تفسير سورة التوبة [81-89]


الحلقة مفرغة

يقول الله تعالى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]. أشار الله تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين، وهو جعلهم الحزن والكراهة مكان الفرح والرضا فقال سبحانه: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]. (المخلفون) هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف، أو: لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك، وسبب إيثار لفظ (المخلفون) على (المتخلفون)؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلفهم بأن ثبطهم، كما قال: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]. وقيل: لأنه منع بعضهم من الخروج، فغلب الوصف على غيرهم، فصاروا المخلفين لا المتخلفين. أو: المراد (فرح المخلفون) يعني: الذين خلفهم كسلهم أو نفاقهم، أو: الذين أغراهم الشيطان بذلك وحملهم عليه. (بمقعدهم) يعني: بقعودهم، فمقعد على هذا مصدر متعلق بفرح، يعني: فرحوا بقعودهم عن غزوة تبوك، أو تكون اسم مكان، وهو في هذه الحالة المكان الذي قعدوا فيه وهو المدينة. وقوله: (خلاف رسول الله) يمكن أن تكون مفعولاً لأجله أو ظرفاً، أي: خلفه وبعد خروجه، حيث خرج هو ولم يخرجوا، فـ(خلاف) ظرف بمعنى خلف وبعد، يقال: فلان أقام خلاف الحي، يعني: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن، ويؤيده قراءة من قرأ: (خلف رسول الله)، فالخطاب على أنه ظرف لمقعدهم، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك. واستعمال خلاف بمعنى خلف؛ لأن جهة الخلف خلاف الأمام، ويجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة، فهو مصدر خالف؛ كالقتال ويعضده قراءة من قرأ: (خُلف رسول الله). (وكرهوا) يعني: بما في قلوبهم من مرض النفاق (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، ولم يقل الله سبحانه وتعالى: وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو، ولكن قال: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، إيذاناً بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب وأشرف المطالب التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون، ومع ذلك هؤلاء قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني في الموضع الذي يستحق الندم والحزن والكراهية فرحوا، والموضع الذي ينبغي أن يفرح به المؤمن، وهو الخروج للجهاد بالمال والنفس في سبيل الله كرهوه! قال الزمخشري في قوله تعالى: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم): تعريض للمؤمنين، لكنه صرح فيما بعد بذلك حينما قال تبارك وتعالى: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ.. [التوبة:88]، إلى آخر الآية فمدحهم، قال: تعريض للمؤمنين وتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض، أي: الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان. والتعريض هنا ظاهر؛ لأن المراد كرهوه لا كالمؤمنين أحبوه، أو: لا كالمؤمنين الذين أحبوا الخروج والجهاد. (وقالوا لا تنفروا في الحر) إما أنهم قالوا ذلك لإخوانهم المنافقين أو للمؤمنين، فقالوا لإخوانهم: لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا تستطاع شدته، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، وعند طيب الظلال والثمار في المدينة، فحرصوا على أن يثبتوا إخوانهم المنافقين على التخلف، كيف نترك هذا الجو الجميل، والثمار التي قد آن قطافها، والظلال الوارفة، ونخرج في الحر إلى تبوك حيث المسافة البعيدة؟ ومن خرج في رحلة إلى هناك يعرف معنى الحر في تبوك! (وقالوا لا تنفروا في الحر)، تثبيتاً لهم على التخلف، وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد، أو أنهم قالوا: لا تنفروا في الحر للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، تماماً كما ينهى عن المعروف ويأمر بالمنكر بعض الضالين الذين يقولون للمحجبات: كيف تلبسن هذه الملابس في شدة الحر؟ فينبغي أن نمتثل نفس الجواب فنقول: (قل نار جهنم أشد حراً)؛ فهي تحتمل الحر الآن؛ لأن نار جهنم أشد حراً، كما احتمل الصحابة شدة الحر في تلك البلاد. وقالوا ذلك للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد، ونهياً عن المعروف، وإظهاراً لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود حتى يظهروا العلة والعذر، وكأن الذي منعهم هو شدة الحر، فيتسترون وراء ذلك. فقد جمعوا ثلاث خصال من خصال الكفر والضلال: الفرح بالقعود، وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك، أفاده أبو السعود . (قل) رداً عليهم وتجهيلاً لهم (نار جهنم) التي سوف تدخلونها بما فعلتم (أشد حراً) مما تحذرون من الحر المعهود، أي أن هذا الحر الشديد في الدنيا أهون من حر جهنم التي سوف تدخلونها، وهي (أشد حراً) مما تحذرون من الحر المعهود وتحذرون الناس منه، فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود على النفير؟! (لو كانوا يفقهون) اعتراض تذييلي من جهته تبارك وتعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب (لو) إما مقدر: لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو: لو كانوا يفقهون أن مآلهم بسبب تخلفهم إليها لما فعلوا ما فعلوا، أو: لو كانوا يفقهون لتأثروا بهذا الإلزام. وإما أن يكون جواب (لو) غير منوي، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، يعني: لو كانوا من أهل الفطانة والفقه، كما في قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101]. قال الزمخشري : قوله تعالى: (قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون) استجهال لهم. نعم، فإذا الإنسان يتصون من مشقة ساعة، نجد الإنسان في الحر الشديد قد يصل به الأمر أنه لا يخرج ولا يتحرك من تحت الظل تأذياً بشدة الحر، ونحن هنا في المدينة قليلاً ما نذوق الحر، لكن من سافر إلى غير هذه البلاد يعرف ما معنى شدة الحر ويعرف معنى هذا الذي أقوله، وأنا أسمع أن في بعض بلدان الخليج إذا انقطع التيار الكهربائي فإن النساء والصبيان داخل البيوت يصرخون بسبب توقف المكيفات، ويبكون من شدة الحر، مع أنهم في الظل، ولكن مع ذلك يحصل هذا الألم الشديد نتيجة شدة الرطوبة مع الحر! قال: فإذا الإنسان تصون من مشقة ساعة، أي: احترز من مشقة مشية في الحر لمدة ساعة، كما فعل الذين امتنعوا عن الخروج في سبيل الله خشية الحر، مع أن ذلك يؤدي بهم إلى المكث في نار جهنم، حيث لا مقارنة ولا نسبة بين العذابين، فمن تصون من مشقة ساعة؛ فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل، يعني: لا يستطيع أن يستعمل عقله في الموازنة بين الأضرار، فلا شك أن القاعدة: أنه يدفع أقوى الضررين بارتكاب أخفهما. ثم ينشد الزمخشري هنا قول بعضهم: مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب يعني: إذا مرت بك أحقاب وأزمان طويلة، وعشت فيها في سرور وسعادة، ثم كدرت هذه السعادة وهذا السرور بمساءة يوم مر عليك بعد ذلك، فهذه المسرة الطويلة أريها يعني: عسلها، شبه الصاب، يعني: مثل الصاب، وهو نبات مر، أو هو الحنظل. (فكيف بأن تلقى مسرة ساعة وراء تقضيها مساءة أحقاب)، فكيف ترجح سرور ساعة، سوف يورثك الحسرة والمساءة لأحقاب؟ فكيف المقارنة بين عذاب قليل في الدنيا وسويعات قليلة في الحر وبين حر جهنم؟! فلا مقارنة على الإطلاق؛ لأن فيها الخلود الدائم الذي لا ينقطع. فهم كما قال القائل: كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولذلك هذا الشخص الذي يقدم على الانتحار، ما أقل عقله! وهو من أجهل الجهال؛ لأنه إذا كان يبتلى في الدنيا ببعض البلاء ولا يستطيع أن يصبر عليه، فكيف يعجل بنفسه إلى النار التي لا مقارنة بين بلائها وبين هذا البلاء الذي كان يعانيه في الدنيا، لأنه لو عاش فالله سبحانه وتعالى سيخلف عليه إصلاحاً لحاله، ويمد له في الأجل كي يعمر عمره بالأعمال الصالحة، فهو أضر نفسه من حيث إنه قطع على نفسه الفرصة التي وهبه الله سبحانه وتعالى إياها، فقطع عمره بدل أن يستثمره في العمل الصالح، وفي نفس الوقت عجل نفسه إلى عذاب الله عز وجل، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، فهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، يهرب من الرمضاء -الحر الشديد- أو الرمال الساخنة، فيلقي بنفسه في النار! فنحن نلاحظ في كثير من الحوادث مثل: الزلازل أو انهيار المنازل؛ أن الإنسان بسرعة جداً يقيس الأمر، فلو وجد حريق في بيت أو فندق، فنسمع أن من الناس من ألقى بنفسه من النافذة؛ لأنه لا يوجد وقت للترجيح، فيرجح بأن يلقي نفسه لكي يتكسر؛ لأنه أهون من أن يحترق بهذه النار التي تطارده، أما هذا فعلى العكس فيستجير من حر رمال ساخنة بأن يلقي نفسه في النار، وقال آخر: عمرك بالحمية أفنيته خوفاً من البارد والحار وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار يعني: نحن في البرد الشديد نستعمل المدفئات حتى تسخن الجو، وفي حالة الحر نأتي بالمراوح والمكيفات لكي تبرد الجو، فيقول: أفنيت عمرك في الاحتراز من الحر والبرد، (خوفاً من البارد والحار، وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار). وروى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءاً من نار جنهم). وروى الشيخان عن

ثم أخبر تبارك وتعالى عن عاجل آمرهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل المؤدية إليه أعمالهم السيئة التي من جملتها ما ذكر من الفرح، فقال عز وجل: (( فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا ))، أليسوا فرحين فليضحكوا؟ لكن هذا الضحك قليل، (فليضحكوا قليلاً)، هنا أمر بمعنى: التهديد، وليس للوجوب، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82]، أو هو أمر بمعنى الخبر، (فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً)، يعني: سوف تحصل لهم تلك الحالة: ضحك كثير مع بكاء طويل. والحكمة من أنه سبحانه وتعالى أخرج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر؛ ليدل على تحتم وقوع المخبر به، فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد أن يتخلف عنه المأمور به، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: اضحكوا قليلاً وابكوا كثيراً، إذا أمرهم الله سبحانه وتعالى بذلك، والله عز وجل لا يتخلف أمره عن الانقياد له قهراً وقسراً؛ فهذا يعني بيان تحتم وقوع ذلك، وعدم تخلفه عن المأمور به. فإن قيل: إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة في اقتضائه تحقق المأمور به، فالخبر آكد، فما باله عكس هذا؟ فالجواب: أنه لا منافاة بينهما؛ لأن لكل مقام مقالاً، والنكت لا تتزاحم، فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك، وتحقق منه قبل الأمر به كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه، فكأنه مأمور به، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى. وهنا جمع بين صيغتين: صيغة الماضي والمستقبل، فقال عز وجل: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82]، جزاءً بما كانوا: ماضي، يكسبون: هذه صفة تفيد الاستمرار إلى المستقبل، الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا، يعني: ما داموا فيها فهم يكسبون هذه الأفعال. قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82]: من الناس من كان لا يضحك، يعني: كان بعض السلف لا يضحك، اهتماماً بنفسه وخوفاً على فساد حاله في اعتقاده، يظن أنه مقصر في حق الله، ولشدة خوفه كان لا يستطيع أن يضحك، وإن كان عبداً صالحاً لكنه يخشى التقصير، قال صلى الله عليه وسلم: (والله! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصُّعُدات -أي الطرق- تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني كنت شجرة تعضد) أخرجه الترمذي . وكان الحسن البصري رحمه الله ممن قد غلب عليه الحزن فكان لا يضحك، وكان ابن سيرين يضحك ويحتج على الحسن ويقول: الله أضحك وأبكى، وكان الصحابة يضحكون، إلا أن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إياك وكثرة الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب). أما البكاء من خوف الله سبحانه وتعالى وعذابه وشدة عقابه فمحمود، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون، فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت). أخرجه ابن المبارك من حديث أنس وأخرجه ابن ماجة أيضاً. وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه). وقال أيضاً: (عينان لا تمسهما النار، وذكر منهما: وعين بكت من خشية الله)، فمن كثر بكاؤه خوفاً من الله تعالى وخشية منه، ضحك كثيراً في الآخرة؛ لأن المؤمنين يقولون: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27]. وقد قيل للحسن : ما نصنع يا أبا سعيد -بمجالسة أخوان يخوفوننا، حتى تكاد قلوبنا تتفطر؟! فقال: لئن تجالس قوماً يخوفونك حتى تدرك أمناً، خير لكن من أن تجالس قوماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف. ووصف الله سبحانه وتعالى أهل النار فقال: وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:31]، وقال أيضاً: وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:110-111].

ولما جلى سبحانه وتعالى ما جلى من أمرهم، فرع عليه قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة:83]. قوله تعالى: (فإن رجعك الله) يعني: إن ردك الله من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين في المدينة، والمقصود المتخلفين بغير عذر، وإنما قال سبحانه وتعالى: (إلى طائفة منهم) ولم يقل: إلى كل من في المدينة؛ لأن منهم من كان معذوراً؛ لأن جميع من أقام في المدينة ما كانوا منافقين، بل كان منهم معذورون، ومنهم من لا عذر له ثم عفا عنه وتاب عليه كالثلاثة الذين خلفوا. (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) أي: معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، دفعاً للعار السابق، هم لا يريدون وجه الله ولا أن يتوبوا، لكن يريدون دفع العار، وتحسين منظرهم أمام الناس. (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) يعني: عاقبهم بألا تصحبهم أبداً، كما في سورة الفتح: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا [الفتح:15]. (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ): رضيتم بالقعود عني أول مرة، يعني: فخذلكم الله وسقطتم عن نظره، بل غضب عليكم وألزمكم العار (فاقعدوا مع الخالفين)، يعني: كونوا مع الخالفين من النساء والصبيان دائماً. ومع أن هؤلاء الخالفين يشملون الإناث النساء لكنه غلب هنا المذكر فقال: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تغليباً للمذكر، وهذه الآية: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) تدل على أن اصطحاب المخذل في الغزو لا يجوز، فلا يجوز في الغزو اصطحاب المخذل الذي يخذل الناس ويثبط هممهم. (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) إذاً هناك تفسير للخالفين بأنهم النساء والصبيان والزمنى، أو المعنى: فاقعدوا مع الفاسدين، على أن الخوالف هم خساس الناس وأدنياؤهم، أحقر الناس وسفلتهم، فيقال: فلان خالفة أهل بيته، إذا كان دونهم أو فلان خالفة يعني: غير نجيب، إذا كان فاسداً في قومه، ومنه أيضاً: خلوف فم الصائم؛ لأن خلف فمه يعني: تغير ريحه، ومن قولهم: خلف اللبن أو خلُف اللبن بفتح اللام وضمها يعني: إذا فسد وحمض بطول المكث في السقاء، فالمقصود على هذا القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) يعني: مع الفاسدين. قوله تعالى: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) إخبار في معنى النهي للمبالغة، وذكر القتال: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوًّا) لأنه المقصود من الخروج، فلو اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطاً لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد، أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين، وإظهاراً لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند. يقول أبو السعود : فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين. وهذه عقوبة شديدة لهم وأي عقوبة! وقال: وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة، يقصد قوله: (أول مرة)، فالصحيح في اللغة أن الأكثر الدائر على الألسنة: أن يذكر اسم التفضيل إذا أضيف إلى المؤنث، فإنك لا تكاد تسمع -بعد الاستقراء- قائلاً يقول: هي كبرى امرأة، أو يقول: هند كبرى النساء، لكن تقول: هي أكبرهن أو هي أكبر امرأة، ولا تكاد تسمع شخصاً يقول: هذه أولى مرة، لكن أكثر الاستعمال هو: أول مرة، فجاء قوله تعالى: (إنكم رضيتم بالقعود أول مرة) جرياً على الغالب في استعمال العرب. وهذه الآية الكريمة: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) سبق أن نبهنا مراراً أن بعض الناس -بالذات في جماعة التبليغ- يحاكمون ألفاظ القرآن إلى ألفاظ محدثة فيحملون مثلاً الآيات التي فيها لفظ الخروج على الخروج المعهود الطارئ عندهم في جماعتهم، وقد يذمون من يتخلف عنهم بنفس هذه النصوص، فهذا بلا شك من الانحراف في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى، كما فسروا قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] بأنه الخروج بالكيفية التي يلتزمونها ولا يكادون يخرجون عنها!! وقوله هنا: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً) قال الرازي : واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد -بعض متعلقيه: جيرانه .. أصدقائه .. زملائه.. أو غير ذلك- إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد، ورآه مشدداً فيه، مبالغاً في تقرير موجباته، فإنه يجب عليه أن يقطع العلاقة بينه وبينه، وأن يحترز من مصاحبته، فالشخص القريب منك كزميل أو جار، إذا تأكدت -لا على سوء الظن ولا من مرة أو مرتين أو من مجرد إساءة تحتمل- أنه يظهر منه المكر والكيد والخداع، ويشدد في ذلك ويبالغ إلى أقصى ما يستطيع في توصيل ما أمكنه من الأذى إليك، فمثل هذا ينبغي أن تقطع العلاقة بينك وبينه، وأن تحترز عن مصاحبته توقياً لشره، ويستفاد هذا من قوله تعالى: (قل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً).

قال تبارك وتعالى: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]. (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) لأن صلاة الجنازة شفاعة، ولا شفاعة في حق هؤلاء. (ولا تقم على قبره) أي: لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء. وبعض المفسرين قال: (لا تقم على قبره) يعني: بالدعاء. وبعضهم قال: (لا تقم على قبره) يعني: لا تقم بإصلاح مهمات قبره، من قولهم: قام فلان بأمر فلان، يعني: إذا كفاه أمره وتولاه، (ولا تقم على قبره) لا تتولى أمره، ولا تتولى إصلاح مهمات قبره. وقال الشهاب : القبر مكان وضع الميت، ويكون بمعنى الدفن. (إنهم كفروا بالله ورسوله) يعني: في أثناء ما كانوا أحياء كفروا في الباطن بالله ورسوله. وقوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً) جملة (مات أبداً) صفة؛ لأن الجملة بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال، فجملة (مات) هنا في موضع جر؛ لأنها صفة للنكرة، كأنه قيل: لا تصل على أحد منهم ميت. (إنهم كفروا) يعني: في حالة الحياة كفروا في الباطن، لأن الكلام عن المنافقين: (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن الإيمان الظاهر الذي كانوا به في حكم المؤمنين. روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: (( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ))[التوبة:80]، وسأزيده على السبعين)، قال: إنه منافق! قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل آية: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا). أما قوله: فسأله أن يعطيه قميصه يكفن به أباه، قيل: إن سر إجابته عليه الصلاة والسلام في إعطائه قميصه الذي سأله إياه أن هذا من حسن خلق النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال له: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10]، فلما سأله القميص أعطاه. وقيل: لأن منع القميص لا يليق بأهل الكرم. وقيل: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أكرمه لمكان ابنه، وكان من الصالحين. وقيل: لعل الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النبي أنه إن فعل ذلك أسلم نفر من المنافقين. وقيل: لأن الرأفة والرحمة كانت غالبة عليه صلى الله عليه وسلم. لكن الراجح من ذلك كله هو ما ذكره القرطبي حيث قال: اختلف في إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـعبد الله فقيل: إنما أعطاه؛ لأن عبد الله كان قد كسا العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم قميصاً يوم بدر، وذلك أن العباس لما أسر يوم بدر -على ما تقدم- وسلب ثوبه رآه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فأشفق عليه، فطلب له قميصاً فما وجدوا له قميصاً عليه إلا قميص عبد الله لتقاربهما في طول القامة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء القميص أن يرفع اليد عنه في الدنيا، أي: يرد له هذا الجميل حتى لا يلقاه في الآخرة وله عليه يد يكافؤه بها. وقيل: إنما أعطاه القميص إكراماً لابنه وإسعافاً له في طلبته وتطييباً لقلبه، والأول أصح؛ لأن البخاري أخرجه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بأسارى وأتي بـالعباس ولم يكن عليه ثوب، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه -يعني على مقاسه- فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً، وإني لأرجو أن يسلم لفعلي هذا ألف رجل من قومي)، كذا في بعض الروايات: من قومي يعني: من منافقي العرب. والصحيح أنه قال: (رجال من قومه). ووقع في مغازي ابن إسحاق وفي بعض كتب التفسير: فأسلم وتاب لهذه الفِعلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف رجل من الخزرج. وقال الرازي: كان المنافقون لا يفارقون عبد الله بن أبي فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف، والله تعالى أعلم. وإنما قلنا: أسلم وتاب لهذه الفِعلة؛ لأن كلمة الفِعلة هي المرة الواحدة من العمل، لكن الفَعلة تطلق على الفَعلة المستنكرة، وشاهدها من القرآن وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:19]. وقال الحافظ أبو نعيم : وقع في رواية في قول عمر : أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟ ولم يبين محل النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه: وقد نهاك الله أن تستغفر لهم يعني: في قوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113] وهذه الآية نزلت في مكة عند موت أبي طالب حينما قال له: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقاً، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك. وفي رواية الإمام أحمد فيس مسنده قال عمر : لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام عليه، يعني: لأنه بنى على الظاهر من تلفظه بالإسلام، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره، يعني: أراد عمر أن يحول بينه وبين القبلة، فتحول حتى أتى إلى جهة صدر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا: كذا وكذا، يعدد أيامه؟! قال: ورسول الله صلى الله وسلم يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: (أخر عني يا عمر ! إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم)، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت)، قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم! قال: والله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل. ورواه البخاري والترمذي . وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به، أي: الناس سوف يعيروننا إلى الأبد بهذا. وفي بعض الروايات: (إن لم تصل عليه يا رسول الله! لن يصلي عليه مسلم)، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال: أفلا قبل أن تدخلوه، فأخرج من حفرته.. إلى آخره. وهذه الآية الكريمة هي إحدى المواضع التي وافق فيها عمر الوحي الشريف، وهذا من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، أن الوحي نزل موافقاً لقوله في عدة مواضع: منها: أخذ الفداء عن أسارى بدر. ومنها: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]. ومنها: آية أمر النساء بالحجاب. ومنها: آية تحريم الخمر. ومنها: آية تحويل القبلة. ومنها: هذه الآية الكريمة. فهذه من مناقب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه. وقوله تبارك وتعالى: (ولا تقم على قبره) ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا دعي إلى جنازة سأل عنها، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها، وإن كان غير ذلك قال لأهلها: (شأنكم بها، ولم يصل عليها). وقيل أيضاً: إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات؛ لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك. وقال السيوطي في قوله تعالى: (ولا تصل على أحد منهم): في هذه الآية تحريم الصلاة على الكافر. ويدخل في ذلك أيضاً: أن يذكر الكافر ويترحم عليه، فبعض الجهلة يذكر الكفار ويترحم عليهم، فهذا لا يجوز أبداً. كذلك: لا يجوز الوقوف على قبره، وأما دفنه فجائز، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه، وقد اختلفوا هل وجوب الصلاة على المسلم، ووجوب دفنه يؤخذ من هذه الآية أم لا؟ فالذين قالوا: يؤخذ استدلوا بالمفهوم، قالوا: لأنه سبحانه وتعالى علل المنع من الصلاة على الكفار لكفرهم، فقال: (( إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، فإذا زال الكفر وجبت الصلاة، ويكون نحو قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] يعني: الكفار، فدل على أن غير الكفار -وهم المؤمنون- يرون الله ع

ثم بين تبارك وتعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدين فقط من يحب، ويعطي الدنيا من أحب ومن لا يحب؛ لهوانها على الله عز وجل، فقال تبارك وتعالى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:85]. (لا تعجبك أموالهم وأولادهم)؛ لأن الله لم يرد الإنعام عليهم بها ليدل على رضاه عنهم، بل يريد الانتقام منهم. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا) بالمشقة في تحصيلها، وبالمشقة في حفظها، وبالمشقة التي تلحقهم في الحزن عليها عند فراقها. (وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) أي: فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب، وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها. قال الزمخشري : أعيد قوله: (ولا تعجبك) بأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم، يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.

قال تبارك وتعالى: وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:86]. (وإذا أنزلت سورة): اختلفوا هل هذا عام في كل سورة أم المقصود به سورة خاصة؟ قال مقاتل : هي سورة براءة بالذات؛ لأنها التي ورد فيها الأمر بالإيمان والجهاد. (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله) يفهم من هذا أن المؤمنين أسرعوا إلى الإجابة إلى ذلك، فالمؤمنون يسارعون إلى الإجابة، أما المنافقون فإنهم يتعللون ويفتشون عن المعاذير. (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) هذا الأمر: (آمنوا) يحتمل أن يكون موجهاً للمؤمنين والمنافقين، فهناك احتمالان: الاحتمال الأول: أن يكون هذا الأمر موجهاً للمؤمنين، وليس معنى الأمر بالإيمان مع كونهم مؤمنين أنه تحصيل حاصل، وإنما هو كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136]، فالمقصود استدامة الإيمان والثبات عليه، وكقوله: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. الاحتمال الثاني: أن يكون هذا الأمر موجهاً للمنافقين، وعليه فإن المقصود ابتداء الإيمان، آمنوا بالله واتركوا النفاق الذي أنتم فيه، فهنا ابتداء، وفي حق المؤمنين استدامة، أو أن الخطاب للمنافقين: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا) أيها المنافقون، وكأنه يقول لهم: افعلوا فعل من آمن، أو آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. وقيل: قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد؛ لأن الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً، فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً. قوله تعالى: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك) يعني: في التخلف (أولوا الطول) أولوا الغنى منهم (وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين) مع العاجزين عن الخروج.

قوله: (( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ )): دلالة على دنائة همتهم وخفتها. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [التوبة:87]، وهذا إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع وجود الطول -الذي هو الفضل والسعة- وإخبار بسوء طمعهم، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف لحفظ البيوت، والخوالف: هن النساء، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله، وأنه بسبب ذلك (طبع على قلوبهم) أي: ختم عليها (فهم لا يفقهون) أي: ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والهلاك. قال الزمخشري : يجوز أن يراد السورة بتمامها (وإذا أنزلت سورة) أو أن يراد بعضها في قوله: (وإذا أنزلت سورة) كما يقع القرآن والكتاب على كله أو بعضه. وقيل: هي براءة؛ لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد. وقيل: المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد، وهذا أولى وأفيد كما قال الشهاب؛ لأن استئذانهم عند نزول آية براءة عُلِمَ مما مر، وخص ذوي الطول بأنهم المذمومون وهم من لهم قدرة مالية ويعلم منهم القدرة البدنية أيضاً بالقياس. (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) جمع خالفة وهي: المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء، كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول وقال الآخر: إن لم أقاتل فألبسوني برقعاً وفَتَخاتٍ في اليدين أربعاً والخالفة: تكون بمعنى: من لا خير فيه، والتاء فيه للنقل للاسمية، والمقصود: من لا فائدة فيه للجهاد.

ثم بين تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن والمثوبة الحسنى ضد أولئك، فقال عز وجل: لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التوبة:88] يعني: إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الجهاد وعن الغزو، فقد توجه إليه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً، (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم .. ) إلى آخره، وهذا من باب قوله تبارك وتعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، أو من باب قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38] إلى آخره. (( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ )) يعني: في سبيل الله؛ لغلبة حب الله عليهم على حب الأموال والأنفس. (( وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ))، اختلف في قوله تعالى: (وأولئك لهم الخيرات) فمن نظر إلى قوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70] قال: إن الخيرات هنا جمع خيرة، وهن الحور العين يعني: النساء الحسان، ويقال: هي خَيْرة النساء، أصلها خيَّرة، فخفف مثل: هيِّنة وهَيْنة، أو هن الفاضلات من كل شيء، أو يكون معنى: (لهم الخيرات) هي غنائم الدنيا ومنافع الجهاد، وبعض المفسرين رجحوا أن قوله تعالى: (وأولئك لهم الخيرات) يعني: منافع الدارين جمع خير؛ قالوا: لأن اللفظ مطلق، فلا ينبغي تقييده بشيء واحد فقط، مثل الحور العين أو كذا، بل المقصود: الخيرات سواء في الدنيا أو الآخرة، فلهم جميع منافع الدارين من النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في العقبى. (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي: الفائزون بالمطلوب، وقد حكي عن ابن عباس أنه قال: إن الخير لا يعلم معناه إلا الله، فلا ينبغي تقييد الخير هنا، بل يطلق ولا يعلم معناه في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنه عز وجل قال في حق أهل الجنة: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. ثم قال الله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:89] يعني: الذي لا فوز وراءه. ثم بين تعالى أحوال منافقي الأعراب إثر بيان منافقي أهل المدينة، فالآيات الماضية في حق منافقي المدينة، والآن يبدأ الكلام على منافقي الأعراب، فقال عز وجل: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:90].


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع