الاستفادة من منهج ابن كثير في موضوع الدعوة في العصر الحاضر
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
الاستفادة من منهج ابن كثير في موضوع الدعوة في العصر الحاضرإن منهج ابن كثير رحمه الله في موضوع الدعوة من خلال اهتمامه وعنايته بالعقيدة والشريعة والمعاملات والأخلاق والآداب ونحوها، إنما هو لتحقيق مقصدها الأساسي، وهو تعبيد الناس لربِّ العالمين، وتزكية نفوسهم وتطهيرها من أدران الشرك والإلحاد، ومن بدع الاعتقادات والعبادات، ومن رديء الأخلاق وذميم الخصال، وفي المقابل تحليتها بما فيه صحةُ القلوب وسلامتها؛ مِن صفاء الاعتقاد، وصحيح الإيمان والتوحيد، وصحةِ النُّسك والعبادة، وجميل الخصال وحسن الفعال، الذي ترجع غايتُه إلى إصلاح العلاقة مع الله، وإصلاح العلاقة مع الناس، وهذه المقاصد أمورٌ ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان؛ لأنها تمثِّل صُلبَ الدين وأساسه، ولبَّ حقيقته، فلا يقع فيها شيء من الاختلاف، وإنما يقع الاختلاف في عرض تفاصيل محتوى الدعوة وموضوعها ومقاصدها[1].
وفي هذا المبحث نحاول معرفة مدى استفادة الداعية المعاصر من منهج ابن كثير في موضوع الدعوة، وذلك من خلال النقاط التالية:
1- يستفيد الداعية المعاصر من منهج ابن كثير في موضوع الدعوة بالحرص على تعليم الناس، وتبليغهم محتوى الدعوة وموضوعها بالمفهوم الشمولي والعام، الذي بَيَّنه ابن كثير ودعا إليه في العقيدة والعبادة، والشريعة والمعاملة، والأخلاق والآداب، وتحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية لذلك، والداعية المعاصر لا يمكنه تحقيق ذلك إلا إذا كان على مستوى من العلم بموضوع الدعوة، بمعنى أن لديه العلم والمعرفة بما يدعو إليه من عقائدَ وشرائع، وأحكام وعبادات، وأخلاق وسلوك ونحوها؛ لأن ثقة المدعوِّين بالداعية وتأثيرَه فيهم مرتبطٌ بمدى ما عنده من العلم في موضوع الدعوة ومحتواها.
وهو ما كان عليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى؛ فقد كانت له مكانة في قلوب معاصريه؛ لما عنده من سَعة العلم؛ مما جعل كلامه عندهم مقبولًا، ويحظى بالاحترام والتقدير، ويشهد له بالمكانة العالية، والمنزلة الرفيعة، وأنه "كان قدوة العلماء والحفاظ، وعمدة أهل المعاني والألفاظ، وسمع وجمع، وصنَّف ودرَّس، وحدَّث وألَّف، وكان له اطِّلاع عظيم في الحديث والتفسير والتاريخ، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهى إليه علم التاريخ والحديث والتفسير، وله مصنَّفات عديدة مفيدة"[2].
وهذا المستوى العلميُّ الذي وصل إليه الإمامُ ابن كثير لم يتم إلا من خلال مثابرة وجدٍّ واجتهاد، فالمنهج الذي سار عليه ابنُ كثير في طلب العلم يتسم بالجدية، وبذل الجهد، واستفراغ الوسع من أول حياته إلى آخرها؛ فقد حفظ رحمه الله القرآن سنة 711هـ[3]؛ أي: إن عمره آنذاك حوالي عشر سنوات، وحفظ كتاب التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي وعرَضَه في الثامنة عشرة من عمره[4]، "وأقبل على حفظ المتون، ومعرفة الأسانيد والعلل، والرجال والتاريخ، حتى برع في ذلك وهو شاب"[5].
وقد مرَّ معنا أنه اشتغل بالكتابة والتأليف حتى ذهب بصره[6]، وحتى بعد ذهاب بصره كان مهتمًّا بالعلم والتأليف والكتابة[7].
ومما يعين الداعيةَ المعاصر على طلب العلم وتحصيله ملازمتُه للعلماء، والأخذ عنهم، والاستفادة منهم، والتربِّي على أيديهم، كما كان حال ابن كثير رحمه الله؛ فقد كان ملازمًا لشيوخه، يحفظ عليهم وينهل من علمهم؛ فمثلًا شيخه المزي لازمه وانتفع به وسمع منه أكثر تصانيفه، وتخرَّج على يديه ثم صاهَرَه وتزوَّج ابنته، وصار قريبًا منه في بيته ومتأثرًا به[8]، وكذلك ملازمته لشيخه ابن تيمية، حيث صحبه وقرأ عليه كثيرًا، ولازَمَه فأكثَرَ عنه وانتفع بعلومه، فكانت هذه الصُّحبة والملازمة لها أثرٌ على ابن كثير؛ حيث "أفادته أعظم فائدة عظيمة في علمه ودينه، وتقويه خلقه، وتربية شخصيته المستقلة الممتازة"[9].
2- نظرًا لكثرة العلوم في هذا العصر وتشعُّبِها وتنوُّعِها، وكثرة الكتب والإصدارات فيها، مما يصعب معه قراءتها والاستفادة منها، وهنا يأتي ضرورة الاختيار من هذه الكتب، وأهمية الانتقاء من هذه المعلومات.
وقد أوصى الإمام ابن كثير رحمه الله بأن العلم الذي لا يترتب على تعلمه وتحصيله والوقوف عليه مقصدٌ شرعي، وليس هناك حاجة إلى تعلُّمه والسؤال عنه - لا تتعين معرفتُه، وضرب ابنُ كثير على ذلك مثالًا بمكان الكهف الذي آوى إليه الفتيةُ الذين ذكَرَهم الله في القرآن بقوله سبحانه: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا ﴾ [الكهف: 10]، فذكر ابن كثير أن الله لم يذكُر مكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض؛ "إذ لا فائدة لنا فيه ولا مقصد شرعي...
ولو كان لنا مصلحة دينية لَأرشَدَنا الله ورسوله إليه"[10].
كما نبَّه رحمه الله على أنواع العلوم، فذكر أن "العلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان؛ ذهني ولفظي ورسمي"[11].
وأخيرًا أشار ابن كثير رحمه الله إلى بعض الآداب المتعلقة بطلب العلم وتعلُّمه والعمل به؛ كالصبر، وعدم الحياء أو الاستكبار عن طلبه، والسؤال عنه، وأن يحرص على طلب العلم في سن مبكرة، وأن يتلطف عند سؤال أهل العلم، ولا يكون طلبه على سبيل الإلزام والإجبار ونحو ذلك مما ذكرناه سابقًا، مما يتعين على الداعية المعاصر التحلِّي به من الآداب والأخلاق المتعلقة بطلب العلم، والتي تعينه على تحصيل المراد وتعلمه في موضوع الدعوة، فينال ثقة المدعوين، ويصبح داعية وقدوة يدعو إلى الله على نور وعلم وبصيرة.
3- ومما يستفيده الداعية المعاصر من منهج ابن كثير في موضوع الدعوة: اهتمامُ ابن كثير بالعقيدة والإيمان وأركانه، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشرِّه، مما ذكرناه مفصلًا في الباب الثاني، فيتعين على الداعية المعاصر العنايةُ بذلك والحرص عليه؛ لأن العقيدة أصل الدين وأساسه، وأن قَبول الأعمال مرتبطٌ بالتوحيد وسلامته من الشرك، فالله سبحانه لا يقبل عملًا أشرَكَ صاحبه مع الله أحدًا غيره في عبادته، ولأن بعض الدعاة في هذا العصر أغفَلوا هذا الجانب، ولم يكن لكثير منهم عنايةٌ بمعالجة وقوع بعض المسلمين فيما يناقض التوحيد أو ينقصه أو يخل به؛ كدعاء غير الله، والاستعانة والاستغاثة بغيره سبحانه، أو الذبح أو النذر لغير الله، وغيرها من الممارسات التي تخلُّ بكمال التوحيد أو أصله؛ فيتأكد على الدعاة في هذا العصر معالجةُ هذا الأمر "أولًا قبل غيره من الأمراض الخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية...
إلخ؛ لأن مرض الاعتقاد هو مرض القلوب، وهو الداء العضال والمرض الأول الذي نتجت عنه جميعُ الأمراض والانحرافات الخلقية وغيرها، وهذا هو داء الأمم قديمًا وحديثًا"[12].
4- ومما يستفيده الداعية المعاصر في موضوع الدعوة من منهج ابن كثير: اهتمامُ ابن كثير وعنايته بالشريعة والدعوة إليها، وخطورة مخالفتها، وأن كل عمل لا يكون خالصًا ولا موافقًا للشريعة فهو باطل، وكذلك العبادة وأنها شاملة لأنواع الطاعات والقُرَب من صلاة وصيام وحج وزكاة ونحوها، مما ذكرناه مفصلًا في الباب الثاني، والداعية في هذا العصر بحاجة إلى مثل هذا التصور، وإلى مثل هذه العناية والاهتمام بالشريعة والعبادة والأحكام كما هو الشأن عند الإمام ابن كثير؛ ذلك أن الداعية في هذا العصر يعيش في زمن أُقصِيَ فيه تطبيقُ الشريعة في كثير من بلاد المسلمين، وانحسر مفهوم العبادة والدين في إطار ضيق، ودائرة محدودة، وذلك بعد دخول العلمانية وانتشارها في العالم الإسلامي، وتأثيرها على حياة المسلمين[13].
5- ومما يستفيده الداعية من منهج ابن كثير في موضوع الدعوة: أهميةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعاقبة تركه، وأن ذلك سبب عقوبة الله وسخطه، وكذلك تصحيح مفهوم ابن كثير للمفهوم الخاطئ، وهو أن من وقع في مخالفة أو معصية فإنه لا يَنهى غيره عنها؛ لأنه مذموم بقوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، وقد ذكرنا ردَّ ابن كثير على من استدل بذلك، وتأكيده رحمه الله على أن العالِم والداعية يأمر بالمعروف وإن لم يَفعله، ويَنهى عن المنكر وإنِ ارتكَبَه، لكنه مذموم على ترك الطاعة وفعل المعصية.
ولا شك أن الداعية بحاجة إلى مثل هذا التصور عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي نبَّه إليه الإمام ابن كثير.
ثم إن الداعية المعاصر يعيش في زمن قصَّر كثير من المسلمين في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب الحِسبة، سواء كانت الطوعية أو الإدارية الرسمية، وأصبح من يدعو إلى القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن النكر مثارَ استغراب واستهجان؛ لأن هذا يعتبر تدخلًا في الأمور الشخصية للناس، وتعدِّيًا على حرياتهم وشؤونهم الخاصة، ونسوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سفينةُ نجاة المجتمع، وتركه سببٌ في عقوبته وهلاكه.
6- ومما يستفيده الداعية من منهج ابن كثير الدعويِّ في موضوع الدعوة: عنايةُ ابن كثير رحمه الله بالأخلاق، وحرصه على توجيه الأمَّة وتربيتها على الأخلاق الفاضلة والقيم النبيلة، إضافة إلى ما نبَّه عليه رحمه الله من خصائص التربية الأخلاقية في الإسلام، من موافقتها للفطرة، وأن الأخلاق الإسلامية ربانية المصدر، وكذلك تميُّزُها باليسر والسهولة، وأنها جِبِليَّة من وجه، ومكتسبة من وجه آخر، ونحو ذلك مما أشرنا إليه سابقًا، مما يحتاجه الداعية إلى الله في هذا العصر، الذي أصبح مفهوم الأخلاق فيه يعتمد على المصالح المادية، والمنافع الدنيوية، والأغراض الشخصية، إضافة إلى شيوع التصورات والنظريات الخاطئة حول الإنسان وطبيعته وفطرته[14]، مما كان له أثر على مفهوم الأخلاق والتربية، أو انتشار ما يسمى بنظرية النسبية (relativism) في الأخلاق، وفحوى هذه النظرية "أنه ليس هناك معيار ثابت يُميَّز به الحق والباطل، والخير والشر، بل إن هذه الأحكام أحكام نسبية...
فما يراه أصحاب كل ثقافة حقًّا أو خيرًا، فهو حق أو خير بالنسبة لثقافتهم هذه؛ لأنه ليس هناك معيار عالمي للحق والخير متفق عليه بين الناس"[15].
[1] انظر عبدالحميد هنادي: منهج الدعوة في واقعنا المعاصر، ص 20 طبعة دار الآفاق العربية، القاهرة، الطبعة الأولى 1427هـ.
[2] النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 11/ 123 وانظر أحمد شاكر: عمدة التفسير 1/ 27.
[3] البداية والنهاية 18/ 326.
[4] انظر الدارس للنعيمي 1/ 37.
[5] طبقات ابن قاضي شهبة ص 473 وانظر الإمام ابن كثير سيرته ومؤلفاته، د.
سعود الندوي ص 43، 51.
[6] يقول رحمه الله: "لا زلت أكتب في الليل والسراج ينوص - يتأخر في نوره - حتى ذهب بصري معه".
[7] فقد ذكر ابنه زين الدين عبدالرحمن كما مر معنا أنه "لما أضر الوالد كان يؤرخ له".
[8] البداية والنهاية 18/ 428.
[9] الإمام ابن كثير سيرته ومؤلفاته، مسعود الندوي ص49، مرجع سابق.
[10] انظر تفسير القرآن العظيم 3/ 98.
[11] المرجع نفسه 4/ 630 عند تفسير الآية: 5 من سورة العلق.
[12] مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، ناصر العقل ص 72، مرجع سابق.
[13] يمكن الرجوع إلى ما كتبه شيخنا الأستاذ الدكتور محمد زين الهادي في كتابه نشأة العلمانية ودخولها العالم الإسلامي، طبعة دار العاصمة بالرياض 1988م، ومجالات انتشار العلمانية، طبعة دار العاصمة بالرياض 1409هـ.
[14] من هذه النظريات أن الإنسان حين يُولَد يولَد محايدًا كالصفحة البيضاء، أو الطينة غير المشكلة، وأن البيئة هي التي تكتب عليها ما تريد، وتشكله كيف تريد، ومن هذه النظريات أن للإنسان حقيقة، وحقيقته أنه مخلوق شرير يولد الشرُّ معه مفروضًا في طبعه، والبيئة هي التي تحاول أن تهذبه، وغيرها من النظريات والفلسفات والتصورات الخاطئة حول الإنسان وطبيعته وفطرته المخالفة للتصور الإسلامي، انظر جعفر شيخ إدريس: التصور الإسلامي للإنسان أساس لفلسفة الإسلام التربوية، بحث مقدم للمؤتمر العالمي الأول للتعليم الإسلامي جامعة الملك عبدالعزيز، مكة المكرمة، 31 مارس - 18 ابريل 1977م.
[15] انظر جعفر شيخ إدريس: الإسلام لعصرنا، ص 95 طبعة المنتدى الإسلامي بلندن، الطبعة الأولى 1422هـ.