تأملات أم في قصة الذبيح .. - أم هانئ
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعـــــد:* نتابع معًا أخواتي الكريمات رحلتنا مع تأملات أمّ، أبدأ مستعينة بالله تعالى سائلتــه التوفيق والســـداد: من منا لا يعلم قصة الذبيـــح، الُمُفدَّى بكبش من السماء مليـــح ؟! في كل عام وفي كريم ظلّ هذه الآيام؛ حيث يجود الله على خلقه بكثير من الرحمات، ويعبق الكون حولنا بجميل نعمه وعاطر النفحات، تلّح على خاطري تلكم الذكريات بكل ما تحمله لنا من صادق الحب ّ لله بأنفـــس القربـــات .
وقد كنت أظن أني بكل أحداثها خبيرة، وبدقيق معانيها وجليلها ملمة بصيرة، والحق أني كنت بظني هذا واهمــة ! أدّعي فهما صعب النوال حالمـــة؛ فأيــن أنا من عميـــق معانيها، وتصور عظيم البلاء فيهــــا ؟!!
عاينت ذلك لما صيرني الله أمًّا تهيم بصغارها حبًّا، فلا حب يعدل في القلب حب الولد؛ حيث فطرة الله لا يستطيع جحدها من أحد، وقد جاء في الحديث:«أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه ابن له ، فقال له : أتحبه ؟فقال : أحبك الله كما أحبه ، فمات ففقده ، فسأل عنه فقال : ما يسرك أن لا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته عنده ، يسعى يفتح لك» (صحيح النسائي رقم: [1869] )
والشاهد أن نبينا الكريم -عليه الصلاة وأتم التسليم- لم ينكر على ذلك الوالد شديد حبّه وتعلق قلبه بولده هكذا فطر الله قلوب العباد ومن وجد غير ذلك فعن سَوِيِّ فطرته قد حاد .
-كما جاء في صحيح الأثر:- « قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي .
فإذا امرأة من السبي ، تبتغي ، إذا وجدت صبيا في السبي ، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته .
فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ " قلنا : لا .
والله ! وهي تقدر على أن تطرحه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من هذه بولدها.» ( صحيح مسلم رقم: [2754] )
فرحمة الأم بأولادها شديدة تكاد تكون طاغية فريدة، لله كم له في خلقه من حكم، فَفَطْرُهُ قلوب الأمهات على الرحمة من أكبر العطايا والنعم .
**ولنأتِ أخواتي الفضليات على ذكر أول الحكاية، وكيف كانت أحداثها عجيبة منذ البداية :-
**(1)**
* رُزق إبراهيم الخليل الولد الذي تمناه، بعد سنين طوال من الشوق يلقاه، فمــا لبث غير قليل إلا وجاءه الأمر من العظيــم بالرحيـــل فــي صحراء قاحلة وشُقة عن الديار بعيدة، يترك أمته مع وليدها عند بيته الحرام وحيدة.
كما جاء في صحيح الأثر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عند البخاري قد صح الخبر:« أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه ، حتى وضعها عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إيراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ، الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يتلفت إليها.....» =
- الحق أنني رأيت نفسي بعين الخيال مكانها فلم أقوَ على تصوّر ما نالها ؟ فقلت لنفسي: هبي أن زوجي تركني وصغيري في ميدان عام يكتظ بالناس في وسط الزحام، فراعني أني ما كنت لأقبل تركه لنا ثَــمَّ بسلام هذا إن لم أزده وأشدد عليه العتاب والملام:- كيف تتركني مع ابني وحيدة في هذا الخضم من الأنام ؟!!
- هبي أنه قال لي: هكذا أُمرتُ ؟
- فما كنت لأعدم أن أحير جوابا عليه سيماء الدفع والاعتراض مؤّكَّدا بالنفي والعَبَرات: أن يكون مثل هذا للإله مراد ؟!! وأكملت مع نفسي الكلام: ومع فارق الحالين التام ، أُراها قابلت هذا البلاء العظيم بكل رضا قلبٍ وكمال تسليم، بل زادت- عليها السلام - توكلا على الإله عظيم!! فأخذ بجماع نفسي العجب، زاده ردًها على الخليل بكمال إيمان وعظيم أدب :-
= «...
فقالت له : آلله الذي أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ثم رجعت...» =
**ويبدو أنه لن ينقضي من النفس العجب، حين صدّق الخليل أمر الإله وذهب لم يلتفت إليهما وأدبر مسرعا إلى البعيد عنهما؛كأنما يخشى غلبة الشفقة على فؤاده؛؛ فيبدو عليه جمّ حبّه لهما وفيض وداده ، يخشى أن يفضحه إذا ما التفت ناظراه؛ يصبرّ النفس أنه إنما يصدّق أمر مولاه، لسان حال الخليل:أوّااااااااه ، أوَّااااااااااه مِن قلبٍ تفطّر وحشة عند الفراق، فصبر جميل فالله خير حافظا وخير واقٍ...
فلما انقطع منهما عنه النظر، استقبل البيت الحرام كما جاء في صحيح الخبر، رافعا كفَّيه إلي السماء متوجها قلبه إلى العَلِي بخالص الحبّ والرجاء:
= «....
ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الكلمات ، ورفع يديه فقال : { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون } سورة إبراهيم / آية :36....
» ( صحيح البخاري رقم: [3364] )
**قال السعدي في تفسيره:" وذلك أنه أتى بـ "هاجر" أم إسماعيل وبابنها إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو في الرضاع، من الشام حتى وضعهما في مكة وهي -إذ ذاك- ليس فيها سكن، ولا داع ولا مجيب، فلما وضعهما دعا ربه بهذا الدعاء فقال -متضرعا متوكلا على ربه:{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي } أي: لا كل ذريتي لأن إسحاق في الشام وباقي بنيه كذلك وإنما أسكن في مكة إسماعيل وذريته، وقوله: { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } أي: لأن أرض مكة لا تصلح للزراعة.{ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاة } أي: اجعلهم موحدين مقيمين الصلاة لأن إقامة الصلاة من أخص وأفضل العبادات الدينية فمن أقامها كان مقيما لدينه
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } أي: تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
فأجاب الله دعاءه فأخرج من ذرية إسماعيل محمدا صلى الله عليه وسلم حتى دعا ذريته إلى الدين الإسلامي وإلى ملة أبيهم إبراهيم فاستجابوا له وصاروا مقيمي الصلاة.
وافترض الله حج هذا البيت الذي أسكن به ذرية إبراهيم وجعل فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته تعالى إلى نفسه المقدسة.
{ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } فأجاب الله دعاءه، فصار يجبي إليه ثمرات كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب." انتهـى.
* وبعد سوق تلكم الآية وتفسيرها، هل لاحظتنَّ ما كان من عجيب أمرها:
1- بدأ الخليل بأن دعا لهم بصلاح دينهم ( وإقامة الصلاة )
2- لم يدعُ عليه السلام لحَبَّيه بمحض أنسٍ من الأنام .
3- وأخَّر الخليل الدعاء لهم بشيء من الثمرات والرزق، وقرن دعاءه راجيا أن يهديهم ربهم ليقابلوا رزقــه بكثير من الامتنان والشكر.
اللهم فقهنا في ديننا وعلمنا اللهم ما ينفعنا وانفعنا اللهم بما علمتنا، وزدنا الله من فضلك وجودك وكرمك علما ترضى به عنا آمـين.
يتبـــع .