هل الزواج يعصم؟! - أبو محمد بن عبد الله
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
سألني بعض الأفاضل قائلا: هل الزواج يعصم من الشهوات؟ وإذا كان الجواب نعم ... أرى رجالا تزوجوا وأنعم الله عليهم بصالحات يزنووووون!!!! هكذا كتَبَها؛ وكأنه يريد العبير عن شيء!
بسم الله، الذي يعصم من المعاصي هو الله والواحد الأحد، وهو الذي قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه سبحانه، يقلبها كيف يشاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء»(الترمذي، السنن، رقم:[2140])، وهو سبحانه الذي يحول بين المرء وقلبه كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[الأنفال:24]...
ولكن الله تعالى جعل للهداية والطاعة والثبات عليها أسبابا، كما جعل للضلالة والغواية والانحراف أسبابا..
والإنسان هو الذي يختار: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}[الإنسان:3].
والزواج من أسباب العصمة من الوقوع في المعاصي والشهوات المحرمة، فهو في الحقيقة يُلَبِّي الشهوات ولا يمنعها أو يكبتها، لكن بطريقة فطرية حلال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»(متفق عليه)، فجعل الزواج يُحصِّن الفرْجَ، أي يعصم من المعاصي التي بالفروج، وهي الزنا ، والوجاء الوقاية، بل جعل على تصريف هذه الشهوة بالحلال صدقة ورتَّب عليها أجرا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»(مسلم، صحيح مسلم ، برقم:[1006]، وغيره)، وهذا يعم الرجال والنساء جميعًا.
فالزواج -بإذنالله تعالى- يعصم الفرد ويُكوِّن المجتمع ويحميه.
أما أن أُنَاسًا أنعم الله عليهم بالزواج ثم وقعوا في الحرام، فهذا عمل الشيطان والنفس الأمَّارة بالسوء، وليس العيب أن الزواج لا يعصم بإذن الله تعالى، ولكن كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}[المائدة: 41].
وهؤلاء في دين الله وجودهم كالعدم، ولذلك كان حكمهم الإعدام، بالرجم حتى الموت ، وقد جعل الله عقوبتهم الرجم ليذوق الجسمُ كلُّه العذاب الأليم كما تلذَّذ كُلُّهُ بالفعل الأثيم.
ولهذا جاء التفريق في شريعة الله تعالى بين المحصن وغير المحصن، فهذا الجلد مئة وتغريب عام، وقد يبقى حيًّا، والآخر الرجم حتى الموت، بعد استنفاذ شروط الحكم والحد، مثل ما حدث مع ماعز والغامدية رضي الله عنهما.
والحدود الشرعية لها فائدتان على الأقل:
الأولى : أنها طهرة للتائبين، ولذلك جاء الصحابي ماعز رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبا، وكذلك جاءت المرأة الغامدية رضي الله عنها تائبة، وكلاهما قال: يا رسول الله؛ طَهِّرني، فعن بن بريدة: "أن ماعز بن مالك الأسلمي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي، وزنيت، وإني أريد أن تطهرني، فرده، فلما كان من الغد أتاه، فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: «أتعلمون بعقله بأسا، تنكرون منه شيئا؟» فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة، فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه، فأخبروه أنه لا بأس به، ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، قال، فجاءت الغامدية، فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وإنه ردَّها، فلما كان الغد، قالت: يا رسول الله، لِمَ تردني؟ لعلك أن تردني كما رددتَ ماعزًا، فوالله إني لحبلى، قال: «إما لا؛ فاذهبي حتى تلدي»، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمته، وقد أكل الطعام، «فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها»، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال: «مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له»، ثم أمر بها فصلى عليها، ودفنت"(مسلم، الصحيح، رقم:[1695])، وانظر إلى قوة إيمانهما، وعجيب إصرارهما على التطهر بهذا الحد!
الثانية: أنها زواجر وروادع للعصاة ونكالًا، كما قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[المائدة: 38]، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:2]، ولو عملت الأمة بحدود الله تعالى لطهرت المجتمعات مما نرى، ولنزلت البركة في الأرض، خيرًا مما لو أنزل على المطر ونبت الربيع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حد يعمل به في الأرض خير لأهل الأرض من أن يُمْطَروا أربعين صباحًا»( ابن ماجة، السنن، رقم:[2538]، والألباني، السلسلة الصحيحة، رقم:[231]، وقيل:موقوف عن أبي هريرة رضي الله عنه).
ولكن مصيبة الأمة في حُكَّام لا يحكمون فيها بشريعة الله، وبشعوب لَمَّا يعرفوا أن شريعتهم فيها خير الدنيا والآخرة بَعْدُ، وأنها سبب البركة والعافية والأمن والطُّهر، وكثير مِن مناداة الشعوب بها وراء أحزابهم السياسية، عواطف طيبة، لم تصل بعدُ إلى درجة الاعتقاد كما كان صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، وواجب الدعاة أن يُعلِّموا الأمة أن تحكيم الشريعة هو عقيدة وإيمان قبل السعي في إقامة نظام لا يجد من يحوطه ويحميه، إلا لمصلحة العيش الرغيد، ولذلك تجد كثيرًا من الشعوب تُوَرِّط كثيرا من الدعاة بالوقوف وراءهم والنداء معهم في ساعات الرخاء، تملأ الأرض صُخابًا: "لا إله إلا الله؛ عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نلقى الله"، ثم ما تلبث تتنصل منهم ومن دعوتهم عند أول طلقة، فيبقى الدعاة يستفرد بهم الطغاة؛ يدفعون ثمن الدعوة الجوفاء والثقة العمياء!!