خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة طه [80-94]
الحلقة مفرغة
ذكر تبارك وتعالى نعمه على بني إسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، فقال سبحانه وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى * كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:80-82]. قوله تعالى: (( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ))، وهو فرعون وقومه، فقد كانوا: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [البقرة:49]، وذلك بأن أقر أعينكم منهم بإغراقهم وأنتم تنظرون. (( قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ )) أي: لمناجاة موسى وإنزال التوراة عليهم، واليهود السامرية يعتقدون أن هذا الجبل في نابلس، ويسمونه جبل الطور، ولهم عيد سنوي يقعدون فيه، ويقربون فيه القرابين، والمعروف أن هذا الجبل هو جبل معروف في طور سيناء، والله تعالى أعلم. وأصل هذه المواعدة كانت لموسى عليه السلام، وبعد ذلك خاطب الله سبحانه وتعالى بها بني إسرائيل في سياق الامتنان عليهم بهذه المعاتبة وَواعَدْنَاكُمْ ، مع أن الأصل أنه واعد موسى عليه السلام، فيقول الزمخشري : إنما عدى المواعدة إليهم؛ لأنها لابستهم واتصلت بهم حيث كانت لنبيهم ونقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. (( جَانِبَ )) مفعول فيه أو مفعول به على الاتساع، أو بتقدير مضاف، يعني: وواعدناكم إذ كان جانب الطور الأيمن: (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى )) * (( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) يعني: من بدائله؛ فإن المن كالعسل، والسلوى من الطيور الجيد لحمها. (( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ )) أي: فيما رزقناكم بأن تتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به. (( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى )) أي: فقد هلك. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: (( وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ )): الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله سبحانه وتعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ [الأعراف:142]، وقوله: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة:51]، وقوله: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه:86]، وهو الوعد بإنزال التوراة. وقوله هنا: (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ))، قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع من القرآن كقوله في البقرة: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، وقوله في الأعراف: وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [الأعراف:160]. وأكثر العلماء على أن المن هو الترنجبين، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض. ويسمونه الآن في العراق وتركيا ماء السماء، يجمع من فوق أوراق الأشجار في الصباح، وهو مثل البودرة، ثم يجمع ويتفننون في إضافة المواد عليه. يقول: وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى، ثم يتجمد، وهو يشبه العسل الأبيض، والسلوى طائر يشبه السُّمانى، وقيل: هو السماني، وهذا قول الجمهور في المن والسلوى، وقيل: السلوى العسل، وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل. والتحقيق: أن السلوى يطلق على العسل لغة، ومنه قول خالد بن زهير الهذلي : وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها يعني: ألذ من العسل إذا ما نستخرجها؛ لأن النشور استخراج العسل، قال مؤرج بن عمر السدوسي : إطلاق السلوى على العسل لغة كناية، سمي به لأنه يسلي، قاله القرطبي ؛ إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية، يعني: ليس المراد في الآية العسل، وإن كان لغة يطلق السلوى على العسل. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والأظهر عندي في المن: أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كسب ولا تعب، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه، ويشمل غير ذلك مما يماثله، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين: (الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين) يعني: مما امتن الله به على عباده، وكثير من الناس يقولون: إن الكمأة هي النبات المشهور الآن بعش الغراب، وفوائدها الصحية كثيرة جداً. قوله عليه الصلاة والسلام: (الكمأة من المن) يعني: مما امتن الله به على عباده. فمنه الكمأة، ومنه أيضاً المن الذي هو العسل، وماؤها شفاء للعين. يقول: والأظهر عندي في السلوى: أنه طائر، سواء قلنا: إنه السمانى أو طائر يشبهه؛ لإطلاق جمهور العلماء من السلف والخلف على ذلك، مع أن السلوى يطلق لغة على العسل كما بينا. وقوله في آية طه هذه: (( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )) أي: من المن والسلوى، والأمر فيه للإباحة والامتنان. وقوله تعالى: (( كُلُوا )) يقدر قبلها: وقلنا لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، (( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ))، الضمير المجرور في قوله تعالى: (( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ )) راجع إلى الموصول الذي هو (ما) في قوله: (( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )). (( وَلا تَطْغَوْا فِيهِ )) أي: لا تطغوا فيما رزقناكم. ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم، وهو: أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي، أو يستعينوا به على المعصية، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه، ونحو ذلك، فهذا كله من الطغيان فيما رزقنا الله، وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا؛ لأن الفاء في قوله تعالى: (( فَيَحِلَّ )) فاء سببية والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها؛ لأنه بعد النهي وهو طلب محض. وقرأ الكسائي هذا الحرف (( فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي )) بضم الحاء (فيحُل). (( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى )) أي: هلك وصار إلى الهاوية، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك، ومنه قول الشاعر: هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده ويقولون: هوت أمه، أي: سقط سقوطاً لا نهوض بعده. واعلم أن الغضب صفة وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه إذا انتهكت حرماته، وتظهر آثارها في المغضوب عليهم؛ نعوذ بالله من غضبه جل وعلا! ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت، فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه، ولا نكذب بشيء من ذلك، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة الأعراف. قرأ حمزة والكسائي هذه الآية: (قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم جانب الطور الأيمن) بتاء المتكلم فيهما، وقرأه الباقون (وواعدناكم) (وأنجيناكم) بالنون الدالة على العظمة. قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق (( وَعَمِلَ صَالِحاً )) بجوارحه (( ثُمَّ اهْتَدَى )) أي: استقام وثبت على الهدى المذكور، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح، ونحوه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] وفي الآية ترغيب لمن وقع في وحشة الطغيان ببيان المخرج له كي لا ييئس: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى . وقوله: (( إِنِّي لَغَفَّارٌ )) أي: كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره، وآمن به وعمل صالحاً ثم اهتدى، وقد أوضح الله هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، وقال في حق الذين سبوه وشتموه وقالوا: إنه ثالث ثلاثة، مرغباً لهم في التوبة عن ذلك الشرك: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]، وقال أيضاً: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53]، يعني: لمن تاب إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه [الزمر:53-54]، إلى غير ذلك من الآيات، وقد قدمنا معنى التوبة والعمل الصالح.
قال تبارك وتعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83] أي: أي شيء عجل بك عنهم، على سبيل الإنكار؛ فالله سبحانه وتعالى أنكر على موسى عليه السلام أنه تقدم بين يدي من كانوا معه من نقباء بني إسرائيل، وعجل شوقاً إلى كلام ربه عز وجل ولقائه. فقوله تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ، إنكار من الله سبحانه وتعالى لتعجل موسى عن قومه، وكان قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور على الموعد المطلوب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]. (( قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي )) أي: قادمون ينزلون بالطور، وإنما سبقتهم بما ظننت أنه خير، ولذا قال: (( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى )) أي: ظننت أن تقدمي بين أيديهم وسبقي إياهم إليك مما يرضيك عني للمسارعة إلى الامتثال بأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك، وزيادة (رب) لمزيد الضراعة والابتهال ورغبة في قبول العذر، (( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى )) يعني: يا رب لترضى، ويعتبر هذا براً منه عليه السلام وابتهالاً إلى الله سبحانه وتعالى، عسى أن يتقبل عذره بعدما أنكر الله عليه تعجله في لقائه قبل قومه. قال الناصر : إنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى وهو سبحانه وتعالى أعلم أن يعلم موسى أدب السفر، وهو: أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، كما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يجعل أصحابه بين يديه ويتأخر هو عنهم في مؤخرة المجموعة التي يصحبها، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤدب موسى بهذا الأدب، وهو أنه كان ينبغي أن تتأخر فأنت رئيس القوم، وذلك ليكون نظره محيطاً بطائفته، وقد كانت الملائكة تتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذا كان يتأخر، وكذلك لأنه إذا كان في مؤخرتهم فإنه يحيط نظره بهم جميعاً، فيرى من كان مريضاً أو من أصابه شيء، أو من ارتد عن المجموعة، فيكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم، وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطاً عليه السلام في قوله: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ [الحجر:65] يعني: اجعلهم يمشون أمامك وكن أنت خلفهم، فأمره أن يكون آخرهم، على أن موسى عليه السلام إنما فعل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عز وجل، يعني: موسى عليه السلام ضحى بهذا الأدب لشدة شوقه إلى لقاء ربه، وكان يحسب أن في ذلك إرضاءاً لله عز وجل في مبادرته إليه ومسارعته إلى الميعاد، وذلك شأن الموعود بما يطلبه، وهذه طبيعة فيمن عنده موعد مع من يحب أو موعد يسره، فلو استطاع أن يطير قبل الموعد لسارع إلى ذلك، ولا أسرَّ من مواعدة الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام الذي ذاق طعم مناجاة الله عز وجل من قبل، فكان في أشد الشوق إلى لقاء الله وحضور موعده عز وجل. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:83-84]: أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة، وذهابه إلى الميقات، واستعجاله إليه قبل قومه، وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه؛ استعجل إلى الميقات، فقال له ربه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى ، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار إليها تبارك وتعالى في غير هذا الموضع، كقوله في الأعراف: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:142-143]. وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو: أن جواب موسى ليس مطابقاً للسؤال الذي سأله ربه؛ لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه، والجواب لم يأت مطابقاً لذلك؛ لأنه أجاب بقوله: قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى . وأجيب عن ذلك بأجوبة منها: أن قوله: (( هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي )) يعني: هم قريب وما تقدمتهم إلا بقدر يسير يغتفر مثله، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم. هذا هو الجواب الأول. الجواب الثاني: أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله: (( وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ ))، داخله عليه السلام من الهيبة والإجلال والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق، والله تعالى أعلم. في قوله تعالى: قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى أدب المؤمن، وهو المسارعة إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، والإنسان متى ما عرف أن رضا الله سبحانه وتعالى في شيء فعليه أن يسارع إلى هذا الشيء، ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وكذلك في سورة الحديد: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد:21]، وقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50]، وقوله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90]، وقوله: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ومن الآيات التي تمثل هذا المعنى قوله تعالى: (( وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ))، فإن كان عليه ذنب فليعجل التوبة ولا يسوفها؛ لأن تأخير التوبة ذنب يجب التوبة منه؛ فيجب على الإنسان التوبة على الفور، فكلما أخر التوبة فإنه يكتسب ذنباً جديداً.
قال تعالى: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ [طه:85]. (( قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ )) أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة، (( وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ )) يعني: اليهودي الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً لما طالت عليهم غيبة موسى، ويئسوا من رجوعه، والسامري في لغة العرب بمعنى اليهودي، وقد قال بالظن من ادعى تسميته أو حاول تعيينه، فلا يسأل أحد: من هو هذا السامري؟ فلم يصح شيء في تسمية السامري ، لكنه رجل من اليهود، وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جل عاداتها. (( قَالَ فَإِنَّا )) خبر (( قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ))، والآية إخبار من الله سبحانه وتعالى لموسى بوقوع قومه في الفتنة، لكن في الحقيقة يراد بهذا الخبر الأمر برجوعه لقومه وإصلاح ما فسد؛ فكأن المعنى: فارجع إليهم يا موسى وأصلح ما فسد من حالهم، وذلك جاء في قوله: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [طه:86]، رجع لأنه فهم من هذا الخبر أنه أمر بالرجوع إليهم لإصلاح ما فسد من أحوالهم. فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً أي: حزيناً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً [طه:86] أي: بإنزال التوراة عليه ورجوعه بها إليهم، أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ [طه:86]، أفطال عليكم زمان الإنجاء، (( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ))، أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. يقول الشنقيطي : قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ، كلمة الفتنة في اللغة تأتي بمعان كثيرة منها: الاختبار، والعذاب، والإضلال، والمقصود بها هنا فتنة الإضلال؛ لأنه قال: (( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ))، فالظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل فهي فتنة إضلال، كقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ [الأعراف:155]، فهذه الفتنة في عبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة، كقوله تعالى: ووَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51]. فقوله عز وجل هنا: (( وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ))، أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع، كقوله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148]، إلى قوله: (( اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ )) أي: اتخذوه إلهاً، وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته، وقوله هنا: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه:87]، يشرح معنى: (( وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ))، أي: كيف أضلهم! قال موسى في الآيات: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88]. و السامري قيل: اسمه هارون ، وقيل: اسمه موسى بن ظفر ، وعن ابن عباس : أنه من قوم كانوا يعبدون البقر، وقيل: كان رجلاً من القبط، وكان جاراً لموسى آمن به وخرج معه، وقيل: كان عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة، وهم معروفون بالشام، قال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان. والفتنة أصلها في اللغة وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف، وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة، منها: الوضع في النار، كقوله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات:13] أي: يحرقون بها، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10] يعني: الذين أحرقوهم بنار الأخدود. ومنها: الاختبار، وهو الأغلب في استعمال الفتنة، كقوله تعالى: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، وقوله: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن:16-17]. ومنها: نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك، كقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة:193]، وقوله هنا: (( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ )) أي: أضللناهم. ومنها أيضاً الحجة، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] أي: لم تكن حجتهم. فقوله عز وجل هنا: (( وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ))، أسند إضلالهم إلى السامري ؛ لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورمى عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل؛ فجعله الله بسبب ذلك عجلاً جسداً له خوار، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة: (( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ )) * (( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ))، وقال في الأعراف: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148]، والخوار: صوت البقر، قال بعض العلماء: جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسداً من لحم ودم، وهذا هو ظاهر قوله: عِجْلاً جَسَداً [الأعراف:148] . وقال بعض العلماء: لم تكن تلك الصورة لحماً ولا دماً، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل، فهو صنع العجل على هيئة فيها تجويف تدخل منها الريح وتخرج، فإذا دخلت من مكان تخرج من الناحية الأخرى مصدرة صوت العجل، وهو خوار العجل. قال: والأول أقرب لظاهر الآية؛ فهم فتنوا بأن حولت لهم صورة العجل إلى عجل حقيقي بلحم ودم، فالله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحماً ودماً كما جعل آدم لحماً ودماً وكان طيناً، لكن ترجيح مثل هذا يحتاج إلى دليل إلا أن يقال: إن الدليل هو قوله: (جسداً)، والله تعالى أعلم.
قال تعالى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً [طه:86]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفاً على قومه من أجل عبادتهم العجل، فقوله: (( أَسِفاً )) أي: شديد الغضب، فالأسف هنا شدة الغضب، وعلى هذا فقوله: (( غَضْبَانَ أَسِفاً )) أي: غضبان شديد الغضب، ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن الكريم قوله تعالى في الزخرف: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55]، لما آسفونا أي: لما أغضبونا، فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم. قال الشنقيطي : وقوله: (( غَضْبَانَ أَسِفاً )) حالان، وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحداً، كما أشار له في الخلاصة بقوله: والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفـرد يعني: ممكن الحال يكون كلمة وممكن أن يتعدد، فهذا معنى قول صاحب الخلاصة. وما ذكره جل وعلا في آية (طه) من كون موسى رجع إلى قومه: (غضبان أسفاً) ذكره في غير هذا الموضع، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور، كقوله في سورة الأعراف: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف:150]، وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة، وأخذه برأس أخيه يجره إليه، قال عز وجل في الأعراف: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ [الأعراف:150] وقال في (طه) مشيراً لأخذه برأس أخيه: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان؛ لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله عز وجل: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ، وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه، ومع ذلك لم يبلغ الغضب بموسى عليه السلام يلقي الألواح، لكنه لما عاين -بعينه- قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثراً لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك، فألقى الألواح حتى تكسرت وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تبارك وتعالى. وقد روى ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح). وهذا معنى الحكمة المشهورة: ليس الخبر كالمعاينة. ويمكن استنباط نفس هذه الحكمة من القرآن الكريم من موضع آخر: لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً [الكهف:18]، فالنبي عليه السلام وصف له حالهم في القرآن لكنه لو رآهم لولى فراراً وامتلئ رعباً، فالله يقول: (( لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ )) أي: لو رأيتهم ونظرت إليهم بعينك لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً. وقوله تعالى: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً )) قال الشنقيطي : أظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن: أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتاباً فيه كل ما يحتاجون من خير الدنيا والآخرة، وهذا الوعد هو المذكور هنا في قوله: (( وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ )) يعني: كي ينزل على موسى عليه السلام التوراة، وقد كتبها الله له بيده، وهي ألواح التوراة، فهذا هو الوعد الحسن. قال: أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ ، الاستفهام هنا للإنكار، يعني: لم يطل العهد، وهذا هو السبب مع أني لم أتأخر عنكم كثيراً، أي: لم يطل عليكم العهد، كما يقال في المثل: وما بالعهد من قدم؛ لأن طول العهد مظنة للنسيان والعهد قريب لم يطل، فكيف نسيتم؟ (( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ))، هنا قال بعض العلماء: (أم) هنا هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ بل (( أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ ))، والمعنى: بل أردتم أن يحل عليكم غضب ربكم، فكأنهم أرادوا الغضب لما عملوا السبب الذي يجلب لهم غضب الله سبحانه وتعالى وهو الكفر. ومعنى إرادتهم حلول الغضب: أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم؛ فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه، وهو الكفر بعبادة العجل. وقوله: (فأخلفتم موعدي) كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى؛ فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى، فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره. (( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ))، قرأه نافع وعاصم (بملكنا) بفتح الميم، وقرأه حمزة والكسائي بضم الميم، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بكسر الميم، يعني: فيها ثلاث حركات يقول: والمعنى على جميع القراءات: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك، وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده، وهو اعتبار بارد ساقط كما ترى، يعني: هذا العذر السخيف ينطبق عليه قول القائل: عذر أقبح من ذنب، يعني: ما كان بأيدينا لكن غلبنا السامري وكادنا وغلبنا، ولقد صدق من قال: إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر الذنب إن كان بغير عذر مقبول، فالعذر ساذج. وهنا يذكر الشنقيطي رحمه الله تعالى فائدة لغوية، يقول: كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ(لم) إذا تقدمتها همزة استفهام فلها وجهان معروفان عند العلماء: الأول: أن مضارعته تنقلب ماضوية، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً )) بمعنى وعدكم. نلاحظ هنا الفعل (يعدكم) فعل مضارع سبقته (لم) الجازمة، وسبقها همزة الاستفهام، فإذاً: فعل مضارع مجزوم بلم تقدمتها همزة استفهام، فالقول الأول: أن المضارع ينقلب ماضياً، ونفيه ينقلب إثباتاً، فيصير قوله: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ )) تساوي: وعدكم، وقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] تساوي: شرحنا لك صدرك، وقوله: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ [البلد:8] تساوي: جعلنا له عينين، ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر؛ لأن لم حرف يقلب المضارع إلى معنى الماضي كما هو معروف، ووجه انقلاب النفي إثباتاً: أن الهمزة إنكارية، فهي مضمنة معنى النفي، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في لم، أي: تنفي النفي، ونفي النفي إثبات فيئول إلى معنى الإثبات. هذا هو الوجه الأول. الوجه الثاني: أن الاستفهام في ذلك للتقرير، وهو حمل المخاطب على أن يقر، فيقول: بلى. يعني: هذه الصيغة تأتي من أجل أن يقر المخاطب، يقول: ألم نفعل كذا؟ تقول: بلى. لكي تثبت ذلك. وعليه فالمراد من قوله: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً )) حملهم على أن يقروا بذلك، فيقولوا: بلى قد وعدنا ربنا وعداً حسناً، ونظير هذا من كلام العرب قول جرير : ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح فإذا عرفت أن قوله هنا: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب: (( أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ ))؛ فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا، وكذلك بعض فعله، ولكن بينه في غير هذا الموضع كقوله في الأعراف في القصة بعينها: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ [الأعراف:150]، وبين بعض ما فعل بقوله في الأعراف: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ َ [الأعراف:150]، وقد أشار إلى هذا في (طه) في قوله: (( قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي )).
قال تعالى: (( قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ ... ))[طه:87]. قال الزمخشري : قرئ بالحركات الثلاث على الميم، قال الزمخشري أي: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخُلِّينا وراءنا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده، وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ . (( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا ))، وفي القراءة الأخرى: ((ولكنا حملنا أوزاراً)) أي: أثقالاً وأحمالاً، (( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ )) يعني: من حلي القبط، (والقوم) المقصود بهم قوم فرعون، والمقصود بالحلي حلي نسائهم. (( فَقَذَفْنَاهَا )) أي: قذفناها في النار لنتلفها. (( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ )) أي: كان إلقاؤه (( فَأَخْرَجَ لَهُمْ )) أي: من تلك الحلي (( عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ )) أي: صوت عجل، وقد قيل: إنه صار حياً وخار كما يخور العجل، ودبت فيه الحياة، وقيل: وإنما جعل فيه منافذ ومخارج بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوتاً مثل صوت العجل. قوله تعالى: (( فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى )) يعني: السامري ومن افتتنوا به، فقالوا بالتغرير: (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ )) أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور! كيف ذهب موسى يطلب لقاء الله في الطور وهذا هو إلهنا وإله موسى؟ ويقصدون -والعياذ بالله- هذا العجل، فهذا معنى قولهم: (( هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ )) يعني: موسى غفل عن إلهه وهو هنا وذهب يطلبه في الطور!
أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه مما لا يستتر بطلانه على أحد، فقال سبحانه وتعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا [طه:89]. (( أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ )) أي: العجل، (( إِلَيْهِمْ قَوْلًا )) أي: لا يرد لهم جواباً، (( وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا )) أي: دفع ضر، ولا جلب نفع، فكيف يتخذ إلهاً؟ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا )): قال بعض العلماء: والأوزار معناها: الأثقال، قال بعض العلماء: معناها: الآثام، ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم. ووجه الثاني: أنها آثام وتبعات؛ لأنهم كانوا مع القبط في حكم المستأمنين في دار الحرب، وليس للمستأمن أن يأخذ أمان الحربي؛ ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم، والتعليل الأخير أقوى؛ لأن من خصائص هذه الشريعة المحمدية ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، فهؤلاء حملوا معهم حلي القبط، ولم تكن تحل لهم في شريعتهم غنائم، فكأنهم لما حملوها حملوا معها أوزاراً وآثاماً لأنهم مستأمنون، وبالتالي لا يجوز لهم أن يأخذوا أموالهم، فهذا التعليل أقوى من التعليل الأول. (( مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ )) المراد بالزينة: الحلي، كما يوضحه قوله تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف:148]، (( فَقَذَفْنَاهَا )) أي: ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة؛ لأن السامري حفر حفرة وأمرهم أن يقذفوا هذه الحلي في داخل الحفرة، وبعض المفسرين يقول: فعلوا ذلك لأن الحلي لما كانت متناثرة كان يشق عليهم حملها، وهم أرادوا أن يقبروها في كتلة واحدة حتى يسهل حملها. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأظهر الأقوال عندي في ذلك: هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة؛ لأن ذلك أسهل لحفظه إلى أن يرى نبي الله موسى فيه رأيه. والسامري لما أمرهم بحفر حفرة، وأمرهم أن يضعوا فيها الحلي، كان يريد تدبير خطة لم يطلعهم عليها، وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات، وكان على فرس؛ أخذ السامري تراباً مسه حافر تلك الفرس، ويزعمون في هذه القصة: أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات، أي: لاحظ أن الموضع الذي أصابه حافر الفرس ينبت فيه نبات، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة، فأخذ تلك القبضة من التراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام واحتفظ بها، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب، وجعلوه فيها، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكور، وقال له: كن عجلاً جسداً له خوار، فجعله الله عجلاً جسداً له خوار، يعني: كأن الله أقدره على هذا الفعل ابتلاءً وامتحاناً وفتنة، كما يقدر المسيح الدجال على الخوارق فتنةً للناس، فقال لهم: هذا العجل هو إلهكم وإله موسى! كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه:95-96] يعني: حينما لاحظت وقوع الحافر في الأرض قبضت قبضة مما وقع عليه حافر الفرس واحتفظت بها: وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه:96]. وقوله في هذه الآية الكريمة وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمُِ هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد، قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فهذا يدل على أن ذلك الاعتراف كان من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم، ولا يوجد احتمال أنه من غيرهم. إذاً: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:87-88] أي: نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر! قال ابن عباس في حديث الفتون وهو قول مجاهد ، وعن ابن عباس أيضاً من طريق عكرمة (فنسي) أي: نسي أن يذكركم به، وعن ابن عباس أيضاً (فنسي) أي: السامري نسي ما كان عليه من الإسلام وصار كافراً بادعاء ألوهية العجل وعبادته. إذاً: (نسي) الفاعل هنا ضمير يعود إلى السامري ، أي: نسي السامري الإسلام الذي كان عليه.
تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ...)
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله، ولا يملك نفعاً لمن عبده، ولا ضراً لمن عصاه، وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزاً عن النفع والضر ورد الجواب، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف في القصة: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148]. ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ولا يهديه سبيلاً إلهاً أنه من أظلم الظالمين؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها؛ لأن العابد في هذه الحالة أكمل من المعبود من حيث سريان الحياة فيه، ومع ذلك يعبد صنماً لا يسمع ولا يعي ولا يعقل، يقول: ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [مريم:42]، وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73]، وقوله تعالى أيضاً: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195]، وقال تعالى أيضاً: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]، وقال أيضاً: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14]. قال الشنقيطي : قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة: وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً يعني: هل يفهم من هذه الآية: أنه إن كان يرجع إليهم قولاً ويتكلم يصلح أن يكون إلهاً؟ لا، فليس المقصود بهذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلهاً؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات واحد منها يقتضي عدم حصول المشروط، وحصول الواحد منها لا يقتضي حصول المشروط. وهذا معروف في تعريف الشرط أنه ما يتوقف وجود الشيء على وجوده، ولا يتوقف على وجوده عدم ذلك الشيء، مثلاً: شروط الحياة بالنسبة للبذرة: أولاً: أن تكون البذرة نفسها سليمة. ثانياً: لابد من التربة الصالحة ومن الماء والهواء، فالحياة في البذرة لابد فيها من شروط، فهل مجرد وجود شرط واحد يستلزم وجود هذه الحياة؛ لا، فقد يوجد الهواء فقط لكن البذرة مسوسة مثلاً أو غير ذلك من الشروط، ففي هذه الحالة لا يمكن أن تحصل الحياة، فكذلك الشيء الذي يعلق على أكثر من شرط لا يتحقق إلا بوجود جميع هذه الشروط، وإذا تخلف شرط واحد لا يقع الشيء، ووجوده وحده لا يقتضي وجود هذا الشيء؛ لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطاً بشروط كثيرة، ففوات شرط منها يقتضي فوات المشروط، وحصول شرط منها لا يقتضي حصول المشروط، فمثلاً الصلاة من شروطها: الطهارة، استقبال القبلة، ستر العورة، فلو أن رجلاً استقبل القبلة وهو غير طاهر والمكان نجس وثوبه نجس، فهل تصح صلاته؟ لا تصح الصلاة مع أنه أتى بشرط من الشروط. يقول: فكل ما توقف على شرطين فصاعداً لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط، فلو قلت لعبدك: إن صام زيد وصلى وحج فأعطه ديناراً، لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة، ومحل هذا ما لم يمكن تعليق الشروط على سبيل البدل؛ فإنه يكفي فيه واحد، كما لو قلت لعبدك: إن صام زيد أو صلى فأعطه درهماً، فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله: وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا فبحصول واحد تحققا وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري : أن هذا العجل اسمه يهموت، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة: أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم، وعبدوا العجل! كان المفروض أن يحافظوا على هذه الزينة التي هي الحلي إلى أن يأتي موسى فيرى فيها رأيه؛ فهم تورعوا عن زين القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل، قال: فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب يعني: هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما: انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني الحسين رضي الله عنهما- وهم يسألون عن دم البعوضة! انتهى منه.
