تفسير سورة الأعراف [156-159]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]. قوله تعالى: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) أي: أسس لنا فيها خصلة حسنة، كالعافية والحياة الطيبة والتوفيق للطاعة، (وفي الآخرة) أي: حسنة أيضاً، وهي: المثوبة الحسنى والجنة، (إنا هدنا إليك) أي: تبنا إليك، يقال: هاد إليه يهود، إذا رجع وتاب، فهو هائد، ولبعضهم: يا راكب الذنب هد هد واسجد كأنك هدهد فقوله: (يا راكب الذنب هد) يعني: ارجع وتب، (هد) كرر الفعل للتأكيد. وقوله: (واسجد كأنك هدهد) الهدهد: الطائر المعروف. وقال آخر: إني امرؤ مما جنيت هائد يعني: راجع وتائب. قال أبو البقاء : المشهور ضم الهاء، يعني: (هُدنا إليك)، وهو على هذا من (هاد يهود) إذا تاب، وقرئ بكسرها، يعني: (إنا هِدنا إليك)، من (هاد يهيد) إذا تحرك أو حرك، وعلى هذا فقوله تعالى: (إنا هدنا إليك) يعني: إنا حركنا إليك نفوسنا، وعلى القراءتين: (هُدنا) و(هِدنا) يحتمل الوجهين: البناء للفاعل وللمفعول، فقوله: (إنا هدنا إليك) يحتمل أنها بمعنى: إنا ملنا إليك، أو أمالنا غيرنا، أو حركنا أنفسنا، أو حركنا غيرنا، فعلى القراءتين تحتمل البناء للمفعول والبناء للفاعل؛ وذلك لاتحاد الصيغة وصحة المعنى، فاتحاد الصيغة (هُدنا) و(هِدنا) تصلح في البناء للمعلوم والمجهول، وكذلك يصح المعنى وإن اختلف التقدير. وقوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) استئناف وقع جواباً عن سؤال ينساق إليه الكلام، وكأنه قيل: هذا دعاء موسى وقومه؛ لأنه قد قال موسى في الدعاء: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك)، فكأن سائلاً سأل وقال: فماذا قال تبارك وتعالى في جواب دعاء موسى؟ فقيل: قال: (عذابي أصيب به من أشاء)، أي: من أشاء تعذيبه من العصاة. وقوله: (ورحمتي وسعت كل شيء)، تطلق الرحمة على التعطف والمغفرة والإحسان والجنة، كما قال تعالى: (يدخل من يشاء في رحمته)، يعني: في جنته، فتطلق الرحمة على الجنة، ولعلها هي المرادة هنا: والمعنى: جنتي وسعت كل شيء؛ بدليل مقابلتها بالعذاب قبل، كما جاءت المقابلة أيضاً في قوله تعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31]. والله تعالى أعلم. وقوله: (فسأكتبها)، أي: هذه الرحمة، (للذين يتقون) أي: يتقون الكفر والشرك والمعاصي، (ويؤتون الزكاة) أي: يعطون زكاة أموالهم، (والذين هم بآياتنا) يعني: بكتابنا ورسولنا (يؤمنون) أي: يصدقون. قال الجشمي : تدل الآية على حسن سؤال نعيم الدنيا، كما يحسن سؤال نعيم الآخرة، وتدل على أن الواجب على الداعي أن يقرن بدعائه التوبة والإخلاص؛ لأنه قرن التوبة والرجوع بقولهم: (إنا هدنا إليك). قرنوه بالدعاء، وتدل على أنه تعالى ينعم على البر والفاجر، ويخص بالثواب المؤمن، فلذلك فصل فقال تبارك وتعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها) أي: هذه الرحمة..إلى آخره، وكما قال تبارك وتعالى من قبل في أوائل السورة: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32]، فهي لهم في الحياة الدنيا، لكن يشاركهم فيها الكافرون، وأما يوم القيامة فستكون: خالصة للمؤمنين دون أن يشاركهم فيها المشركون كما كان الحال في الدنيا، ومن تأمل هذا السؤال والجواب عرف عظيم محل هذا البيان؛ لأنه عليه السلام سأل نعيم الدنيا والدين عقيب الرجفة، فكان من الجواب أن العذاب خاصة يصاب به من يستحقه، فأما النعم فما كان من باب الدنيا يسع كل شيء يصح عليه التنعم، وما كان من باب الآخرة يكتب لمن له صفات ذكرها. وتدل على أن الرحمة لا تنال بمجرد الإيمان الذي هو التصديق، حتى ينضم إليه الطاعات، فيبطل قول المرجئة؛ لأنه قال: (فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ولم يقتصر على التصديق حتى أضاف إليه العمل، فهذا يبطل قول المرجئة في زعمهم أن الإيمان مجرد المعرفة ولا يدخل في مسماه العمل.

قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. ثم أبدل تبارك وتعالى من الموصول الأول هذا الموصول أيضاً فقال: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ))، فالذين بدل كل من الموصول الأول، وهو منصوب على المدح أو مرفوع عليه، يعني: أعني الذين، أو هم الذين. وقوله: (يتبعون الرسول) أي: الذي أرسل إلى الخلائق لتكميلهم. (النبي) يعني: لم الذي نبئ بأكمل الاعتقادات والأعمال والأخلاق والأحوال والمقامات من جهة الوحي. (الأمي) يعني: لم يحصل علماً من بشر. (الذي يجدونه مكتوباً) أي: باسمه: محمد وأحمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا نعته، ففي التوراة والإنجيل إما التصريح بأسماء الرسول عليه الصلاة والسلام، كمحمد وأحمد، أو بصفته ونعوته، (عندهم) زيد هذا لزيادة التقرير والتأكيد، وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضر عندهم لا يغيب عنهم أصلاً، يعني: أن أي يهودي أو نصراني عنده وبين يديه هذا الكتاب الذي يقدسه فعنده صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو اسمه في كتابه، ولكن التحريف والتبديل أدى إلى عدم وجود لفظ صريح باسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وإن كانت صفاته ما زالت حتى هذه اللحظة موجودة بين أيديهم رغم باعهم الواسع العظيم في التحريف والحذف والتبديل، كما سنبين إن شاء الله تعالى. وقوله: (( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ))، وأعرف المعروف: الإيمان بالله ووحدانيته والشرائع ومكارم الأخلاق، وجميع ذلك تعرف صحته إما بالعقل وإما بالشرع. وقوله: (( وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ))، أي: الكفر والشرك والمعاصي ومساوئ الأخلاق؛ لأن العقل والشرع ينكرانه. وقوله: (( وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ )) يعني: التي حرمت عليهم لمعاصيهم، كما قال الله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:160-161]، فعقوبة لهذه المعاصي حرمت عليهم أشياء كانت حلالاً عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) يعني: التي كانت قد حرمت عليهم عقوبة لهم من قبل في كتبهم. وقوله: (( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ )) أي: التي كانوا يتناولونها، كالخنزير والميتة والدم، وهذا في باب المأكولات، أما في باب التكاليف فقال: (( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )). والإصر هو: الأمر الذي يثقل عليهم من التكاليف الشاقة، فهناك شرائع شاقة وعسيرة أيضاً كانت عليهم، والأغلال جمع غل، وهو ما يوضع في العنق أو اليد من الحديد، أي: العهود الحرجة والمواثيق الشديدة. والمقصود من قوله: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم): أنه صلى الله عليه وآله وسلم جاء يخفف عنهم ما كلفوه من هذه الشرائع الحرجة والشديدة، وهذا في باب العبادات. وقوله: (( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ )) أي: بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، (( وَعَزَّرُوهُ )) يعني: عظموه ووقروه (( وَنَصَرُوهُ )) أي: على أعدائه في الدين فمنعوه منهم، (( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ )) وهو القرآن الكريم، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه. ومعنى (أنزل معه) أنزل مع نبوته؛ لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به؛ فكما نزل الوحي بالقرآن نزل أيضاً بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أول تفسير لمعنى قوله: (واتبعوا النور الذي أنزل معه) يعني: أن النور هو القرآن الذي أنزل مع نبوته؛ لأن القرآن اقترن بتنبيئه صلى الله عليه وسلم. وقيل: (معه) تتعلق بـ(اتبعوا) القرآن المنزل مع اتباع النبي؛ لأن الآية فيها: ((فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ))، أي: اتبعوا النور (القرآن) مع اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فتكون هنا إشارة إلى العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، وبما أمر ونهى عنه، فيكون أمراً بالعمل بالكتاب والسنة. أو: هو حال، يعني: اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه، وفي التعبير عن القرآن بالنور إنباء عن كونه ظاهراً بنفسه لإعجازه، ومظهراً لغيره من الأحكام لمناسبة الاتباع. وقوله: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) أي: الفائزون بالرحمة والناجون من النقمة.

