تفسير سورة يوسف [51-82]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:50-51]. (( قال ما خطبكن إذا راودتن يوسف عن نفسه )) استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد قول يوسف عليه السلام للملك أو لرسول الملك (( ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم))؟ فجاء الجواب قال الملك: (( ما خطبكن )) أي: ما شأنكن (( إذا راودتن يوسف )) يوم الضيافة، يعني: هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ (( قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء )) أي: من قبيح، لقد بالغن في نفي السوء عنه، وهو أبلغ ما يكون في تنزيه يوسف عليه السلام عن أي قبيح؛ لأن كلمة (سوء) نكرة في سياق النفي فهي تعم، ويكون العموم قطعياً إذا أضيفت إليه كلمة (( ما علمنا عليه من سوء )) أيضاً من المبالغة في تنزيهه عن ذلك. قالت امرأة العزيز: (( الآن حصحص الحق )) أي: ثبت واستقر وظهر بعد خفائه (( أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين )) أي: إنه لمن الصادقين في قوله: هي راودتني عن نفسي. قال الزمخشري : ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به؛ لأنهن خصومه وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق وهو على الباطل لم يبق لأحد مقال. وكما يقال: والفضل ما شهدت به الأعداء.

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52]. تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي؛ ليعلم أني لم أخنه بالغيب؛ لأن يوسف في هذه اللحظة لم يكن حاضراً، وإنما تم استدعاء النسوة ثم قال لهن الملك: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51]؟ هل وجدتن منه ميلاً إليكن؟ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ [يوسف:51]. فإذا كان هذا الحوار في غياب يوسف عليه السلام لم يكن الملك قد أحضره بعد، فتقول امرأة العزيز : الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51] ((ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب)) أي: ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي العزيز أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر الذي هو الفاحشة، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة. (( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) أي: لا يرضاه ولا يسدده.

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53]. أي: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته، أو ما أبرئ نفسي من الخيانة فإني قد خنت يوسف لما رميته بالذنب، وذلك لما قالت لزوجها: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يوسف:25] وأودعته السجن ظلماً وعدواناً، فهي تريد أن تعتذر مما كان منها، أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام. يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وهناك قول آخر: أن القائل: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) هو يوسف؛ لكن القول الأرجح والأليق بالسياق هو نسبة ذلك إلى امرأة العزيز. ثم يقول: وقد حكاه -أي هذا القول- الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فأفرده بتصنيف على حدة. ويشير القاسمي هنا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أفرد هذه الآية بالتصنيف؛ للانتصار للقول بأن قائل ذلك هو امرأة العزيز. ثم يقول: وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف يقول: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب )) وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه، وهو القول بأن هذا من كلام يوسف عليه السلام، والمعنى: أنه حينما جاءه رسول الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف أن يخرج حتى تظهر براءته، فكان ما حصل منه من التثبت والتريث والتأني سببه لتعلم براءته، حيث يقول: ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه؛ لأن المعصية خيانة، ثم أكد أمانته بقوله: (( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وسدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه؛ لقوله تعالى: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف:35] فتآمر العزيز وامرأته على أن يسجنا يوسف عليه السلام رغم ظهور الآيات الدالة على براءته. ثم أراد يوسف عليه السلام أن يتواضع لله ويهضم نفسه؛ لئلا يكون لها مزكياً، وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس قائماً من نفسه، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: (( وما أبرئ نفسي )) أي: لا أنزهها من الزلل ولا أشهد لها بالبراءة بالكلية ولا أزكيها؛ فإن النفس البشرية تأمر بالسوء وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ. هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف، وأشهر من قال بذلك كما ذكرنا من المفسرين ابن أبي حاتم ، وابن جرير الطبري . قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر؛ لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك، والله تعالى أعلم. قوله عز وجل: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب )) ما إعراب بالغيب؟ هي جار ومجرور حال من الفاعل أو من المفعول، أي: حال كوني غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني. أو (بالغيب) ظرف أي: بمكان الغيب وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب. (( وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزاً للمبالغة، لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بطريق الأولى، وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم كقوله تعالى: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:30] أي: في قولهم، وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده. قال في الإكليل: إذا كان يوسف عليه السلام هو القائل: (( وما أبرئ نفسي )) فلا شك أن هذه الآية دليل أصلي على التواضع، وكسر النفس وهضمها، ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي) فهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وإلا فإن رسول الله عليه السلام أولى بكل فضيلة من كل من عداه من الأنبياء والمرسلين. قال الزمخشري : لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها ثم قال-: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله. وفعلاً مما يؤذي جداً أننا إذا راجعنا كتب التفسير في مثل هذا الموضع، نجد الملفقة والمتكلفين والمتنطعين والقصاصين قد زادوا وأعادوا في تلفيق القصص التي لا مستند لها في هذه المواقف كما ذكروا هنا: أن يوسف عليه السلام لما قال: (( ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين )) فقال له جبريل: أين ذهب همك بها؟ فرد وقال: (( وما أبرئ نفسي )). وكل هذا من التلفيق ومن العدوان على مقام أنبياء الله ورسله المعصومين، حتى الآن كل من له تعلق بهذه القصة يقطع بنزاهة يوسف عليه السلام، حتى إبليس نفسه نزه يوسف عليه السلام حينما قال إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:40] فاستثنى المخلصين، والله عز وجل وصف يوسف بأنه من المخلصين بقوله: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] أي: من الذين لن يجد الشيطان إليهم سبيلاً، وامرأة العزيز نزهته والنسوة نزهنه، والشاهد الذي شهد نزهه، ومع ذلك لم ينزهه هؤلاء القصاصون الملفقون؛ فينبغي أن يحذر من مثل هذه الروايات الملفقة المصنوعة. قال الناصر ولقد صدق في التوقيع على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك دأب المبطلة من كل طائفة، ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.

