محاربة الإسلام للجريمة


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد أكثر في كتابه من لوم المجرمين، ومن وصفهم بأنواع النعوت المرعبة، المخوفة من مصيرهم ومآلهم؛ وذلك للتنبيه على خطر الإجرام وضرره، فحري بنا أن نبحث في ظاهرة الإجرام، أن نبحث في مظاهر هذا الإجرام ووسائله وأسبابه وعلاجه كذلك.

إن الإجرام هو مصدر أجرم الإنسان بمعنى: اقترف جريمةً، والجريمة هي في الأصل من الجرم الذي هو الجرح، فكأن الإنسان جرح جرحاً لا يستطيع علاجه؛ وذلك أن سكان هذه الأرض بمثابة قوم يركبون سفينةً في عمق البحر، فالذين يجرمون يشقون هذه السفينة لتغرق بأهلها ومن فيها، فما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، فإنه سبحانه وتعالى لو كشف الحجاب لحظةً واحدة لأحرقت سبحات وجهه السماوات والأرض وما فيهن، ما أهون الأرض على الله إذا عصاه أهلها، إن الذين يعصون الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض يشقون فيها شقاً سيتسع على الراقع، ويشق علاجه بعد ذلك ويصعب؛ ولهذا أوجب الله على المؤمنين أن يمسكوا بأيدي هؤلاء وأن يكفوهم عما هم فيه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:78-81] )، ثم قال: ( كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً -أو لتقصرنه على الحق قصراً- أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ).

إن الأخذ على يد المجرم ومنعه من جريمته أول مستفيد منه هو الآخذ على يد المجرم؛ لأنه ينجو بنفسه وينجي أهله من عذاب الله وعقوبته، وإن الذي يظن أن السعي للحيلولة دون الإجرام هو تدخل في الشئون الداخلية، وأنه مما لا يعني الإنسان وينبغي أن يكف عنه جاهل بمقتضى الواقع؛ لأنه بمثابة الإنسان الذي في السفينة في عمق البحر ومعه راكب يراه بعين بصره يخرق السفينة لتغرق بأهلها، فهل تدخله هنا تدخل في شئون الغير؟ هو تدخل في شئون النفس؛ يريد إنقاذ نفسه؛ ولذلك أخرج البخاري في صحيحه من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، وقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ).

وقد قص الله علينا في كتابه قصة قرية من بني إسرائيل كانت حاضرة البحر، فحصل فيها الإجرام، فسكت أهلها عن التغيير إلا قليلاً منهم، فجاء البلاء من الله سبحانه وتعالى وعاجلتهم العقوبة، فأخذ الله الذين اقترفوا الإجرام أخذاً وبيلاً، وألحق بهم الذين سكتوا ورضوا وتابعوا، وأنجى الذين كانوا ينهون عن السوء وحدهم؛ ولذلك قال في كتابه: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166] ، فهذا أخذ الله الوبيل، وعقوبته الشديدة لمن لم يتمعر وجهه في ذات الله، ولم يغير المنكر إذا رآه.

إن الإجرام إذا ظهر في بلد فسيتعدى ضرره وينتشر، وإذا لم تعاجل الناس العقوبة فإنه يعاجلهم ما يتعلق بذلك الإجرام نسأل الله السلامة والعافية من الشؤم؛ فإن لكل ذنب شؤم يلحقه، وهذا الشؤم لا يختص بصاحب الذنب الذي اقترفه، بل يتعداه إلى من سواه.

الإفساد في الأرض وسفك الدماء

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقيةً طاهرة، يعبد عليها الله وحده، كان فيها الملائكة، فأراد الله لحكمته البالغة أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه.. وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون، الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية، فعندما بين الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، كانت جرائم بني آدم مستورةً في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تئول إليه هذه البشرية في هذه الأرض رعبوا من هول هذه الجرائم، تصوروا أن هذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان في الماء، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات الأكسجين، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر.

أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، هذه القنبلة ما زالت إلى الآن آثارها واضحةً حتى في الولادات ولادات مشوهة، وانتشار السرطان، انتشار الأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية الله، وهو أعظم من هذه القنابل كلها وأخطر، إن جريمةً واحدةً على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب مثلاً كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصور حال هذه الأرض وهي كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان.

أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس من الذين يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد مر به من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين، فهو يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تعمر به البلد.

إن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه مكن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا يمكن أحد منهم أن ينكر شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب، يأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف؛ لأن فترة حياته محدودة؛ ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] ، فعليه ألا يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.

كذلك فإن هذا الإجرام مقتض لأن يبقى عمر الإنسان السيئ متجدداً إلى آماد طويلة، فالذي أسرف وأجرم وعمره ثلاثون سنة أو عشرون سنة من وقت إجرامه وعمره السيئ الذي فيه الإجرام مستمر؛ لأن الناس سيتبعونه في إجرامهم، فيكتب عليه من سيئاتهم، ويلحقه ذلك بعد موته آماداً طويلة؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من أحد يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه )، ابن آدم الأول الذي سن القتل لأهل الأرض، فقتل أخاه ظلماً عدواناً، ما من قتيل يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه.

وكذلك كل من اقترف جريمةً أذاعها بين الناس فتبعه الناس عليها، فإنه يكتب في ميزان سيئاته أوزار من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).

وكذلك قال: ( من سن سنةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).

ارتكاب ما لا يرضي الله وإن كان غير مألوف

إن مظاهر الإجرام في هذه الأرض هي ارتكاب ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من السيئات، وأعظمها الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فهو الذنب الذي لا يغفر، ثم ما دونه من الذنوب وأعظمها كبائر الإثم والفواحش، ثم ما بعدها من الصغائر التي دونها، فهذه هي الجرائم، لكن الناس في عرفهم لا يطلقون الجرائم إلا على المستبشعات من الأمور التي لم يعد الناس يألفونها، فالأمور المألوفة لدى الناس -حتى لو كانت أكبر في ميزان الشرع- لا يعدونها جريمة، إنما يعدون جريمةً نكراء الأمر غير المألوف فيما بينهم؛ والسبب هو الاعتياد فقط، فالإنسان الذي يتعود على شيء يزول عنه ما كان يجده في نفسه من الكراهية له وعدم الاطمئنان به.

فأنتم الآن إذا سمعتم الرعد في السماء لم ترعبوا منه، لكن إذا سمعتموه في الأرض يصيبكم منه رعب شديد؛ والسبب أنكم قد ألفتم الرعد في السماء، ولم تألفوه في الأرض، لكن لا فرق بين الأمرين أصلاً، كل ذلك تخويف من الله سبحانه وتعالى.

إن كسوف الشمس والقمر موعظة عجيبة وآية من آيات الله وتخويف منه وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] ، لكن مع ذلك الشمس نفسها طلوعها آية من آيات الله، والانفجارات الذرية التي فيها وعلى سطحها منها في كل ثانية ألفان وستمائة انفجار ذري في كل ثانية واحدة، هذا آية من آيات الله وموعظة عجيبة، لكن الناس ألفوا هذا وتعودوا عليه فلم يعد مهماً لديهم، بل لم يعد يسترعي انتباههم أصلاً، أما الأمر غير المألوف فهو الذي تتعلق به النفوس وترعب منه وترتاع له؛ ولهذا فإن الجرائم المتعلقة بالماديات أعظم لدى الناس كثيراً من الجرائم المتعلقة بالمعنويات.

الشرك بالله أعظم جريمة

ألا تعلمون أن الشرك بالله هو أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها الجنس البشري على هذه الأرض؟ بلى، لكن لو سمعتم رجلاً يقول في السوق ألفاظ الشرك أو يفعلها، أو يسب الله ورسوله أو القرآن لن تروا الناس يستعظمون جريمته، ولا يتألبون عليه، ولن تجد من يهتم للأمر، أو من يقول فيه بالحق؛ لأنه أمر معتاد لديهم، أما لو سرق الإنسان مائة أوقية فقط، وهي أتفه تافه، فإن كل أهل السوق سيمسكونه: سارق سارق، وهذا يضربه من هنا، وهذا يمسكه من هنا، هل سرقة مائة أوقية أعظم من الشرك بالله؟ لكن القضية هنا أن الناس لا يزنون ولا يكيلون إلا بمعيار المادة، فما كان ذا مقابل مادي اعتبروه جريمةً كبيرة، وما ليس كذلك كان أمراً اعتيادياً لديهم، يمر الإنسان من الشارع فيرى الاختلاط ويرى السفور، وكأنه ما رأى شيئاً، ولا وقعت عينه على شيء أصلاً؛ لأن هذا أصبح من المألوف لدى الناس، وهو إذا كان مؤمناً إذا رأى معصية الله تمعر لذلك وجهه، واقشعر جلده، وخشي أن يسقط عليه ما يقابله من السماء حين يرى معصية الله فيرضى بها.

إن الذين يتعودون على مشاهدة المناكر ستخف لديهم حتى يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولا يأتي هذا إلا بالتدريج والتقصير.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بعض مظاهر الإجرام التي حصلت في الأرض، وهي تبين تاريخ هذه الجريمة على هذه الأرض، فهذه الأرض كانت نقيةً طاهرة، يعبد عليها الله وحده، كان فيها الملائكة، فأراد الله لحكمته البالغة أن يمتحن هذا الجنس البشري، فيحله في هذه الأرض الطاهرة الطيبة التي فيها ما يحتاج إليه.. وكل ما يحتاجون إليه في شئون حياتهم، فامتحنهم الله سبحانه وتعالى بالتكاليف، فكان منهم المفسدون، الذين هم إلى النار صائرون، نسأل الله السلامة والعافية، فعندما بين الله للملائكة أنه سيعمر هذه الأرض بجنس البشر، قالوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، كانت جرائم بني آدم مستورةً في اللوح المحفوظ، فعندما أطلعهم الله على ما تئول إليه هذه البشرية في هذه الأرض رعبوا من هول هذه الجرائم، تصوروا أن هذه الجرائم هي بمثابة قنابل ذرية يفجرها الإنسان في هذه الأرض، فتتأثر بها كل الكائنات الحية، وتتأثر بها الحيتان في الماء، وتتأثر بها الطيور في السماء، وتتأثر بها ذرات الأكسجين، وتتأثر بها أرحام الأرض وما تنبته، ويتأثر بها كل أنواع النبات، والمكان الذي فجرت فيه بعد عدة قرون لا تزال الولادات فيه مشوهة، ولا تزال الأمراض فيه تنتشر.

أرأيتم القنبلة التي فجرها الأمريكان فوق مدينة (هيروشيما) اليابانية، هذه القنبلة ما زالت إلى الآن آثارها واضحةً حتى في الولادات ولادات مشوهة، وانتشار السرطان، انتشار الأمراض الخبيثة؛ بسبب قنبلة واحدة كانت من نوع بدائي في أول نشأة القنابل الذرية، فكيف بهذا الإجرام الذي هو معصية الله، وهو أعظم من هذه القنابل كلها وأخطر، إن جريمةً واحدةً على هذه الأرض تضج الأرض إلى الله منها وتشكو، والإنسان الذي يجرم في مكان قد حله من قبله ملك مقرب مثلاً كان يسجد لله في هذا المكان، وأنت تقف فيه يا عبد الله تخلف هذا الملك في المكان الذي كان يقف فيه، فإذا أتيت بجريمة تصور حال هذه الأرض وهي كانت تحس بسجود هذا الملك المقرب الذي لا يعصي الله تعالى في المكان، وترى خلافتك أنت لهذا الملك في هذا المكان.

أو حتى لو تصورنا ما هو أقرب من هذا، هذا المكان الذي يعصي فيه البشر كان فيه من قبلهم من الناس من الذين يطيعون الله تعالى ولا يعصونه، فتصور المكان الذي تزاول فيه المعصية كم قد مر به من الطاعات لله سبحانه وتعالى، وكم قد عمره من الصالحين، فهو يضج إلى الله تعالى من الاقتراف الذي تقترفه فيه، وما يقابله من السماء والهواء والملائكة المكلفون بحفظك وحفظ المكان، كل ذلك يشهد عليك بإجرامك الذي تعمر به البلد.

إن الله سبحانه وتعالى بين لنا أنه مكن لنا في آثار السالفين السابقين الذين سبقوا، وجعلنا خلفاء من بعدهم في هذه الأرض، فامتحننا بذلك؛ ليعلم ما نحن صانعون، وهو أعلم؛ فهو سبحانه وتعالى لا يتجدد له وجود علم، وإنما يمتحن الناس بذلك؛ ليشهد عليهم ويشهد عليهم ملائكته؛ حتى لا يمكن أحد منهم أن ينكر شيئاً مما فعل، فيأتي ومعه الشاهد والسائق والرقيب، يأتون معه ليشهدوا عليه بما اقترف؛ لأن فترة حياته محدودة؛ ولأن المكان الذي يعمره من هذه الأرض محدود إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] ، فعليه ألا يكون مسرفاً مجرماً فيعمر هذا المكان بما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وبما لا يرضي المكان نفسه، فالمكان يشهد عليه بكل ما فيه.

كذلك فإن هذا الإجرام مقتض لأن يبقى عمر الإنسان السيئ متجدداً إلى آماد طويلة، فالذي أسرف وأجرم وعمره ثلاثون سنة أو عشرون سنة من وقت إجرامه وعمره السيئ الذي فيه الإجرام مستمر؛ لأن الناس سيتبعونه في إجرامهم، فيكتب عليه من سيئاتهم، ويلحقه ذلك بعد موته آماداً طويلة؛ ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من أحد يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه )، ابن آدم الأول الذي سن القتل لأهل الأرض، فقتل أخاه ظلماً عدواناً، ما من قتيل يقتل على هذه الأرض إلا على ابن آدم الأول وزر منه.

وكذلك كل من اقترف جريمةً أذاعها بين الناس فتبعه الناس عليها، فإنه يكتب في ميزان سيئاته أوزار من تبعه على ذلك إلى يوم القيامة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).

وكذلك قال: ( من سن سنةً حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنةً سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ).

إن مظاهر الإجرام في هذه الأرض هي ارتكاب ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى من السيئات، وأعظمها الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ فهو الذنب الذي لا يغفر، ثم ما دونه من الذنوب وأعظمها كبائر الإثم والفواحش، ثم ما بعدها من الصغائر التي دونها، فهذه هي الجرائم، لكن الناس في عرفهم لا يطلقون الجرائم إلا على المستبشعات من الأمور التي لم يعد الناس يألفونها، فالأمور المألوفة لدى الناس -حتى لو كانت أكبر في ميزان الشرع- لا يعدونها جريمة، إنما يعدون جريمةً نكراء الأمر غير المألوف فيما بينهم؛ والسبب هو الاعتياد فقط، فالإنسان الذي يتعود على شيء يزول عنه ما كان يجده في نفسه من الكراهية له وعدم الاطمئنان به.

فأنتم الآن إذا سمعتم الرعد في السماء لم ترعبوا منه، لكن إذا سمعتموه في الأرض يصيبكم منه رعب شديد؛ والسبب أنكم قد ألفتم الرعد في السماء، ولم تألفوه في الأرض، لكن لا فرق بين الأمرين أصلاً، كل ذلك تخويف من الله سبحانه وتعالى.

إن كسوف الشمس والقمر موعظة عجيبة وآية من آيات الله وتخويف منه وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] ، لكن مع ذلك الشمس نفسها طلوعها آية من آيات الله، والانفجارات الذرية التي فيها وعلى سطحها منها في كل ثانية ألفان وستمائة انفجار ذري في كل ثانية واحدة، هذا آية من آيات الله وموعظة عجيبة، لكن الناس ألفوا هذا وتعودوا عليه فلم يعد مهماً لديهم، بل لم يعد يسترعي انتباههم أصلاً، أما الأمر غير المألوف فهو الذي تتعلق به النفوس وترعب منه وترتاع له؛ ولهذا فإن الجرائم المتعلقة بالماديات أعظم لدى الناس كثيراً من الجرائم المتعلقة بالمعنويات.

ألا تعلمون أن الشرك بالله هو أعظم جريمة يمكن أن يرتكبها الجنس البشري على هذه الأرض؟ بلى، لكن لو سمعتم رجلاً يقول في السوق ألفاظ الشرك أو يفعلها، أو يسب الله ورسوله أو القرآن لن تروا الناس يستعظمون جريمته، ولا يتألبون عليه، ولن تجد من يهتم للأمر، أو من يقول فيه بالحق؛ لأنه أمر معتاد لديهم، أما لو سرق الإنسان مائة أوقية فقط، وهي أتفه تافه، فإن كل أهل السوق سيمسكونه: سارق سارق، وهذا يضربه من هنا، وهذا يمسكه من هنا، هل سرقة مائة أوقية أعظم من الشرك بالله؟ لكن القضية هنا أن الناس لا يزنون ولا يكيلون إلا بمعيار المادة، فما كان ذا مقابل مادي اعتبروه جريمةً كبيرة، وما ليس كذلك كان أمراً اعتيادياً لديهم، يمر الإنسان من الشارع فيرى الاختلاط ويرى السفور، وكأنه ما رأى شيئاً، ولا وقعت عينه على شيء أصلاً؛ لأن هذا أصبح من المألوف لدى الناس، وهو إذا كان مؤمناً إذا رأى معصية الله تمعر لذلك وجهه، واقشعر جلده، وخشي أن يسقط عليه ما يقابله من السماء حين يرى معصية الله فيرضى بها.

إن الذين يتعودون على مشاهدة المناكر ستخف لديهم حتى يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ولا يأتي هذا إلا بالتدريج والتقصير.