اليوم الآخر حكم وأحكام [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا وهو غني عنا، ولم يتركنا سدى وإنما اختار بحكمته البالغة أن يجعل هذا الجنس البشري بين جنسين، جنساً أسمى منه وهو الملائكة، محضهم الله لطاعته وعبادته، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لم يسلط الله عليهم الشهوات، ولكنه كلفهم بتكاليف، فهم جنس أسمى من الإنسان فيما يتعلق بهذه الناحية.

والجنس الثاني: هو الحيوان البهيمي، سلط الله عليه الشهوات ولم يكلفه بالتكاليف، وهو أدنى من الإنسان، لأن اهتمامه إنما هو بهذه الحياة الدنيا فقط، ولذلك ضرب الله به المثل للكفار، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، وقد ضرب به المثل في أكثر من موضع في القرآن لمن اتبع الهوى، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، أي: هم شر ما خلق الله، فهم شر من الكلاب والخنازير وغير ذلك من أنواع المخلوقات، وقال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:44]، وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:175-176]، فالقوم الذين كذبوا بآيات الله واتبعوا الهوى يلتحقون بالبهائم والأنعام، بل يكونون أدنى منها لأن الحجة القائمة على الإنسان بالعقل والوحي أكبر من الحجة القائمة على البهائم، فلذلك لا تلام البهائم إذا اتبعت هواها، ويلام الإنسان إذا اتبع هواه.

فالإنسان إذاً بين هذين الصنفين، فإن هو اتبع الهدى وعمل بالتكاليف وأدى الأمانة ولم يتبع الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو البهائم.

وقد جعل الله للإنسان خمسة أعمار:

العمر الأول منها كان في عالم الذر، ( عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره أخرى فأخرج منه ذرية، فقال آدم: أي رب من هؤلاء؟ قال: خلق من ذريتك خلقتهم للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم خلطهم حتى ما يتميزون، فناداهم فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى )، قالها مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، كلهم أقروا له بالربوبية في ذلك الوقت، والإنسان إذا كان يوجه إليه الكلام ويصدر منه الجواب ويؤخذ عليه العهد ويوافق عليه، هذا دليل على أنه دخل الوجود وأصبح ذا عمرٍ موجود، فلذلك خاطبهم الله بهذا الخطاب فقال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172] وهم جميعاً أقروا بذلك، قَالُوا بَلَى [الأعراف:172].

ثم أخذ عليهم العهد بعبادته وتوحيده وأن لا يعبدوا الشيطان، قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:60-61].

وهذا العمر الأول بقي معنا منه أمران:

فطرة الله الخلق على التطلع إلى معبود

الأمر الأول: الفطرة التي فطر الله الخلائق عليها، وهي توحيد الله وعبادته والحاجة إلى الدين، وهذه الفطرة تبقى في الإنسان ما لم تفسد بمفسدات الفطرة، فالإنسان لو ولد في جزيرة من جزائر البحر ولم يلق معلماً ولا مربياً، فبلغ العقل والنضج فلا بد أن يبحث عن شيء يعبده، ولا يمكن أن يدعي بفطرته أنه مستغنٍ عن الدين، أو مستغنٍ عن معبود، ولا يمكن أن يدعي الربوبية لنفسه إذا كانت فطرته سليمة، بل يبحث عن معبود، فإن هُدي إلى عبادة الله عبده، وإلا اتخذ آلهة أخرى عبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك، لكن لا يمكن أن يكون الإنسان بأصل فطرته غنياً عن العبادة وغنياً عن الرب، بل لا بد أن يجد نفسه مضطرة للعبادة، وهذه فطرة باقية لذلك العالم، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

فطرة الله العباد على التعارف والتآلف

والأمر الثاني: الذي بقي معنا من العمر الأول هو التعارف، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فالتعارف إنما كان في عالم الذر في ذلك العمر الأول، وسُمي عالم الذر لأن الصور التي أبرز الله فيها ذرية آدم هي كالذر الذي هو صغار النمل لصغرها، وهي الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كما صح عنه أنه ( ليلة عُرج به عندما استأذن جبريل عند باب السماء الدنيا قيل: من؟ فقال: جبريل، قيل من معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء، ففتح له باب السماء فإذا آدم، وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل: ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه- أي نسمات بني آدم- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة )، إذا نظر قبل يمينه ضحك لكثرة من يرى من أهل السعادة من بنيه، وإذا نظر قبل شماله بكى لكثرة من يرى من أهل الشقاوة من بنيه.

وهذه الأرواح محبوسة في السماء منذ ذلك العالم الأول، وتُنزل إلى الأرض بالتدريج، فإذا مكث الجنين في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون أربعين يوماً علقة، ثم يكون أربعين يوماً مضغة، بعد ذلك يُنفخ فيه الروح، وتُنزل روحه من السماء الدنيا يأتي بها الملك ويؤمر بنفخها فيه، وبأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعلمه وشقي أو سعيد.

وهذا التعارف الذي حصل بيننا في ذلك العالم هو الذي تقع به الألفة في الدنيا فترى الإنسان الذي لا تجمعك وإياه قارة واحدة ولا لون واحد ولا لسان واحد، وتجد نفسك منجذبة إليه كأنك عشت معه زماناً طويلاً، من أين كان ذلك؟ إنما كان من التعارف في العالم الأول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف ).

وهذا التعارف من حكمة الله فيه تحقيق الإخاء، فلو شاء الله لخلق البشر كما خلق الشجر كل شجرة لها أصل تنبت فيه، لكن الله أراد بحكمته البالغة أن يوحد البشر فجعلهم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، ليترابطوا فيما بينهم، لأن الله علم أن الإنسان الواحد عاجز عن صناعة ما يحتاج إليه، فالإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب واللباس والسكن، وهذه أربع حاجيات هي أكبر حاجيات الإنسان، وقد ضمنها الله لآدم في الجنة فقال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، وفي القراءة الأخرى: (وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)، ومعنى القراءتين واحد، (وإنك) للضمان المستقبلي، (وأنك) عطف على الماضي، (لا تظمأ فيها) أي لا تعطش، (ولا تضحى) أي لا تبرز للشمس، ضحى يضحى معناه برز للشمس وكان في العراء، ومن ذلك قول الشاعر:

رأت رجلاً أيمى إلى الشمس عارضت فيضحى وأيمى بالعشي فيخسرُ

فيضحى أي: يبرز للشمس.

فإذاً هذه هي أربع حاجيات هي الطعام والشراب والسكن واللباس، والإنسان محتاج إليها دائماً لا يستغني عنها، ولا يستطيع توفيرها لنفسه بنفسه، فلو قُدر أنه اشتغل بواحدة منها بدأ يحفر في الأرض للبحث عن الماء، فمن سيرفع عنه التراب إذا وصل الحفير إلى مكان لا يستطيع إخراج التراب منه؟ يحتاج إلى شخصٍ آخر، ولو أراد الطعام فزرع في الأرض، هل يستطيع أن يزرع، ثم بعد ذلك أن يرعى، ثم بعد ذلك يسقي، ثم بعد ذلك يصبر إلى أن ينضج الحب، ثم بعد ذلك يحصده، ثم بعد ذلك يبدأ في طحنه وتفصيله، ثم بعد ذلك في طبخه وإنضاجه، هل يستطيع أن يقوم بكل هذه المراتب وحده؟ من المستحيل.

وكذلك اللباس، هل يستطيع أن يزرع القطن بكل مراحل الزراعة ثم بعد ذلك يفصله، ثم بعد ذلك يغزله، ثم ينسجه بنفسه؟ من المستحيل أن يقع ذلك، وهكذا في كل شئون حياته فهو محتاج إلى من يعينه، فلذلك جعل الله البشر يترابطون فيما بينهم.

الأمر الأول: الفطرة التي فطر الله الخلائق عليها، وهي توحيد الله وعبادته والحاجة إلى الدين، وهذه الفطرة تبقى في الإنسان ما لم تفسد بمفسدات الفطرة، فالإنسان لو ولد في جزيرة من جزائر البحر ولم يلق معلماً ولا مربياً، فبلغ العقل والنضج فلا بد أن يبحث عن شيء يعبده، ولا يمكن أن يدعي بفطرته أنه مستغنٍ عن الدين، أو مستغنٍ عن معبود، ولا يمكن أن يدعي الربوبية لنفسه إذا كانت فطرته سليمة، بل يبحث عن معبود، فإن هُدي إلى عبادة الله عبده، وإلا اتخذ آلهة أخرى عبد حجراً أو شجراً أو غير ذلك، لكن لا يمكن أن يكون الإنسان بأصل فطرته غنياً عن العبادة وغنياً عن الرب، بل لا بد أن يجد نفسه مضطرة للعبادة، وهذه فطرة باقية لذلك العالم، قال الله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

والأمر الثاني: الذي بقي معنا من العمر الأول هو التعارف، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، فالتعارف إنما كان في عالم الذر في ذلك العمر الأول، وسُمي عالم الذر لأن الصور التي أبرز الله فيها ذرية آدم هي كالذر الذي هو صغار النمل لصغرها، وهي الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج كما صح عنه أنه ( ليلة عُرج به عندما استأذن جبريل عند باب السماء الدنيا قيل: من؟ فقال: جبريل، قيل من معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء، ففتح له باب السماء فإذا آدم، وإذا عن يمينه أسودة وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسألت جبريل: ما هذه الأسودة؟ فقال: نسم بنيه- أي نسمات بني آدم- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاوة )، إذا نظر قبل يمينه ضحك لكثرة من يرى من أهل السعادة من بنيه، وإذا نظر قبل شماله بكى لكثرة من يرى من أهل الشقاوة من بنيه.

وهذه الأرواح محبوسة في السماء منذ ذلك العالم الأول، وتُنزل إلى الأرض بالتدريج، فإذا مكث الجنين في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون أربعين يوماً علقة، ثم يكون أربعين يوماً مضغة، بعد ذلك يُنفخ فيه الروح، وتُنزل روحه من السماء الدنيا يأتي بها الملك ويؤمر بنفخها فيه، وبأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعلمه وشقي أو سعيد.

وهذا التعارف الذي حصل بيننا في ذلك العالم هو الذي تقع به الألفة في الدنيا فترى الإنسان الذي لا تجمعك وإياه قارة واحدة ولا لون واحد ولا لسان واحد، وتجد نفسك منجذبة إليه كأنك عشت معه زماناً طويلاً، من أين كان ذلك؟ إنما كان من التعارف في العالم الأول، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف ).

وهذا التعارف من حكمة الله فيه تحقيق الإخاء، فلو شاء الله لخلق البشر كما خلق الشجر كل شجرة لها أصل تنبت فيه، لكن الله أراد بحكمته البالغة أن يوحد البشر فجعلهم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، ليترابطوا فيما بينهم، لأن الله علم أن الإنسان الواحد عاجز عن صناعة ما يحتاج إليه، فالإنسان يحتاج إلى الطعام والشراب واللباس والسكن، وهذه أربع حاجيات هي أكبر حاجيات الإنسان، وقد ضمنها الله لآدم في الجنة فقال: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119]، وفي القراءة الأخرى: (وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)، ومعنى القراءتين واحد، (وإنك) للضمان المستقبلي، (وأنك) عطف على الماضي، (لا تظمأ فيها) أي لا تعطش، (ولا تضحى) أي لا تبرز للشمس، ضحى يضحى معناه برز للشمس وكان في العراء، ومن ذلك قول الشاعر:

رأت رجلاً أيمى إلى الشمس عارضت فيضحى وأيمى بالعشي فيخسرُ

فيضحى أي: يبرز للشمس.

فإذاً هذه هي أربع حاجيات هي الطعام والشراب والسكن واللباس، والإنسان محتاج إليها دائماً لا يستغني عنها، ولا يستطيع توفيرها لنفسه بنفسه، فلو قُدر أنه اشتغل بواحدة منها بدأ يحفر في الأرض للبحث عن الماء، فمن سيرفع عنه التراب إذا وصل الحفير إلى مكان لا يستطيع إخراج التراب منه؟ يحتاج إلى شخصٍ آخر، ولو أراد الطعام فزرع في الأرض، هل يستطيع أن يزرع، ثم بعد ذلك أن يرعى، ثم بعد ذلك يسقي، ثم بعد ذلك يصبر إلى أن ينضج الحب، ثم بعد ذلك يحصده، ثم بعد ذلك يبدأ في طحنه وتفصيله، ثم بعد ذلك في طبخه وإنضاجه، هل يستطيع أن يقوم بكل هذه المراتب وحده؟ من المستحيل.

وكذلك اللباس، هل يستطيع أن يزرع القطن بكل مراحل الزراعة ثم بعد ذلك يفصله، ثم بعد ذلك يغزله، ثم ينسجه بنفسه؟ من المستحيل أن يقع ذلك، وهكذا في كل شئون حياته فهو محتاج إلى من يعينه، فلذلك جعل الله البشر يترابطون فيما بينهم.

العمر الثاني من هذه الأعمار: هو عمر الإنسان فوق الأرض، وهذا العمر الذي يمكثه الإنسان فوق الأرض هو أقصر الأعمار، لكنه أخطر الأعمار؛ لأنه عمر التكليف، وقد جعل الله فيه الإنسان تحت خمس رقابات:

رقابة الله سبحانه وتعالى على الخلق

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله، وهو علام الغيوب، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، أحاط علماً بما فوق السماء وبما تحت الثرى، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، علم ما يخطر في قلب الإنسان وما يدور في خلده، لا تخفى عليه خافية، لا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، ولا تختلط عليه الأصوات ولا الأفكار ولا هواجس الإنسان وما يدور في خلده، كل ذلك معلوم لدى الله والله هو أسرع الحاسبين جل جلاله، فهذه الرقابة ليس فيها فوت، لا يفوت الله جل جلاله أي شيء من عباده، لا من حركة ولا من سكون، وقلوب العباد جميعا ًبين أصبعين من أصابع الرب جل جلاله يقلبها كيف يشاء.

رقابة الملائكة الكرام الكاتبين على الخلق

الرقابة الثانية: هي رقابة الملائكة الكرام الكاتبين، فقد جعل الله مع كل واحد من البشر في هذا العمر واحداً وعشرين من الملائكة، يحصون عليه أعماله ويكتبونها ويشهدون عليه، منهم صاحب اليمين وصاحب الشمال، فصاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، ومنهم القرين، وكل إنسان له قرينان: قرين من الملائكة وقرين من الشياطين، ومنهم المعقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، ومنهم ملائكة الجوارح كل جارحة عليها ملك، ومنهم كذلك الملائكة الذين يتعاقبون في الناس، ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر )، فالجميع واحد وعشرون ملكاً، وهذا عدد كبير جداً، وهم يعلمون أعمال الإنسان كما قال الله تعالى: وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، وقال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

رقابة الرسل على أممهم

الرقابة الثالثة: رقابة الشهيد من الرسل، فرسل الله يشهدون على البشر بأعمالهم، وسيستشهدون عليهم يوم القيامة، فكل أمة فيها شهيد من الرسل يشهد عليها بأعمالها، ومحمد صلى الله عليه وسلم شهيد على هذه الأمة، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، وقال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ [النحل:89]، والشهادة من شرطها العلم، فالإنسان الذي يشهد بما لا علم له به شاهد زور، فلذلك لا يمكن أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أعمال أمته إلا إذا أطلعه الله عليها، حتى يشهد بها، لأن الله يقول: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]، ويقول: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، فمن شرط الشهادة أن تعلم ما تشهد به، فلذلك يطلعه الله على أعمال أمته حتى يأتي شهيداً عليهم يوم القيامة بأعمالهم، وهذه الشهادة هي رقابة، لأن الأعمال تُعرض عليه لأنه لا يمكن أن يشهد بمجهول لديه.

رقابة الناس بعضهم على بعض

الرقابة الرابعة: هي رقابة بعض الناس على بعض، فالمؤمنون شهداء الله في أرضه، فمن أثنوا عليه بخيرٍ استحق بشفاعتهم الجنة، ومن أثنوا عليه بشر استحق بشهادتهم عليه النار، كما صح في صحيح مسلم: ( عن عمر رضي الله عنه، أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بجنازة فأثنى الناس عليها خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مر بجنازة أخرى فأثنى الناس عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر: وما وجبت يا رسول الله؟ قال: أنتم شهداء الله في أرضه، فمن أثنيتم عليه بخيرٍ وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه بشرٍ وجبت له النار )، والله تعالى يقول: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105]، والمؤمنون فهم شهداء الله يستشهدهم، كما قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة:143].

وهؤلاء الشهود إنما هم العدول منهم، فليس كل إنسان من البشر من شهداء الله يوم القيامة، وليس كل إنسان من المؤمنين من شهداء الله يوم القيامة، بل إنما يختار الله الشهيد من المؤمنين اختياراً، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، والذين يختارهم الله لهذه الشهادة هم عدول كل عصر من العصور، وقد أخرج أبو عمر في مقدمة التمهيد والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين )، فعدول كل خلف هم شهود الله، يشهدون على ذلك العصر الذي هم فيه، ويؤدون شهادتهم، ورقابتهم قائمة على الإنسان.

والناس أكيس من أن يمدحوا رجلاً حتى يروا عنده آثار إحسانِ

وقديماً يقول الحكماء: ألسنة الخلق أقلام الحق.

رقابة الإنسان على نفسه

الرقابة الخامسة: رقابة الإنسان على نفسه، بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، فالإنسان يوم القيامة تشهد عليه جوارحه بما عمل، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24]، في ذلك الوقت سيختم الله على لسانه وتتكلم جوارحه جميعاً، حتى جسده وجلده وما فيه من شعر تشهد عليه جميعاً، كما قال الله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [فصلت:21]، وقال تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65]، فكل ذلك يشهد على الإنسان يوم القيامة، وهي رقابة قريبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما من يوم إلا والجوارح كلها تؤثم اللسان فتقول: اتق الله فينا فإننا بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا )، هذا اللسان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين كان رديفه: ( ألا أدلك على ملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: احفظ عليك هذا- وأشار إلى لسانه، فقلت: يا رسول الله أوإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم! )، وقد صح أن عمر رضي الله عنه دخل على أبي بكر رضي الله عنه في عهد خلافته فوجده يجذب لسانه بيده، فقال: يا خليفة رسول الله ماذا تعمل بلسانك؟ فقال: إن هذا أوردني الموارد، هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكيف بمن دونه!

لذلك فإن الجوارح هي شهود لله سبحانه وتعالى على الإنسان، وهي من أقرب الشهود إليه، لا يمكن أن تخطر ببال الإنسان خطرة إلا شهد بها بعض أعضائه، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عضو من ابن آدم كُتب عليه حظه من الزنا، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السماع، والقلب والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، فكل جارحة من الجوارح لها عملها وتأتي بشهادتها يوم القيامة على الإنسان.

عمر الإنسان بين النفخة والنزعة

فإذاً هذه الرقابات الخمس كانت في هذا العمر الدنيوي المحدود، وهذا العمر الدنيوي يبدأ من نفخ الروح في الجنين وهو في بطن أمه، وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: ( إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعون يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد ) إلى آخر الحديث.

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء حياة الإنسان من نفخ الروح فيه وهو جنين في بطن أمه، ونهايتها هي بانتزاع الروح منه عند الموت، كما قال الله تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، كما قال تعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:1-2]، قال تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حال ذلك، فقال: ( إن العبد إذا كان في منقطع من الدنيا وإقبال من الآخرة أتاه ملك الموت، فإن كانت نفسه طيبة جلس عند رأسه، فقال: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30]، فتتهوع نفسه من فيه كما تتهوع القطرة من في السقاء، فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى ملائكة قد جلسوا مد البصر كأن وجوههم الشموس، فيجعلونها في كفن من أكفان الجنة، ويجعلون عليها من عطر الجنة، ويرتفعون بها إلى سماء الدنيا فيستأذنون، فيقال: مرحباً بالنفس الطيبة، فتفتح لها أبواب السماء حتى تخر ساجدة تحت العرش، ثم يُقال لها: ارجعي للسؤال، وإن كانت نفسه خبيثة جلس عند رأسه، فقال: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وعقوبة، فتتفرق نفسه في البدن، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول- أي: بتقطع وتعثر- فلا تمكث في كفه طرفة عين حتى يسلمها إلى أولئك الملائكة وهم بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:93-94]، فيجعلونها في سفطٍ من أسفاط النار، ويجعلون عليها من قطران النار، ثم يرتفعون بها إلى سماء الدنيا فيستأذنون، فيقال: لا مرحباً بالنفس الخبيثة، لا تُفَتَّحُ لَهمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، فترجع خائبةً من حيث أتت ). نسأل الله السلامة والعافية.

وما بين النفخة والنزعة هو عمر الإنسان الطبيعي، وهذا العمر هو أقصر أعمار الإنسان وهو عمر التكليف والامتحان، وقد دخلناه الآن وبدأت أقلام الملائكة تعمل وهي أقلام الامتحان، يُكتب علينا عملنا، لأننا أتينا إلى الأرض غرباء لسنا من أهلها في الأصل، وإنما أُهبط أبونا آدم وأمنا حواء إلى هذه الأرض لهذه المهمة النبيلة العظيمة وهي تحقيق عبادة الله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ [الذاريات:56-58].

خلقنا الله لحكمتين إحداهما تختص بنا دون الجن، والأخرى مشتركة بيننا وبين الجن، فالحكمة المشتركة بيننا وبين الجن هي العبادة، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، والحكمة المختصة بالبشر هي الاستخلاف في الأرض، قال الله تعالى لملائكته وآدم منجدل في طينته: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، وكان ذلك قبل حياة آدم بأربعين سنة.

وهذا الاستخلاف يشمل المؤمنين والكافرين، فالجميع استخلفهم الله على ما جعل تحت أيديهم من المال ومن التصرف في هذه الحياة الدنيا، ولذلك قال الله تعالى: آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ [الحديد:7]، آمنوا بالله ورسوله هذا خطاب للجميع، يشمل الكافرين والمؤمنين كلهم مطالب بأن يؤمن بالله ورسوله، ثم بعد ذلك وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، هذا دليل على أن كل من ملك شيئاً من أمر الدنيا أو جُعل تحت يده أو هيئ له الانتفاع به فقد استخلفه الله عليه، أي: أودعه عنده وائتمنه عليه أمانة عُرضت على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، حملها الإنسان بمختلف شرائحه وأجناسه، فتحملها المؤمنون والكافرون معاً، ومدة ذلك محصورة يسيرة، فالإنسان يظن أنه يملك ما تحت يده، وأنه يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، ولكن الواقع خلاف ذلك، إنما هو وكيل ينتظر العزل في كل حين، وعزله إما بموته، وإما بالحجر عليه، وإما بإجاحة ملكه وإزالته، وإما بزوال عقله وتصرفه، وإما بسجنه والحيلولة بينه وبين التصرف، كل ذلك ممكن، والله يعزل من شاء عما شاء، ويولي من شاء ما شاء، كما قال الله تعالى: قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27].

فرص الإنسان للنجاة من عذاب الله في العمر الدنيوي

وهذا العمر القصير للإنسان فيه ثلاث فرص للنجاة من عذاب الله:

الفرصة الأولى للنجاة من عذاب الله

الفرصة الأولى: هي هذه الحياة الدنيا، فهذه الحياة الدنيا هي دار العمل، وبعدها الآخرة دار جزاء ولا عمل، فما لم يعمله الإنسان في الدنيا لا يمكن أن يعمله يوم القيامة، الإنسان في هذه الدار لا بد أن يتزود منها لآخرته وإلا كان من المفلسين يوم القيامة، لأنه لا يمكن أن ينتظر الآخرة بالعمل إذ ليست دار عمل، العمل في هذه الحياة فقط.

نحن نذمها ونعلم أنها دنية لكن مع ذلك لا نجاة في القيامة إلا بها، فالدنيا إما أن تكون مشتقة من الدناءة لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، أو أن تكون مشتقة من الدنو لقربها؛ لأنها أقرب إلينا من الدار الآخرة بحسب الترتيب الزمني، ولكن مع ذلك لا نجاة في الآخرة إلا بعملٍ يقوم به الإنسان في الحياة الدنيا، فأهل الجنة يُقال لهم يوم القيامة: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، وتلك الأيام الخالية إنما هي أيام الدنيا ولياليها، ولا يمكن أن يحسب فيها شيء من القيامة.

وهذه الفرصة لا شك أنها محدودة جداً، فالدنيا لها نهاية حتمية، ونهايتها بإذن الله للملك في النفخ في الصور، وهو الآن قد التقمه، وأصغى ليتاً أي رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، فإذا نفخ فيه نفخة الفزع- وهي النفخة الأولى- صُعق لها الخلائق جميعاً، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وهذه النهاية الحتمية لهذه الدار نحن نقترب منها، فهذه الدنيا هي عبارة عن قرون وأمم، بداية عهدها كانت مع آدم وقرنه، ثم بعد ذلك جاء نوح ومن معه، وجاءت الرسل تباعاً تترا وختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأمته آخر أمم الدنيا قطعاً، وقال: ( بُعثت أنا والساعة كهاتين )، وأشار بالمسبحة والوسطى، فالوسطى أطول من المسبحة قليلاً، وهذا الفرق بين بعثته وبين القيامة إذا ما قُورن الأمر من بداية الدنيا.

فلذلك لا بد أن نعلم أن عصرنا هذا هو عصر اقتراب من الساعة، كل يوم جمعة بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ننتظر قيام الساعة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مطرقة مسيخة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه تنتظر الساعة، إلا الإنسان والجن )، فجميع الخلائق ما عدا الإنس والجن يرتاعون روعاً شديداً في يوم الجمعة من طلوع فجره إلى طلوع شمسه، فهم منتظرون مسيخون مطرقون من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ينتظرون الساعة، لأن هذا الوقت هو وقت قيامها، وهي لا تأتي إلا بغتة، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف:187]، ولكنها آتية لا ريب فيها، فإذا عرفنا ذلك فإن فرصتنا هي تدارك أيام الدنيا الباقية للعمل قبل فوات الأوان.

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقد أخرج أصحاب السنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بادروا بالأعمال ستاً، فهل تنتظرون إلا غناً مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فـالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ).

الفرصة الثانية للنجاة من عذاب الله

الفرصة الثانية: هي عمر الإنسان الشخصي، فالإنسان عندما ولد حُكم عليه بالموت، فكل مولود ميت، لا يمكن أن يولد المولود إلا وقد قُدر له وقت موته، يُكتب معه عند نفخ الروح فيه وهو جنين وقت موته في الخطة التفصيلية، فأنتم جميعاً تعلمون أن من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وهذا القدر مراتب:

المرتبة الأولى منه: علم الله بجميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً، وهو علم سابق بجميع الأشياء.

المرتبة الثانية: كتابة كل ما هو كائن في أم الكتاب وهي الصحف التي عند الله فوق عرشه، أمر القلم أن يجري بما هو كائن، فجرى بما هو كائن، وكل ذلك في الصحف التي عنده فوق عرشه، لا محو فيها ولا تبديل ولا تغيير، كما قال الله تعالى: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] وقوله: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] دليل على أنها لا محو فيها، وليس فيها ارتباط بالشروط ولا بانتفاء الموانع، بخلاف اللوح المحفوظ فيكتب الله فيه ما شاء من أمره، لكن يكون مربوطاً بالشروط وانتفاء الموانع، وكذلك ما يُكتب مع الجنين من عمره ورزقه يكون مشروطاً بالشروط وانتفاء الموانع.

ولذلك ( فإن ملك الموت جاء يريد قبض روح موسى عليه السلام يظنه قد حان أجله لأن هذا المكتوب بين يديه مع أنه مشروط، فلما أتاه صكه ففقأ عينه )، أي عين تلك الصورة التي ظهر فيها الملك وإلا فالصورة لا تمثل الملك، فجبريل كان يظهر للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وجبريل صورته الحقيقية له ست مائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم على صورته الحقيقية إلا مرتين فقط، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى [النجم:13-15]، مرتان فقط رآه النبي صلى الله عليه وسلم فيهما على صورته الحقيقية، أما ما سوى ذلك فيأتي في صورة رجل.

ولذلك فالعين التي فقئت ليست عين الملك في الواقع، الملك لا ندري كم له من عين، قد يكون له آلاف العيون، وقد لا يكون له عين أصلاً في حقيقته، والله أعلم بتلك الأمور، ونحن لا نبحث في كيفياتها، لكننا نؤمن بأن الصورة التي ظهر فيها الملك فقط هي التي فُقئت عينها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو الصادق المصدوق.

( ورجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، فالله خير موسى في ذلك الوقت بين أن يعيش، فيضع يده على جنب ثور فما وقع تحت يده من الشعر له بكل شعرة سنة، وبين أن يموت في وقته، فقال: ثم ما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: إذا كان لا بد منه فالآن، فمات موسى عليه السلام بأجله الذي علمه الله في سابق قدره ).

وكل إنسان لا يموت إلا بأجله الذي علمه الله في سابق القدر، لكن هذا الأجل محدد وهو مجهول بالنسبة إلينا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]، لكننا نعلم أنه آتٍ لا محالة، من الناس من يموت بالمرض، ومنهم من يموت بحوادث السير، ومنهم من يموت فجأة على فراشه دون سابق إنذار.

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد

ونحن كل يوم نودع بعثاً إلى الدار الآخرة لا يرجعون إلا عند الحشر، فإذا كنا نشاهد الموتى وفيهم من هو أسن منا، ومن هو أصغر، ومن هو معاصر لنا، ومن هو أفرغ منا، ومن هو أقوى، ومن هو أغنى، ومن هو أكثر سلطاناً وجاهاً، ونراهم جميعاً يتجهون إلى الدار الآخرة فيستوون، إذا دفنوا انقطعت أخبارهم، وإذا وقفت على مقبرة فيها الملك والمملوك، وفيها الغني والفقير، وفيها الجميل والقبيح، وفيها الطويل والقصير، وفيها الأبيض والأسود، لا تميز بينهم بشيء، الذي تراه هو القبور وما تحتها الله أعلم به، ( فالقبر إما روضة من رياض الجنة، وأما حفرة من حفر النار )، وهم يداركون هنالك، والقبر الواحد يجتمع فيه من هو في غاية النعيم ومن هو في غاية العذاب، فتختلط عظامهما وذراتهما، ولا هذا يحس بشيء من نعيم هذا، ولا هذا يحس بشيء من عذاب هذا، كل لا يصل إليه إلا ما كُتب له، فلذلك كان لا بد من استغلال هذا العمر الذي هو فرصة ثانية للنجاة في هذه الدنيا.