قال تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ [طه:90] يعني: من قبل رجوع موسى إليهم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ [طه:90] أي: ضللتم بعبادته، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي [طه:90]، في عبادته سبحانه وتعالى، وترك عبادة العجل، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه:91] (قال) أي: موسى يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ [طه:92-93] يعني: في الغضب لله وشدة الزجر عن الكفر. وقوله: (( أَلَّا تَتَّبِعَنِ )) فيها أقوال منها: ما منعك أن تتبعني؟ أو المعنى: ما حملك على ألا تتبعني؟ بحمل النقيض على مثله فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله، أو: ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم فتكون مفارقتك زجراً لهم؟ (( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي )) وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه ويصلح ما يراه فاسداً. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين: أن بني إسرائيل لما فتنهم السامري وأضلهم بعبادة العجل نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها -أي: كفر وضلال ارتكبوه بذلك- وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا، وأن عجلاً مصطنعاً من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر، وأمرهم باتباعه في توحيد الله تبارك وتعالى، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن يطيعوه في ذلك؛ فصارحوه بالتمرد والعصيان والديمومة على الكفر حتى يرجع إليهم موسى، وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه، وقد أوضح الله هذا المعنى في سورة الأعراف فقال تعالى: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150]، فقولهم في خطابهم له: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ، أي: نستمر ونستديم على عبادتنا، فهذا يدل على استضعفاهم له، وتمردهم عليه المصرح به في الأعراف كما بينا.
فتوى الطرطوشي في رقص وتواجد الصوفية
ذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تبارك وتعالى من باب الشيء بالشيء يذكر؛ بمناسبة الكلام على أنهم صاروا عاكفين حول هذا العجل يعبدونه فذكر بهذه المناسبة ما يفعله بعض الصوفية من ذلك مما سيذكره؛ يقول رحمه الله تعالى: قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه: سئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية، واعلم حرس الله مدته! أنه اجتمع جماعة من رجال يكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم -يعني: نوع من الإيقاع من الموسيقى- ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشياً عليه- يذكرون الله ويذكرون الرسول عليه السلام، ويحضرون شيئاً يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا مأجورين، وهذا القول الذي يذكرونه: يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل واعمل لنفسك صالحاً ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله! مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا أن يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق. انتهى منه بلفظه. وعلق الشنقيطي رحمه الله تعالى بقوله: قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد قدمنا في سورة مريم ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق، ولا شك أن منهم من هو على الصراط المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها وراقبوها وعرفوا أحوالها، وتكلموا على أحوال القلوب كلاماً مفصلاً كما هو معلوم؛ كـعبد الرحمن بن عطية وابن أحمد بن عطية وابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني وكـعون بن عبد الله الذي كان يقال له: حكيم الأمة. وكـسهل بن عبد الله التستري ، وأبي طالب المكي وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي والجنيد بن محمد ومن سار على منوالهم؛ لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع، فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ولا يصح إطلاقه، والميزان الفارق بين الحق والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن كان منهم متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وهديه وسمته، كمن ذكرنا وأمثالهم فإنهم من جملة العلماء العاملين، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال، وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال، نعم صار المعروف في الآونة الأخيرة وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا -إلا من شاء الله منهم- دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم؛ ليتخذوا بذلك أتباعاً وخدماً وأموالاً وجاهاً، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق، لا يعملون بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين، فيجب التباعد عنهم والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق، ولقد صدق من قال: إذا رأيت رجلاً يطير وفوق ماء البحر قد يسير ولم يقف عن حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا)[النساء:123-125]. فمن كان عمله مخالفاً للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال، ومن كان عمله موافقاً لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي؛ نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين، وألا يزيغنا ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. (( قَالَ يَبْنَؤُمَّ )) أي: قال هارون (يا ابن أم) أو (يا ابن أم) أي: بكسر الميم أو فتحها في (أم)، وذكرها أعطف لقلبه لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94] يعني: لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضب موسى لله وغيرته على حرمات الله، (( إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ )) أي: بتركهم لا رأي لهم، (( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ))، أي: لم تراع في الاستخلاف والقعود بين ظهرانيهم.