خطب ومحاضرات
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [4]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعاً:
اعتقادية:
وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد، الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية.
ومنها اللفظية:
وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق ولم يعتقد، حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين.
وبدنية:
كالقيام، والركوع، والسجود في الصلاة، ومنها: الصوم، وأفعال الحج، والطواف.
ومالية:
كإخراج جزء من المال، امتثالاً لما أمر الله تعالى به.
وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال، والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها ].
هذا فصل في أنواع العبادات، قوله:
قوله: (إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعاً) أي: أن العبادة التي يتعبد بها المسلم أنواع: منها اعتقادية يعتقدها بقلبه، ومنها: لفظية ينطق بها بلسانه، ومنها: عملية يعملها بجوارحه.
العبادة الاعتقادية
العبادة اللفظية
قوله: (وكان كإبليس) فيه نظر؛ لأن إبليس مقر بلسانه، لكن كفره بالإباء والاستكبار، فقد قابل إبليس أمر الله بالإباء والرفض، فاعترض على الله حين أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34] فرفض وقال: ليس من الممكن أن أسجد له، فأنا عنصري مخلوق من نار، وعنصره مخلوق من طين، والنار أحسن من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول! وهذا اعتراض على الله، ولذلك كان أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس، ولا يوجد قياس مع النص، فإذا جاءك النص فسمعاً وطاعة، ولا تقس كإبليس، الذي جعل الله جزاؤه أن طرده من رحمته، وجعله شيطاناً رجيماً.
أنواع الكفر
وكفر أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كفر استكبار، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فحمله تعظيمه لآبائه وأجداده أن يشهد عليه بالكفر، وهؤلاء كلهم حملهم الإباء والاستكبار ما يشهد عليهم بالكفر.
إذاً: كفر إبليس ليس كما قال المؤلف: (أن من اعتقد ما ذكر، ولم ينطق لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس) حيث أن كفر إبليس لم يكن بعدم النطق، بل إن كفره كان بالإباء والاستكبار، وعليه من أبى النطق وأنكر هذا يكون كافراً؛ لأن كفره عندئذ كفر جحود.
إذاً: قد يكون الكفر بالإباء والاستكبار، كمن نطق بالشهادتين، وهو يعرف هذا فرفض الذكر، أو رفض عن الانقياد والاتباع، ومن هذا الباب من أبى النطق بالشهادتين، فيكون كافراً؛ لأنه امتنع عن نطقه بالشهادتين.
والخلاصة: أن العبادات أنواع، منها: اعتقادية، ومنها: لفظية، وهي: النطق بكلمة التوحيد، فمن امتنع عن النطق بكلمة التوحيد مع القدرة على ذلك فإنه لا يكون مؤمناً؛ لأن الكفر يكون بالجحود، ويكون بالإباء والاستكبار، وإن كان مصدقاً فيكون بالشك، ويكون بالإعراض، فهذه أنواع الكفر، فكفر إبليس بالإباء والاستكبار، وكذلك كفر فرعون، وكفر اليهود كذلك بالإباء والاستكبار والرفض، فقد رفضوا أمر الله وأمر رسول الله، ولم ينقادوا لشرع الله ودينه، وكان كفرهم بالرفض والإباء والاستكبار، ولهذا قوله:
(من اعتقد ما ذكر، ولم ينطق لم يحقن دمه وماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به) كما أسلفنا عنه، لكنه أبى واستكبر، ولهذا قال: (إلا أنه لم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق بها ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين) وهذا يسمى كفر النفاق: هو وكفر النفاق: أصل كفر الإباء والاستكبار، وكفر الإباء والاستكبار: أن يتكلم وينطق، لكن يمتنع من العمل ويرفض، وكفر النفاق: أن يعمل، لكنه مكذب في الباطن، وذلك مثل المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: يصلون ويحجون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم كفار؛ لأنهم لم يصدقوا بقلوبهم.
إذاً: الكفر أنواع: كفر جحود وكفر وإباء واستكبار، وكفر نفاق، وكفر شك، وكفر إعراض، فالذي يشك في الله، أو في كتابه، أو في رسوله، أو في دينه، أو في الجنة، أو في النار، أو في الرسل، أو في الأنبياء، يكون كفره بالشك، وكذلك من يعرض عن دين الله، فلا يتعلمه ولا يعمل به، فكفره يكون كفراً بالإعراض، ومن أبى واستكبر ولو كان مقراً مصدقاً يكون كفره بالإباء والاستكبار، ومن جحد يكون كفره بالجحود، ومن عمل ولكنه مكذب في الباطن، فكفره يكون النفاق.
العبادات البدنية
وقوله: (وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال، والأبدان، والأفعال، والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها) وضابطها ما سبق، أي: أن ضابط العبادات: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فيشمل كل ما جاء به الشرع، وكل ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، وما يفعل المسلم من الأوامر، وما يترك من النواهي، سواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وسواء كان النهي نهي تحريم، أو نهي تنزيه، وهذا يشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات والأعمال والنيات، وكلها داخلة في ذلك.
قوله: (اعتقادية: وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد، الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الألوهية) أي: أن يعتقد المسلم بأن الله هو الرب، الخالق، الرازق، المدبر، فيوحده في ربوبيته، ويعتقد بأنه هو المعبود بحق، وأنه لا شريك له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه لا معبود بحق غيره، وأن يوحده بأفعاله هو، وغير ذلك مما يجب من لوازم الألوهية، وهذا اعتقاد لا بد منه، ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم، ومن اعتقد أن أحداً يستحق العبادة غيره، فإنه يكون مشركاً، ولو صلى وصام وزكى، فلا بد أن يعتقد بأنه يجب إفراد الله بالعبادة في جميع أنواعها.
ومنها اللفظية: وهي التي يتلفظ بها بلسانه، وأعلاها: النطق بكلمة التوحيد، أي: يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فمن اعتقد ما ذكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، فإذا قال شخص: أنه يعتقد بأن الله هو الرب، الخالق، الرازق، المدبر، ويعتقد بأن الله هو المستحق للعبادة، لكن رفض أن ينطق بكلمة التوحيد، فلا يكون مسلماً، بل لابد أن يعتقد بها وينطق بالشهادتين، فإذا امتنع وكان قادراً على النطق بالشهادتين فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، لأن أصل التوحيد وأساس الملة: أن يشهد الإنسان لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فمن رفض أن يشهد لله بالوحدانية وللنبي بالرسالة، وهو يعتقد بها مع قدرته فإنه يقتل، ولا ينفعه اعتقاده في الباطن بأن الله مستحق للعبادة، إذ لو كان معتقداً أن الله مستحق للعبادة لنطق بالشهادتين، لأنه لا يمنعه شيء ما دام أنه قادر، ولذلك يقول المؤلف: من امتنع كان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر.
قوله: (وكان كإبليس) فيه نظر؛ لأن إبليس مقر بلسانه، لكن كفره بالإباء والاستكبار، فقد قابل إبليس أمر الله بالإباء والرفض، فاعترض على الله حين أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34] فرفض وقال: ليس من الممكن أن أسجد له، فأنا عنصري مخلوق من نار، وعنصره مخلوق من طين، والنار أحسن من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول! وهذا اعتراض على الله، ولذلك كان أول من قاس قياساً فاسداً هو إبليس، ولا يوجد قياس مع النص، فإذا جاءك النص فسمعاً وطاعة، ولا تقس كإبليس، الذي جعل الله جزاؤه أن طرده من رحمته، وجعله شيطاناً رجيماً.
الكفر أنواع: كفر جحود، والجاحد كافر، وكفر بالرفض والإباء والاستكبار، مثل: كفر إبليس وفرعون واليهود، مع إقرارهم، قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146].
وكفر أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم كفر استكبار، وهو القائل:
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار سبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
فحمله تعظيمه لآبائه وأجداده أن يشهد عليه بالكفر، وهؤلاء كلهم حملهم الإباء والاستكبار ما يشهد عليهم بالكفر.
إذاً: كفر إبليس ليس كما قال المؤلف: (أن من اعتقد ما ذكر، ولم ينطق لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس) حيث أن كفر إبليس لم يكن بعدم النطق، بل إن كفره كان بالإباء والاستكبار، وعليه من أبى النطق وأنكر هذا يكون كافراً؛ لأن كفره عندئذ كفر جحود.
إذاً: قد يكون الكفر بالإباء والاستكبار، كمن نطق بالشهادتين، وهو يعرف هذا فرفض الذكر، أو رفض عن الانقياد والاتباع، ومن هذا الباب من أبى النطق بالشهادتين، فيكون كافراً؛ لأنه امتنع عن نطقه بالشهادتين.
