تفسير سورة الأنعام [13-35]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك وتعالى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:13-14]. (وله) تعالى (ما سكن) أي: حل (في الليل والنهار) أي: كل شيء، فهو ربه وخالقه ومالكه، وهو (السميع) لما يقال (العليم) بما يُفعل. وقوله: (قل أغير الله أتخذ ولياً) أي: قل لهم: (أغير الله أتخذ ولياً) أعبده، والله (فاطر السماوات والأرض) أي: مبدعهما، (وهو يطعم) أي: يرزق، (ولا يطعم) أي: ولا يُرزق، فسيكون الجواب الذي لا جواب غيره هو: لا يصح لي أن أتخذ ولياً غير الله سبحانه وتعالى. وقوله: (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) أي: أول من أسلم لله من هذه الأمة، (ولا تكونن) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين به. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) وله: أي لله عز وجل، (ما سكن في الليل والنهار) أي: ما استقر وحل، من الاستقرار والحلول؛ لأن السكنى بمعنى الحلول، كقوله تعالى: وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [إبراهيم:45]، والمعنى: له تعالى كل ما حصل في الليل والنهار. يعني: أن كلمة (سكن) هنا ليست من السكون، وهناك قول آخر إنها من السكون، ولكن الأقرب أنها من السكنى. فقوله: (وله ما سكن في الليل والنهار) يعني: ما حصل في الليل والنهار مما طلعت عليه الشمس أو غربت، فشبَّه الاستقرار في الزمان بالاستقرار في المكان، فاستعمل استعماله فيه، فالسكون هنا من الحلول، يعني: ما حل وسكن واستقر في الليل والنهار من المخلوقات. فكأن الليل والنهار شبها بمكان يسكن فيه، أو أن (سكن) بمعنى السكون الذي هو مقابل الحركة، يعني: له ما سكن فيهما، وإذا فسرنا قوله تعالى: (وله ما سكن) بالهدوء والسكون فما الذي يقابل السكون؟ الجواب: الحركة، فيكون هذا من باب قوله تبارك وتعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81] ولم يقل: القر. ومعروف أن السرابيل تقي الحر، وفي التفسير نقول: والقر، والمراد: تقيكم الحر والبرد، فحذفه من السياق اكتفاءً بظهوره؛ لأن السرابيل تقينا الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر لشهرته وظهوره، فكذلك هنا إذا قلنا: (وله ما سكن) من السكون، ففي التفسير نزيد ونقول: له ما سكن وله ما تحرك، ونقول: اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لظهوره، ولأنه يقابله، والذي يقابل السكون هو الحركة، وهذا يعرف بالقرينة، وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس فلم يقل: وله ما تحرك في الليل والنهار لأن السكون أكثر وجوداً، والنعمة فيه أكثر. وقال أبو مسلم الأصفهاني: ذكر تعالى في الآية الأولى السماوات والأرض؛ إذ لا مكان سواهما، وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار؛ إذ لا زمان سواهما، فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات وللزمان والزمانيات، وهذا بيان في غاية الجلالة. وقوله: (وهو السميع العليم) يعني: يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فما يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان. ثم قال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]. قوله تعالى: (قل) أي: لكفار مكة المكذبين: (أغير الله أتخذ ولياً) يعني: معبوداً، وهذا كقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر:64]، والمعنى: لا أتخذ ولياً إلا الله وحده. وقوله: (فاطر السماوات والأرض) أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق لهما، و(فاطر) بالجر صفة لاسم الجلالة. وقوله: (وهو يطعم ولا يطعم)، يعني: يرزق سبحانه وتعالى ولا يُرزق، والمقصود: أن المنافع كلها من عند الله تبارك وتعالى، ولا يجوز عليه الانتفاع؛ لأن الخالق مستغنٍ عن المخلوقين، أي: فيجب اتخاذه ولياً ليُعبد سبحانه وتعالى شكراً على إنعامه، وكفايته الحوائج بلا طلب عِوض، والله عز وجل يمتن علينا بالنعم ليل نهار وفي كل لحظة من اللحظات وفي كل أحوالنا يمنُّ علينا بالنعم التي لا غنى بنا عنها طرفة عين، دون أن يطلب منا مقابلاً لهذه النعم، ويرزقنا عز وجل فينبغي أن لا نعبد غيره شكراً لإنعامه عز وجل. وقيل المراد بالطعم: الرزق، وهذا معناه اللغوي، وهو: كل ما ينتفع به، بدليل وقوعه مقابلاً له في قوله تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57]، فالمقصود بالطعم هنا المعنى اللغوي للرزق، وهو: كل ما ينتفع به؛ إذ كل ما ينتفع به يسمى رزقاً. وقوله: (( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ))، أي: أول من أسلم، وكلمة (مسلم) يقدر معها عبارة ولكنها تحذف، فكلمة الإسلام نقدرها معها كلمة (لله)، فقولي: أنا مسلم أصله: أنا مسلم لله، فدائماً كلمة الإسلام ومشتقاتها ترتبط بهذا اللفظ، أي: أنا مسلم لله، أو أسلمت لله، وهذا يلاحظ بالاستقراء في القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء:125]، وهذا موجود في القرآن كثيراً، وكذلك هنا يقول تعالى: (( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ )) أي: أسلم وجهي لله مخلصاً له؛ لأصير متبوعاً للباقين؛ لأنني قدوة وأسوة لباقي الناس، وهذا كقوله: وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163]، يعني: من هذه الأمة، وهذا اللفظ بنفسه موجود في دعاء الاستفتاح في الصلوات، وبعض العلماء يرى أن تبدل كلمة (أول المسلمين) إلى: وأنا من المسلمين، على أساس أنه فهم أن معنى (أنا أول المسلمين)، أي: أول إنسان أسلم لله، وإنما المعنى: أول المسارعين إلى طاعتك؛ لأن أول المسلمين هو آدم عليه السلام، فمعنى (أول المسلمين): أول المسارعين، وهذا تعبير عن المسابقة والمسارعة في طاعة الله عز وجل والأوبة له، إلا إذا أردنا أن (أول المسلمين) يعني: أول المسلمين في هذه الأمة المحمدية. وقوله: وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163] هو كقول موسى: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا، وإنما ترى في الآخرة. وقوله: (( وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )) يعني: وقيل لي: (لا تكونن من المشركين) فهو معطوف على أمرت، يعني: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك نهياً صريحاً مؤكداً بعد النهي في ضمن الأمر؛ لأنه لا شك في أن الإسلام لله يقتضي النهي عما ينافي الإسلام وهو الشرك، فلم يكتف بذلك، وإنما صرَّح -أيضاً- بالنهي عن الشرك، رغم أن الأمر بالإسلام يقتضي نفي الشرك، لكنه صرح بالنهي زيادة في التأكيد بقوله تبارك وتعالى: (ولا تكونن من المشركين). ونهي المتبوع نهي للتابعين، ويجوز عطفه على (قل)، وفي الآية إرشاد إلى أن كل آمر ينبغي أن يكون عاملاً بما أمر به؛ لأنه مقتداهم، وقيل: هذه الآية للتحريض، كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول: وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال.

ثم قال عز وجل: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]. قوله تعالى: (قل إني أخاف إن عصيت ربي) أي: بمخالفة أمره ونهيه، فيدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً، يعني: إذا كانت أي معصية داخلة في قوله: (إني أخاف إن عصيت ربي) فما بالك بأكبر معصية على الإطلاق وهي الشرك؟! فلا شك في أنها تدخل في الآية دخولاً أولياً؛ لأن أكبر معصية في الوجود هي الشرك. وقوله: (عذاب يوم عظيم) يعني: عذاب يوم القيامة الذي تظهر فيه عظمة القهر الإلهي، وفي الآية مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن الذي يقول هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو المعصوم عليه الصلاة والسلام، يقول: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، فإذا كان المعصوم عليه الصلاة والسلام يقول هكذا فكيف بهؤلاء المشركين؟! فلا شك في أن هذا تعريض لهم بأنهم مستوجبون للعذاب الأليم؛ لأن وجه التعريض هنا إسناد ما هو معلوم الانتفاء بـ(إن) التي تفيد الشك تعريضاً، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يصدر منه المعصية لله عز وجل؛ لأنه معصوم، فإذا كان هو يقول: إنني أخاف أن أعصي ربي خشية العذاب العظيم مع أنه معصوم فكيف بغيره؟! لا يتوهم منه احتمال وقوع المعصية منه، لكن المقصود منه التعريض بهؤلاء المشركين، يعني: إذا كان المعصوم عليه السلام يقول هذا فكيف بمن عداه من المسلمين؟! ثم كيف بالمشركين أنفسهم الذين يقترفون أعظم معصية في الوجود وهي الشرك؟! فلا أمل لهم في رحمة الله ما أقاموا على شركهم. ولا يتوهم من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم يخاف على نفسه المعصية أو أنه يقع في المعصية؛ لأنه معصوم، كما لا يتوهم مثله في قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وهذا الاحتمال غير وارد في حق النبي صلى الله عليه وسلم لعصمته.

قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]، وهذا كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. ثم ذكر تعالى دليلاً آخر على أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ ولياً غير الله تعالى فقال عز وجل: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وهذا كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، وكما قال عز وجل: مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (اللهم! لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) وفي حديث ابن عباس : (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

قال عز وجل: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]. أي: هو الغالب بقدرته، المستعلي فوق عباده، يدبر أمرهم بما يريد، فيقع في ذلك ما يشق عليهم ويثقل ويغم ويحزن، فلا يستطيع أحد منهم رد تدبيره عز وجل والخروج من تحت قهره وتقديره، فالله عز وجل كل يوم هو في شأن، وهو القاهر فوق عباده يدبر أمورهم ويصرف أحوالهم لا اعتراض على حكمه ولا راد لقضائه عز وجل.

قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]. قوله تبارك وتعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يقول السيوطي : هذه الآية نزلت لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة، فإن أهل الكتاب أنكروك. ويبدو أن هذا افتراض من السيوطي، وإلا فتعبير القاسمي أدق كما سيأتي إن شاء الله، يعني: كأن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام: ائتنا بمن يشهد لك بأنك نبي من عند الله عز وجل؛ فإن أهل الكتاب -كانوا أهل علم بالنسبة للعرب الأميين- أنكروا نبوتك، فائتنا بمن يشهد لك، فقال عز وجل: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: قل لهم: (أي شيء أكبر شهادة) وكلمة (شهادةً) تمييز محول عن المبتدأ؛ لأن كلمة (شهادةً) التي هي تمييز كانت مبتدأً ثم تحولت إلى تمييز، فيكون المعنى: شهادة أي شيء أكبر؟ يعني: أنتم تطلبون شاهداً يشهد نبوتي، فشهادة أي شيء أكبر؟! (قل الله) يعني: إن لم يقولوا هم، وإن لم يعترفوا هم بأن الله عز وجل أكبر شهيد فقل لهم أنت: (الله) ولا جواب غيره، ولا يحتمل أبداً أن يكون هناك جواب غير هذا الجواب السديد. وقوله: (شهيد بيني وبينكم) يعني: هو شهيد بيني وبينكم على صدقي. وقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ) أي: لأخوفكم يا أهل مكة وغيرها، وقوله: (ومن بلغ) معطوف على ضمير (أنذركم)، فالضمير (كم) مفعول به و(من) معطوف عليه، يعني: لينذر به كل من بلغه القرآن من الإنس والجن. قال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم، أي: كأنه رأى محمداً صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فعلى كل ذي علم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه إلى غيره، ولا شك في أن هذه الآية تتضمن المنهج القويم في الدعوة، وهو إنذار الكافرين حتى مع تكذيبهم بالنبي وتكذيبهم بآيات القرآن نفسه، وقد أشيعت فكرة سخيفة تأثر بها كثير من المسلمين وكثير من الشباب والدعاة، وهي: كيف نخاطب الكافر بالقرآن وهو يكفر بالقرآن؟! وهذا انحراف جذري في أصول الدعوة، فالإنذار من القرآن والإنذار من السنة بنفس آيات القرآن الكريم تخوف الكافر؛ إذ هكذا علمنا القرآن الكريم (( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ )) فما عليك إلا أن تبلغ آيات الله، حتى لو كان يكفر بها، فإذا كنت تجادل أحداً من أهل الكتاب فصارحه بآيات الله، وقل له كما قال الله عز وجل: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [آل عمران:70]. فإذاً: المفروض على الإنسان في الدعوة أن لا يستغني في حال من الأحوال عن الإنذار بآيات القرآن الكريم، ولا يُردد هذه المقولة الباطلة: (كيف نحاجهم بالقرآن مع أنهم كافرون بالقرآن؟!) لأن الله سبحانه تعالى أودع في هذا القرآن قوة إلهية قاهرة تقهر قلوب من يكفرون به، حتى وصل الحال ببعض مشركي مكة الذين هم أشد الناس كفراً وعتواً إلى أنه أنهم حينما تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم مفتتح سورة (فصلت) لم يطق صبراً من الخوف ومن شدة النذارة التي في الآيات الكريمات، فوضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يسمع، وكأنه يقول: يكفينا هذا. ولم يتحمل أن يسمع أكثر من ذلك من شدة الخوف، فآيات القرآن هي موعظة ونهي وزجر للإنسان عن الكفر وعن المعاصي، فينبغي أن لا نبطل إعمال هذا السلاح في أعداء الله، ذلك السلاح الذي يخترق قلوبهم، إما لتهتدي وإما ليقطعها حسرة ويقيم عليها الحجة، فلا يجوز تعطيل آيات الله بهذه الدعوى الغريبة التي صدرت وشاعت الآن، وهي أننا لابد من أن نخاطبهم بأساليب أخرى، قد يكون منها مناقشتهم عن طريق كتبهم ونصوص كتبهم المحرفة، مع الإعراض الكامل عن آيات القرآن الكريم، فهذا المنهج منافٍ لمنهج الأنبياء ومخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم، فـابن مسعود خرج في أوائل البعثة وقرأ سورة (الرحمن) في الحرم الشريف، حتى ضربوه وأدموه وصار كالنصب الأحمر، وكذلك فعل أبو ذر ، فالصحابة كانوا يخرجون أمام المشركين ويصدعون بآيات الله، كما قال عز وجل: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، فلا يجوز بحال ترك الدعوة بالقرآن، بل ألف باء الدعوة أن الإنذار يكون بالقرآن الكريم وبمعانيه. يقول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) رواه البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع). وقوله: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى ، هذا استفهام إنكار، قُلْ لا أَشْهَدُ ، أي: قل لهم: (لا أشهد) أي: لا أشهد بأن مع الله آلهة أخرى. وقوله: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، يعني: من الأصنام وغيرها. يقول القاسمي : قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) يعني: شهادة أي شيء أكبر؟ بحيث لا يمكن معارضته بما يساويه، يعني: من هو أكبر شهادة، بحيث لا يمكن معارضة شهادته بشهادة غيره ممن يساويه؟ فالإجابة: هو الله؛ لأن الله لا يساويه أحد، كما قال عز وجل: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]. فقوله: (قل الله) يعني: الله أكبر شهادة، أو شهادة الله هي شهادة أكبر شيء؛ لأنه لا يوجد احتمال على الإطلاق لطروق الكذب في خبر الله عز وجل أصلاً، ومعاذ الله! أن يحصل ذلك، أي: لا يمكن أن يتطرق إلى خبر الله عز وجل كذب، قال عز وجل: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87]، وقال: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122]. وقوله: (قل الله) مع أنه سألهم، لكن الله سبحانه وتعالى قال له: قل لهم: (الله) وهذا بعد أن مهد لهم بهذه المقدمة (قل أي شيء أكبر شهادة)؛ لأنه يجب عليه أن يتولى الجواب بنفسه، ولبيان عدم قدرتهم على أن يجيبوا بغيره؛ إذ لا يمكن أن تكون هناك إجابة أخرى غير أن الله هو أكبر شيء شهادة، أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه. وقوله: (قل الله شهيد بيني وبينكم) خبر لمحذوف، يعني: هو شهيد بيني وبينكم، أو خبر عن لفظ الجلالة، ودل على جواب (أي) من طريق المعنى؛ لأنه إذا كان الله تعالى هو الشهيد بينه وبينهم كان أكبر شيء شهادة شهيد له، فيكون هذا من أسلوب الحكيم؛ لأنه عدل عن الجواب المتبادر إليه ليدل على أن أكبر شيء شهادة شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله أكبر شيء شهادة والله شهيد له، فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد له، فكأن هنا مقدمتين ثم نتيجة: المقدمة الأولى: الله أكبر شيء شهادة. المقدمة الثانية: الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم على صدقه. فينتج أن الأكبر شهادةً شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى (شهيد): مبالغ في الشهادة على نبوته، ولم يقل: شاهد، وإنما قال: (شهيد) واستعمل صيغة المبالغة في شهادته لصدق نبوته صلى الله عليه وسلم بحيث يقطع النزاع بينه وبينهم؛ إذ شهد سبحانه بالقول فيما أوحى إلى الأنبياء السابقين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وبالأمور الفعلية فيما ظهر على يديه صلى الله عليه وسلم من المعجزات، لاسيما معجزة القرآن، كما قال تعالى: (( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )) إشارة إلى هذه المعجزة التي أوحاها الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

إعجاز القرآن في بلاغته

وقوله: (أوحي إليَّ هذا القرآن) أي: الجامع للعلوم التي يُحتاج إليها في المعارف والشرائع في ألفاظ يسيرة في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، وهو معجزة شاهدة بصدق رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته. وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) يُفهم منه أنه لا يجوز للدعاة أن يعطلوا الإنذار بالقرآن؛ لأننا نلاحظ أن الكفار الذين لا يفقهون حرفاً في اللغة العربية إذا سمعوا القرآن دهشوا وذهلوا وأفصحوا عن وجود سلطان قوي قاهر على قلوبهم حينما يسمعون القرآن، وهذا يكاد يكون من المتواتر، أي أن كل من يسمع القرآن الكريم يتأثر به هذا التأثر، فللقرآن سلطان على القلوب بمجرد سماعه بدون أن يفقه القلب معانيه، وهذا لقوة في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك مما نراه في حال إخواننا المسلمين الباكستانيين أو غيرهم من الجنسيات الذين يحفظون القرآن أو يحفظ كثير منهم القرآن الكريم دون أن يفقه معناه، ومع ذلك يبكي بكاءً شديداً إذا تلا القرآن الكريم، وبعضهم حكي عنه أنه يمسك القرآن الكريم ويضمه إلى صدره ويبكي ويقول: كتاب ربي كتاب ربي. فالشاهد أن القرآن الكريم له سلطان في لغته، وفي سماع تلاوته، وفي أحكامه، وفي بلاغته من كل الجوانب، فإذا أتيته تجد بحراً زخاراً بالكنوز الثمينة. فلذلك ثنَّى تبارك وتعالى بقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به) يعني: بما فيه من الوعيد (ومن بلغ) أي: لأنذركم وأنذر به -أيضاً- من بلغه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسل لكل العالمين، يعني: أنذركم به -يا أهل مكة- وسائر من بلغه من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]. وقوله: (أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) هذا تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. قوله: (قل لا أشهد) يعني: لا أشهد بما تشهدون. قوله: (قل إنما هو إله واحد) أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، ولا يُشارك في إلاهيته ولا في صفات كماله. قوله: (وإنني بريء مما تشركون) يعني: من الأصنام.

إطلاق لفظ شيء على الله عز وجل

واستدل الجمهور بقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على جواز إطلاق لفظة (شيء) على الله تعالى، وكذا استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88] فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام؛ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وبعض العلماء منع إطلاق لفظة (شيء) على الله سبحانه وتعالى، واستدلوا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والاسم إنما يحسن بحسن مسماه، أي أن أسماء الله حسنى لحسن مسماها، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ونعت من نعوت الجلال، كما هو معلوم في أسمائه عز وجل الحسنى، ولفظ (شيء) أعم الأشياء، فهذه حجة من لا يجيز إطلاق لفظة (شيء) على الله، قالوا: إن كلمة (شيء) أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها، فالأشياء الحقيرة أو الصغيرة يطلق عليها أشياء، والأشياء العظيمة -أيضاً- تسمى أشياء، ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا يجوز تسمية الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى لكونها توقيفية، أي: أنه يطلق على الله لفظ (شيء)، لكنه ليس من الأسماء الحسنى، فيطلق عليه لفظ (شيء) للآيتين اللتين ذكرناهما، وهما قوله تعالى: (( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ )) وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]. فهو يطلق على الله عز وجل، لكن ليس من الأسماء الحسنى؛ لأن الأسماء الحسنى توقيفية، ولكونه لا يدعى به الله سبحانه وتعالى؛ إذ لا يقال في دعائه: يا شيء. لأن هذا لم يرد، لكن هذا لا ينافي أن كلمة (شيء) تشمل الذات العلية شمول العام، والمراد بإطلاقها عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به، وهذا لفظ شامل، ومما يشمله أن يطلق على الله سبحانه وتعالى. وبالجملة فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً.

الخلاف في المقصود بالشهادة في قوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة)

وقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) اختار القاسمي أنها شهادة على صحة نبوته، وبعض العلماء قالوا: (أي شيء أكبر شهادة) قالوا: على وحدانيته تبارك وتعالى. والذي جنح إليه الأكثر أنه أكبر شيء شهادة في ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا يفترض من الجواب أنه قد وقع السؤال، لكن الجلال السيوطي قال: ونزل لما سأله مشركو مكة فهو جزم بأنها سبب النزول، أما هنا فقال: فكأنه، أي أنه افترض أن هذا كان وقوعاً للسؤال، وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته، فقال لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن وتحداكم بمعارضته فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة، وإذا كان معجزاً كان إظهاره تعالى إياه على وصف دعواي شهادة منه على صدقي في النبوة. ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعنى: شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه، ويقوي هذا الاحتمال تتمة الآية: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى فهذا الفريق من العلماء قالوا المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على وحدانية الله. واستدلوا بتتمة الآية التي هي: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى ، وأيضاً يشهد له قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] وقوله تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150]. ومما يدل على أن الشهادة إنما عني بها في موارد التنزيل ثبوت الوحدانية أن القرآن يفسر بعضه بعضاً. إذاً: يحتمل أن تكون المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على صدق نبوتي، أو (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به. واقتصر هنا على الإنذار بقوله: (لأنذركم به) لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر، أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81]، فالأصل في النذارة أنها تقرن بالبشارة، فاكتفى هنا بالنذارة من باب: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81] لأنها مشهورة فلم يذكرها. واستُدل بقوله تعالى: (( لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )) على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن؛ لأن البشر أجمعين والجن -أيضاً- قد بلغهم هذا القرآن الكريم.

أحكام القرآن تعم جميع الخلق منذ نزوله إلى قيام الساعة

واستدل به -أيضاً- على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيولد بعد إلى يوم القيامة؛ لأن كلمة (ومن بلغ)، تعنى: كل من بلغه القرآن، سواء أكان في زمانه صلى الله عليه وسلم أم في غير زمانه إلى يوم القيامة، أم في أي مكان على وجه هذه الأرض. فكل من سمع هذا القرآن يجب عليه أن يتحرى، وكل من بلغه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسولاً اسمه محمد، أو أنزل كتاباً اسمه القرآن، أو أن هناك ديناً اسمه الإسلام يجب عليه أن يتحرى ويبذل غاية وسعه في التحري عن الحق، ولا يعذر إن قال: اجتهدت في البحث عن الحق فوجدت الحق في غير دين الإسلام. لا يعذر أمام الله سبحانه وتعالى أبداً؛ لأن وضوح صدق دين الإسلام وأنه دين الله الوحيد الحق أظهر من الشمس، ولا يمكن لأي إنسان عاقل يخلص في البحث عن الحق أن يصل إلى غير هذه النتيجة؛ لشدة وضوحها، وكثرة الأدلة عليها، فمما يؤسف له أننا نجد حتى من بين من ينتسبون للدعوة أو من بين الملتزمين من لا يستطيع أن يدلل على قضايا الإيمان وإحباط الشرك والكفر، وهذه الأشياء أساسية، وينبغي على الإنسان أن يتسلح فيها بالأدلة، فإذا احتجت في وقت من الأوقات إلى أن تثبت أن القرآن معجزة وأنت لم تعرف الأدلة فكيف ستتكلم؟ وماذا ستقول؟ وبم تدلل؟ وكيف تقيم دلالة قوية قاطعة على أن القرآن معجزة من عند الله سبحانه وتعالى؟! فلابد من أن تكون مستحضراً لهذه الأشياء. ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت عندنا بأدلة من أقوى الأدلة التي هي كالشمس في نقائها وظهورها ووضوحها، فيقبح بنا -معشر المسلمين- أن لا نتقن هذه الأدلة، وأن نعجز عن أن نحاج في الانتصار لدين الحق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إن كان قد قبضه الله عز وجل والتحق بالرفيق الأعلى فإن أمته تقوم مقامه في إبلاغ رسالته وإقامة الحجة على الخلق، فنحن الشهداء على هذه الأمم، كما قال عز وجل: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78]، فكيف نكون شهداء على الناس ونحن لم نبلغهم الحق أصلاً، وقد قصَّرنا في إبلاغ هذا الحق إليهم؟! فإذاً: يجب على الإنسان أن لا يقصِّر أبداً في إبلاغ الحق إلى أي مخلوق، سواءٌ من يهود أو نصارى أو مشركين أو أي طائفة، فلابد من أن يجتهد الإنسان في التبليغ. يقول محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. ورواه عنه ابن جرير بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.

وجوب التوحيد والبراءة من الشرك

قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، وهذا النص الشريف يدل أقوى دلالة على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، كما أن كلمة (واحد) صريحة في نفي الشركاء، ثم صرَّح بالبراءة عن إثبات الشركاء فقال: (وإنني بريء مما تشركون)، ولذلك استحب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله تبارك وتعالى هنا: (وإنني بريء مما تشركون) عقب التصريح بالتوحيد في قوله: (قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون).

وقوله: (أوحي إليَّ هذا القرآن) أي: الجامع للعلوم التي يُحتاج إليها في المعارف والشرائع في ألفاظ يسيرة في أقصى مراتب الحسن والبلاغة، وهو معجزة شاهدة بصدق رسالتي؛ لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء، وقد عجزتم عن معارضته. وقوله: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به) يُفهم منه أنه لا يجوز للدعاة أن يعطلوا الإنذار بالقرآن؛ لأننا نلاحظ أن الكفار الذين لا يفقهون حرفاً في اللغة العربية إذا سمعوا القرآن دهشوا وذهلوا وأفصحوا عن وجود سلطان قوي قاهر على قلوبهم حينما يسمعون القرآن، وهذا يكاد يكون من المتواتر، أي أن كل من يسمع القرآن الكريم يتأثر به هذا التأثر، فللقرآن سلطان على القلوب بمجرد سماعه بدون أن يفقه القلب معانيه، وهذا لقوة في القرآن الكريم، ولا أدل على ذلك مما نراه في حال إخواننا المسلمين الباكستانيين أو غيرهم من الجنسيات الذين يحفظون القرآن أو يحفظ كثير منهم القرآن الكريم دون أن يفقه معناه، ومع ذلك يبكي بكاءً شديداً إذا تلا القرآن الكريم، وبعضهم حكي عنه أنه يمسك القرآن الكريم ويضمه إلى صدره ويبكي ويقول: كتاب ربي كتاب ربي. فالشاهد أن القرآن الكريم له سلطان في لغته، وفي سماع تلاوته، وفي أحكامه، وفي بلاغته من كل الجوانب، فإذا أتيته تجد بحراً زخاراً بالكنوز الثمينة. فلذلك ثنَّى تبارك وتعالى بقوله: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به) يعني: بما فيه من الوعيد (ومن بلغ) أي: لأنذركم وأنذر به -أيضاً- من بلغه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أُرسل لكل العالمين، يعني: أنذركم به -يا أهل مكة- وسائر من بلغه من الناس كافة، فهو نذير لكل من بلغه، وهذا كقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود:17]. وقوله: (أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى) هذا تقرير لهم مع إنكار واستبعاد. قوله: (قل لا أشهد) يعني: لا أشهد بما تشهدون. قوله: (قل إنما هو إله واحد) أي: بل أشهد أن لا إله إلا هو، ولا يُشارك في إلاهيته ولا في صفات كماله. قوله: (وإنني بريء مما تشركون) يعني: من الأصنام.

واستدل الجمهور بقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على جواز إطلاق لفظة (شيء) على الله تعالى، وكذا استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88] فإن المستثنى يجب أن يدخل تحت المستثنى منه، وذلك لأن الشيء أعم العام؛ لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وبعض العلماء منع إطلاق لفظة (شيء) على الله سبحانه وتعالى، واستدلوا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والاسم إنما يحسن بحسن مسماه، أي أن أسماء الله حسنى لحسن مسماها، وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال ونعت من نعوت الجلال، كما هو معلوم في أسمائه عز وجل الحسنى، ولفظ (شيء) أعم الأشياء، فهذه حجة من لا يجيز إطلاق لفظة (شيء) على الله، قالوا: إن كلمة (شيء) أعم الأشياء، فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها، فالأشياء الحقيرة أو الصغيرة يطلق عليها أشياء، والأشياء العظيمة -أيضاً- تسمى أشياء، ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال، فوجب أن لا يجوز تسمية الله بهذا الاسم؛ لأنه ليس من الأسماء الحسنى، وقد أمر تعالى بأن يدعى بها. وأجيب بأن كونه ليس من الأسماء الحسنى لكونها توقيفية، أي: أنه يطلق على الله لفظ (شيء)، لكنه ليس من الأسماء الحسنى، فيطلق عليه لفظ (شيء) للآيتين اللتين ذكرناهما، وهما قوله تعالى: (( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ )) وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ [القصص:88]. فهو يطلق على الله عز وجل، لكن ليس من الأسماء الحسنى؛ لأن الأسماء الحسنى توقيفية، ولكونه لا يدعى به الله سبحانه وتعالى؛ إذ لا يقال في دعائه: يا شيء. لأن هذا لم يرد، لكن هذا لا ينافي أن كلمة (شيء) تشمل الذات العلية شمول العام، والمراد بإطلاقها عليه تعالى فيما تقدم شموله، لا تسميته به، وهذا لفظ شامل، ومما يشمله أن يطلق على الله سبحانه وتعالى. وبالجملة فلا يلزم من كونه ليس من الأسماء الحسنى أن لا يشمل الذات المقدسة شمولاً كلياً.

وقوله تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة) اختار القاسمي أنها شهادة على صحة نبوته، وبعض العلماء قالوا: (أي شيء أكبر شهادة) قالوا: على وحدانيته تبارك وتعالى. والذي جنح إليه الأكثر أنه أكبر شيء شهادة في ثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا يفترض من الجواب أنه قد وقع السؤال، لكن الجلال السيوطي قال: ونزل لما سأله مشركو مكة فهو جزم بأنها سبب النزول، أما هنا فقال: فكأنه، أي أنه افترض أن هذا كان وقوعاً للسؤال، وكأن مشركي مكة طلبوا منه صلى الله عليه وسلم شاهداً على نبوته، فقال لهم: أكبر شيء شهادة هو الله تعالى، وقد شهد لي بالنبوة؛ لأنه أوحى إليَّ هذا القرآن وتحداكم بمعارضته فعجزتم، وأنتم أنتم في مقام البلاغة، وإذا كان معجزاً كان إظهاره تعالى إياه على وصف دعواي شهادة منه على صدقي في النبوة. ولبعضهم وجه آخر، وهو أن المعنى: شهادته تعالى في ثبوت وحدانيته، وتنزهه عن الأنداد والأشباه، ويقوي هذا الاحتمال تتمة الآية: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى فهذا الفريق من العلماء قالوا المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) على وحدانية الله. واستدلوا بتتمة الآية التي هي: أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى ، وأيضاً يشهد له قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] وقوله تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ [الأنعام:150]. ومما يدل على أن الشهادة إنما عني بها في موارد التنزيل ثبوت الوحدانية أن القرآن يفسر بعضه بعضاً. إذاً: يحتمل أن تكون المعنى: (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على صدق نبوتي، أو (قل أي شيء أكبر شهادة) أي: على توحيد الله عز وجل وعدم الإشراك به. واقتصر هنا على الإنذار بقوله: (لأنذركم به) لكون الخطاب مع كفار مكة، وليس فيهم من يبشر، أو اكتفى به عن ذكر البشارة على حد قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81]، فالأصل في النذارة أنها تقرن بالبشارة، فاكتفى هنا بالنذارة من باب: سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ [النحل:81] لأنها مشهورة فلم يذكرها. واستُدل بقوله تعالى: (( لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ )) على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة، وإلى الجن؛ لأن البشر أجمعين والجن -أيضاً- قد بلغهم هذا القرآن الكريم.

واستدل به -أيضاً- على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله، ومن سيولد بعد إلى يوم القيامة؛ لأن كلمة (ومن بلغ)، تعنى: كل من بلغه القرآن، سواء أكان في زمانه صلى الله عليه وسلم أم في غير زمانه إلى يوم القيامة، أم في أي مكان على وجه هذه الأرض. فكل من سمع هذا القرآن يجب عليه أن يتحرى، وكل من بلغه أن الله سبحانه وتعالى بعث رسولاً اسمه محمد، أو أنزل كتاباً اسمه القرآن، أو أن هناك ديناً اسمه الإسلام يجب عليه أن يتحرى ويبذل غاية وسعه في التحري عن الحق، ولا يعذر إن قال: اجتهدت في البحث عن الحق فوجدت الحق في غير دين الإسلام. لا يعذر أمام الله سبحانه وتعالى أبداً؛ لأن وضوح صدق دين الإسلام وأنه دين الله الوحيد الحق أظهر من الشمس، ولا يمكن لأي إنسان عاقل يخلص في البحث عن الحق أن يصل إلى غير هذه النتيجة؛ لشدة وضوحها، وكثرة الأدلة عليها، فمما يؤسف له أننا نجد حتى من بين من ينتسبون للدعوة أو من بين الملتزمين من لا يستطيع أن يدلل على قضايا الإيمان وإحباط الشرك والكفر، وهذه الأشياء أساسية، وينبغي على الإنسان أن يتسلح فيها بالأدلة، فإذا احتجت في وقت من الأوقات إلى أن تثبت أن القرآن معجزة وأنت لم تعرف الأدلة فكيف ستتكلم؟ وماذا ستقول؟ وبم تدلل؟ وكيف تقيم دلالة قوية قاطعة على أن القرآن معجزة من عند الله سبحانه وتعالى؟! فلابد من أن تكون مستحضراً لهذه الأشياء. ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت عندنا بأدلة من أقوى الأدلة التي هي كالشمس في نقائها وظهورها ووضوحها، فيقبح بنا -معشر المسلمين- أن لا نتقن هذه الأدلة، وأن نعجز عن أن نحاج في الانتصار لدين الحق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام إن كان قد قبضه الله عز وجل والتحق بالرفيق الأعلى فإن أمته تقوم مقامه في إبلاغ رسالته وإقامة الحجة على الخلق، فنحن الشهداء على هذه الأمم، كما قال عز وجل: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78]، فكيف نكون شهداء على الناس ونحن لم نبلغهم الحق أصلاً، وقد قصَّرنا في إبلاغ هذا الحق إليهم؟! فإذاً: يجب على الإنسان أن لا يقصِّر أبداً في إبلاغ الحق إلى أي مخلوق، سواءٌ من يهود أو نصارى أو مشركين أو أي طائفة، فلابد من أن يجتهد الإنسان في التبليغ. يقول محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. ورواه عنه ابن جرير بلفظ: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم. وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر بالذي أنذر.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، وهذا النص الشريف يدل أقوى دلالة على إثبات التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد؛ لأن (إنما) تفيد الحصر، كما أن كلمة (واحد) صريحة في نفي الشركاء، ثم صرَّح بالبراءة عن إثبات الشركاء فقال: (وإنني بريء مما تشركون)، ولذلك استحب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لمن أسلم بعد إتيانه بالشهادتين أن يتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام، لقوله تبارك وتعالى هنا: (وإنني بريء مما تشركون) عقب التصريح بالتوحيد في قوله: (قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2816 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع