تفسير سورة هود [50-83]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ [هود:50]. (( وإلى عاد أخاهم هوداً )) عطف على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا [هود:25] أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً. وأخاهم يعني: واحداً منهم، كما يقولون: يا أخا العرب! يريدون بذلك واحداً من العرب. وعاد هذه التي يذكرها الله سبحانه وتعالى هنا هي عاد الأولى، التي قال تعالى فيها: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى [النجم:50]، وقال فيها أيضاً: فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:8]؛ لأن عاداً عبارة عن شعبين، أو قبيلتين، أو أمتين: عاد الأولى، وعاد الآخرة أو عاد الثانية. أما الأولى: فهي التي أرسل إليها هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهم من نسل إرم بن سام بن نوح ، وقد سكنوا في جنوب الجزيرة العربية تقريباً في منطقة عمان وجنوب اليمن حتى صحراء الربع الخالي، وهي التي تسمى الأحقاف. أما عاد الثانية: فهم من نسل هود والمؤمنون الذين خرجوا معه من الأحقاف قبل هلاك قومهم، وسكنوا اليمن حتى غزاهم القحطانيون من العراق، وسيطروا على اليمن بعد أن أبادوا عاداً الثانية. فعاد الثانية أهلكت عن طريق القحطانيين لما غلبوهم وأبادوهم، ولذلك يقول تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى [النجم:50] ولم يقل: (فما أبقى) لأنه أبقى من نسلهم من كان منهم عاداً الثانية، لكن في ثمود قال: وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى [النجم:51] أي: وأهلك ثمود فما أبقى منهم أحداً بل استأصلهم. وعاد عند العرب رمز للقدم والأبدية، كما يقال: هذا الشيء قديم قدم عاد، فهي من العرب البائدة، هي أقدم قبائل العرب على الإطلاق. ويقال: هذا الشيء عادي، وليس ذلك نسبة إلى العادة ولكن نسبة إلى قوم عاد، والمعنى: أنه موغل في القدم. ويقال: العاديات ويعبر بها عن الآثار والأطلال، ولذلك تسمى المحلات التي تباع فيها التحف القديمة والنادرة العاديات. ومما يلاحظ أن لهجة أهل الصعيد تتميز عن لهجة أهل الوجه البحري بكلمة عاد، فأهل الصعيد حتى الآن يستعملون كلمة عاد بمعنى: أبداً، فلعل هذه الكلمة تميز بها أهل الصعيد؛ وذلك لأنه قدمت مع عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قبائل عربية من اليمن، وهذه القبائل استقرت في الصعيد لتشابه المناخ بين الصعيد وبين اليمن، وموطن عاد كان في حضرموت وفي جنوب اليمن، وهؤلاء تواترت عندهم كلمة عاد حتى جاءت إلى صعيد مصر، فلعل هذا هو سبب بقاء كلمة عاد في لغة أهل الصعيد، والله أعلم. (( قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ )) أي وحده (( مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ )). (( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ )) أي: باعتقاد الأوثان شركاء وجعلهم شفعاء.

قال تعالى: يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود:51]. لماذا خاطب كل رسول قومه بقوله: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً))؟ إزاحة للتهمة، وتمحيضاً للنصيحة، فإنها لا تنجع النصيحة ما دامت مشوبة بالمطامع والطموحات المادية، لذلك ينزه هود عليه السلام نفسه عن هذه التهمة، فيقول: ((يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون)) أي أفلا تفهمون وتعون إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجراً. أو (أفلا تعقلون): أي: أفلا تتدبرون الصواب من الخطأ.

قال تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]. (( ويا قوم استغفروا ربكم )) أي: من الوقوف مع الهوى بالشرك (( ثم توبوا إليه )) أي: من عبادة غيره بالتوجه إلى التوحيد. (( يرسل السماء عليكم مدراراً )) أي: كثير الدر، وقلنا: كثير الدر ولم نقل: كثيرة الدر مع أن السماء كلمة مؤنثة؛ لأن المقصود بالسماء المطر، فنظر إلى المعنى. و(( مدراراً )) منصوب على الحال من السماء، أو أن المراد بالسماء السحاب فذكر على المعنى، أو أنه مفعال للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو أن الهاء حذفت من مفعال، أو مفعال على طريق النسق. (( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ )) أي: قوة مضمومة إلى قوتكم، أو قوة مع قوتكم، وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة؛ لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، كانوا شديدي الحرص على كثرة النسل وكثرة الأموال وكثرة الأولاد، حتى يتقووا بذلك على إثراء أموالهم وترهيب أعدائهم، فقد كانوا مثلاً في القوة، كما قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، واغتروا بقوتهم. قوله: (( ولا تتولوا )) أي: لا تعرضوا عما أدعوكم إليه (( مجرمين )) أي: مصرين على إجرامكم وآثامكم. قد حصل في بعض الاكتشافات الحديثة عن طريق التصوير من الفضاء أن اكتشفوا آثار مدينة إرم ذات العماد، كما نشر في بعض الجرائد الأجنبية، ونشر أيضاً هنا في جريدة الأهرام يوم عشرة شهر أربعة عام اثنين وتسعين تسعمائة وألف. قالوا: أعلن العلماء مؤخراً اكتشاف آثار عاصمة ملك عاد المعروفة باسم إرم، التي ورد ذكرها في القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرناً: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ [الفجر:7]، جاء ذلك عقب دراسات وأبحاث علمية قام بها علماء الفضاء والجيولوجيا والآثار والتاريخ، وأشارت إليها بعض الصحف العالمية ومن بينها مجلة التايم في فبراير الماضي ومجلة لوس أنجلوس تايم، وفي أحدث تقرير علمي عن هذا الاكتشاف تلقاه الدكتور زغلول راغب النجار أستاذ علوم الأرض يبين معالم هذا الاكتشاف يقولون فيه: إنه في عام أربعة وثمانين وتسعمائة وألف زود مكوك الفضاء (تشيلنجر) بأجهزة استشعار عن بعد، تستخدم موجات من الأشعة غير المرئية أمكنها تصوير العديد من مجاري الأنهار القديمة والطرق المدفونة بالرمال بدقة بالغة في مساحات شاسعة .. إلى آخره. والتفصيل حول هذا التقرير قد نشر فيه بعض الصور، لكنها ليست واضحة لدرجة كافية، لكن على أي الأحوال نسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيد العباد يقيناً؛ لأن هذه المدينة مدفونة تماماً تحت الرمال، حيث عاقبها الله سبحانه وتعالى بعاصفة رملية غطت بلادهم تماماً رغم أنهم كانوا يقولون: (( من أشد منا قوة )). أما بالنسبة لمكان سفينة نوح فالتوراة تقول: إنها استقرت على جبل أرراك، أما القرآن فقد كان أكثر دقة حيث نص على أنها استقرت على جبل الجودي، وهو المكان الذي اكتشفت فيه بقاياها، والذي يبعد عشرين ميلاً عن جبل أرراك، الذي ذكر في التوراة، فهم يعترفون أن القرآن أكثر دقة من كتبهم.

قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود:53]. قوله تعالى: ((قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)) أي: ما جئتنا بحجة تدل على صحة دعواك. وذلك لقصور فهمهم وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان، وللغشاوات والأقفال التي على قلوبهم فلم يستطيعوا أن يفهموا هذه البينة، فأحياناً يكون العيب في عقل المستمع وليس في حجة المتكلم، وهذا حال منكري رسالات الأنبياء. (( وما نحن بتاركي آلهتنا )) أي: بتاركي عبادة آلهتنا. (( عن قولك )) هذا حال من ضمير تاركي أي: وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك. أو (( عن )) للتعليل كما في قوله: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة:114] أي: لأجلها. والقول بأنها حال أبلغ؛ لدلالته على كونه علة الفاعلية، وهذا كقولهم في الأعراف: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [الأعراف:70] انظر إلى الخبل الذي في عقولهم! ((وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)) أي: مصدقين، والمقصود إقناط الرسل من إجابتهم.

قال عز وجل: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]. (( إن نقول إلا اعتراك )) أي: مسّك، (( بعض آلهتنا بسوء )) أي: بجنون؛ لسبك إياها، وصدك عنها، وعداوتك لها، مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين. انظر وقارن بين خطاب هود عليه السلام وبين كلامهم هم، من الذي يفتقر إلى البينة؟ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [هود:53] أي: ايئس منا، ولا يكن عندك أي أمل في أن نستجيب لك. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]. يقول الزمخشري : دلت أجوبتهم المتقدمة على أنهم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت، ولا يلتفتون إلى النصح، ولا تلين شكيمتهم للرشد، وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. زعموا واعتقدوا أن الحجارة تنتصر وتنتقم وتقوى على أن تصيب هوداً عليه السلام بالجنون كما زعموا. قال الزمخشري : من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشاً إلى إراقة دمه، يرمونه عن قوس واحدة. وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم، ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: (( ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71]. هو يتحداهم أن يجمعوا كل من يستطيعون وشركاءهم، سواء الذين يعبدونهم من دون الله أو الذين يعبدونهم معه. ((ثم اقضوا إلي ولا تنظرون)) أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثق هذه البراءة بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله، وشهادة العباد أي: حيث قال: (( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا )): أنتم أيضاً: (( أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )) *(( مِنْ دُونِهِ )). قال الرجل: الله شهيد على أني لا أفعل كذا ويقول لقومه: كونوا شهداء على أني لا أفعله. ولما جاهر بالبراءة مما يعبدون، أمرهم بالاحتشاد والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، دون إمهال فقال: (( فَكِيدُونِي جَمِيعًا )) أي: أنتم وآلهتكم. ((ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)) أي: إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم لها تأثير في الضر فكونوا معها فيه، وباشروه أعجل ما تفعلون دون إمهال. قال أبو السعود : فالفاء في قوله: (( فكيدوني جميعاً )) لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم: يعني إن كانوا قادرين فكيدوني جميعاً، وعلى البراءة من كليهما، وهذا من أعظم المعجزات، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلاً فرداً بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد، وكانوا معروفين بأن أجسامهم كانت ضخمة جداً، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقَّرهم وآلهتهم، وهيجهم على مباشرة المضادة والمضارة، وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة، فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهوراً بيناً، كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع، حيث قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56]. (( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ )) أي: فلا تستطيعون أن تصلوا إلي بسوء؛ لتوكلي على الله. (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )) أي: مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء. قال القاشاني : بيّن وجوب التوكل على الله وكونه حصناً حصيناً، أولاً: لأن ربوبيته شاملة لكل أحد: (( فإني توكلت على الله ربي وربكم ))، أي: من يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، ويقوم بأفعال الربوبية من التربية والتنمية والرعاية هو الله. إذا قلنا: الأم تربي ولدها، فيلزم من ذلك أنها تحفظه وترعاه وتحميه من كل سوء، فكذلك شأن الرب بل هو أولى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى [النحل:60]، فمن يربي ويدبر أمر المربوب ويحفظه، فلا حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه، فهو يقول: إذا كان هو ربي فهو الذي يحفظني وحده، ولذلك أتوكل عليه وحده. (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ))، فكل ذي نفس تحت قهر الله عز وجل وسلطانه، أسير تحت تصرفه ومملكته وقدرته، عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره، لا حراك به بنفسه كالميت، فلا حاجة إلى الاحتراز منه. والناصية هي منبت الشعر من مقدم الرأس، وقد تطلق على الشعر نفسه. تسمية للحال باسم المحل، يقال: نصوت الرجل يعني: أخذت بناصيته، ويقال: ناصيته بيده أي: هو منقاد لها، والأخذ بالناصية عبارة عن القدرة والتسلط. (( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )): تعليل لما يدل عليه التوكل، من عدم قدرتهم على إضراره، أي: هو على طريق الحق والعدل في ملكه، فلا يسلطكم علي إذ لا يضيع عنده معتصم به ولا يفوته ظالم؛ لأنه تعالى مطلع على أمور العباد، مجاز لهم بالثواب والعقاب، كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهذا كقوه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]. والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه في قوله: (( إن ربي على صراط مستقيم )) ولم يقل في هذه المرة: إن ربي وربكم كما قال أولاً: (( إني توكلت على الله ربي وربكم )) هذا الاقتصار إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد؛ لأنه واضح من السياق أنه يقصد ربي وربكم، أو للإشارة إلى أن اللطف والإعانة مخصوصة به دون هؤلاء القوم.

قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود:57]. (( فإن تولوا )) أي: إن تتولوا، بحذف إحدى التاءين. (( فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم )) أي: قد قامت الحجة عليكم. ((وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ)): هذا استئناف بالوعيد لهم، بأن يهلكهم الله سبحانه وتعالى ويأتي بقوم آخرين يخلفونهم في ديارهم وأموالهم. ((وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا)) أي: لن تضروا الله سبحانه وتعالى بهذا التولي والإعراض عن دعوته شيئاً؛ لاستحالته عليه، بل تضرون أنفسكم، أو بذهابكم وهلاككم لا ينقص من ملكه شيء. ((إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)) أي: رقيب مهيمن عليه، فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها. أو (( إن ربي على كل شيء حفيظ )) أي: حافظ حاكم مستول على كل شيء، فلا يمكن أن يضره شيء.

قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [هود:58]. (( ولما جاء أمرنا )) أي: عذابنا أو أمرنا بالعذاب، وهو الريح العقيم (( نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ )). وقد بين الله صفة إهلاكهم في غير ما آية منها قوله تعالى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:6-8]. فإن قلت: ما معنى تكرار لفظ النجاة هنا في قوله تعالى: (( ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ ))؟ فالجواب: أن الأول هذا إخبار بأن نجاتهم برحمة الله وفضله، والثاني بيان لما نجوا منه وأنه أمر شديد عظيم غير سهل. إذاً فلا تكرار، فهو للامتنان عليهم وتحريض لهم على الإيمان. (( ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا )) أي: من عذاب الدنيا. (( ونجيناهم من عذاب غليظ )) أي: من عذاب الآخرة، تعريضاً بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ، ويرجح الأول لملائمته لمقتضى المقام.

قال تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود:59]: تأنيث اسم الإشارة باعتبار القبيلة (( تلك عاد )) أي: تلك قبيلة عاد، وصيغة البعد للتحقير، أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم. أما إذا كانت الإشارة لمصارعهم، أي: تلك مصارع عاد فهي للبعيد المحسوس، لبعد الأماكن التي أهلكوا فيها، وديارهم باقية إلى الآن. قوله: (( جحدوا بآيات ربهم )) فالجحود هنا تعدى بالباء حملاً له على الكفر؛ لأنه المراد، أو بتضمينه معناه، فضمن (جحد) معنى (كفر) فلذلك عديت بالباء. كما أن (كفر) تجري مجرى (دحض) فتتعدى بنفسها، كما في الآية الآتية: (( ألا إن عاداً كفروا ربهم )). قال تعالى: (( جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ )) أي: كفروا بالله وأنكروا آياته التي في الأنفس والآفاق الدالة على وحدانيته. وجمع الرسل في قوله: (( وعصوا رسله )) مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ تفظيعاً لحالهم، وإظهاراً لشدة كفرهم وعنادهم، ولبيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين؛ لاتفاق كلمتهم على التوحيد، كما قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]؛ ولأن الكفر برسول واحد يعني الكفر بجميع المرسلين قال عز وجل: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123] وفي آية أخرى، كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]، مع أن المرسل إليهم رسول واحد؛ والإيمان بجميع الرسل شرط في صحة الإيمان، وقد ذكرنا مراراً أن حقائق الإيمان مرتبطة ومتلازمة بحيث لا ينفك بعضها عن بعض، فإذا اختل واحد منها اختل الإيمان كله، فمثلاً لو أن واحداً آمن بجميع الأنبياء ثم استثنى نبياً واحداً وكفر به، فهذا يهدم إيمانه بجميع الأنبياء، فيصدق عليه أنه كفر بجميع الرسل وجميع الأنبياء، فكذلك هنا قوله تعالى: (( جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله )). (( واتبعوا )) أي: أطاعوا في الشرك (( أمر كل جبار عنيد )) لا يستدل بدليل ولا يقبله من غيره، يريد بذلك رؤساءهم وكبراءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.

قال تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود:60]. (( وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة )) أي: جعلت اللعنة تابعة لهم ولازمة لهم في الدارين. قال أبو السعود : والتعبير عن ذلك بالتبعية للمبالغة، ولم يقل: وجعلت عليهم اللعنة وإنما قال: (( وأتبعوا )) يعني: أنها لازمة لهم لصيقة بهم، أينما ذهبوا، فهي لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب، بل تدور معهم حيثما داروا، وذلك بسبب اتباعهم رؤساءهم جزاءً وفاقاً. وهذه إشارة إلى قاعدة: الجزاء من جنس العمل، لأنهم كما في الآية السابقة: (( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ))، فلما اتبعوا رؤساءهم في الكفر كان جزاؤهم: (( وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ ))، أي: هذا جزاء متابعتهم رؤساءهم في الكفر والعناد والتجبر، فعوقبوا من نفس الجنس بأن أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة. (( أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ )) أي: إذ عبدوا غيره، وسبق أن أشرنا إلى أن كفروا هنا تعدت بنفسها بدون حرف الباء. (( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ )) دعا عليهم بالهلاك أو باللعنة، وفيه من الإشعار بالسخط عليهم والمقت ما لا يخفى فظاعته. وتكرار حرف التنبيه (ألا) للمبالغة في تهويل حالهم والحث على الاعتبار بنبئهم. وقوله: ((ألا بعداً لعاد قوم هود)) هذا عطف بيان لعاد (( ألا إن عاداً كفروا ربهم ألا بعداً لعاد قوم هود )) الفائدة المزيدة هنا هي النسبة بذكر هود عليه السلام، وفيها إشارة إلى أنهم ما استحقوا هذه الهلكة إلا بإعراضهم عن دعوة نبيهم هود عليه السلام، ولذلك قال: (( ألا بعداً لعاد قوم هود )) كأنه قيل: عاد قوم هود الذي كذبوه عليه السلام. وهنا تناسب أيضاً بين أواخر الآيات؛ لأنه قال قبلها: (( وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ))، وقبل ذلك: (( حَفِيظٌ ))، و(( غَلِيظٍ ))، وغير ذلك مما هو على وزن فعيل المناسب لفعول في القواسم، وهنا ختمت الآية بقوله: (( أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ )).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع