تفسير سورة الزخرف [72-89]


الحلقة مفرغة

تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة، كقوله تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. وقوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. وقال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. وهذه من الإحالات الكثيرة التي يتميز بها كتاب (أضواء البيان)، وكتاب (أضواء البيان) أهم شيء فيه هذه الإحالات، وأول الطبعات التي طبعت في حياة الشيخ رحمه الله لم يحصل فيها إثبات لهذه الإحالات أو فهرسة كافية لها. وقد أحسن بعض الإخوة الأفاضل حين ألف كتاب (التبيان لمواضع الإحالات في أضواء البيان)، وهو كتاب لابد منه لمن يتعامل مع أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن؛ لأنه في كل موضع فيه إحالة يكتب نفس اسم السورة ومواضع الآيات كما هي هنا، مثل قوله: وقد قدمنا الكلام عن هذه الآية الكريمة، فيكتب المواضع التي سبق الكلام فيها بالنسبة لهذه الآيات الكريمة. إلا أن المؤسف أن بعض الناس لما شرعوا في طباعة الكتاب عدة طبعات كان المفروض للذين يعملون طبعة أن يعملوا فيها جهداً جديداً، وليس مجرد أنه يسرق جهد الآخرين، فلا أحد حتى الآن نعرف أنه خدم الكتاب كما ينبغي، خاصة بالنسبة لقضية الإحالات التي يكون القارئ أحوج ما يكون إليها، فموضوع الإحالات لأضواء البيان مهمة؛ فمثلاً: أنا أنفقت وقتاً كثيراً جداً في محاولة الوصول إلى هذه المواضع؛ لأن المذهب الذي رجحه العلامة الشنقيطي هنا مذهب قويم؛ حيث بين وجه الجمع بين تلك الآيات التي فيها إثبات دخول الجنة بالأعمال، وبين الأحاديث التي فيها: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، فهو جمع حسن وقريب، كما سنبين إن شاء الله تعالى، فرجعت حتى إلى كتاب الفهارس، والأخ أثبت أن فيه إحالة، لكن يبدو أنه مثلي أعياه الوصول إلى هذه الإحالة، فبحثت عن جميع المظان التي يمكن أن يكون الشيخ أشار إليها هنا في حدود علمي، فما استطعت الوصول إليها فيما سبق من أضواء البيان، لا هذه الآية التي هي آية الأعراف، ولا التي تليها التي هي في سورة مريم، فالله أعلم أين تكلم الشيخ على ذلك، ويحتمل أنه كان يقوله في الدروس وليس في الكتاب، وعلى أي الأحوال هذه فائدة عابرة: أنه لابد لمن يتعامل مع أضواء البيان من وجود كتاب الإحالات (التبيان لمواضع الإحالات من أضواء البيان). المهم أن الشيخ يقول: قد تم الكلام على الجمع بين هذه الأدلة التي تثبت أن الأعمال سبب لدخول الجنة، وبيَّنا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها مع قوله عليه الصلاة والسلام: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). ومن أوجه الجمع بين الآيات والحديث: أن الباء باء السببية، وليست باء المقابلة، فقولك: اشتريت منك هذا الثوب بعشرين جنيهاً فمعناه: أن الثوب يساوي العشرين جنيهاً، فهذه باء مقابلة، لكن الباء في الحديث سببية، أي: أن العمل مجرد سبب في دخول الجنة. و شيخ الإسلام له رسالة مستقلة في هذا الموضوع، وكذا الإمام النووي فقد بحثه في شرح صحيح مسلم . وبعض العلماء قالوا: إن دخول الجنة برحمة الله، أما تفاوت الدرجات في داخل الجنة فهذا بالأعمال الصالحة، لكن العلامة الشنقيطي هنا يقول: إن أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وبين الحديث الشريف: أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل. فالعمل الذي يكون سبب دخول الجنة ليس كل عمل، وإنما هو العمل الذي يتقبله الله سبحانه وتعالى برحمة منه وفضل، وأما العمل الذي لا يدخل الجنة فهو الذي لم يتقبله الله، والله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فإذا تقبله الله فهذا هو الذي يكون سبباً في دخول الجنة، وأما ما لم يتقبله الله فإنه لا يكون سبباً في دخول الجنة.

يقول تبارك وتعالى: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف:73]. أي: ما اشتهيتم، و(من) إما ابتدائية، أو تبعيضية، ورجح التبعيض بدلالته على كثرة النعم، وأنها غير مقطوعة ولا ممنوعة، وأنها مزينة بالثمار أبداً موقرة بها، أي: فمهما أكل أهل الجنة فإنما يأكلون بعضاً من هذه الثمار وليس كلها فهذا هو وجه ترجيح كون من تبعيضية وليست ابتدائية.

قال تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ [الزخرف:74-76]. (( إِنَّ الْمُجْرِمِينَ ))، أي: الذين اجترحوا الكفر والمعاصي في الدنيا (( فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ )). (( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ )) أي: لا يخفف ولا ينقص. (( وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ))، أي: يائسون. (( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ))، أي: بهذا العذاب، (( وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ )) أي: بكفرهم بالله وجحودهم توحيده عز وجل.

قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]. (( وَنَادَوْا )) يعني: بعد إدخالهم جهنم. (( يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )) أي: يمتنا، فهذه اللام لام الدعاء، ولا يصح أبداً أن تكون لام الأمر؛ لأن الخطاب من شخص عادي للملك لا يصح أن يكون أمراً. والمعنى: سله أن يفعل بنا ذلك، فتمنوا تعطل الحواس وعدم الإحساس لشدة التألم من عذاب جهنم. (( قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ )) أي: لابثون.

قال تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78]. أي: لا تقبلونه، وتنفرون منه، وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليداً، وهذا في غاية الدقة، وهو من مظاهر بلاغة القرآن الكريم. وقوله: (( وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )) وهل بعض الكفار يحبون الحق؟ ولماذا قال: (( أَكْثَرَكُمْ )). الجواب: الكفار نوعان: النوع الأول: أكثر الكفار الذين يكرهون الحق ويبغضونه وينفرون منه، ولو كان واضحاً لديهم أنه حق، فهم يجحدون ويعاندون. النوع الثاني: الأتباع الذين يتبعون هؤلاء الرؤساء أو هؤلاء السادة أو المفكرين أو المثقفين، فيكفرون تقليداً لهم، فالذي يكفر تقليداً ليس كارهاً للحق، ولكنه كافر كفر التقليد، وهو أن يأخذ غيره بزمامه كالدابة دون أن يبحث عن دليل أو يتعرف على برهان، فهذا النوع موجود ضمن الكفار الذين يكفرون بالحق، لكنهم لم يكرهوه، بمعنى: أن كفرهم إنما كان تقليداً لكبرائهم ورؤسائهم، لكن أكثرهم كانوا كارهين مبغضين للحق. قال القاشاني : سمي خازن النار مالكاً لاختصاصه بمن ملك الدنيا وآثرها، وبمن حصل الدنيا وملكها، كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39]. كما سمي خازن الجنة رضواناً لاختصاصه بمن رضي الله عنهم ورضوا عنه. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]. اللام في قوله: (( لِيَقْضِ عَلَيْنَا )) لام الدعاء، والظاهر أن مرادهم بذلك: سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت، فتفسير الآية: (( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )) معناها: ادع الله لنا أن يميتنا، هذا هو التفسير الأرجح للآية. والدليل على ذلك أمران: الأول: أنهم لو أرادوا دعاء الله في أنفسهم أن يميتهم لما نادوا مالكاً، ولما خاطبوه في قولهم: (ربك). الدليل الثاني: أن الله سبحانه وتعالى بين في سورة (المؤمن) أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب؛ وذلك في قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49]. وقوله: (( لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )) أي: ليمتنا، فنستريح بالموت من العذاب. وهذا نظير قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، يعني: أماته. وقوله: (( قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ))، هذا دليل على أنهم لا يجابون إلى الموت، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية، فقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يخرجون منها. أما كونهم لا يموتون فيها فدل عليه قوله: (( قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ))، وقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]، وقوله تبارك وتعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13]، وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]، وقوله عز وجل: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم:17]. وأما كون النار لا تخفف عنهم فقد بينه قوله تعالى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97]؛ لأن (كلما) صيغة عموم. وقال تعالى: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [فاطر:36]. وقال: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:162]. وقال: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ [الزخرف:75]. وقال: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65]. وقال: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:77]. أما كونهم لا يخرجون منها فالآيات أيضاً كثيرة في هذا المعنى.

ثم قال تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:79-80]. (( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا )) أي: أم أبرم مشركو مكة أمراً؛ فأحكموه يكيدون به الحق الذي جاءهم، فإنا محكمون لهم ما يخزيهم ويذلهم من النكال، وهذا كقوله تعالى: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور:42]. وكما قال تعالى أيضاً: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]. (( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ )) أي: ما أخفوه من تناجيهم عندما يمكرون، فيحسبون أنا لا نجازيهم عليه لخفائه علينا؟! (( بَلَى )) أي: نسمعه ونطلع عليه، (( وَرُسُلُنَا )) أي: الحفظة، (( لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )) أي: ما تكلموا ولفظوا به من قول.

قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [الزخرف:81]. ثم أشار إلى رد إفكهم في أن الملائكة بنات الله تعالى ختماً للسورة بما بدئت به؛ لأن صدر السورة تعرض لإبطال ودحض دعواهم أن الملائكة بنات الله، وهذا يسمى في علم البديع رد العجز على الصدر. قال سبحانه وتعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )) أي: لذلك الولد، والأولية بالنسبة للمخاطبين لا لمن تقدمهم. قال الشهاب : ولو أبقي على إطلاقه على أن المراد إبهام الرغبة والمسارعة جاز. قال القاشاني : وهذا إما أن يدل على نفي الولد عن الله سبحانه بالبرهان، وإما أن يدل على نفي الشرك عن الرسول بالمفهوم. أما دلالته على الأول ففي قوله تعالى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف:82]. والتفسير في هذه الآية -وبالذات في تفسير القاسمي - مختصر جداً؛ مع خطورة الانحراف في فهم هذه الآية الكريمة. ولذلك سوف نستعرض كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى؛ حيث أبدع أعظم الإبداع في تفسير هذه الآية الكريمة: قوله تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )). اختلف العلماء في معنى (إن) في هذه الآية؛ فقالت جماعة من أهل العلم: إنها شرطية، واختاره غير واحد، وممن اختاره ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى. والذين قالوا: إن (إن) شرطية اختلفوا في المراد بقوله تبارك وتعالى: (( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )). فقال بعضهم: فأنا أول العابدين لذلك الولد. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً. وقال بعضهم: فأنا أول العابدين لله؛ جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد. والإنسان قلبه يتفطر وهو يقرأ هذا التفسير؛ لأن بعض الناس يتساهل في التفسير وعدم تنقيح الأقوال إلى هذا الحد الخطير، كما يتضح لنا أثناء مدارسة كلام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى. وبعضهم قال: (( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ))، يعني: لذلك الولد، لكن هو ليس له ولد. وهناك قول آخر: قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولداً. وكلا الاحتمالين في غاية الخطورة؛ لأنه يشترط في صحة الإيمان الكفر بعبادة أي والد وأي مولود، لا يصح الإيمان ولا الإسلام لأي شخص إلا إذا كفر أو اعتقد عدم استحقاق أي والد أو أي مولود لأن يعبد أو يتخذ إلهاً، هذا شرط في صحة الإيمان، والقضية في غاية الخطورة، كما سيأتي إن شاء الله. القول الثالث: قوله: (( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )) لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد. وقال جماعة آخرون: إن لفظة (إن) في الآية نافية، تساوي ما النافية، والمعنى: قل ما كان للرحمن ولد. وعلى القول بأن (إن) نافية ففي معنى قوله: (( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )) ثلاثة أوجه: الأول وهو أقرب الوجوه: أن معنى قوله: (( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ )): ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له عن الولد وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. والذي يقوي ويؤكد هذا التفسير ويصححه دون غيره هو قوله سبحانه في الآية التي بعدها مباشرة: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف:82]. الوجه الثاني: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد (( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ))، أي: أنا أول الآنفين المستنكفين من ذلك القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له، والعرب تقول: عَبِد بكسر الباء، يعبَد بفتحها، فهو عَبِد، بفتح فكسر على القياس، و(عابد) سماعاً: إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه. ومنه قول الفرزدق : أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليباً بدارم قوله: (وأعبد) أي: آنف وأستنكف. ومنه أيضاً قول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالم يعني: يستنكف أو يستكبر عليه. وفي قصة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه المشهورة: (أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت فولدت في ستة أشهر، فبعث بها عثمان لترجم؛ اعتقاداً منه أنها كانت حاملاً قبل العقد؛ لولادتها قبل تسعة أشهر، فقال له علي رضي الله عنهما: إن الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، ويقول جل وعلا: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، فلم يبق عن الاتصال من المدة إلا ستة أشهر، فما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها لترد ولا ترجم). فتأملوا هنا قول الراوي: (فما عبد عثمان ) يعني: ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق حين أفتاه به علي رضي الله تعالى عنه. الوجه الثالث: أن المعنى: قل ما كان للرحمن ولد، (( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )) الجاحدين النافين أن يكون لله ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. قال مقيده غفر الله له وعفا عنه: الذي يظهر لي في معنى الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن (إن) نافية، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء، وإنما اخترنا أن (إن) هي النافية لا الشرطية وقلنا: إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا لأربعة أمور: الأول: أن هذا القول جارٍ على الأسلوب العربي جرياناً واضحاً لا إشكال فيه، فكون: (( إِنْ كَانَ ))، بمعنى: ما كان، كثير في القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [يس:29] أي: ما كانت إلا صيحة واحدة. فمعنى الآية الكريمة: ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم المنزه عن الولد، أو ما كان لله ولد فأنا أول الآنفين المستنكفين أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وهل الآية على هذا فيها إشكال؟ الجواب: لا إشكال. وأيضاً: هذا القول دال على تنزيه الله سبحانه وتعالى تنزيهاً تاماً عن الولد من غير إيهام لخلاف ذلك، فلا يوجد أي شيء من هذه الاحتمالات المبنية على أساس أن (إن) نافية، ولا يتوهم متوهم أن الله يمكن أن يكون له ولد أو أن يتخذ ولداً، فهذا الاحتمال أو هذا الإيهام غير وارد على الإطلاق. الأمر الثاني الذي يعين تفسير (إن) بمعنى (ما) النافية: أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن، كما قال سبحانه وتعالى: وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:4-5]. وفي سورة مريم قال تبارك وتعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا [مريم:88-92]. والآيات التي ذكرناها في ذلك تبين أن (إن) نافية؛ لأن سياق آيات القرآن ونظام القرآن في كل الآيات عند نفي قضية الولد تأتي حاسمة وجازمة بنفيه بصورة ليس فيها أدنى إيهام. فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع النفي الصريح، فلنسلك بهذه الآية نفس المسلك؛ لأن هذه الآية قد تنازع العلماء في تفسيرها، فيترجح القول الذي يتفق مع أسلوب القرآن الكريم في عدة آيات في الصرامة والوضوح الكامل في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: وخير ما يفسر به القرآن القرآن. فعندما نقول: ما كان للرحمن ولد على أنها بصيغة النفي الصريح، فهذا مطابق لقوله تعالى في آخر سورة بني إسرائيل: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء:111]. وقال تعالى في أول سورة الفرقان: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان:2]. وقال تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون:91]. وقال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]. وقال عز وجل: أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الصافات:151-152]، إلى غير ذلك من الآيات. والعلامة الشنقيطي يتناول هذه المسألة تناولاً في غاية الروعة، وكتاب أضواء البيان من درر العلم وكنوزه النادرة، وفيه من التحقيقات ما لا يوجد في غيره. يقول: وأما على القول بأن (إن) شرطية، وأن قوله تعالى: (( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ))، جزاء لذلك الشرط فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى. أي: أن هذا التفسير لا توجد آية واحدة تسانده. الأمر الثالث الذي يحتم القول بأن (إن) نافية هو: أن القول بأن (إن) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال، وكتاب الله جل وعلا يجب تنزيهه عن حمله على معانٍ محذورة لا يجوز القول بها. وإيضاح هذا: أنه على القول بأ

قال تبارك وتعالى: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الزخرف:82]. (( سُبْحَانَ )) مصدر يدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وإجلاله، ولما قال تبارك وتعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ )) نزه نفسه تنزيهاً تاماً عما يصفونه به من نسبة الولد إليه، مبيناً أن رب السماوات والأرض ورب العرش جدير بالتنزيه عن الولد، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله.

قال تبارك وتعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف:83]. (( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا )) أي: في باطلهم، (( وَيَلْعَبُوا )) أي: في دنياهم، (( حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ )) وذلك يوم يصليهم الله بفريتهم عليه جهنم، وهو يوم القيامة.

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف:84]. هذا مثل قوله تبارك وتعالى في سورة الأنعام وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3]، يعني: هو الإله الحق المعبود بحق في السماوات وفي الأرض، ولا ينافي ذلك كون المشركين اتخذوا معه آلهة باطلة؛ لأن مآلهم مع هذه الآلهة هو الخلود في جهنم إلى الأبد، فهذه الآلهة آلهة باطلة، ولذلك فإن معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وأما ما عدا الله من آلهة فهو باطل بلا شك. وقوله: (( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ ))، يعني: هو معبود في السماء ومعبود في الأرض، كما في آية الأنعام. (( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ )) أي: في تدبير خلقه وتسخريهم بما يشاء لمصالحهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع