تفسير سورة الأنفال [12-24]


الحلقة مفرغة

يقول الله سبحانه وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]. (( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ )) أي: يوحي الله إلى الملائكة ويخبرهم أن الله مع المؤمنين، ويحتمل أن معنى قوله: (( أَنِّي مَعَكُمْ )) أنه مع الملائكة إذ أرسلهم ردءاً للمسلمين، فكأنه قيل: أوحى الله إلى الملائكة أني مع المؤمنين، فانصروهم وثبتوهم، وكونوا أنتم معهم أيضاً. (( فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ))، أي: ثبتوا الذين آمنوا بدفع الوسواس، وبالقتال معهم، والحضور مدداً وعوناً. (( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ )) أي: الخوف، ولا شك أن هذا مظهر من مظاهر المدد الرباني الذي يمد الله سبحانه وتعالى به المؤمنين في جهادهم، حتى وإن كانوا أقل عدداً، فإنه سبحانه يمدهم بأسلحة كثيرة ومتنوعة، كما قال عز وجل: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31]، ومن هذه الأسلحة أن الله سبحانه وتعالى يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب والوهن والخوف والفزع، فهذا بلا شك مما يرجح كفة المؤمنين في الجهاد، والأمر ليس مقتصراً على الأسباب الظاهرة التي يراها الناس، ولكن هناك أسباب خفية وجنود من جند الله سبحانه وتعالى لا يعلمهم إلا هو. وقوله: (( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ))؛ أي: أنه من جهة يمدهم بالملائكة ومن جهة يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب. (( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ )) هنا علمهم الله سبحانه وتعالى كيفية الضرب، وقوله تعالى: (( فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ ))، إما أنها أمر للمؤمنين، وإما أنها أمر للملائكة. وإذا قلنا: إن الأمر موجه إلى الملائكة فإنه يكون فيه دليل على أن الملائكة قد قاتلوا بالفعل مع المؤمنين، لأن الملائكة لابد أن يطيعوا أمر الله سبحانه تعالى. وقوله: (( فَوْقَ الأَعْنَاقِ )) يعني: أعالي الأعناق؛ لأن أعالي الأعناق هي المذابح، وإذا حصل الذبح في أعالي الأعناق فإن الرءوس تطير. أو أن المراد: اضربوا الرءوس؛ لأن الرءوس هي التي فوق الأعناق. (( وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ))، البنان هي الأصابع، ومفردها بنانة، والمعنى: كل الأصابع، وقيل: المراد بالبنان مطلق الأطراف، أي: ليس فقط أطراف الأصابع، وإنما مطلق أطراف البدن، سواء في اليدين أو في الرجلين، فتكون من تسمية الكل بالجزء؛ لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل، والمعنى: اضربوهم كيفما اتفق، سواء ضربتموهم في الأماكن التي هي من المقاتل كفوق الأعناق أو على الرءوس، أو في غير المقاتل كالأطراف، فالمهم أن تصيبوهم بما استطعتم من النكاية.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:13]. ثم قال تعالى: (( ذَلِكَ )) يعني: ذلك الضرب أو ذلك الأمر بالضرب. (( بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) أي: خالفوهما فيما شرعا. (( وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) وهذا تقرير لما قبله إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا، أو هو وعيد لما أعد لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدنيا، وبيان لخسرانهم في الدارين.

ثم قال تعالى: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [الأنفال:14]. (( ذَلِكُمْ )) هذا خطاب للكفرة على طريقة الالتفات؛ لأن الخطاب في الآية السابقة موجه إلى الملائكة أو إلى المؤمنين: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12] * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ، الكفار شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:13]، ثم التفت لمخاطبة الكفار أنفسهم فقال عز وجل: (( ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ )) يعني: أيها الكفار! في الدنيا. (( وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ )) يعني: في الآخرة.

ثم نهى تبارك وتعالى عن الفرار من الزحف، مبيناً وعيده بقوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]. (( إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا )) والزحف هو الجيش الكبير أو الكثير العدد، ويسمى زحفاً تسمية له بالمصدر، كما تقول: هذا رجل عدل، والجمع: زحوف، مثل: سلس وسلوس، ويقال: زحف إليه، أي: مشى، وزحف الصبي على استه، أي: قبل أن يقوم، شبه مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان؛ لأن الجيش إذا كان عددهم كبيراً وضخماً فإنه مهما أسرع فإنه يبدو للرائي البعيد كأنه يزحف كما يزحف الوليد؛ فلكثرته يرى كأنه يزحف، أي: يدب دبيباً قبل الالتقاء للضراب أو الطعان، فمعنى قوله: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا )): إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل. وقوله: (( فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ))، أي: لا تولوهم أدباركم، نهاهم عن أن يعطوهم ظهورهم، فضلاً عن أن يفروا أصلاً، يعني: إذا كان هذا الواجب عليكم وإن كنتم قلة وهم كثرة، فكيف إذا كنتم قريبين منهم عداً أو مثلهم عدداً؟ فأولى أن تثبتوا، وألا تولوهم الأدبار، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار، فلم يقل: لا تولوهم الظهور، تقبيحاً للانهزام، وتنفيراً عنه.

ثم قال تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:16]. قوله: (( إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ )) مستثنى من قوله: (( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ))، أي: فيكون له هذا الوعيد: (( فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )). قوله: (( مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ )) يعني: مائلاً لقتال، يقال: تحرف وانحرف واحرورف، أي: مال وعدل، ومثل هذا يحدث عندما يقاتل المسلمون أكثر من طائفة، وهناك طائفة أشد خطراً على المسلمين، فقتالها أهم، فيترك قتال الأولى ويوليها دبره؛ لأنه يريد أن يلحق بالطائفة الأخطر على المسلمين والأهم، فهذا لا يعد فراراً من الأعداء، وليس من التولي المنهي عنه في الآية، وإنما هو مستثنى، وهو نوع من أنواع التحرف لقتال. والنوع الآخر يكون بالفر والكر؛ لأن الحرب خدعة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيخيل للعدو أنه منهزم؛ كي يغتر العدو بذلك فيلحقه، حتى إذا خرج من بين أعوانه ومن بين الجنود الذين معه وانفرد عاد المسلم فكر عليه وحده أو مع كمين آخر من أصحابه المختبئين مثلاً، والذين يخططون لمثل هذا، فهذا باب من أبواب مكايد الحرب، والحرب خدعة، فهذا في الحقيقة ليس فاراً، وإنما فر في الظاهر ليخدع عدوه ويغره، ثم يقتله وحده أو مع الكمين الذي أعده له. وقوله: (( أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ )) أي: منضماً إلى جماعة أخرى من المسلمين؛ ليستعين بهم، فهو يفر في الظاهر؛ لكنه يريد أن يتجه إلى مجموعة أخرى من المؤمنين، فينحاز إليهم؛ ليستعين بهم في القتال. وقوله: (( فَقَدْ بَاءَ )) أي: رجع، (( بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )) أي: بئس ما صار إليه من عذاب النار. وقد دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي: وجوب الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف. وهذه الآية الكريمة تدل على أن الفرار يوم الزحف من الكبائر؛ لأنه توعد عليه وعيداً شديداً، وينضم إلى هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات... وذكر منها التولي يوم الزحف). وظاهر الآيات العموم لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف أو التحيز، وهذا هو المروي عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم ، وقال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء, فأكثر الفقهاء أن هذه الآية عامة لكل المؤمنين في كل زمن وعلى كل حال إلا حالة التحرف أو التحيز. وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم بدر؛ لقوله تعالى: (( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ))، قالوا: فقوله: (( يَوْمَئِذٍ )) يعني: يوم بدر. والجواب: أن الراجح أن الإشارة في قوله تعالى: (( يَوْمَئِذٍ )) تعود إلى يوم لقاء الزحف، لا إلى يوم بدر؛ لأن الله تعالى يقول: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا )) , و(( إِذَا )) صيغة شرط تفيد العموم، فقوله: (( إِذَا )) أي: في أي مرة تحت أي ظرف وفي أي مكان، فقوله: (( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ )) فيه إشارة إلى يوم لقيا الذين كفروا زحفاً. وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى: (( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَة )) يعني: إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الجماعة التي هو فيها سواء قربت تلك الفئة أو بعدت، وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس؛ لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: (لو تحيز إليَّ لكنت له فئة)، يعني: ما الذي جعله يثبت أمامهم مع كثرة عددهم وانحصار المسلمين في هذا الجسر؟ أما إنه لو أوى إلى أمير المؤمنين لما عد فاراً، بل يدخل تحت قوله تعالى: (( أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ )). والمعنى أنه إذا كان يولي من أمام العدو ليعود إلى الأمير أو إلى المسلمين ليتجهز من جديد ويخرج للقتال، فهذا ليس بالفرار المذكور، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: (لو تحيز إليَّ لكنت له فئة) وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه: (أيها الناس! أنا فئتكم)، فأمير المؤمنين هو فئة هؤلاء المجاهدين. وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة: الفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. أي: أنه ما دام يفر ويرجع إلى النبي وإلى الصحابة رضي الله عنهم، ليتجهز للقتال ويعود من جديد فهذا ليس بفار. وحتى لو كان فراراً في الصورة فهو فرار مستثنى، لقوله سبحانه: (( أَوْ مُتَحَيِّزًا ))، أي: أو يفر متحيزاً إلى فئة، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه، وجنح إلى هذا ابن كثير رحمه الله تعالى حيث قال: من فر من سرية إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة. ثم أورد حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم، قال: (كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب؟! ثم قلنا: لو دخلنا المدينة) ثم دخلوا المدينة وهم يشعرون بالخجل وبالخزي؛ لأنهم في نظرهم قد حاصوا، أي: فروا من أمام الأعداء، وبعدما دخلوا المدينة حدثتهم أنفسهم أن يعرضوا أنفسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بحكمه فيهم. قال: (ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا نهيم، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين). والعكارون هم الكرارون، يعني: أن هذا ليس بفرار، لكنه كر، فهذا ليس من الفرار، وإنما هو فرار في الظاهر بصورة مؤقتة؛ كي يكروا ويعودوا من جديد إلى قتال هؤلاء الأعداء؛ لأنهم إذا انضموا إلى الإمام الأعظم وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم ليسوا فارين؛ لأنهم داخلون في قوله تعالى: (( أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ ))، والخليفة فئة كل مسلم، فضلاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: (فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، ثم قال: أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده)، صلى الله عليه وآله وسلم. قال الترمذي : حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وقال الحاكم في مسألة الفرار: إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده، فإن ظن المقاومة لم يحل له الفرار، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد. يعني: لا يشترط أن الفئة تكون في منطقة قريبة من ساحة القتال، بل يجوز ولو كانت بعيدة، ما دام سينحاز إلى فئة من المسلمين، إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهاد، وحمل عليه حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المذكور. وعن الكرخي أنه قال: إن الثبات والمصابرة أمر واجب على المقاتل إلا في ثلاثة أحوال: أولاً: إذا لم يخش الاستئصال. بمعنى: أنه إذا خشي أن المسلمين يستأصلون تماماً وليس هناك أي ثمرة من القتال فهنا يجوز له الفرار، كما حصل من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في سرية مؤتة. ثانياً: أو عرف عدم نكايته في الكفار. ثالثاً: أو التجأ إلى مصر أو جيش للمسلمين. وكان ينبغي أيضاً الإشارة إلى اعتبار شرط العدد الآتي بيانه، فإذا زاد عدد الكفار عن ضعف عدد المسلمين، فهذه من الحالات التي يجوز فيها الفرار. وربما يكون قد أشار إليها ضمناً في قوله: إذا لم يخش الاستئصال، والله تعالى أعلم. وروي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ؛ لقوله تعالى: (( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ))[الأنفال:66]، قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ. ولكن لا نحتاج إلى هذا الجواب؛ لأن اصطلاح النسخ عند السلف ليس كاصطلاح المتأخرين، فالسلف قد يطلقون النسخ يريدون به عدة معانٍ، أما الخلف فاقتصر النسخ عندهم على أن يرد دليل شرعي متراخياً عن دليل شرعي آخر مقتضياً خلاف حكمه، هذا عند الأصوليين، لكن النسخ يأتي في البيان، والإفهام بعد الإيهام، كما سبق أن بينا. يقول القاسمي : كنا أسلفنا أن السلف كثيراً ما يعنون بالنسخ تقييد المطلق أو تخصيص العام، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها، قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة وإن تضاعف عدد المشركين أضعافاً كثيرة، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في هذه السورة: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا [الأنفال:65]، فأوجب الله المصابرة على الواحد بالعشرة، فلما شق ذلك على المسلمين، رحمهم الله تعالى وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال عز وجل: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال:66]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر)، يعني: يجب عليه أن يثبت أمام الاثنين. وبالجملة: لا منافاة بين هذه الآية وآية الضِعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله تعالى في آية الضِعف، فقوله عز وجل:

ثم بين تبارك وتعالى أن نصرهم يوم بدر مع قلتهم كان بحوله تعالى وقوته، فقال عز وجل: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:17]. قوله: (( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ )) أي: بقوتكم. يعني: ما وقع من النصر يوم بدر مع قلتكم ليس بفعلكم أنتم. وقوله: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ )) يعني: سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنكم الفزع والجزع. وقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ ))، يعني: أنت يا خاتم النبيين مَا رَمَيْتَ، أي: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، (( إِذْ رَمَيْتَ )) بالحصباء؛ لأنك أتيت بالسبب، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من الحصباء وألقاه وقال: (شاهت الوجوه)، فابتداء الرمي هو من فعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ بدليل أن الله نسب إليه الرمي فقال: (( إِذْ رَمَيْتَ ))، لكن هذه كانت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن مثل هذا الإلقاء من كف واحدة ليس من شأنه في العادة أن يصل إلى عيون الكفار واحداً واحداً؛ فالله هو الذي أوصل هذه الحصباء إلى عين كل واحد منهم، فأشغله بنفسه. فهذه معجزة كانت من فعل الله سبحانه وتعالى في الحقيقة، وإن كان تسبب بها ابتداءً النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ ))، يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين، فالرمي المنفي غير الرمي المثبت، فالرمي المنفي هو نفي إيصاله إلى وجوه المشركين؛ لأن هذا النوع من الرمي الذي أدى إلى وصول الحصباء إلى عيون المشركين واحداً واحداً هو فعل الله تعالى، وهو المراد بقوله: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )). وأما رمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو رمي مثبت ذو حدود، أما الرمي المنفي عن الرسول فإنه من فعل الله سبحانه وتعالى، فقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ )) يعني: ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت بالحصباء؛ لأن كفاً منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر، ولذا قال سبحانه: (( وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ))، يعني: بلغ في إيصال ذلك إليهم؛ ليقهرهم. وقال أبو مسلم في معنى الآية: أي: ما أصبت إذ رميت ولكن الله أصاب، والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم، وقد روى غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته، فرماهم بها وقال: (شاهت الوجوه)، ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، أي: أن يكونوا صادقين في الحملة على المشركين عقب هذه الرمية مباشرة، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، فانهزموا. يقول الجشمي : تدل الآية على أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه، فما دام الذي أعان ومكن هو الله سبحانه وتعالى، فينسب الفعل إلى الله عز وجل؛ إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال: (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ))، ولذلك يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه، وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر صارت أقوى، فلذلك قال: (( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ))؛ لأن الله هو الذي أعانكم على قتلهم؛ سبحانه وتعالى. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة. وهذا غلط من وجوه عديدة مذكورة في غير هذا الموضع، ومعنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال؛ لأنه لا يقال في لغة العرب: رمى، إلا إذا حصل أنه ضرب بالسهم، والسهم أصاب الهدف، ولا تطلق كلمة الرمي على الحذف الذي لا يترتب عليه الإصابة، يعني: قبل الإصابة لا يطلق عليه رمياً، إنما يطلق العرب الرمي على أن يوجه السهم أو الضربة وأن تصيب، فإن لم تصب فلا يطلق عليه رمي، ولذلك قال تعالى: (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ))، فقوله: (( وَمَا رَمَيْتَ )) يعني: ما وصلت وبلغت، وقوله: (( إِذْ رَمَيْتَ )) أي: حذفت. وقوله تعالى: (( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ )) أي: ليمنحهم من فضله (( بَلاءً حَسَنًا ))، أي: منحاً جميلاً بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه سبحانه وتعالى ويشكروه. وقوله: (( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ))، أي: سميع لدعائهم واستغاثتهم، عليم بمن يستحق النصر والغلب.

ثم قال تعالى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال:18]. (( ذَلِكُمْ )) الإشارة إما إلى البلاء الحسن المذكور في قوله: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا [الأنفال:17]، وإما إلى القتل المذكور في قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ [الأنفال:17]، وإما إلى الرمي المذكور في قوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]. وإعراب (( ذَلِكُمْ )) على الرفع خبر، أي: الأمر ذلكم، أو المقصود ذلكم. وقوله: (( وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ))، أي: مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي: أن المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، فإنه قال: (( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا ))، ثم قال: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ، وهذه بشارة أخرى، فمع ما حصل من النصر فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، وأن كيدهم في تبار ودمار، وقد وجد المخبر على وصف الخبر، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولله الحمد والمنة.

ثم قال عز وجل مخاطباً المشركين: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]. قوله: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))، هذا خطاب للمشركين، يعني: إن تطلبوا الفتح وأن يفصل يبنكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم القضاء بما سألتم. روى أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن ثعلبة : أن أبا جهل قال حين التقى القوم: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة. يعني: أهلكه الغداة، فكان هو المستفتح؛ ليستعجل فصل القضاء من الله سبحانه وتعالى. وروي أيضاً في بعض الآثار: أنهم تعلقوا بأستار الكعبة، وأخذوا يدعون الله سبحانه وتعالى أن ينزل العذاب والهلكة، وأن يهزم أظلم الفريقين، وأقطعهم للرحم، وأفسدهم في الأرض، وأبعدهم عن الله سبحانه وتعالى. فهم استفتحوا، بمعنى: أنهم سألوا الله سبحانه وتعالى أن يفتح بين الفريقين، فالله سبحانه وتعالى يقول لهم: أنتم جلبتم ذلك لأنفسكم، ألستم أنتم الذين استفتحتم؟ ألستم الذين قلتم: اللهم أهلك أظلمنا وأقطعنا للرحم، وأبعدنا منك؟ فلذلك جاءت الآية: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))، أي: أنتم الذين استفتحتم وطلبتم أن يقضي الله سبحانه وتعالى بينكم. وعن السدي : أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة، فاستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال تعالى: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )). وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا؛ لأنهم أيضاً استفتحوا في الآية الأخرى، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]. وقيل: إن في هذا الخطاب تهكماً بهم. أي: أنتم الذين استفتحتم، ودعوتموني أن أنصر أعز الفريقين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين! فتهكم الله سبحانه وتعالى بهم بقوله: (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))؛ لأن الذي جاءهم هو الهلاك والذلة، وهذا كما في كلمة (بشر) في قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:3]، فإن الكافر عندما يسمع كلمة (بشر) ينشرح، فإذا صدم بكلمة (عذاب أليم) يعرف أن المقصود بها التهكم، فكذلك قوله تعالى هنا: (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )) المقصود بها التهكم؛ لأن الذي جاءهم كان الذلة والهلاك والصغار. والقول بأن المقصود من قوله تعالى: (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )) التهكم يصح إذا قلنا بأن الفتح بمعنى النصر. لكن له معنىً آخر فسرت به الآية أيضاً، وهو: أن الفتح هو الحكم والفصل بين الخصمين والقضاء بينهما، فقوله: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا ))، أي: أنتم طلبتم القضاء والحكم، (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ )) أي: حكمي وقضائي. وقوله: (( وَإِنْ تَنتَهُوا ))، يعني: إن تنتهوا وتتوبوا عن الكفر وعن عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. (( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )) في الدنيا وفي الآخرة. (( وَإِنْ تَعُودُوا )) لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نَعُدْ )) لنصره عليكم. (( وَلَنْ تُغْنِيَ ))، أي: لن تدفع (( عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ )) بالنصر، وقرئ: (وإن الله مع المؤمنين) استئنافاً. وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: (( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا )) للمؤمنين، أي: إن تطلبوا الفتح، (( فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ))، فيكون هذا بشارة للمؤمنين بالنصر، والمعنى: إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم فقد حصل لكم ذلكم، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته. وقوله: (( وَإِنْ تَنتَهُوا )) يعني: عن المنازعة في أمر الأنفال -على أن الخطاب للمؤمنين- وعن طلب الفداء عن الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:68]. فقوله تعالى: (( وَإِنْ تَنتَهُوا ))، أي: عن مثله، (( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا ))، أي: إلى تلك المنازعات (( نعد )) عليكم بالإنكار، وتأييد العدو؛ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم، وهذا الوجه قرره الرازي ، ونقله عنه البيضاوي . قال البيضاوي : ويؤكده الآية بعد؛ فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنهي عن الإعراض عنه. يعني: أن البيضاوي يرجح هذا التفسير الأخير، وهو أن الخطاب للمؤمنين. (( وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ))، أي: الكاملي الإيمان الذين لا يخالفون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المنازعات.

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]. قوله: (( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ ))، أي: لا تعرضوا عنه بمخالفة أمره، (( وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ))، أي: تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته. والواقع الذي يعيشه الآن المسلمون بعدما وضعت راية الجهاد واقع مؤلم؛ ذاقوا فيه الذل والصغار على يد أحقر خلق الله سبحانه وتعالى، فلماذا يخاف أعداء هذه الأمة من يقظة روح الجهاد في المسلمين؟ وأتذكر واقعة حصلت في بداية حرب أفغانستان، وطبعاً الأوضاع كانت مختلفة تماماً عما نحن عليه الآن، فالسعودية كانت متحمسة جداً، كما كان الحال هنا أيضاً في مصر لجهاد الأفغان ضد الروس، ثم عقد مؤتمر لمناصرة أفغانستان في السعودية، وكان الملك فهد ولي العهد في أيام الملك خالد رحمه الله، فالمهم أن فهداً ارتفعت حرارته قليلاً، فتحمس في المؤتمر، وأعلن الجهاد، فقامت الدنيا كلها ولم تقعد، وحصلت ضغوط شديدة بصورة لم تكن متوقعة، ونحن نعرف عندنا أن هؤلاء عندما يعلنون الجهاد في مثل هذه المؤتمرات لن يكون هناك أي شيء، ومع ذلك ارتعدت جميع الدول الكافرة، فاضطر إلى أن يصدر تصريحاً آخر بعد ذلك، ويعلن أنه إنما كان يقصد جهاد النفس، وهذا يدل على الضعف والخور الذي نحن فيه، وأننا لا نستطيع حتى أن نقول: جهاد، وأصبح الحال كما يقول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع ! هذا هو حال جهادنا الآن، ومع ذلك ما تحملوا حتى مجرد هذه الإشارة الخفيفة؛ لأنهم فقهوا مكامن القوة في الإسلام أكثر مما يفقهها كثير منا، وعرفوا أن هذا فقط هو الذي يعيد للمسلمين عزهم، أما إذا تركوا الجهاد فلابد أن يلزمهم الذل والصغار، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فصحح كلامه تحت الضغط مع أنه كلام في الهواء. ونقول: فلماذا تعلن عن الجهاد؟! فإن جهاد النفس معلن منذ زمان عند الصوفية وعند غيرهم، والله المستعان! فالشاهد: أننا ونحن نتعامل مباشرة مع الوحي الإلهي نحس بهذه الروح، وفعلاً حُقَّ لأعداء الإسلام أن يخافوا من القرآن، وحُقَّ لهم أن يخافوا من بعث روح الجهاد في المسلمين، ومهما راحوا أو جاءوا فلن يرفع شأن المسلمين إلا الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، لا في سبيل أرض، ولا وطن، ولا مبادئ مفسدة، كما بين الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن القتال سيعود مع اليهود في آخر الزمان، وأن الحجر سينطق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لتقاتلن اليهود، حتى إن اليهودي يختبئ وراء الحجر أو الشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود). فلا يصفه ولا يقول له إلا: يا مسلم! يا عبد الله! قال عز وجل: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5]، وبخلاف هذا لن نذوق إلا الذل والصغار والهوان أكثر مما نحن عليه الآن، والله المستعان.

ثم قال تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:21]. قوله: (( كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا )) يعني: كالذين ادعوا السماع. وقوله: (( وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ))، يعني سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون، فالمنفي هنا سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، وإلا فإن السماع الذي هو سماع الحاسة موجود حتى عند البهائم، فلو أن واحداً أتى بالمعلقات السبع ووقف أمام بقرة أو حمار أو عنزة وظل يقرأ أمامها المعلقات السبع، فإنها ستسمع الحروف، لكن لا تفقه المعاني، وهذا هو السماع المنفي عن هؤلاء الكفار؛ حيث نفى الله عنهم السمع والبصر والعقل. والمقصود أن عندهم عقولاً لكنهم لم ينتفعوا بها في الهداية والتدبر والاتعاظ، وكما قال عز وجل: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]، فالحمار إذا ظللت تناديه أو تتلو أمامه قصيدة أو خطبة وتكلمه، فهو يسمع الحروف سماع دعاء ونداء، فيقول له صاحبه ألفاظاً معينة ويحفظها، فينفذ الأوامر، لكنه إذا كلمه وخاطبه لا يعقل، فهذا هو حال الكفار بالضبط، بل هم أضل من البهائم، كما سنبين إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ، أثبت للمؤمنين فيها سماع القرآن، وهو التدبر والفهم، ثم أردف ذلك بقوله: (( وَلا تَكُونُوا ))، أي: إياكم أن تكونوا (( كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا ))، أي: ادعوا أنهم يسمعون، لكن في الحقيقة (( وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ))، أي: سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون. فالمنفي سماع خاص، لكنه أتى به مطلقاً للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً، وذلك بجعل سماعهم بمنزلة العدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعطاك السمع والبصر والعقل لأجل أن تستعمل هذه الآلات في توحيده وفي فهم آياته، وهذه هي الغاية من خلق هذه الحواس، فإذا عطلتها عن وظيفتها فلم تستعملها فيما خلقت له، فكأنك لم ترزق، وأنت بهذا ما انتفعت الانتفاع المطلوب بهذه الحواس. قال الزمخشري : (( وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ )) والمعنى: أيها المؤمنون! إنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. هذا قول آخر للزمخشري .


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2403 استماع