مقصد الإصلاح في التوبة إلى الله
مدة
قراءة المادة :
17 دقائق
.
مقصد الإصلاح في التوبة إلى اللهمقدمة:
جاء الحثُّ على التوبة إلى الله تعالى في آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله سبحانه: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31]، وقوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيُّها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإنِّي أتوبُ في اليوم مائةَ مرةٍ))[1]، وقد أعلن الله سبحانه محبَّته للتوَّابين ترغيبًا لهم في التوبة، فقال جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222]، وأخبر نبيَّه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن الله يفرح بتوبةِ عبده، فقال: ((للهُ أفرحُ بتوبةِ عبده من رجلٍ نزل منزلًا وبه مهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامُه وشرابُه، فوضَعَ رأسَه، فنامَ نومةً، فاستيقظ وقد ذهبت راحلتُه، حتى إذا اشتدَّ عليه الحَرُّ والعطشُ أو ما شاء الله، قال: أرجعُ إلى مكاني، فرجع فنام نومةً، ثم رفعَ رأسَه، فإذا راحلتُه عنده))[2].
ثم إنه سبحانه وعد التائبين بقبول توبتهم ومغفرة جميع ذنوبهم مهما بلغت، فقال جل جلالُه: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وقال في الحديث القدسي: ((يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني؛ غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا بن آدم، لو بلغَتْ ذنوبُك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ غفرتُ لك، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشْرِك بي شيئًا؛ لأتيتُك بقرابها مغففرةً))[3].
وبعد كل هذا التيسير والترغيب والتبشير؛ فإنه لا يُصِرُّ على المعصية ويعرض عن التوبة، إلا ظالمٌ جاهلٌ، قال الحق سبحانه: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]، قال ابن القيم رحمه الله: "قسَم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ قسمٌ ثالث البتة، وأوقع اسم الظالم على مَنْ لم يتُبْ، ولا أظلم منه لجهله بربِّه وبحقِّه وبعيب نفسه"[4].
هذا وإن للتوبة إلى الله تعالى مقاصد جليلة، منها: مقصد "الإصلاح" المستفاد من استقراء كتاب الله تعالى، وله تجليات كثيرة ومتعدِّدة.
أولًا: لا توبة بلا إصلاح:
يعتبر الإصلاح مقصدًا عظيمًا من مقاصد التوبة في الإسلام، يدلُّ عليه استقراء كتاب الله تعالى، حيث اقترنت التوبة بـ "الإصلاح" و بـ "العمل الصالح" في عدد من الآيات:
(أ) ـ آيات اقترنت فيها التوبة بالإصلاح:
• قال الله تعالى: ﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ﴾ [المائدة: 39].
• وقال سبحانه: ﴿ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 54].
• وقال عز وجل: ﴿ فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 16].
• وقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾ [البقرة: 160].
• وقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 89].
• وقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 146].
• وقال: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾ [النحل: 119].
• وقال: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 5].
(ب) ـ آيات قرنت فيها التوبة بالعمل الصالح:
• قال الله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 60].
• وقال جل وعلا: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طه: 82].
• وقال عز وجل: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [الفرقان: 70].
• وقال: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 71].
• وقال: ﴿ فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾ [القصص: 67].
فيتضح من خلال هذه الآيات الكريمة أن الإصلاح مقصدٌ شرعيٌّ من مقاصد التوبة إلى الله، وأنه شرطٌ من شروط كمالها وتمامها، فلا توبة بلا إصلاحٍ؛ أي: لا توبة صادقة تامة، إن لم تُثْمر إصلاحًا.
ثانيًا: من تجليات الإصلاح في التوبة إلى الله تعالى:
(أ) ـ إصلاح المذنب التائب:
إن من أهم معاني الإصلاح المقصودة بالتوبة إلى الله تعالى: إصلاح التائب نفسه، وذلك بإخراجه من سجن المعصية، وتحريره من قيود النفس الأمَّارة بالسوء، وإنقاذه من شرك الشيطان اللعين، ونقله إلى واحة الإيمان، ورحاب العمل الصالح، وسعة رحمة الله تعالى؛ فينجو من شَرِّ أعدائه: الشيطان والنفس والهوى والشهوات، قال الله تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ص: 82، 83]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 168، 169]، وقال: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53].
وإنَّ هؤلاء الأعداء لا يزالون يتربَّصون به، حتى يوقعوه في فخِّ الذنب والمعصية، فيأسروه ويمنعوه من السير إلى الله تعالى، أو يعيقوه عن الوصول إليه، قال ابن القيم رحمه الله: "إن العاصي دائمًا في أسْرِ شيطانه وسجن شهواته، وقيود هواه؛ فهو أسير مسجون مقيد، ولا أسير أسوأ حالًا من أسيرٍ أسرَه أعْدى عدوٍّ له، ولا سجن أضيق من سجن الهوى، ولا قيد أصعب من قيد الشهوة؛ فكيف يسير إلى الله والدار الآخرة قلب مأسور مسجون مقيد؟! وكيف يخطو خطوةً واحدةً؟![5].