الفرصة الثالثة للنجاة من عذاب الله

الفرصة الثالثة: هي ما مكننا الله فيه من أنواع النعم، فنعم الله سبحانه وتعالى علينا سابغة، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ [النحل:53]، أنت خُلقت بنعمة، وآمنت بنعمة، وأُعطيت السمع والبصر والجوارح بنعمة، وكل لحظة من عمرك هي نعمة تتجدد عليك، وتمتيعك بعقلك نعمة، والحيلولة بينك وبين الفجور والمعصية نعمة، وأنواع النعم لا تستطيع إحصاءها، فكل شعرة وكل عظم وكل تحرك وكل سكون من نعم الله عليك التي لا تستطيع إحصاءها بوجه من الوجوه، وإذا كان الحال كذلك فاعلم أن هذه النعم لها آجال محددة تنتهي إليها، كل نعمة لها أجل محدد في علم الله تنتهي إليه، وتمتيعك بها هو مثل مدة حياتك، أحوال الدنيا متقلبة، فالغني اليوم فقير غداً، والفقير اليوم غني غداً، والصغير اليوم كبير غداً، والكبير اليوم حرض غداً وهكذا، فتقلبات الدنيا سائرة وهي كالمنجنون.

وما الدهر إلا منجنونا بأهله وما صحاب الحاجات إلا معذبا

تتقلب بأهلها تقلباً عجيباً، وهذه التقلبات كثيرة؛ بين الصحة والسقم، والغنى والفقر، والحياة والموت، والصغر والكبر، وغير ذلك كلها مؤذنة بالزوال والانتقال، كما قال الشاعر الحكيم:

ذهب الزمان فلا زمان جمانا وكأن ما قد كان لم يك كانا

يا من لشيخ قد تطاول عهده أفنى ثلاث عمائمٍ ألوانا

يقصد لون شعره.

سوداء حالكةً...

أول الشعر كان كذلك.

..وسحق مفوفٍ..

أي حينما يمازج البياض من الشيب السواد في اللمة.

سوداء حالكةً وسحق مفوفٍ وأجد ثوب بعد ذلك هجانا

أي: أبيض تماماً.

والموت يأتي بعد ذلك كله وكأنما يُعنى بذاك سوانا

فهذا الموت آتٍ لا محالة، وأنت تنتظره في كل طرفة عين، ولا تدري متى يأتيك ولا على أي حالة يأتيك، ففرصتك هي هذا العمر الذي أنت فيه، والنعم التي أنعم الله بها عليك، وهذه النعم ماضية، ومدة بقائك وتمتيعك بأي نعمة من النعم هو مثل جلوسك على كرسي الحلاق ليحلق رأسك ثم تقوم لتترك مكانك لغيرك، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، هل جلس أحد على كرسي الحلاق وهو يريد البقاء عليه أبد الآبدين؟ هكذا الدنيا كلها.

نحن الآن نسكن ديار قومٍ قد ماتوا وانتقلوا، وسنتركها لمن يأتي بعدنا، والإنسان في الحياة يجمع من أنواع المال ما أذن له بجمعه، وإذا ما تفرقه ورثته يبدءون في الجمع من جديد وهكذا، فكل ما في الدنيا من الأرزاق لم يزد على الأيام الأربع الأول من خلق الكون، خلق الله الكون فخلق في الأرض أرزاقها، قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، فكل ما في الدنيا من الأملاك والأرزاق كان في تلك الأيام الأربع الأول ما تجدد شيء بعد ذلك، قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:10]، وبعد ذلك إنما يتفاوت الناس في الجمع والتفريق، هذا يجمع ليفرق غيره، ويبدأ أولئك في الجمع ثم يفرق من سواهم، وهكذا دواليك بالترتيب، وهذا يدلنا على أن علينا أن لا نحرص كثيراً على جمع أمرٍ سيفرقه غيرنا، فما هو إلا لعبة أطفال يبنونها، لكن بناءها بنية النقض والنكث، هم يبنونها ويجتهدون في بنائها ويتأنقون فيه، ولا يهدأ لهم بال حتى يهدموا ما بنوا، فهذه طبيعة الحياة الدنيا.

فلذلك لا بد أن نعرف أن فرصة النعم فرصة لا بد من استغلالها أيضاً قبل فوات الأوان.

الرقابة الأولى: رقابة الملك الديان جل جلاله، وهو علام الغيوب، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، أحاط علماً بما فوق السماء وبما تحت الثرى، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، علم ما يخطر في قلب الإنسان وما يدور في خلده، لا تخفى عليه خافية، لا تحجب عنه سماء سماءً، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، ولا تختلط عليه الأصوات ولا الأفكار ولا هواجس الإنسان وما يدور في خلده، كل ذلك معلوم لدى الله والله هو أسرع الحاسبين جل جلاله، فهذه الرقابة ليس فيها فوت، لا يفوت الله جل جلاله أي شيء من عباده، لا من حركة ولا من سكون، وقلوب العباد جميعا ًبين أصبعين من أصابع الرب جل جلاله يقلبها كيف يشاء.