قوة عفة يوسف عليه السلام وحفظ الله له

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت لـابن القيم في الجواب الكافي في صبر يوسف وعفته مع الدواعي من وجوه. وهذا بلا شك من أعظم نماذج العفة وحبس النفس عما حرم الله سبحانه وتعالى، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه: أحدها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً بل يحمد كما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن). الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشباب وحدته أقوى. الثالث: أنه كان عزباً ليس له زوجة ولا سرية تكسر ثورة الشهوة. الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه. الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها. السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر: وزادني كلفاً في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فطباع الناس مختلفة في ذلك. السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه. الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة. التاسع: أنه لا يخشى أن تنم هي عليه ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء. العاشر: أنه كان مملوكاً لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأُنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا. الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]. الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار. الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: (( أعرض عن هذا )) وللمرأة: (( استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع. وهذا لم يظهر منه غيرة. ومع هذه الدواعي آثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه. وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: رأيت لـابن القيم في الجواب الكافي في صبر يوسف وعفته مع الدواعي من وجوه. وهذا بلا شك من أعظم نماذج العفة وحبس النفس عما حرم الله سبحانه وتعالى، فقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ونختم الجواب بفصل متعلق بعشق الصور وما فيه من المفاسد العاجلة والآجلة، وإن كانت أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف وما راودته وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبَّره الله عليه، فإن مواقعة الفعل بحسب قوة الداعي وزوال المانع، وكان الداعي ها هنا في غاية القوة وذلك من وجوه: أحدها: ما ركبه الله في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيراً من الناس يصبر عن الطعام والشراب ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالاً بل يحمد كما في كتاب (الزهد) للإمام أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن). الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شاباً، وشهوة الشباب وحدته أقوى. الثالث: أنه كان عزباً ليس له زوجة ولا سرية تكسر ثورة الشهوة. الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى له في وطنه وبين أهله ومعارفه. الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها. السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية؛ فإن كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها؛ لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع إرادة وحباً، كما قال الشاعر: وزادني كلفاً في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا فطباع الناس مختلفة في ذلك. السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد؛ فكفته مؤنة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه. الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها؛ بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له؛ فاجتمع داعي الرغبة والرهبة. التاسع: أنه لا يخشى أن تنم هي عليه ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب وغيبت الرقباء. العاشر: أنه كان مملوكاً لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ولا ينكر عليه، وكان الأُنس سابقاً على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة من أشراف العرب ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد وطول السواد، تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي وطول السواد بيننا. الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33]. الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار. الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلاً منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: (( أعرض عن هذا )) وللمرأة: (( استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )) وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع. وهذا لم يظهر منه غيرة. ومع هذه الدواعي آثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنا: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه. وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله تعالى.

أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته فقال عز وجل: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف:54]. هذه الحادثة مع الملك لا مع العزيز، وكان العزيز وزير الملك، والملك كان أعلى من العزيز. (( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي )) أي: أخصها به دون العزيز، جرياً على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز، قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، فعلم كرم نفسه وسعة علمه فقال: (( ائتوني به أستخلصه لنفسي )) أي: أجعله من خاصتي دون العزيز. (( فلما كلمه )) أي: فلما أتوا به وخاطبه الملك وعرفه وشاهد فضله وحكمته وبراءته. وجوز أن يكون الفاعل في قوله: (( فلما كلمه )) يوسف عليه السلام. (( قال إنك اليوم لدينا مكين )) أي: ذو مكانة عالية ومنزلة، (( أمين )) أي: مؤتمن على كل شيء. روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال الملك لهم: هل نجد مثله رجلاً مهبطاً للإمداد الرباني؟ فقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر، ونزع خاتمه من يده ووضعه في أصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقاً في عنقه، وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له: لا يمضي أمر ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه: مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه، وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة، والله تعالى أعلم. قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام علم يقيناً أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى خلفان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه، ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار، فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيداً، ولا للتجارب تهديداً، ولم يخف للسجن ظلماً وشراً، ولا للتنكيل به ألماً وضراً، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب، نال بطهارته وتقواه تاج الفخر، ولسان الصدق طول أيام الدهر. يعني: يكفي أن قصة يوسف عليه السلام تتلى إلى أن تقوم الساعة، فهي عبرة لكل معتبر، ومثل أعلى للبشرية في هذا الموقف بالذات، فلا شك من هذا كله أنه مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] وأن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالاً نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذاً نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدىً نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار، فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.

قال عز وجل حاكياً عن يوسف عليه السلام قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]. أي: قال يوسف للملك: اجعلني على خزائن الأرض، أي: خزائن أرضك، أي: جميع الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: (( إني حفيظ عليم )) أي: أمين أحفظ ما تستحفظني، عالم بوجوه التصرف فيه. ومن أروع ما يستدل به هنا على معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فنلاحظ يوسف عليه السلام ما أثنى على نفسه بحسن الصورة مع أن الله أعطاه شطر الحسن كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، والنسوة قلن: (( إن هذا إلا ملك كريم )) ومع ذلك ما قال: إني أوتيت شطر الحسن، ولم يتفاخر بانتسابه إلى الآباء والأجداد مع أنه هو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام، فانظر إلى ما وصف به نفسه فقال: (( إني حفيظ عليم )). قال الزمخشري : وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه. وكذلك موسى عليه السلام وصفته ابنة الرجل الصالح بقولها: (( إن خير من استأجرت القوي الأمين )) ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول: (أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة) أي: أشكو إلى الله من ثقة وأمين وعنده خوف من الله وورع وتقوى، لكنه قاصر ليس عنده الكفاءة في العمل، بينما نجد شخصاً فاجراً عنده القوة على هذا العمل، لكنه ليس أميناً، وأفضل الأحوال أن تجتمع الصفتان معاً كما قال تعالى: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] جمع بين الأمانة وبين القوة. ثم يقول الزمخشري : وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء حكم الله تعالى، وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. لا شك أن الأنبياء منزهون عن السعي وراء الدنيا، فلا يمكن أن يكون يوسف عليه السلام طلب الملك من باب حب الدنيا حاشاه عليه الصلاة والسلام، وإنما أراد يوسف عليه السلام أن ينفع هؤلاء الناس، وأن يصل ويتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، وقد رأى أنه لا يقوم غيره مقامه. ثم يقول: فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملاً من يد كافر، ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته؟ قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم. وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه. كان الوضع شبيهاً بوضع ملكة انكلترا تملك ولا تحكم -كما قال له هنا: لا أتميز عليك إلا بالعرش الملك- لكن الحكم الفعلي لرئيس الوزراء، فيبدو أن هذه الصورة التي كانت بين يوسف عليه السلام وبين هذا الملك. وهذه الآية كما هي أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم، فهي أصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحة، وفي أن المتولي أمراً شرطه أن يكون عالماً به خبيراً ذا فطنة. قال أبو السعود : وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرض بعدما قال له الملك: (( إنك اليوم لدينا مكين أمين )) (( قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم )) ثم جاءت الآية مباشرة وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ [يوسف:21] إلى آخره ولم تحك الآيات الكريمة ما رد عليه الملك ولم يقل: وثقت أو قبلت ذلك إلا إيذاناً بأن ذلك أمر لا مرد له، وهو غني عن التصريح، لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله: (( إنك اليوم لدينا مكين أمين ))، وللتنبيه على أن كل ذلك من فعل الله عز وجل، وإنما الملك آلة وسبب في ذلك. قال ابن كثير : خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات .... يقول القاسمي : ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره، والأهرام بفتح الهمزة جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة عن القاهرة أميال معدودة، من غرائب الدنيا. ثم يقول: دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم، ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية، آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور. يعني: كما تعلمون كان المصريون القدماء يعبدون الملوك، والملوك كانوا يسخرون الشعب تسخيراً قبيحاً جداً كما هو محفوظ. وهذا الكلام الذي يذكره القاسمي أو ينقله عن كتاب (الأثر الجليل) هو لم يذكر بالضبط تاريخ طباعة الكتاب، لكن إذا كان من أيام ألف وثلاثمائة وواحد وعشرين فقد طبع من مدة بعيدة، ولا نجزم هل كان هذا الكلام قبل اكتشاف حجر رشيد، أم بعد اكتشاف حجر رشيد؟ لأن حجر رشيد هو الذي فتح باب الشر علينا، حينما أعان على ترجمة اللغة الهيروغليفية، وبالتالي لم ينفتح علينا مجرد اكتشاف آثار قدماء المصريين ومعرفة لغتهم، وإنما انفتح باب التكلم عليهم بإعجاب وبفخر وباعتزاز، مع كونهم من الوثنيين، فهذه خطة استعمارية خبيثة، كما تعرفون لو راجعتم التاريخ بداية الاكتشاف أعتقد كان هناك شخص يهودي اسمه روتشل تقريباً أراد أن يمول عملية اكتشاف الآثار المصرية مقابل الترويج للتاريخ الفرعوني القديم، بحيث يزاحم العقيدة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية في أيامها، القصة معروفة تجدونها في كتاب (الإنتاجات الوطنية في الأدب المعاصر) للدكتور محمد حسين رحمه الله. والآن كل بلد يكتشف فيها آثار قديمة يتوقع شراً بسبب الاكتشافات لتلك الأيام الماضية. في البحرين أيضاً حصلت اكتشافات كلها تدور حول الشركيات والوثنيات وكل هذه الأشياء من أجل أن ينفخوا في هذه الروح؛ لإيجاد البديل عن العقيدة الإسلامية، فيفخر الناس بالانتماء إليه ويعتزون بهذا الذي يسمى بتراث الآباء والأجداد، فالله المستعان. أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك خوفو ، والثاني للملك خفرع والثالث للملك منقرع وجميعهم من العائلة المنفيسية، ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب أو مدرسة للمعارف الكهنوتية أو غير ذلك.

قوله تعالى وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:56]. الأرض هي أرض مصر. ((يَتَبَوَّأُ مِنْهَا)) أي: ينزل من بلادها ((حَيْثُ يَشَاءُ)) وذلك أنه عليه السلام لما ولاه الملك النظر على خزائن مصر تجول في قطرها، وطاف في قراها والأمر أمره والإشارة إشارته، عناية منه تعالى ورحمة، كما قال: ((نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) أي: الذين أحسنوا عملاً. كل هذا برحمة الله جزاء على الإحسان الذي رعاه يوسف عليه السلام؛ لأن يوسف عليه السلام عبد الله كأنه يراه، وكما ذكرنا من قبل أن الإحسان هو الغاية من خلق البشر، كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] قال: أحسن ولم يقل أكثر، فإذا أردنا معنى الإحسان نرجع إلى حديث جبريل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو الذي فعله يوسف عليه السلام: هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]. فهذه قاعدة: لا يمكن أن يحسن الإنسان العمل ويملك نفسه ابتغاء وجه الله عز وجل، ثم بعد ذلك يضيعه الله عز وجل أو يهدر عمله ويضيع ثوابه.

وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يوسف:57]. أي: ثواب الآخرة خير للمؤمنين المتقين من ثواب الدنيا، وفي هذا إشارة إلى أن المطلب الأعلى هو ثواب الآخرة، وأن ما يدخر لهؤلاء هو أعظم وأجل مما يخولون به في الدنيا من التمكين في الأرض والجاه والثروة والملك. إذاً: انظر كيف حظي يوسف عليه السلام بشرف الدنيا وشرف الآخرة وعز الدنيا وعز الآخرة؛ وذلك مقابل أن ضبط نفسه وخاف ربه في هذه اللحظات العصيبة التي مرت به.

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]. هذه إشارة إلى ما وقع من مصداق رؤيا يوسف عليه السلام، وذلك أن الأرض أخصبت سبع سنين، وأخرجت من بركاتها ما يعادل الرمل كثرة، فجمع يوسف غلالها، وجعل في كل مدينة غلال ما حولها من الحقول، ولما مضت هذه السبع المخصبة، دخلت السنون المجدبة، فعم القحط مصر والشام ونواحيهما، فأخذ الناس من سائر البلاد في المسير إلى مصر ليمتاروا منها لأنفسهم وعيالهم، لما علموا وجود القوت فيها، وكان من جملة من سار للميرة إخوة يوسف عليه السلام عن أمر أبيهم يعقوب عليه السلام لتناول القحط بلادهم فلسطين، فركبوا عشرة نفر، واحتبس يعقوب عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف؛ خشية أن يلحقه سوء، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف، فلما هبطوا مصر دخلوا على يوسف عليه السلام ولم يعرفوه؛ لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، وعدم استشعارهم في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه، ثم إنه يبعد جداً أن يتخيلوا أن أخاهم الذي ألقوه في الجب يمكن أن يكون هو الملك الفعلي والحاكم في أرض مصر، فلذلك قال تعالى: (( وهم له منكرون )) وقد تخلصوا منه بأن باعوه رقيقاً يلتقطه بعض السيارة، فكيف يقفز إلى أذهانهم أن يكون قد وصل إلى هذا العز الذي وصل إليه والجاه؟! وفي نفس الوقت كان شكله قد تغير عما كان عليه زمن الصبا والحداثة. أما هو فعرفهم، روي: (أنهم لما دخلوا عليه سجدوا له بوجوههم إلى الأرض تحية له، فشرع يخاطبهم متنكراً لهم وقال: من أين قدمتم؟ قالوا: من أرض كنعان -يعني: فلسطين- لنبتاع طعاماً، فقال لهم: لعلكم جواسيس، قالوا: معاذ الله! ما جئنا إلا للميرة؛ لأن الجهد أصابنا، ونحن إخوة بنو أب واحد، قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر هلك منا واحد، قال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة، قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن ابنه الصغير الذي هلك، قال: لا بد من امتحان صدق كلامكم، فليبق واحد منكم عندي رهينة، ولتذهب بقيتكم فتأخذ ميرة لمجاعة أهلكم، وائتوا بأخيكم الصغير إلي ليتحقق صدقكم، ثم أخذ شمعون واحتبسه عنده، وأذن للبقية، وأمر أن يعطوا زاداً للطريق)، وهذا ما أشير إليه بقوله تبارك وتعالى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]. ((وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ)) بفتح الجيم وقرئ وبكسرها، أي: أوقر ركائبهم بالطعام والميرة، فيها كناية عن وفرة ما أعطاهم إياه من الطعام والميرة أي التمويل. ((أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ)) أي: أتمه، ((وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)) أي: خير المضيفين، وقوله ذلك تحريض لهم على الإتيان به لا امتنان.

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:60-61]. (( فلا كيل لكم عندي )) أي: لو جئتم مرة ثانية لا كيل لكم عندي. (( ولا تقربون )) أي: ولا تقربوني بدخول بلادي مرة ثانية، وحذفت الياء تخفيفاً. والنون في قوله: (ولا تقربون) هي نون الوقاية. ((قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ)) أي: سنحتال في انتزاعه من يد أبيه ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله. ((وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ)) أي: ذلك من المراودة أو الإتيان به، فيكون ترقياً إلى الوعد بتحصيله بعد المراودة.