خطب ومحاضرات
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [8]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن قلت: هذا أمر عم البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبق الأرض شرقاً وغرباً، ويمناً وشاماً، وجنوباً وعدناً، بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها، وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويلبسونها الثياب، ويصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلل والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلوا عن قبر أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة، يصنعون فيه ما ذكر، أو بعض ما ذكر، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.
قلت: إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت أن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل قريته وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولة أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويعظمونه، ويرحلون به إلى محل قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفاً على قبره، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير.
بل ترى ممن يتسم بالعلم، ويدعي الفضل، وينتصب للقضاء أو الفتيا أو التدريس أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة، معظماً لما يعظمونه، مكرماً لما يكرمونه، قابضاً للنذور، آكلاً ما ينحر على القبور، فيظن العامة أن هذا دين الإسلام، وأنه رأس الدين والسنام، ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر: أن سكوت العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر].
لا يزال المؤلف رحمه الله يذكر سلسلة من الشبهات والأسئلة التي يوردها بعض عباد القبور؛ ليلبسوا بها على الناس، ثم يجيب عنها.
يقول المؤلف رحمه الله: فإن قلت: هذا أمر عم البلاد، يعني: وجود القبور والمشاهد، ومن يطوفون حولها وينذرون لها ويذبحون عندها ويعظمونها، واجتمع عليه سكان الأغوار والأنجاد. يعني: اجتمع عليه سكان المرتفعات والمنخفضات، فالأغوار جمع غور، وهو: المنخفض من الأرض، والأنجاد جمع نجد، وهو: ما ارتفع من الأرض، يعني: اجتمع عليه الناس كلهم في البوادي وفي الأودية، وفوق الجبال، واستمروا على هذا الأمر، واجتمعوا عليه، ولهذا قال: طبق الأرض شرقاً وغرباً، ويمناً وشاماً وجنوباً وعدناً.
أي: كل هذه المواطن موجودة فيها القبور في الشرق والغرب واليمين والشمال والجنوب والعدن، بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها، ومعنى: ينذر لها النذور، أي: يقولون لصاحب القبر: إن شفى الله مريضي فلك علي كذا وكذا، أي: لصاحب القبر، وقد يكون النذر من الذبائح أو الحبوب أو الثمار أو النقود، وكذلك يدعونها ويهتفون باسمها، ولهذا قال المؤلف: لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور ويسرجونها. ومعنى يسرجونها: يضعون عليها السرج والأنوار، وهذا من وسائل الشرك -أي: وضع القباب على القبور، وإسراجها بالسرج- والآن تسرج بالكهرباء، وهذا تعظيم لها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، وهذا دعوة للشرك، وهذه كلها من وسائله، وكذلك الكتابة عليها، وإلباسها الثياب، بل يصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخشوع والخضوع والتذلل والافتقار إليها.
يقول المؤلف: حتى المساجد ما سلمت من هذا، أي: حتى مساجد المسلمين ما تجد مسجداً إلا وفيه قبر، فإن لم يكن داخل المسجد فهو خارجه، وهذا موجود إلى الآن مثلما قال المؤلف: بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلو عن قبر، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة، فيصنعون فيها ما ذكر أو بعض ما ذكر. وهذا موجود حتى الآن، فأي بلد تأتيه -ما عدا بلادنا هذه- لا تجد في الغالب مسجداً إلا وفيه قبر، وقليل من المساجد التي تسلم من القبور، فإما أن تجد القبر داخل المسجد أو خارجه قريباً منه.
يقول المؤلف: ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة.
يقول: كيف تقول: إن هذا منكر، وهو أمر عم البلاد وطم، وبلغ من الشناعة ما بلغ، فكأنه يقول: الناس لا تتحمل عقولهم هذا، ولا يوافقونك على أن هذا منكر، وأنه بلغ من الشناعة أن يكون من المنكرات الكفرية، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.
يقول: لو كان ما تقولون صحيحاً من أن الطواف بأصحاب القبور والذبح لها والنذر لها كفر؛ لما سكت عليه العلماء، وكيف يسكت العلماء عن مثل هذا؟
والجواب: قال المؤلف رحمه الله: قلت: هذا الجواب إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت بأن الحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم، تعلم أن هذه الأمور نشأ عليها الناس وهي شركيات.
يقول المؤلف: عليك أن تتجرد من التقليد والتبعية للآباء والأجداد في الباطل، فهذه طريقة المشركين، حيث قالوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، فتجرد من التقليد واتباع الآباء والأجداد والأسلاف في الباطل، واطلب الحق، فالحق ما قام عليه الدليل لا ما اتفق عليه الناس وتواطئوا عليه، فإن النصوص كلها تدل على قبحه وشناعته وكفر ما فعل. فيقول المؤلف: إذا أردت الإنصاف اترك متابعة الآباء والأجداد والأسلاف، وأهل البلد في الباطل، واطلب الحق بدليله، لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيل، وقبيلة بعد قبيلة.
(فاعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها مثل الطواف حول القبور، والذبح لها، والنذر لها، وتعظيمها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة). يعني هذه صدرت عن العوام وما صدرت عن العلماء، فهل وجدت عالماً يطوف حول القبور؟ أو يذبح لها؟ أو ينذر لها؟ فمن الذي يفعل هذا؟ الذي يفعل هذا هم العوام، والعوام جهال، وفعلهم ليس بحجة.
فهم نشأوا على تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل). فيتابعون الآباء ولا يفرقون بين الحق وبين المبطل.
(ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل قريته، وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولة أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون له، ويعظمونه ويرحلون به إلى محل قبره، ويلطخونه بترابه ويجعلونه طائفاً على قبره، فيفعل مثل فعلهم، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير، وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير على هذه الأفعال الشركية.
بل ترى من يتسم بالعلم، ويدعي الفضيلة وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية، أو المعرفة، أو الإمارة والحكومة معظماً لما يعظمونه). وهذه من المصائب أن يكون من العلماء هم من يشجع العامة على الشرك ويحثونهم عليه، حتى إن القبوريين عندهم بعض العلم وعندهم بعض الشبه وهم قبوريون، وهؤلاء لا عبرة بهم، فالعبرة بعلماء الحق، وعلماء الشريعة، وعلماء الكتاب والسنة، أهل الاستقامة والعلم والعمل، وأما المنحرفون فلا، فإن اليهود فيهم علماء لكنهم أهل ضلال، والنصارى فيهم علماء لكنهم أهل ضلال، وكذلك هذه الأمة فيها علماء ضلال.
والعلماء قسمان: علماء دنيا وعلماء آخرة. فعلماء الدنيا هم علماء الضلال، فلا عبرة بهم، ولهذا قال: إن هناك من العلماء من يدعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس والولاية أو الإمارة والحكومة، وهم يعظمون ما يعظمه العامة ويكرمون ما يكرمونه، وهذا تشجيع لهم على الشرك، وإقرار لهم عليه.
يقول: (أقرهم على الشرك، آكلاً ما ينحر على القبور). الذي ينحر القبور يؤكل وهو ميتة، وذبيحة شركية، فكيف يؤكل وهو لا يحل، فالذبيحة التي تذبح لصاحب القبر هذه ميتة نجسة، ومع ذلك يأكلها بعض من ينتسب للعلم من علماء الضلال.
(فيظن العامة أن هذا دين الإسلام) وأنه رأس الدين والسنام، ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر؛ أن سكوت العالم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر).
إذا سكت الشخص أو سكت العالم فسكوتهم لا يدل على جواز ذلك المنكر، وبين المؤلف رحمه الله أن الإنسان قد يسكت لأنه عاجز عن الإنكار، والإنكار يكون باليد ثم باللسان ثم بالقلب، وقد يكون هذا الذي سكت من العلماء ما عنده استطاعة لتغييره؛ لأنه يخشى أن يصيبه ضرر في دينه أو بدنه أو ماله، فيكون معذوراً، فينكر بقلبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولنضرب لك مثلاً من ذلك، وهي: هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من ضرورة الدين تحريمها، قد ملأت الديار والبقاع، وصارت أمراً مأنوساً لا يلج إنكارها إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المكاسين في أشرف البقاع: في مكة أم القرى، يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل فعل حرام، وسكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام ساكتون عن الإنكار، معرضون عن الإيراد والإصدار، أفيكون السكوت دليلاً على حل أخذها وإحرازها؟ هذا لا يقوله من له أدنى إدراك.
بل أضرب لك مثلاً آخر: هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، وفرقت عبادة المسلمين، وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين، بدعة قرت بها عين إبليس اللعين، وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها، وشاهدها كل ذي عينين، وسمع بها كل ذي أذنين، أفهذا السكوت دليل على جوازها؟
هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين ].
المؤلف رحمه الله يقول: إن هذه القبور التي انتشرت في البلدان، ويطوف حولها العامة، وينذرون لها، ويذبحون لها، ويعملون عندها الأعمال الشركية، فسكوت العلماء عليها ليس دليلاً على جوازها؛ لأن العالم قد يسكت لعجزه عن الإنكار.
وضرب المؤلف مثلين لمنكرين منتشرين في زمانه ولم ينكرهما العلماء مع أنهما حرام في الكتاب والسنة، وتحريمهما معلوم من الدين بالضرورة، ومع ذلك سكتوا، فكذلك سكوتهم عن كل ما يفعله القبوريون ليس دليلاً على حله وجوازه، بل لعجزهم.
المثال الأول: المكوس التي تجبى بغير حق، والمكوس: هي الضرائب، ومن ذلك ما يسمونه بالجمارك، فهذه الضرائب والمكوس التي تؤخذ على الحجاج قبل ثلاثمائة سنة في زمان المؤلف الصنعاني رحمه الله، يقول: إن الحجاج الذين يدخلون مكة تؤخذ عليهم الضرائب، وهذه الضرائب هي المكوس، وهي حرام، ومع ذلك سكت العلماء عليها، فليس سكوتهم دليلاً على أنها مباحة، بل المكوس محرمة بالكتاب والسنة، وحرمتها معلومة من الدين بالضرورة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزانية التي زنت وتابت: (إنها تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه). فجعل صاحب المكس أعظم من الزنا، ومع ذلك فسكوت العلماء لا يدل على جوازه.
المثال الثاني: المقامات التي كانت في المسجد الحرام في زمان المؤلف الصنعاني، فقد كان يوجد في المسجد الحرام أربع مقامات: المقام الحنفي، والمقام المالكي، والمقام الشافعي، والمقام الحنبلي، وكل مقام يؤمه إمام، وفي كل صلاة يصلي أربعة أئمة، فالإمام الحنفي يصلي وراءه الأحناف، والشافعي يصلي وراءه الشافعية، والمالكي يصلي وراءه المالكية، والحنبلي يصلي وراءه الحنابلة، وقد يصلون في وقت واحد أربع جماعات، يقول: وهذه بدعة قرت بها عين إبليس، وفرقت الأمة، وجعلت الناس كأنهم أربعة أديان، كيف يوجد في دين الإسلام أربعة أئمة في مسجد واحد، ويؤمون في وقت واحد؟ فهذه بدعة، ومع ذلك سكت العلماء عليها، وسكوت العلماء عليها ليس دليلاً على جوازها مع أنها بدعة، هذا على كلام المؤلف، لكن قد يقال: إن هناك من العلماء من تكلم عليها وبين حكمها وإن لم يعلمه الناس كلهم.
وكذلك العلماء ما سكتوا على ما يفعل عند القبور بل بينوا، ولا تزال المؤلفات، ولا يزال الخطباء ينكرون ما يفعله القبوريون في زمان المؤلف وقبله وبعده، وكذلك المكوس لا يزال العلماء يبينون أنها محرمة، وهذه المقامات كانت موجودة حتى تولى الملك عبد العزيز رحمه الله، فلما تولى الملك عبد العزيز رحمه الله أزال هذه المقامات الأربعة، وألغى كلمة الأئمة الأربعة، وجمع الناس في المسجد الحرام على إمام واحد يؤمهم، وهذه من الحسنات التي تحسب للملك عبد العزيز رحمه الله، وكان هذا بفتوى من العلماء أفتوا الملك رحمه الله بذلك وبينوا له أن هذه المقامات منكر، وأنه لا يجوز أن يكون هناك أئمة أربعة يؤمون في وقت واحد، فهذا منكر، فألغى الأئمة وجعل لهم إماماً واحداً، وجعل الدين واحداً، يصلي الناس خلف إمام واحد سواءً كان مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، وهذه من الحسنات التي تحسب للملك عبد العزيز رحمه الله، ولكن الصنعاني رحمه الله ما أدرك عهد الملك عبد العزيز ، فهو يتكلم في زمانه عندما كانت هذه الأشياء موجودة، ولهذا قال المؤلف: فلنضرب لك مثلاً من ذلك وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي، المعلوم في الدين بالضرورة حرمتها وقال: ملأت الديار والبقاع، وصارت أمراً مأنوساً لا يلج إنكارها -يعني: لا يدخل إنكارها- إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المكاسين -يعني: يأخذون الضرائب- في أشرف البقاع: في مكة أم القرى، فيقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل فعل حرام، وسكانها من أفضل الأنام.
ثم يقول: والعلماء والحكام ساكتون عن الإنكار. هذا لم يعلمه المؤلف، فالعلماء بينوا لكن كونه ما انتشر أو كثير من الناس ما بلغه ليس دليلاً على أنهم لم ينكروا، بل قد أنكر العلماء في زمانه لكن لا يستطيعون إزالته، وهذا يحتاج إلى قوة من السلاطين وهم الذين يمنعون الناس من هذا، فالعلماء بأيديهم البيان والإيضاح، وقد يكون في بعض الأزمان أو في بعض الأمكنة أو في بعض الأوقات بعض العلماء لا يستطيع الإنكار باللسان؛ لأنه يهدد من قبل علماء السوء أو من قبل حكام السوء، فلو سكت فيكون معذوراً في هذه الحالة، وينكر بقلبه ويكون غيره قد أنكر.
قول المؤلف: معرضون عن الإيراد والإصدار أفيكون السكوت دليلاً على حل أخذها وإحرازها؟ هذا لا يقوله من له أدنى إدراك.
ثم ضرب المثل الثاني، فقال: هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله من الفساد، وفرقت عبادة المسلمين، وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين -كأنها أديان أربعة-، بدعة قرت بها عين إبليس اللعين، وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها ].
لعله يقصد بالأبدال الذين يخلف بعضهم بعضاً، كما جاء في بعض الأحاديث، والأقطاب: هم العلماء، وليس المراد بالأقطاب أقطاب الصوفية الذين يزعمون أنهم يتصرفون في الكون، أو الأبدال الذين عند الصوفية، فمراد المؤلف شيء غير هذا، ولأن مراد علماء الشريعة والحق أن الأبدال: الذين يخلف بعضهم بعضاً، والأقطاب: الذين لهم مكانة وتمكن في الدين شاهدوها وسمعوا بها وسكتوا عنها، فهذا كلام المؤلف رحمه الله، ولكن الواقع أنهم ما سكتوا، ففي كل زمان من ينكر المنكر ويقيم الحجة على الناس.
أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف، كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.
وقد سبق أن العلماء ما سكتوا بل بينوا، ولكن العلماء يختلفون، فمنهم من يستطيع أن يبين، ومنه من لا يستطيع فيكون معذوراً، وقامت الحجة بمن بين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن قلت: يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة حيث سكتت عن إنكارها لأعظم جهالة. قلت: حقيقة الإجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمرٍ بعد عصره، وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة، وإن كان هذا قولاً باطلاً وكلاماً لا يقوله إلا من كان للحقائق جاهلاً، فعلى زعمهم: لا إجماع أبداً من بعد الأئمة الأربعة، فلا يرد السؤال؛ فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لم يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة، وعلى ما نحققه: فالإجماع وقوعه محال؛ فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق، وصارت في كل أرض وتحت كل نجم، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون، ولا يتم لأحد معرفة أحوالهم، فمن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين وكثرة علماء المسلمين فإنها دعوى كاذبة كما قاله أئمة التحقيق.
ثم لو فرض أنهم علموا بالمنكر وما أنكروه بل سكتوا عن إنكاره لما دل سكوتهم على جوازه؛ فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاثة:
أولها: الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته.
ثانيها: الإنكار باللسان مع عدم استطاعة التغيير باليد.
ثالثها: الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان، فإن انتفى أحدها لم ينتف الآخر، ومثاله: مرور فرد من أفراد علماء الدين بأحد المكاسين وهو يأخذ أموال المظلومين، فهذا الفرد من علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين ولا باللسان؛ لأنه يكون سخرية لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين، ولم يبق إلا الإنكار بالقلب الذي هو أضعف الإيمان.
فيجب على من رأى ذلك العالم ساكتاً عن الإنكار مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد واللسان، وأنه قد أنكر بقلبه، فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب، والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب، فالداخلون إلى الحرم الشريف، والمشاهدون لتلك الأبنية الشيطانية التي فرقت كلمة الدين، وشتتت صلوات المسلمين معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين ].
المؤلف رحمه الله أيضاً يورد سؤالاً ثم يجيب عنه، فيقول: إن قلت: يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة حيث سكتت عن إنكارها لأعظم جهالة. أي: أنت تقول: الآن القبور منتشرة والعلماء ساكتون، والمكوس منتشر والعلماء ساكتون، والمقامات في المسجد الحرام ما أنكرت والعلماء ساكتون، فيلزم من هذا أن الأمة قد تجتمع على ضلالة، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فما الجواب عن ذلك؟
نقول: إنهم ما سكتوا، فالعلماء بينوا، ولكن العلماء يختلفون فمنهم من يستطيع الإنكار فينكر، ومنهم من لا يستطيع فيكون معذوراً وينكر بقلبه، ومن أنكر قامت به الحجة.
والمؤلف أجاب فقال: حقيقة الإجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر بعد عصره. فهذا هو الإجماع؛ أن يجتمع العلماء المجتهدون بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم على شيء، وأما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فالحجة في كلام الله وكلام رسوله، لكن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتمع العلماء المجتهدون على شيء صار إجماعاً لا يجوز مخالفته.
ويقول المؤلف: وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة، يعني يقولون: بعد الأئمة الأربعة لا يوجد إجماع، فهذا الإجماع مستحيل؛ لأن العلماء انتشروا في الأمصار، ولا يمكن حصر أقوالهم، فالذي يقول: إنهم أجمعوا فهذا كلام ليس بصحيح؛ لأنك لو حصرت بعض الأقوال في الشام وفي مصر وفي المغرب وفي المدينة وفي مكة وفي نجد وفي كل مكان فلا تستطيع أن تحصر جميع العلماء، فقد يوجد عالم في بيته لا أحد يعلم عنه، ولا أخذ رأيه ولا قوله، فكيف يكون إجماعاً؟
ولهذا يقول المؤلف: وإن كان هذا قولاً باطلاً لا يقوله إلا من كان للحقائق جاهلاً، فعلى زعمهم لا إجماع أبداً من بعد الأئمة الأربعة؛ فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لم يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة.
يقول: القبور إنما حصلت بعد الأئمة الأربعة، والفقهاء يقولون: لا إجماع بعد الأئمة الأربعة، وعلى ما نحققه من أن الإجماع وقوعه محال؛ لأن علماء الأمة انتشروا في كل مكان، فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق، وصارت في كل أرض، وتحت كل نجد، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون، فمن يحصي العلماء؟ ومن يستطيع أن يأخذ أقوال أهل العلم حتى يحصر الإجماع؟! لا يتم لأحد معرفة أحوالهم، فمن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين وكثرة علماء المسلمين فإنها دعوى كاذبة كما قاله أئمة التحقيق. يعني: هذا قول يقوله أئمة التحقيق، يقولون: إن من ادعى الإجماع بعد انتشار العلماء في كل مكان فهو كاذب. وبعض العلماء يقول: يمكن وقوع الإجماع، ولهذا الأصوليون ذكروا إجماع مجتهدي العصر، وقالوا: الإجماع يكون في كل زمان، وقد ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: من ادعى الإجماع فهو كاذب. يعني: بعد الصحابة، نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: إن الإجماع الذي ينضبط هو إجماع الصحابة؛ لأن الصحابة محصورون، أما بعد عصر الصحابة فالعلماء كثروا وانتشروا في الآفاق فلا يمكن حصر أقوالهم، أما في عصر الصحابة فيمكن حصر أقوالهم.
وهناك من أهل العلم من قال: إنه يمكن الإجماع في كل عصر، وقال: إن الإجماع هو اتفاق مجتهدي العصر على أمر، فإذا اتفق أهل العصر ولم يخالف أحد ثبت الإجماع، وهذا يذكره العلماء الأصوليون في الإجماع.
والمؤلف رحمه الله يقول: الإجماع مستحيل، ولا يمكن أخذ آراء جميع العلماء، ونقل عن فقهاء المذاهب أنهم يقولون: الاجتهاد بعد الأئمة الأربعة مستحيل، وأما في زمن الأئمة الأربعة فلا، وأما الإمام أحمد رحمه الله فإنه يرى أن الإجماع الذي ينضبط إنما هو في عصر الصحابة، وأما بعد عصر الصحابة فلا ينضبط، ولهذا قال: من ادعى الإجماع فهو كاذب.
يقول المؤلف: ثم لو فرض أنهم علموا بمنكر وما أنكروه بل سكتوا عن إنكاره لما دل سكوتهم على جوازه؛ فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاثة:
أولها: الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته.
ثانيها: الإنكار باللسان مع عدم استطاعة التغيير باليد.
وثالثها: الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان، فإن انتفى أحدهما لم ينتف الآخر.
يعني: لو فرض وقدر أن العلماء علموا بالمنكر وما أنكروه وسكتوا عنه لما كان سكوتهم دليلاً على الجواز؛ لأن مراتب الإنكار ثلاثة كما في حديث أبي سعيد الذي رواه الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
فالعلماء قد يسكتون إذا عجزوا عن الوظيفة الأولى والثانية، إذا عجزوا عن الإنكار باليد واللسان، وأنكروا بالقلب، فلا يكون سكوتهم حجة.
ومثل المؤلف بمثال، فقال: ومثاله: مرور فرد من أفراد علماء الدين بأحد المكاسين وهو يأخذ أموال المظلومين، فهذا الفرد من علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين باليد ولا باللسان؛ لأنه يكون سخرية لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين، ولم يبق إلا الإنكار الذي هو أضعف الإيمان ].
يقول: لو مر أحد العلماء بالمكاس الذي يأخذ الضرائب على المظلومين وسكت، فهل يكون سكوته دليلاً على الجواز؟، لا؛ لأنه لا يستطيع الإنكار لكن نقول: هذا إذا كان يخشى أن يصيبه ضرر في بدنه أو ماله، وأما إذا كان لا يخشى فقد ينكر باللسان، وإذا لم ينكر هو فقد أنكر غيره. يقول المؤلف: فيجب على من رأى ذلك العالم ساكتاً عن الإنكار مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار -يعني الذي يأخذ الضرائب- أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد واللسان، وأنه قد أنكر بقلبه؛ فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب، والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب.
يقول: إذا رأيت عالماً ساكتاً فالتمس له العذر، وأحسن الظن به أنه عاجز عن الإنكار باليد واللسان.
ثم يقول المؤلف رحمه الله: فالداخلون إلى الحرم الشريف، والمشاهدون لتلك الأبنية الشيطانية، المراد: المقامات الأربعة: مقام الشافعي، ومقام الحنفي، ومقام المالكي في زمان المؤلف. يقول: الذي يدخل المسجد الحرام ويشاهد هذه الأبنية الشيطانية التي فرقت كلمة الدين، وشتتت صلوات المسلمين معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين، والذين كانوا يدخلون المسجد الحرام وما أنكروا هذه المقامات الأربعة معذورين؛ لأنهم لا يستطيعون، ومثله الذي يمر على القبور معذور، لكن نقول للمؤلف: لا، هل كل الذين دخلوا المسجد الحرام ما أنكروا؟ فيوجد من أنكر باللسان لكن ما قبل منه، فقد أدى ما عليه.
قال المؤلف رحمه الله: [ ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما يستدلون عليه: إنه وقع ولم ينكر فكان إجماعاً.
ووجه اختلاله: أن قولهم: (ولم ينكر) رجم بالغيب؛ فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد واللسان، وأنت تشاهد في زمانك: أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار، ويقوله إما لائماً أو متأسياً بسكوته، فالسكوت لا يستدل به عارف، وكذا يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا وسكت الباقون فكان إجماعاً مختلاً من جهتين:
الأولى: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان، لما عرفت من عدم دلالة السكوت على التقرير.
الثانية: قولهم: فكان إجماعاً؛ فإن الإجماع اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف حتى يعرب عنه لسانه. قال بعض الملوك -وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله وفيهم رجل ساكت-: لما لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم.
فما كل سكوت رضا، فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟! ].
المؤلف رحمه الله يقول: وبهذا تعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما يستدلون عليه: إنه وقع ولم ينكر فكان إجماعاً، فهذا يسمى الإجماع السكوتي، وفيه خلاف في صحته وحجيته، فمن العلماء من صححه واحتج به، ومنهم من منعه، فالمؤلف يقرر أن الإجماع السكوتي ليس بصحيح؛ لأن الساكت لا ينسب له قول حتى يتكلم.
ثم بين وجه بطلانه، فقال: ووجه اختلاله أن قولهم: (ولم ينكر) رجم بالغيب. قولهم: أنه وقع ولم ينكر، فالإنكار يكون بالقلب، فهل اطلعتم على قلبه؟ فإنه قد يكون أنكر بالقلب، فيقول المؤلف: فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد واللسان. يعني: أنه يخاف من ضرر يصيبه في بدنه أو ماله أو أهله فيكون معذوراً.
ثم يقول: وأنت تشاهد بنفسك وفي زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك لعجزك عنه، وأنت منكر له بقلبك. ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار بقوله، لماذا يقول: سكت فلان عن الإنكار، أو متأسياً بسكوته، فعندما يقول: سكت فلان عن الإنكار ثم يلومه يقول: لماذا لم يتكلم؟ أو يريد أن يقتدي به ويتأسى بالسكوت، فالسكوت لا يستدل به على رضا العالم، وكون العالم يسكت هذا ليس بدليل.
وكذلك يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا وسكت الباقون فكان إجماعاً. يقول: هذا باطل من وجهين:
الأول: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان، لما عرفت من عدم دلالة السكوت على التقرير؛ لأنه قد يكون منكراً.
الثانية: قولهم: (فكان إجماعاً)، فالإجماع لا يفعله واحد ويسكت الباقون، فيقول: الإجماع تعريفه هو: اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور. فهذا هو الإجماع، وليس أن يفعله واحد ويسكت الباقون، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف حتى يعرب عنه لسانه، قال بعض الملوك -وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله وفيهم رجل ساكت-: ما لك لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم.
يقول المؤلف: فما كل سكوت رضا، فما كل من سكت يقال: إنه راضٍ؛ فإن هذه المنكرات -مثل المنكرات التي تكون حول القبور والمكوس والمقامات التي في الحرم الشريف- أسسها جبابرة ظلمة بيدهم السيف فلا يستطيع أحد أن ينكر عليهم، فالذي ينكر يقطعون رقبته؛ فلذلك سكتوا، فسكوتهم لا يدل على الرضا بل لعجزهم، ولهذا قال: فإن هذه المنكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه؛ لأنهم ظلمة، إذا كتب شيئاً أو تكلم إلى أحد أوقع العقوبة في من يريد، وأعراضهم تحت قوله وكلمته، فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟! فدل على أن سكوتهم لعذر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه غالب -بل كل من يعمرها- هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزروه الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع؛ حتى يغرسوا في جبلته كل باطل.
ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة، فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة ].
يقول المؤلف رحمه الله: هذه القباب والمشاهد التي بنيت على القبور هي أعظم ذريعة للشرك والإلحاد، بل إن الشرك وقع في بعضهم لما بنيت القباب والمشاهد، فذبح لها بعض الناس ونذر لها وطاف بها، يقول: فهي أكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه؛ لأنها من وسائل الشرك، فغالب بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء الوثنيون الجهلة الظلمة والولاة، إما على قريب لهم يبنون عليه، أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل -يعني: صاحب القبر-، أو عالم أو صوفي أو فقير، والفقير هذا مصطلح عند الصوفية يسمونه الفقير، أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفون زيارة الأموات، يعني: يزورونه زيارة شرعية، فيدعون له ويترحمون عليه، ويتذكرون الآخرة من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، فهذه هي الزيارة الشرعية حتى ينقرض من يعرفها أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيقع في الشرك، يعني: الأولون زاروه زيارة شرعية، ثم يأتي من بعدهم فيجد وسائل الشرك فتغريه إلى الشرك، فيجد من بعدهم قبراً قد شيد عليه البناء، وهذا من وسائل الشرك المؤدية إلى الاستغاثة به، فتسرج عليه الشموع ويفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعبدونه لأنهم يعتقدون أنه ما أسرجت عليه السرج، ووضعت الورود والرياحين عليه إلا لأنه ينفع ويضر، فيقعون في الشرك.
فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة -السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وكذا وفعل- بالقصص أنه فعل كذا.. وأنه دعاه فلان فأجاب دعاءه.. وجاءه فلان فحصل له كذا، فيأتون بالقصص التي يكذبون بها على الميت حتى يغروا الناس بالشرك، وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع، يقول: حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، ولهذا الأمر ثبتت الأحاديث النبوية باللعن على من أسرج على القبور. كحديث: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) فاتخاذ المساجد على القبور والسرج وسيلة إلى الشرك، وأحاديث ذلك واسعة معروفة، فإن ذلك كله منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة.
خطأ الاستدلال ببناء القبة على قبر رسول الله على جواز ذلك
وهذا آخر ما أردناه مما أوردناه لما عمت به البلوى، واتبعت الأهواء، وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم، ومالوا إلى ما مالت العامة إليه، وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ولم نجد من الأعيان ناهياً عن ذلك ولا زاجراً ].
يقول المؤلف رحمه الله: أنت تقول: إن القباب منكر، وأنها من وسائل الشرك، فهذا قبر النبي صلى الله عليه وسلم بنيت عليه قبة فسكت الناس ولم ينكروها، فكيف تقول: إن بناء القبة على القبر منكر ومن وسائل الشرك؟!
فأجاب المؤلف رحمه الله فقال: هذا جهل عظيم بحقيقة الحال، فهذه القبة من الذي وضعها؟ هل وضعها الصحابة؟ هل وضعها التابعون؟ هل وضعها العلماء؟ هل وضعها الصالحون؟ من الذي وضعها؟
هذه القبة وضعها بعض الملوك الجهلة المتأخرين، وهذه القبة من أبنية بعض ملوك مصر وهو قلاوون الصالحي المعروف بـالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وستمائة، وذكره في: تحقيق النصرة بتخليص معالم دار الهجرة، هذا الكتاب للعلامة زين الدين أبي بكر بن الحسين بن عمر أبي الفخر المراغي المتوفى سنة ثمانمائة وستة عشر. يقول المحشي: والمشهور أن اسمه كنيته.
فهي أمور دولية لا دليلية، فهذه الأمور فعلها بعض الملوك وما فعلها بعض العلماء ولا الصحابة ولا التابعين حتى تكون دليلاً، فهي أمور دولية لا دليلية، أمور لا تكون دليلاً وإنما فعلتها بعض الدول، وأفعالهم ليست حجة يتبع فيها الآخر والأول.
ثم يقول المؤلف: هذا آخر ما أردناه من هذه الرسالة مما عمت فيه البلوى، واتبعت فيه الأهواء، وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم، ومالوا إلى ما مالت عليه العامة، وصار المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ولم نجد من الأعيان ناهياً عن ذلك ولا زاجراً.
سبق أن قلنا: إن العلماء أنكروا، وأن منهم من يستطيع الإنكار فينكر في الرسائل والمؤلفات والخطب وأمام الناس، ومنهم من قد يعجز، فالذي يعجز يسقط عنه ويكتفى بمن أنكر، لكن هذا على كلام المؤلف.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [2] | 2281 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [3] | 2005 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [4] | 1719 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [7] | 1715 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [9] | 1445 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [5] | 1228 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [6] | 917 استماع |
شرح تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد لابن الأمير الصنعاني [1] | 649 استماع |