فمن رحمة الله تعالى وعظيم نعمته وإحسانه أن فتح باب التوبة أمام كل مذنب عاصٍ، ليدخل من خلاله على ربِّه ومولاه، فينقذه من شرِّ أعدائه، ويُحرِّره من أسرهم واستعبادهم له، فلو لم تكن هناك توبة لظَلَّ العُصاةُ في سجن المعصية أسرى مُصفَّدين بأصفاد وقيود الشيطان والشهوة والهوى؛ روى الحسن البصري رحمه الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لما أهبط اللهُ عز وجل إبليسَ عليه اللعنة، قال: بعزَّتِك، إني لا أفارق ابن آدم حتى تفارق رُوحُه جسدَه، قال الربُّ تعالى: وعزتي وعظمتي، لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يُغرغر بها))[6].
فالحاصل: أن التوبة إصلاحٌ للتائب، فهي تنشئه إنشاء؛ إذ تصهره بحرارة الندم، وتغسله بدموع الخشية، فيخرج خلقًا آخر، قد زال عنه ما تراكم على نفسه من أدْرانِ المعاصي، وتخلَّص ممَّا علا قلبَه من ران، وتحرَّر من الشهوات الطينيَّة التي تُثقله وتشدُّه إلى الأرض، فإذا بروحه تنطلق في الآفاق الرحبة تذكر ربَّها وتُسبِّح بحمده، وتستشعر العِزَّة والكرامة، وتجد الطُّمَأْنينة والسكينة.
ب ـ إصلاح آثار الذنب والمعصية:
إن المعصية فسادٌ وإفسادٌ؛ فهي معول هدم وتخريب للإيمان والأخلاق الكريمة والقيم السامية، كما أنها جناية في حقِّ النفس والغير؛ لما فيها من مسٍّ وانتهاكٍ للحقوق المادية والمعنوية.
وحين يُقْلِع التائب عن المعصية، يكون قد خلَّف وراءه حجمًا من الدمار والخراب والإفساد، بقدر حجم ونوع معصيته، فهل يترك هذا الدمار الذي أحدثه ويمضي مستغفرًا بلسانه متوهِّمًا أن هذا كافٍ، وأنه قد تاب وأناب؟!
كلا، بل إن مقتضى التوبة أن يُراجع ماضي الذنب والمعصية، وينظُر فيما أحدثه بسبب ذنوبه ومعاصيه من فسادٍ وإفسادٍ في الأرض، سواء في حقِّ النفس أو في حق الغير، وسواء كان فسادًا وإفسادًا ماديين أو معنويين، ثم يعزم على العمل بجدٍّ لإزالة آثار ذلك، وجبر ما تم كسره، ورقع ما تم خرقه، وإنجاز ما يغطي ذلك ويقوم مقامه من عمل صالح.
فيكون العمل الصالح الذي يعمله بعد التوبة جبرًا للكسور التي أحدثتها المعصية، وإزالةً للأدْران والأوساخ التي خلَّفَتْها، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتق الله حيثما كنت وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها وخالق الناس بخُلُقٍ حسن))[7].
ويُحبَّذ أن يكون العمل الصالح الذي يجتهد فيه التائب بعد التوبة، من جنس المعصية التي اقترفها، "فمن كانت سيئته مثلًا الغيبة لشخص معين؛ فالحسنة ينبغي أن تكون مدحه أمام مَن اغتابه عنده، أو الاستغفار له، ومن كانت سيئته السخرية بالناس؛ فلتكن حسنته توقيرهم، وإكرامهم وذكرهم بكل خير، ومن كانت سيئته ظلم الناس والعدوان على الضعفاء وعلى حرماتهم وحقوقهم المادية والأدبية؛ فلتكن حسنته الحرص على إقامة العدل، وإنصاف المظلومين، والوقوف بجانب المستضعفين والدفاع عنهم، ورد ما أمكن من الحقوق إليهم...
وهكذا ينبغي أن تكون الحسنة التي يمحو بها التائب سيئته ما استطاع: مناقضة لها، مزيلة لأثرها، مطهرة للنفس من رواسبها، وذلك بسلوك طريق المضادة.
فالحاصل: أن التائب لا يبلغ حقيقة التوبة وكمالها، حتى يصلح ما أفسده بذنبه ومعصيته، ويعيد بناء وترتيب ما هدمه وخرَّبه، وهذا معنى من معاني الإصلاح الذي هو من مقاصد التوبة.
ج ـ إصلاح الأنفس والأعراض والأموال:
بمعنى حفظها وصونها، وهو ضد إفسادها وإتلافها، فلو لم تكن هناك توبة لتمادى العاصي في فساده وإفساده، ولاستمر في عدوانه على الأنفس والأعراض والأموال، هذا ناهيك عن كون المعصية بحد ذاتها إيذاءً لخَلْق الله، وإفسادًا في أرضه، قال ابن القيم رحمه الله: "ومن آثار الذنوب والمعاصي: أنها تحدث في الأرض أنواعًا من الفساد في المياه والهواء والزروع والثمار والمساكن، قال تعالى: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41][8].
فمن رحمة الله وحكمته؛ أنه شرع التوبة لإصلاح العصاة والمذنبين، وكفِّهم عن التمادي في الشرِّ وإيذاء الخَلْق؛ ومِن ثَمَّ يتحقَّق ما فيه صلاح الناس بحفظ أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
فكم من مجرمٍ طاغٍ وقاتلٍ معتدٍ أصلحته التوبة؛ فصار يصل الناس بخيره، بعدما كان يصلاهم بشَرِّه! فلو لم تكن هناك توبة لتمادى في غيِّه وشرِّه؛ لكن من رحمة الله وعظيم نعمته أنه فتح له باب الأمل في الإصلاح فاستراح وأراح.
وأظهر مثال لهذا المقصد الجليل، ما جاء في قصة القاتل الذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا؛ بل مائة نفس، ثم تاب فتاب الله عليه! فلنقرأ القصة بلفظها كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلَّم، حيث قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعةً وتسعينَ نَفْسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعةً وتسعينَ نَفْسًا، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا؛ فقتله فكمل به مائة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ؛ فهل له من توبةٍ؟ قال: نَعَم، ومَن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا ؛ فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضِك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموتُ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مُقبِلًا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قطُّ، فأتاهم ملكٌ في صورة آدمي؛ فجعلوه بينهم- أي: حكمًا - فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كان أدنى؛ فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد؛ فقبضته ملائكة الرحمة))[9].
فانظر إلى حال هذا الرجل لمَا صُدَّ عن التوبة؛ كيف تمادى في غيِّه وقَتَل نفسًا أخرى بعد التسعة والتسعين، فأتمَّ قَتْل مائة نفس كاملة!
ثم انظر إليه لما أُعِين على التوبة وأُعلِم بأنَّ بابَها مفتوحٌ، لا يُغلَق ولا يُصَدُّ عنه أحَدٌ مهما اقترف من آثام، ما لم يُغرغر، وما لم تطلُعِ الشمسُ من مغربها؛ هنالك دخل باب التوبة النصوح إلى رحمة الرب الغفور، فتحرر من قبضة الشيطان، وتخلَّص من قيد المعصية، وحسنت حالُه، وسلم من شرِّ نفسِه الأمَّارة بالسوء، وسلم الخلق من شرِّه، وغفر الله له، وتاب عليه، ورزقه حسن الخاتمة، وأدخله الجنة، فأي عاقبة حسنة جميلة للتوبة إلى الله!
خاتمة:
• "الإصلاح" مقصدٌ جليلٌ من مقاصد التوبة إلى الله تعالى، وثمرة من ثمارها، وأثر من آثارها الدالة على صدقها وكمالها وتمامها.
• ومن تجلياته: إصلاح التائب باطنًا وظاهرًا، خلقًا وسيرةً؛ إذ تنقله التوبة من حال إلى حال أفضل وأسمى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات، منها: أن يكون العبد بعد التوبة خيرًا ممَّا كان قبلها"[10].
[1] صحيح مسلم، رقم الحديث: 2702/42.
[2] اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، رقم الحديث: 174.
[3] سنن الترمذي، رقم الحديث: 3540، وقال: حديث حسن.
[4] مدارج السالكين: 1/ 137، صحَّحه وخرَّج أحاديثه محمد عبدالله، دار التقوى، مصر، بدون تاريخ.
[5] الجواب الكافي، ابن القيم، ص100، المكتبة العصرية لبنان: 1424هــ ـ 2003م.
[6] حسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم الحديث:1650.
[7] سنن الترمذي، رقم الحديث: 1987، وقال: حديث حسن.
[8] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص: 79، اعتنى به وراجعه: عبدالكريم الفضيلي، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1424هـ/2003م.
[9] صحيح البخاري3470، وصحيح مسلم 2766.
[10] كتاب التوبة، ص:30، شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية، حقَّقَه واعتنى به: أبو عبدالرحمن فواز أحمد زمرلي، دار ابن حزم، بيروت ـ لبنان، ط1: 1425 ـ 2004م.