وهنا تنبيهات: الأول: يقول القاسمي : يظهر من سياق الآية أن قوله تعالى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ... [الأعراف:156] إلى آخره، أن هذا جواب لموسى عليه السلام؛ وذلك أنه دعا بالمغفرة لقومه أجمعين، وطلب أيضاً حسنتي الدنيا والآخرة لهم، فأجيب: أولاً: أن ذلك لا يحصل لقومه كلهم براً أو فاجراً؛ لما سبق من تقدير الله سبحانه وتعالى العذاب لمن يشاء من الفجار حكمة منه وعدلاً، ولذلك قرأ الحسن وزيد بن علي هنا: (قال عذابي أصيب به من أساء ورحمتي وسعت كل شيء) وفي طيه أن ما أصاب قومه من الرجفة هو من عذابه تعالى، الذي شاء إصابتهم به لأفاعيلهم. وثانيها: أنه لا يستأهل كتابة الحسنتين: في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة إلا المتقون المؤمنون بالآيات، المتبعون للنبي الأمي، فمن استقام على هذه الشرائط كتب له ذلك، ولا يقال على هذا: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ لأنكم لو تأملتم هذه الآيات، لوجدتم أنها عبارة عن دعاء من موسى عليه السلام لقومه. ثم أتى الجواب يكشف لنا عظمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أن هذا الحوار والإجابة جاءت قبل أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم بمئات السنين، فانظر كيف عظم الله عز وجل قدره، ونوه به فيما أوحاه إلى موسى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]؟ ثم استطرد عز وجل في وصف هؤلاء المؤمنين فقال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]، فلا يقال: كيف يتبعونه ولم يدركوا زمنه؟ فإنا نقول: الاتباع أعم؛ هناك اتباع بالقوة، وهو: الإيمان به عليه الصلاة والسلام إجمالاً، فكل من تقدم على زمن بعثته، يجب عليهم أن يؤمنوا به إيماناً مجملاً، وأن يصدقوا بأخباره التي وردت على ألسنة رسلهم تبشيراً به صلى الله عليه وسلم، فهناك اتباع بالفعل، وهو اتباع فعلي وحقيقي وليس بمجرد القول، وهذا لمن لحق زمان بعثته صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية الكريمة تثبت أن موسى عليه السلام بشر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلم بشأنه؛ لأن كتابة الرحمة موقوفة على اتباعه، وذلك في قوله: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ...)، فذكر صفات هؤلاء الذي يستحقون الرحمة، ومن صفتهم الأساسية أنهم يؤمنون بالرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم. وقال بعضهم: إن جواب موسى ينتهي إلى قوله تعالى: (والذين هم بآياتنا يؤمنون)، ثم استأنف تبارك وتعالى بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي..) إلى آخره، فكأنه تعالى أعلم موسى بأنه ذو عذاب يصيب به من يشاء كما أصاب أصحاب الرجفة، وذو رحمة واسعة تكتب للمتقين المتصدقين المؤمنين بالآيات، أي: فأمر قومك بأن يكونوا من الفريق المرحوم بالمشي على هذا الوصف المذكور. ثم استأنف تعالى الإخبار عمن يتبع النبي الأمي بأنهم المفلحون حقاً، وعليه فيكون قوله: (الذين يتبعون) مبتدأ، وخبره قوله تعالى: (أولئك هم المفلحون)، وتكون القصة تدعو بني إسرائيل بأنهم إذا اتبعوا النبي الأمي كانوا هم المفلحين. وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى: (قال عذابي أصيب به من أشاء) ارتجال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قصد به إعلام أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأنهم إذا اتبعوه وآمنوا به وصدقوه حقت لهم رحمته تعالى الواسعة، وإلا فلا يأمنوا أن يصابوا بانتقامه تعالى، كما جرى لأسلافهم، وفي ذلك كله من التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المتقين ما لا يخفى.

إطلاق الرحمة على العطف والمغفرة والإحسان

التنبيه الثاني: أن الرحمة تطلق على العطف والمغفرة والإحسان، يقول القاسمي : وعندي أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة كما قال عز وجل: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان:31] يعني: الجنة، بدليل أنه قابلها بقوله: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31]، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا: (ورحمتي وسعت كل شيء) بمعنى: الجنة، بدليل أنه قابلها أيضاً بالعذاب، فقال: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي) يعني: الجنة. وقال أبو منصور : ما من أحد مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعايشون ويؤاخون ويوادون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، وذلك قوله: (فسأكتبها للذين يتقون) يعني: يتقون معصية الله وخلاف أمره عز وجل، (ويؤتون الزكاة)، كقوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]، جعل طيبات الدنيا مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها، فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة. والله تعالى أعلم. ويحتمل أيضاً في قوله عز وجل: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته، ومع أن الزكاة تدخل في التقوى (الذين يتقون) لكنه أفردها: لعلوها وشرفها؛ فإنها عنوان الهداية؛ ولأنها كانت أشق عليهم فذكرها لئلا يفرطوا فيها.

وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمي

أما وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ فهذا أمر مقرر مشهور، ولا شك أن هذا من أعظم علامات الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. وهل كتب النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أم لا؟ الراجح: أنه لم يكتب قطعاً؛ لأن قوله: (فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوضحه في الرواية الأخرى: (فأمر علياً فتكب)؛ لأن علياً هو الذي كتب، كما يقال: كتب السلطان إلى الولاة يأمرهم بكذا وكذا، مع أنه يكون له كاتب يكتب، لكن هو الذي أمر بذلك، فيصح أن ينسب إليه. وقوله تعالى: (الأمي) نسبة إلى أمة العرب؛ لأن الغالب عليهم أنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، كما جاء في الحديث: (إنا أمة أمية؛ لا نكتب، ولا نحسب)، وطبعاً لا يقصد بقوله: (إنا أمة أمية) الدعوة إلى الأمية، أو تحبيب الأمية، وإنما المقصود: أن شريعتنا شريعة سهلة ميسورة لكل الناس ابتداءً من الأمي الذي لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب؛ حيث إنه يستطيع أن يقيم شعائر هذا الدين عن طريق معرفة العلامات الظاهرة، فمثلاً: في مواقيت الصلاة ودخول الشهر العربي لمعرفة الصيام أو الحج وغير ذلك من المواقيت، فيعتبر فيها ما هو معهود عند الأميين، ولا يخاطب طبقة خاصة من المؤهلين بالنظر في الفلك والحسابات والجداول، لأن شريعتنا شريعة أمية سهلة تخاطب بما هو معروف ومعهود عند الأميين، فالإشارة هنا إلى لطافة الشريعة وسهولتها. وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك. وقيل: الأمي ينسب إلى أمه؛ لأن العلم أمر مكتسب، فعلم القراءة والكتابة وغيرها من العلوم المكتسبة، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، فإذا بقي الإنسان على أصل الخلقة التي خرج بها من بطن أمه فإنه ينسب إلى أمه، يعني: أنه بقي على الحالة التي خرج بها من بطن أمه لم يكتسب علماً، فيوصف بأنه أمي، فإذا تعلم خرج عن هذه الحالة، وإذا بقي عليها من حيث القراءة والكتابة وصف بأنه أمي. وطبعاً لا يعني كون الإنسان أمياً لا يقرأ ولا يكتب أنه ليس بعالم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم آتاه الله علماً عظيماً، فعلم الأمم بأكملها، وتحدى العرب الفصحاء البلغاء، ووصف الأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم مدح له عليه الصلاة والسلام. وقيل: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي منسوب إلى الأم، بمعنى: القصد، كما في قوله تعالى: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، ويؤيده قراءة يعقوب : (الذين يتبعون الرسول النبي الأَمي)، من القصد؛ لأنه مقصود. ووصف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي تنبيهاً على أن كمال علمه مع كونه أمياً هو إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب؛ لأنها معجزة له، كما قال البوصير ي : كفاك بالعلم في الأمي معجزة فكما أن صفة التكبر لله ممدوحة وفي غيره مذمومة، فصفة الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام مدح له؛ لأنها من كبريات معجزاته، فمع كونه أمياً إلا أنه أوتي هذا العلم من عند الله سبحانه وتعالى، وأما في حق غيره فقد تذم تماماً. وأما قوله تبارك وتعالى: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل..) إلى آخر الآية، ففيه إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة): إن لله تعالى عوناً على أوامره وإغناءً عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، أي: أن الأنبياء حينما يأتي أحدهم ويدعي النبوة فإن الله سبحانه وتعالى يسهل لهم هذا الأمر؛ لأنهم إذا خرجوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان بنبوتهم يكون قد سبق ذلك نوع من الإرهاصات والبشارات السابقة التي تسهل وتؤسس لهم بناء النبوة، حتى قبل أن يبعثوا. يقول: فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة بما تقدمه من بشائرها، وتبديه من أعلامها وشعائرها؛ ليكون السابق مبشراً ونذيراً، واللاحق مصدقاً وظهيراً، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله على غيبه؛ ليكون عوناً للرسول وحثاً على القبول، فمنهم من عينه باسمه صلى الله عليه وسلم، ومنهم -أي: الأنبياء السابقين- من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال ويقيناً بعد الارتياب ... ثم سرد المارودي البشائر من نصوص كتبهم.

التنبيه الثاني: أن الرحمة تطلق على العطف والمغفرة والإحسان، يقول القاسمي : وعندي أن القرآن الكريم قد تطلق فيه على الجنة كما قال عز وجل: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان:31] يعني: الجنة، بدليل أنه قابلها بقوله: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31]، فلعل الرحمة في قوله تعالى هنا: (ورحمتي وسعت كل شيء) بمعنى: الجنة، بدليل أنه قابلها أيضاً بالعذاب، فقال: (عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي) يعني: الجنة. وقال أبو منصور : ما من أحد مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا، بها يتعايشون ويؤاخون ويوادون، وفيها ينقلبون، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة، وذلك قوله: (فسأكتبها للذين يتقون) يعني: يتقون معصية الله وخلاف أمره عز وجل، (ويؤتون الزكاة)، كقوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]، جعل طيبات الدنيا مشتركة بين المسلم والكافر، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة، لا حظ للكافر فيها، فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة. والله تعالى أعلم. ويحتمل أيضاً في قوله عز وجل: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة) أنهم سألوا الرحمة، فقال: سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته، ومع أن الزكاة تدخل في التقوى (الذين يتقون) لكنه أفردها: لعلوها وشرفها؛ فإنها عنوان الهداية؛ ولأنها كانت أشق عليهم فذكرها لئلا يفرطوا فيها.

أما وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ فهذا أمر مقرر مشهور، ولا شك أن هذا من أعظم علامات الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. وهل كتب النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية أم لا؟ الراجح: أنه لم يكتب قطعاً؛ لأن قوله: (فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوضحه في الرواية الأخرى: (فأمر علياً فتكب)؛ لأن علياً هو الذي كتب، كما يقال: كتب السلطان إلى الولاة يأمرهم بكذا وكذا، مع أنه يكون له كاتب يكتب، لكن هو الذي أمر بذلك، فيصح أن ينسب إليه. وقوله تعالى: (الأمي) نسبة إلى أمة العرب؛ لأن الغالب عليهم أنهم كانوا أميين لا يقرءون ولا يكتبون، كما جاء في الحديث: (إنا أمة أمية؛ لا نكتب، ولا نحسب)، وطبعاً لا يقصد بقوله: (إنا أمة أمية) الدعوة إلى الأمية، أو تحبيب الأمية، وإنما المقصود: أن شريعتنا شريعة سهلة ميسورة لكل الناس ابتداءً من الأمي الذي لا يستطيع أن يقرأ ولا يكتب؛ حيث إنه يستطيع أن يقيم شعائر هذا الدين عن طريق معرفة العلامات الظاهرة، فمثلاً: في مواقيت الصلاة ودخول الشهر العربي لمعرفة الصيام أو الحج وغير ذلك من المواقيت، فيعتبر فيها ما هو معهود عند الأميين، ولا يخاطب طبقة خاصة من المؤهلين بالنظر في الفلك والحسابات والجداول، لأن شريعتنا شريعة أمية سهلة تخاطب بما هو معروف ومعهود عند الأميين، فالإشارة هنا إلى لطافة الشريعة وسهولتها. وأما نسبته إلى أم القرى فلأن أهله كانوا كذلك. وقيل: الأمي ينسب إلى أمه؛ لأن العلم أمر مكتسب، فعلم القراءة والكتابة وغيرها من العلوم المكتسبة، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، فإذا بقي الإنسان على أصل الخلقة التي خرج بها من بطن أمه فإنه ينسب إلى أمه، يعني: أنه بقي على الحالة التي خرج بها من بطن أمه لم يكتسب علماً، فيوصف بأنه أمي، فإذا تعلم خرج عن هذه الحالة، وإذا بقي عليها من حيث القراءة والكتابة وصف بأنه أمي. وطبعاً لا يعني كون الإنسان أمياً لا يقرأ ولا يكتب أنه ليس بعالم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم آتاه الله علماً عظيماً، فعلم الأمم بأكملها، وتحدى العرب الفصحاء البلغاء، ووصف الأمية في حق النبي صلى الله عليه وسلم مدح له عليه الصلاة والسلام. وقيل: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي منسوب إلى الأم، بمعنى: القصد، كما في قوله تعالى: وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، ويؤيده قراءة يعقوب : (الذين يتبعون الرسول النبي الأَمي)، من القصد؛ لأنه مقصود. ووصف تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه أمي تنبيهاً على أن كمال علمه مع كونه أمياً هو إحدى معجزاته، فهي له مدح وعلو كعب؛ لأنها معجزة له، كما قال البوصير ي : كفاك بالعلم في الأمي معجزة فكما أن صفة التكبر لله ممدوحة وفي غيره مذمومة، فصفة الأمية في حق النبي عليه الصلاة والسلام مدح له؛ لأنها من كبريات معجزاته، فمع كونه أمياً إلا أنه أوتي هذا العلم من عند الله سبحانه وتعالى، وأما في حق غيره فقد تذم تماماً. وأما قوله تبارك وتعالى: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل..) إلى آخر الآية، ففيه إشارة إلى بشائر الأنبياء عليهم السلام بنبوته صلى الله عليه وسلم، قال الإمام الماوردي في (أعلام النبوة): إن لله تعالى عوناً على أوامره وإغناءً عن نواهيه، فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة، أي: أن الأنبياء حينما يأتي أحدهم ويدعي النبوة فإن الله سبحانه وتعالى يسهل لهم هذا الأمر؛ لأنهم إذا خرجوا إلى قومهم يدعونهم إلى الإيمان بنبوتهم يكون قد سبق ذلك نوع من الإرهاصات والبشارات السابقة التي تسهل وتؤسس لهم بناء النبوة، حتى قبل أن يبعثوا. يقول: فكأن أنبياء الله تعالى معانون على تأسيس النبوة بما تقدمه من بشائرها، وتبديه من أعلامها وشعائرها؛ ليكون السابق مبشراً ونذيراً، واللاحق مصدقاً وظهيراً، فتدوم بهم طاعة الخلق، وينتظم بهم استمرار الحق، وقد تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله على غيبه؛ ليكون عوناً للرسول وحثاً على القبول، فمنهم من عينه باسمه صلى الله عليه وسلم، ومنهم -أي: الأنبياء السابقين- من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنهم من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال ويقيناً بعد الارتياب ... ثم سرد المارودي البشائر من نصوص كتبهم.

وقد سبق من قبل أن بينا الاستدلال على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقلنا: إن الاستدلال على صحة النبوة يقوم على أمور خمسة: الأمر الأول: الصفات الشخصية لصاحب الرسالة؛ فإن الأنبياء لهم صفات لا يشركهم فيها غيرهم من البشر، فهناك صفات خاصة بالأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، تتعلق بنسبهم وبملامحهم الخلقية: قوة البدن، وسلامة الحواس، وجمال الصورة، وشرف النسب.. وغير ذلك من الصفات التي يختص بها الأنبياء، لذلك لما سمع عبد الله بن سلام -وكان كبير اليهود وعالمهم الأكبر في المدينة- بوصول النبي صلى الله عليه وسلم أسرع إليه، فماذا كان تعليقه أول ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فلما رأيته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب)، عليه الصلاة والسلام، كما قال بعض الشعراء: كانت بديهته تأتيك بالخبر أي: حتى لو لم يكن معه من الآيات سوى شكله فإن من يراه يعرف أن هذا لا يمكن أن يكذب على الله سبحانه وتعالى، بل لابد أن يكون صادقاً فيما يقول عليه الصلاة والسلام. فصفات الأنبياء البدنية والخلقية والخلقية ونسبهم وملامحهم وتكوين أجسادهم تكون في أكمل الحالات في كل هذه الخصال. الأمر الثاني: الآثار؛ لأن الأنبياء يتركون بصمات وآثاراً في الدنيا لا تشتبه بآثار غيرهم من المصلحين؛ فالأنبياء حينما يوجدون في أمة من الأمم أو في عصر من العصور يتركون من الآثار ما يدل على أن الله سبحانه وتعالى أيدهم ونصرهم، وأي عاقل لا يمكن أن يتصور أن يكون رسول كمحمد عليه الصلاة والسلام يمكنه الله سبحانه وتعالى هذا التمكين، وينشر دينه في الآفاق، ويظهر في كل الأزمان والأعصار بهذه الصورة، ثم يكون مع ذلك كاذباً، بل سنة الله سبحانه وتعالى أنه يفضح كل من ادعى النبوة كاذباً، ويجعلهم آية لمن يعتبر، كما فعل بغلام أحمد القادياني وبـمسيلمة الكذاب .. وغير هؤلاء من المتنبئين، فلا بد أن يظهر الله فضيحتهم، وهذه سنة من الله ماضية؛ حتى لا يلتبس الحق بالباطل، فـمسيلمة تسمى برحمان اليمامة، وادعى النبوة، وسمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بصق في بئر ففاض ماؤها، وبورك في مائها، فذهب هو إلى بئر فبصق فيها فغار ماؤها، فهذه لا تسمى كرامة، إنما تسمى إهانة، وهي خرق للعادة، لكن يقصد بها إهانته، وكذلك لما وجد النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على رأس الغلمان ذهب ليمسح على شعر صبي فسقط الشعر من على رأسه، حتى لما حاولوا أن يستجيبوا للتحدي ويأتوا بقرآن مثل القرآن ما استطاعوا أن يتخلصوا من أسر القرآن، وما استطاع أحد أن يبتكر أسلوباً جديداً، لكن كان دائماً يحاول أن يحاكي القرآن، فكان يأتي بأمور مضحكة، كقوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين! إلى آخر هذه الكلمات المعروفة التي يضحك منها العقلاء إذا سمعوها، فجعلهم الله ضحكة للعقلاء. وغلام أحمد القادياني أهانه الله سبحانه وتعالى في آخر لحظات حياته، وأظهر كذبه فيما كان يدعيه من أنه لن يموت إلا بعد كذا وكذا من السنوات.. إلى آخره، فالسنة ماضية من الله تعالى أنه لا يمكن أن يلتبس المحق بالمبطل والصادق بالكاذب. فمن صفات صاحب الرسالة: الآثار التي يتركها في الأرض، وبالذات نحن المسلمين لا يوجد أبداً نبي أيد بهذه الصفة مثلما أيد نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: انظر في آثار النبي عليه الصلاة والسلام في الصحابة الذين تربوا على يديه مباشرة رضي الله تعالى عنهم، وانظر كيف كانوا رجالاً ونساءً بل صبياناً وأطفالاً، فقد كانوا جبالاً تمشي على الأرض أو بحاراً من العلم تمشي على الأرض، والرجل الواحد منهم صار أمة في ذاته في كل أبواب الخير، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا عمالقة وجبالاً، ثم تأمل في التابعين وتابعي التابعين، وتأمل في سير الصالحين والحكام العادلين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كالخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ، وتأمل أخبار العباد والصالحين، وكل هذا ما هو إلا من آثار بعثته صلى الله عليه وسلم. وتأمل العدل مع الخصوم، وانظر إلى المسلمين لما سادوا العالم كيف رفقوا بالأمم ورحموها، وأحسنوا إلى الناس، واتقوا الله سبحانه وتعالى فيهم، وكل هذه المحاسن التي هي محاسن الإسلام في الناحية العملية التطبيقية والعملية النظرية كلها من آثار بعثته الشريفة صلى الله عليه وسلم. الأمر الثالث الذي يستدل به على نبوة النبي: المعجزات التي أيده الله بها. الأمر الرابع: البشارات، والبشارات هي إخبار الأنبياء السابقين ببعثة من يأتي بعدهم. الأمر الخامس: النبوءات، وهي: الإخبار عن أشياء تقع في المستقبل ثم تقع تماماً كما أخبر، وهذا مما عندنا فيه مئات من البشارات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مقطوع بها، فوقعت كما أخبر، وما لم يقع حتى الآن سوف يقع بإذن الله، كما قال عز وجل: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].

والذي يناسب تفسير هذه الآية الكريمة هنا قصر الكلام على البشارات التي وقعت في الكتب السابقة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. يقول صاحب كتاب (إظهار الحق): إن الإخبارات الواقعة في حق محمد صلى الله عليه وسلم توجد كثيراً إلى الآن أيضاً، مع وقوع التحريفات في هذه الكتب، ومن عرف أولاً طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر، ثم نظر ثانياً بنظر الإنصاف إلى هذه الإخبارات وقابلها بالإخبارات التي نقلها بإنجيله أو في حق عيسى عليه السلام جزم بأن الإخبارات المحمدية في غاية القوة. وجاء في (منية الأذكياء في قصص الأنبياء) ما نصه: إن نبينا عليه الصلاة والسلام قد بشر به الأنبياء السابقون، وشهدوا بصدق نبوته، ووصفوه وصفاً رفع كل احتمال؛ حيث صرحت باسمه وبلده وجنسه وحليته وأطواره وسمته، غير أن أهل الكتاب حذفوا اسمه -يعني: من نسخهم الأخيرة- إلا أن ذلك لم يجدهم نفعاً، أي: أنهم لما رأوا المسلمين يستدلون على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام بوجود اسمه في كتبهم هربوا من ذلك بأن حذفوا هذه البشارات، ولكن لم يجدهم ذلك الحذف نفعاً؛ لبقاء الصفات التي اتفق عليها المؤرخون من كل جنس وملة، وهي أظهر دلالة من الاسم على المسمى، إذ قد يشترك اثنان في اسم، ويمتنع اشتراك اثنين في جميع الأوصاف، لكن من أمد غير بعيد قد شرعوا في تحريف بعض الصفات؛ ليبعد صدقها على النبي صلى الله عليه وسلم، فترى كل نسخة متأخرة تختلف عما قبلها في بعض المواضع اختلافاً لا يخفى على اللبيب أمره، ولا ما قصد به، ولم يفدهم ذلك غير تقوية الشبهة عليه؛ لانتشار النسخ بالطبع وتيسر المقابلة بينها، فالآن اتضح القول جداً جداً في إثبات التحريفات المقررة بين نسخ كتبهم التي يسمونها بالمقدسة، وها نحن نورد شذرة من البشائر:

البشارة بمحمد في سفر التكوين

فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر ، هكذا: (وقال لها ملاك الرب: أنت حبلى ستلدين ابناً، وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن). وهذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم لا بجده إسماعيل؛ لأن إسماعيل عليه السلام لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص، بل في التوراة: أن إسماعيل وأمه هاجر أخرجا من وطنهما مكرهين. ولم يلد إسماعيل مع إسحاق، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش في الصحراء، ولم يسمع أن الأمم دانت لأولاد إسماعيل حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل أحد تحت أيديهم، فكان ذكر إسماعيل مقصوداً به ولده، كما أنه في مواضع كثيرة من التوراة ذكر يعقوب والمقصود بالذكر ولد يعقوب، فمن ذلك: قوله في السفر الخامس: (يا إسرائيل ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له)، وهذا الخطاب لإسرائيل، لكن هو في الحقيقة لبني إسرائيل، فهو خطاب لهم باسم أبيهم، كما قال تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... [الطلاق:1] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود هو وأمته، وهذا معروف، وله نظائر كثيرة في القرآن الكريم، فكذلك قوله لقوم موسى: (اسمع إسرائيل ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكبر وتنعم)، ونظائره كثيرة. إذاً: معروف في لغة كتابهم أنه يذكر اسم الأب ويراد الابن، وإنما يذكر مجازاً بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.

البشارة بمحمد في سفر التثنية

ومنها: -أي من هذه البشارات-: في الباب الثالث والثلاثين من سفر التثنية، هكذا: (وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته). فقبل أن يموت موسى عليه السلام بشر قومه بني إسرائيل بهذه البشارة، فقال: (جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم). ولا غموض بأن مجيء الله تعالى من سيناء عبارة عن إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، هكذا يفسره أهل الكتاب، فيجب أيضاً أن تفسر باقي البشارة بنفس الأسلوب، وكان يجب أن يطرد التفسير؛ فيفسروا أيضاً (وأشرق لهم من ساعير) بأن المقصود به: إنزال الإنجيل على المسيح عليه السلام؛ لأن ساعير هي الناصرة، التي ينسب إليها النصارى، والتي ولد فيها المسيح عليه السلام، فيجب أن يكون إشراقه من ساعير عبارة عن إنزاله الإنجيل على المسيح، حيث كان المسيح يسكن أرض الجليل بقرية تدعى ناصرة، واسم النصارى مأخوذ منها. أما قوله: (وتلألأ من جبل فاران) (وتلألأ) أي: الرب، (من جبل فاران) كما فسروا: (جاء الرب من سيناء) بإنزال التوراة، (وأشرق لهم من ساعير) يجب أن تفسر بأنها إنزال الإنجيل، فالثالثة هذه لا تحتمل بأي حال إلا إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، فقوله: (وتلألأ من جبل فاران)، تلألؤه من جبل فاران عبارة عن إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبل فاران، وفاران هي: مكة، وهذا باتفاق أهل الكتاب أيضاً، ولا يخالفه أهل الكتاب؛ لأن كلمة (فاران) هي جبال مكة أو بلدة مكة، ففي الباب الحادي والعشرين من سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام هكذا: (وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو إسماعيل رامي قوس، وسكن -أي: إسماعيل- في برية فاران -يعني: في مكة- وأخذت له أمة زوجة من أرض مصر)، ولا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، فإن كلمة فاران يقصد بها: جبال مكة، فقوله: (وتلألأ من جبل فاران) يدل على إنزال القرآن في مكة المكرمة. ونفس هذه البشارة هناك إشارة إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]. فقوله: (والتين والزيتون) التين والزيتون مشهور في القدس في فلسطين حيث بعث المسيح عليه السلام، وقوله: (وطور سينين) أي: جبل سيناء، وفي هذا إشارة إلى نزول التوراة في سيناء في الطور، وقوله: (وهذا البلد الأمين) أي: مكة، فهذه متطابقة تماماً مع قوله: (جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من ساعير، وتلألأ من جبل فاران)، فلا شك أن إسماعيل كان سكنه في مكة، وفيها عاش، وبها دفن، وهذه البشارة صريحة في نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهرة لا تخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر، فأي نبي ظهر في مكة بعد موسى غير محمد صلى الله عليه وسلم، وانتشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها كما يقتضيه الاستعلان المذكور في البشارة؟ لأن قوله: (وتلألأ من جبل فاران) في ترجمة أخرى: (واستعلن من جبل فاران).

البشارة بنبي مثل موسى والدليل على أنه محمد لا يوشع

ومن هذه البشارات: في الباب الثامن عشر من سفر التثنية هكذا: (قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبياً من وصف إخوتهم مثلك -يعني: مثل موسى- وأجعل كلامي في فمه)، وفي هذا إشارة إلى أميته عليه الصلاة والسلام، وأنه ينطق بالقرآن، وفيه إشارة إلى أنه يعطيه عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، قال: (وأجعل كلامي في فمه، سيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)، يعني: من لا يستجيب لشريعة هذا النبي أنا أطالبه وأعاقبه. فهذه البشارة هي في حق نبينا صلى الله عليه وسلم قطعاً؛ لأنه من ذرية إسماعيل، وذريته يسمون إخوة لبني إبراهيم، فقوله: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك) أي: أن هذا النبي يكون شبيهاً بموسى عليه السلام من وسط إخوتهم، يعني: أنه ليس من بني إسرائيل، لكن من إخوتهم الذين هم أولاد إسماعيل عليه السلام، بدليل ما ذكر في التوراة في حق إسماعيل، وأنه قبالة إخوته ينصب المضارب، وقد جرت عادة الكتب المنزلة بتسمية أبناء الأعمام عن بعد بعيد إخوة، كما دعي في القرآن هود وصالح إخوة لعاد وثمود، مع أنهم على بعد بعيد من أولاد الأعمام، كما قال تعالى إخباراً بدعوة إبراهيم عليه السلام لولد إسماعيل: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة:129]، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، وكما قال في خطاب بني إسماعيل: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128]. وأما ما زعمته اليهود من أن المراد يوشع فتى موسى فهو باطل من وجوه: أولاً: أن المبشر به من إخوة بني إسرائيل، لا من نفس بني إسرائيل، ويوشع كان من نفس بني إسرائيل. ثانياً: أن يوشع لم يكن مثل موسى عليه السلام؛ لما في آخر سفر التثنية في الإصحاح الرابع والعشرين: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرف الرب وجهاً لوجه)، يعني: أنه لم يوجد بعد موسى في بني إسرائيل مثل موسى عليه السلام، في حين أن البشارة تقول: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك)، وما عرف بعد موسى أبداً نبي مثل موسى عليه السلام، حتى المسيح لما أتى قال: (ما جئت لأنقض موسى، ولكن جئت لأتمم) أي: أنه جاء مكملاً للرسالة، فالذي يستحق وصف (مثلك) ليس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا نلاحظه في القرآن الكريم، حيث نجد الربط المستمر بين موسى وبين محمد عليهما السلام، وبين أمة محمد وأمة موسى عليهما السلام، فمثلاً: في بداية سورة الإسراء قال عز وجل: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء:1-2]، وفي سورة القصص كثير جداً من الآيات، وفي سورة الأحقاف قال عز وجل: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:29-30]. وجاء ورقة بن نوفل لما نزل الوحي على النبي عليه السلام في القصة المعروفة في باب الوحي، وفيها أنه قال: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى)، وقال النجاشي : (إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة)، فانظر كيف يأتي الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لأنه مثله! وأيضاً في قصة المعراج جاء الربط بين الأمتين كما بينا، فالشاهد: أن عندهم نصّاً في آخر سفر التثنية: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجهاً لوجه)، ولأن موسى عليه السلام صاحب كتاب وشريعة جديدة مشتملة على أوامر ونواهٍ، ويوشع ليس كذلك، بل هو مأمور باتباع شريعة موسى، وأيضاً يوشع عليه السلام كان حاضراً هناك، وقد أشير إليه بالعبارة الصريحة قبل هذه، ففي الباب الأول من هذا السفر: ( يسوع بن نون الواقف أمامك وهو يدخل إلى هناك ... أنه هو يختمها لإسرائيل. ولا يحتمل بحال من الأحوال أن يكون قوله في هذه البشارة: (أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به).

الأدلة على أن المبشر به أنه مثل موسى هو محمد لا عيسى

وأما ما زعمه النصارى من أن المراد به عيسى فهو أيضاً باطل لوجوه: أولاً: أن عيسى من بني إسرائيل، والمبشر به هنا من غيرهم، أي: من إخوتهم وليس من بني إسرائيل أنفسهم، وعيسى من بني إسرائيل، وأيضاً موسى بشر بنبي مثله، والنصارى يدعون أن عيسى إله، وينكرون كونه نبياً مرسلاً، وإلا لزم اتحاد المرسل والمرسل، وهو غير معقول، على أن مشابهة موسى لنبينا عليهما السلام أقوى من مشابهته لعيسى؛ لاتحادهما في كونهما ذوي والدين وأزواج، فموسى له أبوان، ومحمد له أبوان، أما المسيح فله أم فقط ولا أب له. ثانياً: من أوجه المشابهة بين موسى ومحمد: كونهما مأمورين بالجهاد، بخلاف عيسى عليه السلام، وقد أشار في هذه البشارة بقوله: (ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي أتكلم به باسمي أنا أطالبه)، وفي هذا إشارة إلى أن هذا النبي مأمور بجهاد من كفر بما جاء من عند الله والانتقام منه بسيفه البتار، وكذلك كون شريعتيهما مشتملتين على الحدود والقصاص والتعزير وإيجاب الغسل على الجنب والحائض والنفساء وإيجاب الطهارة وقت العبادة، وهذه كلها ليست موجودة في شريعة عيسى عليه السلام على ما تقول النصارى، ونظائر ذلك كثيرة. وفي هذه البشارة إشارة إلى كون هذا النبي أمياً لا يقرأ، حيث قال: (يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي)، وبذلك تعرف سر وصفه به في قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)، وهي الآية التي نحن بصددها. من هذه البشارات: في الإنجيل في الباب الرابع عشر في إنجيل يوحنا هكذا: (المسيح عليه السلام كان يقول لتلامذته قبل أن يرفع إلى السماء: إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب، - الأب: اصطلاح لهم- فيعطيكم فارقليد آخر؛ ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لن يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه ولا يعرفه، وأنتم تعرفونه؛ لأنه مقيم عندكم، وهو ثابت فيكم). وهذه بشارة من المسيح عليه السلام بأن الله تعالى سيبعث للناس من يقوم مقامه وينوب في تبليغ رسالته وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبداً، وهل هذا إلا محمد صلى الله عليه وسلم؟! والأب هنا بمعنى: الرب والإله؛ لأنه اصطلاح أهل الكتابين، وقد أشار عيسى عليه السلام بكونه روح الحق إلى أن الحق قبل مبعثه يكون كالميت لا حراك به ولا انتعاش، وأنه إذا بعث هذا النبي يعيد الروح للحق، فيصدع حينئذٍ قائماً في الأرض، ولا خفاء أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي أحيا الله به الحق بعد عيسى عليه السلام بعدما اندرس ولم يبق منه شيء. ثم قال: (الفارقليد روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء، وهو يذكركم كل ما قلته لكم)، ولا شك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو الذي علم كل شيء من الحقائق، وأوضح ما خفي من الدقائق، وذكر أمة عيسى ما نسوه من أقواله المتضمنة أنه عبد من عباد الله تعالى قربه إليه بالرسالة واصطفاه، وأنه لم يدع سوى عبادة الله وتوحيده وتنزيهه وتمجيده. وقوله: (باسمي) أي: بالنبوة، ثم أبان لهم سبب البشارة به قبل أن يأتي فقال: (والآن قد قلت لكم قبل أن يكون؛ حتى إذا كان تؤمنون).

البشارة بالفارقليد في الإنجيل

وفي الباب الخامس عشر من الإنجيل المذكور أيضاً: (فأما إذا جاء الفارقليد الذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من الأب ينشق، وهو يشهد لأجلي، وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من الاتباع). وفي الباب السادس عشر منه: (لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق -يعني: أرفع إلى السماء- لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء ذاك فهو يوبخ العالم على خطيئة وعلى بر وعلى حكم، أما على الخطيئة فلأنهم لم يؤمنوا بي، وأما على البر فلأني منطلق إلى الأب ولستم ترونني بعد، وأما على الحكم فإن رئيس هذا العالم فارقليد، وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكنكم لستم تطيقون حمله، وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بما سيأتي، وهو يمجدني؛ لأنه يأخذ مما هو لي، ويخبركم بجميع ما هو للأب)، ومن أمعن النظر في هذه العبارات ولاحظ ما اشتملت عليه من الفحاوى والإشارات جزم بأن (الفارقليد) هو محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي ظهر بعد عيسى عليه السلام، وشهد لعيسى بالنبوة والرسالة، ومجده، وبرأه مما افتراه عليه النصارى من دعوى الربوبية، ومما افتراه عليه اليهود من كونه ساحراً كذاباً، وعلى والدته من كونها غير طاهرة الذيل بريئة الساحة، وهو الذي وبخ العالم -سيما اليهود- على الخطايا، ولاسيما خطيئة الكفر بعيسى عليه السلام، والطعن في والدته الطاهرة البتول، وهو الأمين الصادق الذي علم جميع الحقائق، وهو الذي أبان من الأسرار ما لم تطق تحمله قبل مجيئه الأفكار، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، صلى الله عليه وسلم. وفسر العلامة ابن قتيبة قوله: (روح الحق الذي من الأب ينبثق) بقوله: أي: يصدر بكلام الله المنزل، واستدل بقول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، والمراد به هنا: القرآن الكريم؛ لأنه هو الذي يشهد للمسيح بالنبوة والنزاهة عما افتري عليه، وبأنه روح الله وكلمته وصفيه ورسوله، كما شهد الحواريون الذين كانوا معه واهتدوا بهديه، ولم يثبت شهادة كتاب غير القرآن بذلك، فتعين أن يكون هو المراد. أي: أن القرآن هو الكتاب الذي جاء بعد المسيح عليه السلام ينزه المسيح عن الربوبية، وينزهه عن السب الذي سبه إياه اليهود لعنهم الله وسبوا أمه به، فالقرآن هو الكتاب الذي أفاض في شأن عيسى، وفي بيان أنه كان نبياً رسولاً، وأفاض في مدح مريم عليها السلام، ولم تثبت شهادة أي كتاب بعد الإنجيل بذلك سوى القرآن الكريم. ثم تأمل قول المسيح عليه السلام: (إنه خير لكم أن أنطلق، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليد) فستجد فيه إشارة إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام؛ لأنه يقول لهم: (إنه خير لكم أن أنطلق)؛ لأنه لا يبعث محمد حتى يرفع المسيح عليه السلام، ففي هذا إشارة إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام. وأما لفظ (فارقليد) فهو يوناني الأصل، قيل: أصله فاركليد، وألـ(ف) تكتب أحياناً فا، ومعناه: المعزي والمعين والوكيل أو الشافع، وقيل فاركليثود فيكون قريباً من معنى محمد وأحمد. وطبعاً هناك عشرات من العلماء النصارى الذين أسلموا ألفوا في هذا الموضوع، منهم يدعى عبد الأحد داود ، حيث كان من كبار علمائهم المتبحرين جداً في علومهم، ثم أسلم لله سبحانه وتعالى، وألف كتباً اشتهر منها كتابان: (محمد في التوراة والإنجيل) وأيضاً (الرد على أهل الصليب)، وكان يدعى: الأب عبد الأحد الأشوري أو الإلداني، وكان له شأن رفيع عندهم، ولكنه أسلم وانتصر للتوحيد، وله بحوث قيمة جداً في هذا الموضوع. وأيضاً كما حكينا لكم من قبل عبد الله الترجمان ، كان أكبر علماء النصارى، وكذلك الهجري أسلم بسبب هذا النص الذي تلوناه عليكم الآن، وله قصة معروفة. ومما يذكر في هذا المقام أن الشيخ عبد الوهاب النجار حكى في كتابه (قصص الأنبياء) أنه تقابل مع عالم كبير جداً من علماء النصارى ومن علماء اللغة اليونانية القديمة، يدعى كارلن لينو ، فسأله فقال: ما معنى كلمة (الفارقليد) التي تكلم بها المسيح عليه السلام؟ فقال له: إن الكتب والآباء يقولون: إنها بمعنى المعزي أو المعين أو الوكيل أو الشافع، فقال له: إني لست أسأل قسيساً، ولكنني أسأل الدكتور كارلن لينو الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، أي: أنا أسألك لا كقسيس، لكن أسألك كعالم في اللغة اليونانية، أخبرني بالاشتقاق اللغوي عندكم لكلمة (الفارقليد) ما معناها؟ فقال: إنه الذي في اسمه حمد كثير، قال: يعني الذي يوافق أفعل تفضيل من حمد؟ قال: نعم، فقال له: أليس هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام؟ لأن من أسمائه: أحمد، فقال: يا أخي! أنت تعرف كثيراً، وسكت على هذا! فالشاهد: أن هذه حقيقة لغوية معروفة، فإذا رجع الإنسان إلى لغتهم عرف هذه الحقيقة، وعلم أن كلمة (فارقليد) هي عبارة عن أفعل تفضيل من الحمد، يعني: أحمد، وهذا كما قال عز وجل: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6]، عليه الصلاة والسلام، فالأمر واضح غاية الوضوح، ولكنهم لما ترجموا لم يذكروا كلمة أحمد، ولكن ترجموها بالمعنى؛ لأن المسيح تكلم بها بالعبرية، ولم يتكلم بها باليونانية؛ لأنه كان يتكلم باللسان العبراني، كقومه بني إسرائيل، فلما ترجمت إلى اليونانية ترجموا معنى العلم، فجعلوها الفارقليد بمعنى أحمد، وقد كانت هذه البشارة سبب إسلام الفاضل عبد الله الترجمان كما بينه في كتابه (تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب)، وقد كتم النصارى بعض الأناجيل المصرحة باسم محمد؛ لكونها شجىً في حلوق أهوائهم كإنجيل برنابا ففيه التصريح بقوله: (إلى أن يجيء محمد رسول الله)، كما نقله في (إظهار الحق)، وإذا كان هذا حالهم في تراجمهم في لقب إلههم ولقب خليفته ما علم، فكيف يرجى منهم صحة بقاء لفظ محمد أو أحمد، إلا أن سيف الحق أمضى، وسهام الصواب أنفذ، فثمة من الأوصاف الصريحة والوسائل الصحيحة ما لا يبقى معه وقفة لحائر. هذا وفي كتبهم بشائر كثيرة تعرض لذكرها جلة من العلماء يزيد عددها عن العشرين، قال الماوردي : لعل ما لم يصل إلينا منها أكثر. وقد اقتصرنا على ما قدمنا؛ روماً للاختصار، ولسهولة الوقوف على البقية في مثل (أعلام النبوة) للماوردي و(إظهار الحق) وغيرهما.

شهادة أهل الكتاب الذي أسلموا بوجود البشارات في كتبهم

وقال صاحب (برهان الحق) الشيخ رحمة الله عليه رحمة الله: إن من أسلم من علماء اليهود والنصارى في القرن الأول شهد بوجود البشارات المحمدية في كتب العهدين، مثل: عبد الله بن سلام وابن سعنة وبنيامين ومخيريق وكعب الأحبار وغيرهم من علماء اليهود، ومثل بحيرا ونسطورا الحبشي والأسقف الرومي الذي أسلم على يد دحية الكلبي وقت الرسالة فقتلوه، والجارود والنجاشي والرهبان الذين جاءوا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيرهم من علماء النصارى. وقد اعترف بصحة نبوته وعموم رسالته هرقل قيصر الروم، والقصة موجودة بطولها في أول صحيح البخاري في كتاب (بدء الوحي)، وهرقل لما جمع أبا سفيان ومن معه وسأله عدة أسئلة في نهاية هذه الأسئلة قال: فإن يكن الذي قاله حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وبين أنه كان يتمنى أن يتجشم ويتكلف لقاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا قومه إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلما حاصوا حيصة الوحوش وثاروا قال لهم: أنا كنت أمتحن إخلاصكم ووفاءكم وثباتكم على دينكم، فحينئذٍ سجدوا له وأقروه، لكنه في الحقيقة آثر الملك على الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان عنده فقه ووعي وفهم لتأمل في قول النبي عليه الصلاة والسلام في الرسالة التي بعث بها دحية الكلبي إليه يقول له فيها: (أسلم تسلم)، فوعده بالسلامة، لكنه لم يفقه أن هذا رسول الله، وقد وعده بأنه إذا أسلم سوف يسلم من السوء ولن يصيبه أحد بشر، فما فقه ذلك، وآثر الدنيا على سعادة الآخرة. وكذلك المقوقس صاحب مصر، وابن صوريا وحيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب وغيرهم ممن حملهم الحسد على الشقاء ولم يسلموا. ولما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران وحاجهم في شأن عيسى عليه السلام وحجهم دعاهم إلى المباهلة بأمره تعالى: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، فإذا كنتم واثقين أنكم على الحق فتعالوا نبتهل، فخافوا وأشفقوا ونكصوا على أعقابهم خوفاً من شؤم مغبتها، فكانوا كقوم فرعون الذين قال الله عز وجل عنهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].

فمنها: في الباب السادس عشر من سفر التكوين في حق هاجر ، هكذا: (وقال لها ملاك الرب: أنت حبلى ستلدين ابناً، وتدعين اسمه إسماعيل، لأن الرب قد سمع لمذلتك، وإنه يكون إنساناً وحشياً يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وأمام جميع إخوته يسكن). وهذه بشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم لا بجده إسماعيل؛ لأن إسماعيل عليه السلام لم تكن يده فوق يد الجميع، ولا كانت يد الجميع مبسوطة إليه بالخصوص، بل في التوراة: أن إسماعيل وأمه هاجر أخرجا من وطنهما مكرهين. ولم يلد إسماعيل مع إسحاق، وكان الملك والنبوة في بني إسحاق، وكان بنو إسماعيل في البراري العطاش في الصحراء، ولم يسمع أن الأمم دانت لأولاد إسماعيل حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فدانت له الملوك، وخضعت له الأمم، وعلت يده وأيدي بني إسماعيل على كل يد، وصارت يد كل أحد تحت أيديهم، فكان ذكر إسماعيل مقصوداً به ولده، كما أنه في مواضع كثيرة من التوراة ذكر يعقوب والمقصود بالذكر ولد يعقوب، فمن ذلك: قوله في السفر الخامس: (يا إسرائيل ألا تخشى الله ربك، وتسلك في سبيله وتعمل له)، وهذا الخطاب لإسرائيل، لكن هو في الحقيقة لبني إسرائيل، فهو خطاب لهم باسم أبيهم، كما قال تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... [الطلاق:1] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود هو وأمته، وهذا معروف، وله نظائر كثيرة في القرآن الكريم، فكذلك قوله لقوم موسى: (اسمع إسرائيل ثم احفظ، واعمل يحسن إليك ربك، وتكبر وتنعم)، ونظائره كثيرة. إذاً: معروف في لغة كتابهم أنه يذكر اسم الأب ويراد الابن، وإنما يذكر مجازاً بقرينة الحال، وإلا لزم الخلف في خبره تعالى.