والخلاصة: أن العبادات أنواع، منها: اعتقادية، ومنها: لفظية، وهي: النطق بكلمة التوحيد، فمن امتنع عن النطق بكلمة التوحيد مع القدرة على ذلك فإنه لا يكون مؤمناً؛ لأن الكفر يكون بالجحود، ويكون بالإباء والاستكبار، وإن كان مصدقاً فيكون بالشك، ويكون بالإعراض، فهذه أنواع الكفر، فكفر إبليس بالإباء والاستكبار، وكذلك كفر فرعون، وكفر اليهود كذلك بالإباء والاستكبار والرفض، فقد رفضوا أمر الله وأمر رسول الله، ولم ينقادوا لشرع الله ودينه، وكان كفرهم بالرفض والإباء والاستكبار، ولهذا قوله:
(من اعتقد ما ذكر، ولم ينطق لم يحقن دمه وماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقر به) كما أسلفنا عنه، لكنه أبى واستكبر، ولهذا قال: (إلا أنه لم يمتثل أمر الله بالسجود فكفر، ومن نطق بها ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين) وهذا يسمى كفر النفاق: هو وكفر النفاق: أصل كفر الإباء والاستكبار، وكفر الإباء والاستكبار: أن يتكلم وينطق، لكن يمتنع من العمل ويرفض، وكفر النفاق: أن يعمل، لكنه مكذب في الباطن، وذلك مثل المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: يصلون ويحجون ويجاهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم كفار؛ لأنهم لم يصدقوا بقلوبهم.
إذاً: الكفر أنواع: كفر جحود وكفر وإباء واستكبار، وكفر نفاق، وكفر شك، وكفر إعراض، فالذي يشك في الله، أو في كتابه، أو في رسوله، أو في دينه، أو في الجنة، أو في النار، أو في الرسل، أو في الأنبياء، يكون كفره بالشك، وكذلك من يعرض عن دين الله، فلا يتعلمه ولا يعمل به، فكفره يكون كفراً بالإعراض، ومن أبى واستكبر ولو كان مقراً مصدقاً يكون كفره بالإباء والاستكبار، ومن جحد يكون كفره بالجحود، ومن عمل ولكنه مكذب في الباطن، فكفره يكون النفاق.
من العبادات ما هي عبادة لفظية، مثل: قراءة القرآن، والذكر، والتسبيح ، والتهليل، والتكبير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل هذه عبادات لفظية، ومنها: عبادة قولية، كما أن هناك عبادات عملية أو بدنية: كالقيام، والركوع، والسجود، والصلاة، والصوم، وأفعال الحج، والطواف، كل هذه عبادات بدنية، ومنها: عبادات مالية: كإخراج جزء من المال امتثالاً لأمر الله تعالى، مثل: الصدقات، والزكوات، والتبرعات للمشاريع الخيرية، كل هذه عبادات مالية.
وقوله: (وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال، والأبدان، والأفعال، والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها) وضابطها ما سبق، أي: أن ضابط العبادات: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فيشمل كل ما جاء به الشرع، وكل ما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي، وما يفعل المسلم من الأوامر، وما يترك من النواهي، سواء كان أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وسواء كان النهي نهي تحريم، أو نهي تنزيه، وهذا يشمل الأقوال والأفعال والاعتقادات والأعمال والنيات، وكلها داخلة في ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم: أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه؛ ولذا قالوا: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [الأعراف:70]. أي: لنفرده بالعبادة، ونخصه بها من دون آلهتنا؟ فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد، وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله تعالى غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أندادا، كما قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أي: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وكان يسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم: لا شريك لك. فيقول: (قدْ قدْ، أي: أفردوه جل جلاله، لو تركوا قولهم: إلا شريكاً هو لك) فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به، كما قال تعالى: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22].
قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195] فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب وبالنذور والنحر لهم، إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه.
فأرسل الله تعالى الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرين -كما عرفت في الأصل الرابع- بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده ].
خلاصة هذا الكلام: أن الرسل بعثهم الله تعالى لدعوة الناس إلى توحيد العبادة، وإفراد الله بالعبادة، وإخلاص العبادة له عز وجل.
وأما توحيد الربوبية، وإن كان توحيداً مطلوباً وتوحيداً صحيحاً -وهو أحد أنواع التوحيد- إلا أنه أمر فطري أقر به المشركون ولم ينكروه، بل ولم يخالفوا فيه؛ فلهذا بعث الله الرسل بتوحيد العبادة، وإخلاص العبادة له عز وجل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].
وقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وهذا هو الأمر الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وسيلتان إلى توحيد العبادة، فإذا عرف المسلم ربه بأسمائه وصفاته وأفعاله، فعليه أن يعبد هذا الرب الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
والمؤلف رحمه الله يبدأ ويعيد، ويكرر هذا من أول الرسالة إلى آخرها، ويبين أن الرسل بعثوا لأمر الناس بإفراد الله بالعبادة ونهيهم عن الشرك، وأن توحيد الربوبية أمر فطري أقر به المشركون؛ ولهذا فإن الرسل ما دعتهم إليه، لأنهم يقرون به، ولأنهم موحدون لله في الربوبية، ولكن الرسل إنما بعثهم الله بتوحيد العبادة، وإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك، فهذا خلاصة هذه الرسالة من أولها إلى آخرها، وهذا خلاصة كلام المؤلف؛ ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: (وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم: أن الله تعالى بعث الأنبياء عليم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة) أي: يدعون الناس إلى أن يفردوا الله بالعبادة، والعبادة كما سبق هي: الأوامر والنواهي التي جاءت بها الشريعة، فالأوامر يفعلها المسلم امتثالاً لأمره، والنواهي يتركها، وبهذا دعت الرسل الناس إلى أن يفردوا الله بالعبادة ويخصوه بها، فالرسل من أولهم -وهو نوح عليه الصلاة والسلام- إلى آخرهم -وهو نبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم- يدعون الناس إلى العبادة وإفراد الله تعالى بالعبادة.
قوله: (لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه) لأنهم مقرون بذلك، فهم لم يدعوهم إلى إثبات أن الله خلقهم، لأنهم معترفون بهذا، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87].
وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت:61]، ولهذا قوله: (لا) يعني: لم يبعثوا إلى إثبات أن الله خلقهم، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، وقد ذكر المؤلف: أنه قرر هذا وكرره.
وقوله: (لذا قالوا) أي: أن الأمم قالوا لرسلهم: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [الأعراف:70] وهذا كما أخبر الله عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [الأعراف:70] أي: لنفرده بالعبادة فقط، فقوم نوح وغيرهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره، ونوح عليه الصلاة والسلام أمرهم بأن يفردوا الله بالعبادة، فقال: لا تعبدوا إلا الله، وهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدون معه غيره، فيشركون بالله؛ ولهذا أنكروا عليه أمرهم بإفراد الله بالعبادة.
وقوله: (فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله) أي: هذا هو الذي اعترضوا عليه، وإلا فهم يعبدون الله، لكنهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدوا معه غيره، ولذلك أنكرت الرسل عليهم عبادة غير الله معه، ولم ينكروا عليهم توحيد الربوبية؛ لأنهم مقرون به، ولم ينكروا عليهم عبادة الله؛ لأنهم يعبدون الله، لكن أنكروا عليهم الإشراك في توحيد العبادة.
ولهذا قوله: (ولم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى).
أي: ما أنكروا وجود الله، بل هم معترفون بوجود الله، ولم يقولوا: إنه لا يعبد، بل هم يعبدون الله، وأقروا بأنه يعبد، ولكنهم أنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أنداداً، يعتقدون أنهم الأمثال والنظراء، وجعلوهم معبودين، وسووهم بالله في المحبة والتعظيم والإجلال، سواء من الأصنام والأوثان والأشجار والأحجار والأنبياء والصالحين وغيرهم، كما قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] أي: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وقد كان المشركون يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فعندما يقول المسلم: لبيك لا شريك لك. هذا توحيد، ولكن قولهم: إلا شريكاً. هذا نقض للتوحيد، حيث أنهم أثبتوا لله شريكاً، وهذا من جهلهم حين أثبتوا لله شريكاً يملك؛ فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وجعل يعلمهم تلبية التوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأبطل قولهم: إلا شريكاً هو لك؛ لأن هذا هو الشرك، وكان يسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه جل جلاله، لو تركوا قولهم: إلا شريكاً هو لك، وهذا الحديث أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه، وفيه: (كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلكم قد قد) حيث أنهم يقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت، وهذا من جهلهم، حيث أنهم يعبدون الله بزعمهم وهم يشركون.
وقوله: (فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به) أي: أنهم حينما أشركوا بالله في نفس الشرك إقرار بالله، فأقروا بالله ووجود الله، ووحدوا الله في الربوبية، لكن أثبتوا معه غيره، فكونهم يقرون به ويشركون معه غيره فهم يعبدونه ويعبدون معه غيره، وهذا دليل على أنهم أقروا بتوحيد الربوبية، وأقروا بوجود الله، فنفس شركهم إقرار بوجود الله، وإقرار بالربوبية، واستشهد بقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22] أي: مع الله، إذاً: أثبتوا وجود الله.
وقوله تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وقوله تعالى: ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195] [القصص:64] كل هذا في إثبات العبادة لله تعالى مع إشراك غيره معه.
ففي نفس الشرك أقروا بالله، فأقروا بالله ووجود الله، ووحدوا الله في الربوبية، لكن أشركوا معه، فكونهم يقرون به ويشركون معه غيره، دليل على أنهم أقروا بتوحيد الربوبية، وأقروا بوجود الله، فنفس شركهم إقرار بوجود الله، واستشهد المؤلف بقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22] يعني: مع الله! إذاً: أثبتوا وجود الله، فقوله: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [القصص:64]، وقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ [الأعراف:195] هذا كله فيه إثبات لوجود الله، ولهذا قال المؤلف: [ فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد] يعني: أن المشركين لم يعبدوا الأنداد، إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى.
وقوله: [بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم]. أي: بالخضوع، والذل، والمحبة، والدعاء، والركوع، والسجود، وغيرها، ولماذا عبدوا الأنداد؟! قال: [لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى، وتشفع لهم لديه] كما سبق أن الله سبحانه وتعالى أخبر عن ذلك بقوله: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
وقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأرسل الله الرسل تأمرهم بترك عبادة كل ما سواه، وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة] توحيد العبادة هو: إفراد الله بالعبادة.
قال: [وقد كانوا مقرين -كما عرفت في الأصل الرابع- بتوحيد الربوبية، وهو: أن الله هو الخالق وحده، والرازق وحده.
ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم -وهو نوح عليه السلام- إلى آخرهم -وهو محمد صلى الله عليه وسلم- هو توحيد العبادة. ولذا تقول لهم الرسل: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2] . اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
وقد كان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد، ومنهم من يعبد أحجاراً ويهتف بها عند الشدائد ] وهي في الأصل صور رجال صالحين، كانوا يحبونهم ويعتقدون فيهم، فلما هلكوا صوروا صورهم تسلياً بهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم، ثم زاد الأمد طولاً فعبدوا الأحجار، ومنهم أيضاً من يعبد المسيح، ومنهم من يعبد الكواكب ويهتف بها عند الشدائد.
قال: [ فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، أي: بربوبية السماوات والأرض، وأن يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة: (لا إله إلا الله) معتقدين لمعناها، عاملين بمقتضاها، وألا يدعوا مع الله أحداً].
قوله: (ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم وهو نوح عليه الصلاة والسلام) نوح هو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، وبعثه الله إلى بنيه وغير بنيه، وما كان قبله إلا أنبياء، أولهم آدم الذي كان نبياً إلى بنيه، ولم يقع الشرك في زمانه، وإنما وقعت المعصية، وهي قتل قابيل أخاه هابيل ، ومضت عشرة قرون وكلهم على التوحيد، كما قال الله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس:19] قال ابن عباس : (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التوحيد، ثم اختلفوا فوقع الشرك، فبعث الله نوحاً). وقبله كان شيث، وكذلك آدم، إلا أنهم لم يرسلوا إلى قوم شرك، فآدم أرسل إلى بنيه، وأما نوح فأرسل إلى بنيه وغير بنيه، وأرسل بعد وقوع الشرك، ولهذا كان نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد وقوع الشرك، وآخرهم نبينا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام، وكلهم دعوتهم واحدة؛ فهم يدعون الناس إلى توحيد الله، وإفراد الله بالعبادة، وينهونهم عن الشرك. ولهذا كانت تقول لهم الرسل: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2] . اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
وقد كان المشركون يعبدون عبادات متنوعة كما قال المؤلف رحمه الله: (منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد، ومنهم من يعبد أحجاراً يهتف بها عند الشدائد) وكان منهم أيضاً من يعبد الصالحين، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأشجار، ومنهم من يعبد النجوم والكواكب.
قوله: (فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية) يعني: كما وحدوا الله في الربوبية فعليهم أن يوحدوا الله في الألوهية.
وقوله: (بربوبيته السماوات والأرض، وأن يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة: (لا إله إلا الله) معنى ومؤدى كلمة (لا إله إلا الله) هو التوحيد، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله.
وقوله: (معتقدين لمعناها) أي: إثبات العبادة لله، ونفي العبادة عن غير الله.
وقول المؤلف رحمه الله: (عاملين بمقتضاها) مقتضاها: أداء الواجبات وترك المحرمات، وألا يدعو مع الله أحداً.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [2] | 2281 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [3] | 2004 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [7] | 1714 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [9] | 1444 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [8] | 1426 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [5] | 1228 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [6] | 916 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [1] | 648 استماع |