لم يتبن عن ذلك فسوف يبدله الله أزواجاً خيراً منهن بالصفات التي ستأتي فيما بعد.

قال تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2]. أي: شرع حل ما عقدتموه بالكفارة، فالتحلة مصدر بمعنى التحليل. قوله: ((وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ)) أي: متولي أموركم. قوله: ((وَهُوَ الْعَلِيمُ)) أي: بمصالحكم. ((الْحَكِيمُ)) أي: في تدبير دنياكم بما شرعه وحكم به. وهذه الآية تدل على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به، وإنما الأمر فيه تفصيل؛ لأنه قد خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] إلى آخره، ومع ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام غير مقصود بهذا الخطاب؛ لأنه لم يكن يوجد في ذلك الوقت أبواه أو أحدهما، فقد ماتا قبل البعثة وهو ما زال صغيراً صلى الله عليه وسلم. أما مثل هذه الآيات التي نحن بصددها فإنه يأتي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيه معه غيره من الأمة، ومثال ذلك قوله تعالى في أول سورة الطلاق: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، وقوله أيضاً في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1]. إذاً دلت هذه الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به؛ لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقبه: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [التحريم:2] فابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم أتبعه بلفظ الجمع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : التحلة مصدر حللت الشيء تحليلاً وتحلة، كما يقال: كرمته تكريماً وتكرمة، وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه وهو الكفارة، فإن أريد المصدر فالمعنى: فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد، ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كـأبي بكر بن عبد العزيز بهذه الآية على التكفير قبل الحنث؛ لأن التحلة لا تكون بعد الحنث؛ فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين؛ وإنما هي بعد الحنث كفارة؛ لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم في نقض عهد الله، فإذاً تبين أن ما اقتضت اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة، التي جعلها بدلاً من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار. يعني: بدل أن يضيق على نفسه ويلتزم هذا الذي حلف عليه، ويكون اسم الله الذي حلف به مانعاً يعرض ويحول دون إتيان ما هو أفضل، فقد فتح الله له الباب بالكفارة حتى لا يفي بما حلف عليه. قوله تعالى: ((قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ)) من تحريم الحلال المذكور قبل وهو الزوجة. هذا الموضع في الحقيقة تناقش فيه قضية تحريم الزوجة، وأن ذلك على الراجح يكون فيه كفارة يمين بتفصيل نرجئه إلى باب الطلاق إن شاء الله تعالى، ومن أراد التفصيل فليعد إلى القاسمي أو إلى غيره من كتب الأحكام.

يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ [التحريم:3]. ((وإذ أسر النبي)) محمد صلى الله عليه وسلم. ((إلى بعض أزواجه)) هي حفصة في قول ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك وهو تحريم فتاته في قول هؤلاء. قال ابن جرير : أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له. وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد. ((فلما نبأت به)) يعني: لما أخبرت بهذا السر صاحبتها كما تقدم. ((وأظهره الله عليه)) أي: أطلعه الله عن طريق الوحي: أن حفصة أخبرت عائشة بالسر الذي ائتمنتها عليه. ((عرف بعضه وأعرض عن بعض)) أي: عرفها بعض ما أفشته معاتباً لها، وأعرض عن بعض الحديث تكرماً، وهذا من معالي ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو نوع من التغافل الذي ما يزال من فعل الكرام؛ لأنه لا يتغافل إلا كريم، أما الذي يستقصي دائماً فهو اللئيم. إذاً: الكريم إذا عاتب فإنه لا يستقصي، وإنما يتجاوز ويتغافل ويتجاهل، فهذا مما يمدح به الإنسان، فلذلك قال الله سبحانه وتعالى مبيناً حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض)). (( فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ )) أي: الذي هو البعض. قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ أي: الذي لا تخفى عليه خافية. وفي الإكليل: يقول في الآية: إنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وإنه ما دام الشخص يثق بك ويسر إليك بحديث فإنه يجب عليك أن تكتم هذا السر. وكما أشرنا من قبل إلى أن استكتام السر أو استيداع السر إما يأتي بصورة واضحة وإما أن يأتي بقرينة، كما جاء في الحديث عن السر الذي أتى بقرينة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا حدث الرجل صاحبه ثم التفت فهي أمانة) يعني: عندما يتكلم صاحب السر تجده في أثناء الكلام يلتفت يميناً وشمالاً هل يوجد أحد يسمعه أم لا؟ فكأنه يقول له: هذه أمانة فلا تفشها، وهذا سر فلا تفشه، فينبغي أن يكتم السر، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً: (المجالس بالأمانة)، والأصل في المسلم إذا جلس في المجلس أنه يؤتمن على ما فيه ولا يفشوه هذا هو الأصل، فما بالك إذا صرح لك المتكلم وقال لك: هذا سر فاكتمه ولا تفشه لأحد؟ لكن على الإنسان ألا يأتمن على سره إلا من يثق به أنه يحفظ السر، كذلك من اؤتمن على سر، فلا يأتي إلى ثقة له فيحكي له هذا السر، وبالتالي لا يبقى سر فتحصل فتن كثيرة، ولذلك قال بعض الشعراء: إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه فصدر الذي يستودع السر أضيق وفي هذه الآية حسن المعاشرة مع الزوجات؛ لأن هذا الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام مباح أحله الله سبحانه وتعالى له، ومع ذلك تلطف في استرضائهن والتخفيف عنهن، حتى وصل به الأمر إلى أنه حلف ألا يقربها أو أنه حرمها! وفيها التلطف في العتب. الإنسان قد يعاتب لكن لا يسترسل في العتاب ولا يستقصي، خاصة أن بعض الناس إذا كان الأمر له استقصى، أما إذا كان عليه فهو يتضايق من هذا جداً، فينبغي للإنسان إذا عاتب أن يتوسط في العتب وألا يستوفي كل ما له من الحق، فما استوفى كريم قط! وفيه الإعراض عن استقصاء الذنب، وإلا فلن يبقى لك صديق. من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط

قال تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]. أشار تعالى إلى غضبه لنبيه صلى الله عليه وسلم مما أتت به إحدى نسائه من إفشاء السر إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه، فقال عز وجل: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ . قوله: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) أي: إن تتوبا إلى الله فأنتما فعلاً محتاجتان للتوبة؛ لأنكما أتيتما بفعل خطير وعظيم. (فقد صغت قلوبكما) أي: قد مالت قلوبكما لتحريم مارية ، ولأنكما وجدتما فرحاً كبيراً وسروراً عظيماً لما حرم على نفسه سريته، مع كراهة النبي صلى الله عليه وسلم له، وذلك ذنب يستوجب التوبة. يقول القاسمي في تفسير قوله تعالى: ((إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)): يعني: فقد رجعتما إلى الحق وملتما إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: عائشة وحفصة. وفي خطابهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب مبالغة، لأن السياق فيما مضى للغائب (( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ )) ثم يقول: (( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ )) التفاتاً من الغيبة إلى الخطاب، وهذه مبالغة، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطروداً بعيداً عن ساحة الحضور، ثم إذا استقر به تودد إليه وعاتبه بما يريد. قوله: (( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ )) يعني: إن تتظاهرا وتتفقا على ما يسوءه صلى الله عليه وسلم، (( فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ )) أي: متظاهرون على من أراد مساءته صلى الله عليه وسلم. وهذه السورة هي إحدى السور التي تبين عظم مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فهذا الموضع بالذات منها. إذاً: فعلينا أن نعرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدره، فهذه من حقائق دين الإسلام، ومن حيثيات العقيدة الإسلامية لكل مسلم أن يعرف مقام النبي عليه الصلاة والسلام، وأن له أشرف المقامات عند الله تبارك وتعالى، فتأمل على سبيل المثال هذه الآية، فقوله تعالى: ((وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ )) يدل على أن عناية الله بنبيه صلى الله عليه وسلم لم يرق إليها رسول ولا ملك، فما نعلم أن الله سبحانه وتعالى نصر رسولاً على أعدائه بهذه الصورة الرائعة التي نصر بها رسوله في هذه الحادثة، ولقد كان في نصر الله كفاية وغناء: ((فإن الله هو مولاه))؛ ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يظهر مقدار حبه لنبيه صلى الله عليه وسلم ورعايته لجانبه، فجند لنصره جبريل وصالحي المؤمنين والملائكة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: قوله: (( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ )) أي: متظاهرون على من أراد مساءته، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم ختم الظهراء بهم؛ ليكون أفخم في التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وعظم مكانته والانتصار له، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار يملأ القفار يتأخر خلف أميره وقائده؛ ليحمل على عدوه ومناوئه. قوله: (( وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ )) أي: كل المؤمنين الصالحين. قوله: (( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ )) فهؤلاء هم المنحازون إلى جانب النبي صلى الله عليه وسلم المظاهرون له صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا )) صغا: مال ورضي وأحب. لم يقل: قد صغا قلباكما، وإنما قال: ((فقد صغت قلوبكما)) بالجمع مع انهما اثنتان وهما حفصة وعائشة رضي الله عنهما، فقيل: إن المعنى معلوم، والجمع أخف من المثنى إذا أضيف، فالمعنى المفهوم أن المقصود حفصة وعائشة بالذات في استعمال الجمع، فلا ضير، ولأن الجمع أخف من المثنى في حالة الإضافة، فقوله: (قلوبكما) أسهل من أن يقول: (فقد صغا قلباكما). وقيل: هو مما استدل به على أن أقل الجمع اثنان، كما في الميراث في قوله: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] يعني اثنان فصاعداً. قوله: (( إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا )) جواب الشرط في قوله: (إن تتوبا) محذوف تقديره: إن تتوبا إلى الله فذلك واجب عليكما؛ لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: إن تتوبا إلى الله فذلك خير لكما. والمعنى متقارب. قوله تعالى: (( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ )) قال أبو حيان : الوقف على (مولاه) وتكون الولاية خاصة بالله، والمظاهرة تكون لمن أتى بعده، ويكون جبريل مبتدأً وما بعده معطوف عليه. فيقف القارئ على قوله: ((فإن الله هو مولاه)) ثم يستأنف ((وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) فالمبتدأ (جبريل) والخبر (ظهير)، وعليه يكون جبريل قد ذكر مرتين؛ بالخصوص أولاً، وبالعموم ثانياً؛ لأن جبريل من الملائكة. وقيل: إن الوقف على قوله: (وجبريل) معطوفاً على لفظ الجلالة في الولاية، تقول: (( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ ))، ثم تبتدئ بقوله تعالى: (( وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ )) فيدخل جبريل مع الملائكة ضمناً. فعلى الوقف الأول: يكون قرن صالح المؤمنين بجبريل وبالملائكة؛ تنبيهاً على علو منزلة صالحي المؤمنين وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل. وعلى الوقف الثاني: يكون قد عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو ((فإن الله هو مولاه وجبريل))، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في (ثم) إذ محل العطف هو الولاية، وهو قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى؛ لأن الولاية قد تكون من الخلق ومن المخلوق، يقول عز وجل: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:62] فالنصر يكون من الله ويكون من العباد من باب الأخذ بالأسباب، وقال عز وجل: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، وقال عز وجل: وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر:8]، وقال الله حاكياً عن عيسى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران:52]. وهذا بخلاف ما جاء في الحديث من قول الأعرابي: (ما شاء الله وشئت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله وحده) لأن حقيقة المشيئة هي أنها لله وحده كما في قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [التكوير:29] وقوله: بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا [الرعد:31]، وقوله: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4]. فإذاً: لا حرج في الوقف على جبريل، والعطف بالواو يدل على أن الموالاة والمناصرة تكون من الله وتكون من جبريل عليه السلام، وهذا يقع. ومن اللطائف في قوله تبارك وتعالى: (( وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ )) يقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: إن المتظاهرتين على رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في الآية: ((فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير)) ليدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن. العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى فهم ذلك من قوله تبارك وتعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، بينما قال في كيد الشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]. يقول الشاعر في نفس هذا المعنى: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنساناً وقد عبر الشاعر أيضاًُ عن ذلك بقوله: ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه

يقول الله تبارك وتعالى مهدداً ومتوعداً هؤلاء اللائي تظاهرن على النبي صلى الله عليه وسلم: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [التحريم:5]. (مُسْلِمَاتٍ) أي: خاضعات لله بالطاعة. (مُؤْمِنَاتٍ) أي: مصدقات لله ورسوله. (قَانِتَاتٍ) أي: مطيعات لما يؤمرن به. (تَائِبَاتٍ) أي: من الذنوب لا يصررن عليها. (عَابِدَاتٍ) أي: متعبدات لله، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن حتى صارت ملكة لهن. (سَائِحَاتٍ) أي: صائمات، (ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا). اعلم أن في وصف المبدلات بهذه الصفات تعريضاً بوجود اتصاف الأزواج بها، لاسيما أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ )) فيه بيان أن الخيرية التي يختارها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في النساء هي تلك الصفات من الإيمان والصلاح وغير ذلك، فلم يذكر الجمال ولا الحسب ولا النسب، وإنما ذكر صفات الإيمان والصلاح. قوله: (أن يبدله أزواجاً خير منكن) كيف يكن خيراً منهن؟ قال: (مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً)، وفي الحديث: (فاظفر بذات الدين تربت يدك)، وقال تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ [البقرة:221]. وتقديم الثيبات على الأبكار هنا في معرض التخيير، وليس إشعاراً بأفضليتهن؛ لأنه ورد في الحديث: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك)، وكذلك نساء الجنة وصفهن الله تعالى بقوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56] ففيه أولوية الأبكار. قال بعض المفسرين: قوله تعالى: (ثيبات وأبكارا) على سبيل التنويع، وأن الثيبات في الدنيا، والأبكار في الجنة كـمريم ابنة عمران . والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول صلى الله عليه وسلم وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن، ذكر من الصفات العالية ديناً وخلقاً، وقدم الثيبات ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق.

النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلق أزواجه

قوله: (( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ )) لم يبين هل طلقهن أم لا؟ مع أن (عسى) من الله للتحقيق، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب؛ لأنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، وهذه آية التخيير المعروفة. فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يطلقهن ولم يبدله أزواجاً خيراً منهن. وقد بين الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه المسألة وإحلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب:50]، وعند قوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [الأحزاب:51]، وقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52].

قوله: (( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ )) لم يبين هل طلقهن أم لا؟ مع أن (عسى) من الله للتحقيق، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب؛ لأنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخيرهن حيث قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]، وهذه آية التخيير المعروفة. فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يطلقهن ولم يبدله أزواجاً خيراً منهن. وقد بين الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى هذه المسألة وإحلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ [الأحزاب:50]، وعند قوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ [الأحزاب:51]، وقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب:52].

يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) أي: أسباب دخول النار، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، والقيام على تأديب الأهل وأخذهم بما تأخذون به أنفسكم. (وقودها الناس والحجارة) أي: تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب. (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ) أي: تلي أمرها وتعذيب أهلها، وهم الزبانية. (غِلاظٌ شِدَادٌ) أي: جفاة قساة. لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يقول الزمخشري : أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا؛ فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه. وقيل: الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره، والثانية: لأنهم لا يفعلون شيئاً ما لم يؤمروا به، كقوله تعالى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2821 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2586 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2577 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2505 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2443 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2413 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2403 استماع