الدين
مدة
قراءة المادة :
32 دقائق
.
في نظر العقل الصحيح
(6)
الشبهة الثالثة: مريم أخت هارون
قال تعالى حكاية عن قوم مريم عليها السلام في خطابهم لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 28)
قال المسيحيون (ولا تجد كتابًا لهم في الطعن في الإسلام خاليًا من ذلك) :
إن القرآن هنا نص على أن مريم هي أخت لشخص يسمى هارون فتكون هي
مريم أخت هارون وموسى النبيين - عليهم السلام - وعليه يكون القرآن قد دل
على أن عيسى عليه السلام ابن أخت موسى، فيكونان معاصرين. فانظر إلى هذه البراهين المفحمة، والأقيسة المنطقية المدهشة! ! هل يلزم من كون مريم أم المسيح لها أخ يسمى هارون أن تكون هي مريم أخت موسى؟ أما رأيتم أنه قد يوجد في بيتٍ أبٌ وابن وأخت له، وتكون أسماؤهم كأسماء أشخاص من بيت آخر؟ قد رأينا ذلك كثيرًا ولكننا ما رأينا أحدًا يقول: (إن هذا البيت هو البيت الآخر بعينه) . فما بالكم خرجتم عن العقل في مسائل الدين! ! هل ورد في القرآن أن هارون هذا هو هارون النبي أخو موسى أم ورد فيه أن مريم العذراء هي أخت موسى الذي جاء بالتوراة؟ ألم يقل القرآن الشريف بعد ذكره التوراة وأنبياء بني إسرائيل التابعين لها في سورة المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة: 46) فإذا كان هنا ينص على أن عيسى - عليه السلام - أتى بعد جميع أنبياء بني إسرائيل التابعين لموسى فكيف تستنتجون منه أن عيسى معاصر لموسى! وقلما يذكر المسيح في القرآن إلا بعد ذكر موسى أو أنبياء بني إسرائيل فليتق الله المنصفون. هذا وإذا علمنا أنهم لا يعرفون اسم أبي مريم -عليها السلام - بالجزم حتى سماه بعض الأناجيل القديمة التي رفضوها بيهوياقيم علمنا كيف أنهم يجهلون نسبها فلا غرابة إذا جهلوا أخًا لها يسمى هارون.
بل اختلاف أناجيلهم في نسب المسيح اختلافًا أتعبهم منذ وجودها في التوفيق بينها يجعلنا لا نعبأ بما يعرفونه عنه وعن أهله عليه السلام.
ولا حاجة لنا بتأويل بعض مفسرينا الذين قالوا: إن هارون كان رجلاً صالحًا؛ فجعلت أخته في الصلاح والتقوى، أي أنها مثله في ذلك، أو كما يقال أخو العرب وأخو الحرب. *** الشبهة الرابعة: السامري قال تعالى في حكاية عجل بني إسرائيل: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (طه: 85) فقال المسيحيون: إن السامري هذا الذي ذكره القرآن هو من السامريين، وهؤلاء لم يوجدوا إلا بعد موسى بعدة سنين.
ولكنا نطالبهم بالدليل على هذا الزعم الفاسد وكيفية استنباطهم له.
وهل إذا جهلنا أصل هذا اللفظ يحملنا الجهل على أخذه من لفظ السامريين فنقول: إنه واحد من تلك الفرقة، وبعد ذلك نبني عليه ما نبني من الأوهام، فكم في الكتب المقدسة من ألفاظ لا يدرك اشتقاقها، ولا نعرف أصولها، ولم لا يكون ما ورد في القرآن منسوبًا لبلد غير ما عرفنا من البلدان؟ وهل يمكنكم الجزم بأنه لم يسم بلفظ سامرة غير سامرة فلسطين مع علمنا بخلاف ذلك.
وفي البلاد القديمة أيضًا ما يسمى (سام راه) أو (سمرا) [1] ويجوز أن يكون (السامري) نسبة لبيت رجل من بني إسرائيل يسمى (شامر) مثلاً [2] ، وهذا الاسم وما يشابهه له وجد في أسفار العهد القديم انظر (1 أخبار الأيام 34: 7 و12: 8) وإذا تذكرنا أن الأسماء المعربة تتغير بالتعريب تغيرًا يبعد بها عن أصلها أحيانًا [3] كما في عيسى بالنسبة ليشوع (بالشين) ويحيى بالنسبة ليوحنا ويونس بالنسبة ليونان وغير ذلك فإننا لا نستغرب نسبة (السامري) إلى شامر، بل لا نرى من الغرابة أن نجهل الأصل المعرب منه هذا اللفظ بالمرة، فانظر الفرق بين لفظ عيسى ويشوع مثلاً، وما قيل في هذه الآية والتي قبلها يمكننا أن نرد بمثله اشتباههم في لفظ هامان الوارد في القرآن في قصة فرعون. ويجوز أيضًا أن يكون السامري لقبًا لشخص من بني إسرائيل، ومعناه الحافظ وأصله من لفظ شمر العبري الذي معناه حفظ.
فإذا كانت كل هذه الاحتمالات جائزة قريبة فكيف يجزمون بخطأ القرآن في ذلك؟ *** الشبهة الخامسة: غروب الشمس في العين قال تعالى في قصة ذي القرنين {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) أي الشمس فقالوا: إن القرآن يدل على أن الشمس تغرب في نفس الأرض، وتجاهلوا أن في مثل هذا المقام يقول القائل في كل لغة (رأيت الشمس تغرب في البحر) مثلاً، مع أن القائل قد يكون أعلم الجغرافيين والفلكيين، وإنما يعبر هذا التعبير بحسب ما يبدو لنظر الواقف على ساحل البحر.
والقرآن الشريف إنما نسب الأمر إلى ذي القرنين فقال: (وجدها) إشعارًا بأن ذلك هو ما تخيله بصره، فما أحسن هذا اللفظ في مثل هذا المقام.
ولو كان الكلام في مقام التكوين والخلق ونص القرآن على أن الشمس تغرب في جزء من الأرض؛ لكان لهم الحق في هذا الانتقاد. على أنه تعبير معروف عند كل الناس حتى المنتقدين. ويناسب هذا الموضوع أن نشير إلى ما قاله العلماء في مسألة جريان الشمس بما يؤيد ما ورد في الكتاب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) قد اتفقت كلمتهم على أن الشمس وجميع ما حولها من السيارات تجري في الفضاء إلى حيث لا يعلم أحد، وهذا يوافق كل الموافقة ما قاله القرآن الشريف من غير زيادة ولا نقصان. الشبهة السادسة: آزر أبو إبراهيم قال تعالى في إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} (الأنعام: 74) فاعترض على ذلك دعاة المسيحية قائلين: إن ما ورد في التوراة هو أن أبا إبراهيم يسمى (تارح) فمن أين أتى القرآن بآزر؟ قلنا: إننا قد تكلمنا على ما يسمونه بالتوراة بما لا يمكنهم الرد عليه.
ثم إن القرآن لم ينكر هذه التسمية وورود اسم آخر فيه قد يكون بسبب أن الرجل مسمى باسمين، أو أحدهما لقب كما يقولون هم أنفسهم لرفع التناقض المالئ كتبهم في أسماء كثير من الأشخاص.
ولكننا لا نكتفي بذلك، بل نبين لهم أصل هذه التسمية الواردة في القرآن؛ ليعلموا أنه لو كان أخذ ما أتى به من كتبهم كما يهذون لما خالفها في مثل هذه الأشياء البسيطة خوفًا من أن يقع في تخطئة منهم لا حاجة إليه بها، وكان في أمن منها لو وافق على ما ورد فيها. آزر لفظ قديم معناه (النار) وأطلقه قدماء الفرس والكلدانيين والآشوريين على كوكب المريخ لظنهم أنه من نار ثم عبدوه في صورة عمود وصاروا يلقبون الأشراف منهم بهذا اللفظ (آزر) تبركًا به، وقد وجد كثيرًا في كتابات البابليين أيضًا وعليه قال العلماء: (إن آزر هو اللقب الوثني لأبي إبراهيم) ويوافق ذلك ما ورد في تفسير البيضاوي وغيره من أن آزر اسم للإله الذي كان يعبده، فهل فيما أتى به القرآن بعد ذلك أدنى شهبة.
بل أليس فيه حجة على صدق النبي الأمي وخصوصًا إذا لاحظنا أن التوراة لم يرد فيها هذا اللقب، ولا في التلمود الذي سماه (زاراح) فمن أين أتى القرآن بذلك لولا وحي الله؟ *** الشبهة السابعة: جبل الجودي قال تعالى في سفينة هود عليه السلام: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِي} (هود: 44) فقال بعضهم: المذكور في التوراة أن اسمه (أراراط) ولم يرد لفظ (جودي) فيها فمن أين أتى به القرآن؟ ونجيب عن ذلك بأننا لا نعبأ بكتبهم لما ذكرناه سابقًا، ثم نبين أصل ما ذكره كتاب الله.
هذا الجبل يسكن بجواره الكرد (الأكراد) ولذلك سموه بلغتهم كاردو أو: جاردو، وحرفها اليونانيون: جوردي ومنه عرب لفظ القرآن: جودي [*] *** الشبهة الثامنة: الناسخ والمنسوخ ذهب جمهور المسلمين إلى أن القرآن قد وقع فيه نسخ كثير واستدلوا على ذلك بأحاديث آحادية، وببعض آيات وردت فيه، وغالوا في المسألة حتى أنهم جعلوا جزءًا عظيمًا من القرآن منسوخًا.
ولم يقفوا عند هذا الحد، بل (زادوا الطين بلة) بأن ادعوا نسخ بعضه بالسنة، حتى جرأوا الخصوم على الطعن في الكتاب العزيز، ولكن قيض الله لهم في كل زمن من رد عليهم في أكثر هذه الدعاوي أو في جميعها من علماء الإسلام المحققين.
فقد ظهر بينهم من أفهمهم معنى أكثر هذه الآيات، وأبان لهم أن لا ناسخ ولا منسوخ فيها بالدليل الذي لا يقبل الرد مثل الإمام الشوكاني وغيره، وقام الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأبطل دعوى نسخ الكتاب بالحديث.
وذهب أبو مسلم الأصفهاني المفسر الشهير إلى أنه ليس في القرآن آية منسوخة وخرّج كل ما قالوا أنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص، أو التأويل ونقل عنه الفخر الرازي آراءه في ذلك في تفسيره المشهور.
ومن العلماء المتأخرين الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فقد كان يدحض كل دعوى بالنسخ في أي آية فسرها بالحجة الواضحة والبراهين الظاهرة وقال في أحاديث الآحاد: (إنها ظنية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند المتظاهرين بالإصلاح لخداع الناس، حتى إن بعضهم تاب ورجع عما كان وضعه، ولولا اعترافه به لم يعرف، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم يتب ولم تعرف حقيقة حالة، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل النقد) .
وتبعه في كل آرائه هذه الأستاذ الرشيد، حفظه الله.
ولولا خوف التطويل لنقلت عنهم آراءهم في جميع هذه الآيات. فليراجعها في كتبهم وليتدبر القرآن بنفسه من أراد أن يهتدي إلى الحق. والخلاصة: إن مذهب النسخ في القرآن ليس من العقائد الإسلامية في شيء. بمعنى أن المسلم يمكنه أن يفهم كتاب الله، ويكون مؤمنًا به حقًّا بدون أن يحتاج إلى القول بشيء مما زعموه ألبتة.
ومن أراد أن يحاججني في ذلك فعليه بالقرآن وحده. *** الشبهة التاسعة: هاروت وماروت - السحر - هل سحر النبي؟ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 101-102) ذهب كثير من المحققين سلفًا وخلفًا إلى أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله وبلغ مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على اعتقاد الناس الحسن فيهما وفي علمهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (البقرة: 102) أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك، أتشكر أم تكفر وننصح لك بأن لا تكفر.
يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير، كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان قائلين لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على زعمهم: (نوصيك بأن لا تكتب لجلب امرأة متزوجة إلى رجل غير زوجها) ، إلى غير ذلك من الأوهام والافتراء، ولليهود في ذلك خرافات كثيرة حتى إنهم يعتقدون أن السحر نزل عليهما من الله، وأنهما ملكان جاءا لتعليمه للناس، وقد جاراهم في ذلك جهلة المفسرين.
فجاء القرآن مكذبًا لهم في دعواهم نزوله من السماء وفي ذم السحر ومن يتعلمه أو يعلمه فقال: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْن} (البقرة: 102) إلى آخر الآية فما هنا نافية على أصح الأقوال ولفظ (الملكين) هنا وارد على حسب العرف الجاري بين الناس في ذلك الوقت كما يرد ذكر آلهة الخير والشر في كتابات المؤلفين عن تاريخ اليونان والمصريين وغيرهم وكما يرد في كلام المسلم في الرد على المسيحيين ذكر تجسد الإله وصلبه، وإن كان لا يعتقد بذلك. والمراد بالشياطين المذكورين قبل ذلك في قوله {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِين} (البقرة: 102) خبثاء الإنس وأشرارهم كما في قوله {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14) وقوله {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} (الأنعام: 112) والذي يعين هذا المعنى في الآية التي نحن بصدد تفسيرها قوله (تتلو) لأن تلاوة شياطين الجن لا يسمعها أحد، ومعنى تتلو هنا: تقصّ، وقوله بعدها {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) يعين هذا أيضًا إذ لا يتعلم أحد السحر إلا من شياطين الإنس. وقوله تعالى {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ} (البقرة: 102) هو من قبيل التمثيل وإظهار الأمر في أقبح صوره، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن يتمكنوا به من التفريق بين أعظم مجتمع كالمرء وزوجه، والخلاصة: إن معنى الآية من أولها إلى آخرها هكذا: إن اليهود كذبوا القرآن ونبذوه وراء ظهورهم واعتاضوا عنه بالأقاصيص والخرافات التي يسمعونها من خبثائهم عن سليمان وملكه وزعموا أنه كفر وهو لم يكفر ولكن شياطينهم هم الذين كفروا وصاروا يعلمون الناس السحر، ويدعون أنه أنزل على هاروت وماروت اللذين سموهما ملكين، ولم ينزل عليهما شيء، وإنما كانا رجلين يدعيان الصلاح لدرجة أنهما كانا يوهمان الناس أنهما لا يقصدان إلا الخير ويحذرانهم من الكفر.
وبلغ من أمر ما يتعلمونه منهما من طرق الحيل والدهاء أنهم يفرقون به بين المجتمعين ويحلون به عقد المتحدين. فأنت ترى من هذا أن المقام كله للذم فلا يصح أن يرد فيه مدح هاروت وماروت كما توهم كثير من المفسرين.
والذي يدلك على صحة ما قلناه فيهما أن القرآن أنكر نزول أي ملك إلى الأرض ليعلم الناس شيئًا من عند الله غير الوحي إلى الأنبياء ونص نصًّا صريحًا أن الله لم يرسل إلا الإنس لتعليم بني نوعهم فقال {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} (الأنبياء: 7) وقال منكرًا على من طلب إنزال الملك {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} (الأنعام: 8) وقال في سورة الفرقان {وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} (الفرقان: 7) إلى قوله: {فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 9) . واعلم أن السحر لا يغير حقائق الأشياء، وإنما هو تخييل وشعوذة وحيل كما قال تعالى في حكاية سحرة فرعون {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وقال أيضًا {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) أي أنهم دلَّسوا عليهم وخيَّلوا لأبصارهم وأوهموهم صحة ما يفعلون.
فأين هذا من قول كتاب اليهود الذي يقول (وصارت العصيّ ثعابين) كأن المسألة كانت حقيقية. هذا وإذا لم يكن للسحر تأثير حقيقي فلا يمكن أن يسحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أنه صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله كما افتراه المفترون؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن يتوهم أنه أوحي إليه شيء وهو لم يوح إليه ولصدق عليه قول الكافرين {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الإسراء: 47) وقد أنكر القرآن عليهم ذلك بنفسه، وإنما قالوه طعنًا فيه وردًّا لحجته الباهرة كما قالوا عنه: إنه ساحر، وكاهن، ومجنون، وشاعر إلى غير ذلك مما اختلقوه.
وأما قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ} (الفلق: 4) الذي اتخذه المفترون دليلاً على إفكهم فمعناه هكذا: النفَّاثة: من صيغ المبالغة كالعلامة، والفهامة يستعمل كذلك للذكر والأنثى والنفاثات جمعه، والمراد بها هنا: النمامون المقطعون لروابط الألفة المحرقون لها بما يلقون من ضرام نمائمهم، وما ينفثون من سموم وشاياتهم.
والعقد كالعقود معنى مثل: عقدة النكاح وعقدة البيع وغيرهما.
كأنه قال تعوذ من شر من يسعى لحل المجتمعات الخيرية والتفريق بين المحبين المتحدين. والدليل على كذب المفترين غير ما ذكرنا أن هذه السورة مكية، وما يزعمونه يدعون أنه حصل بالمدينة؛ فكيف يصح أن يقال نزلت فيه؟ ! وهذا التفسير الذي ذكرناه مأخوذ من أفكار الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - وقد ذكر ما يقاربه المحقق أبو مسلم الأصفهاني ونقله عن الإمام الرازي واستحسنه وذكر مثله المفسر الشهير أبو السعود أيضًا. فهذه هي أكبر مطاعنهم في القرآن الشريف وأكثرها ورودًا في كتبهم وقد اتضح لك مما قررناه واتفق عليه العلماء المدققون أنها كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
بل إن بعضها ليس فيه على القرآن شبهة بل هو له حجة كما يتبين لك من البحث عن أصل لفظي آزر والجودي مثلاً.
وقس على أمثالها مما لم نذكره هنا لشدة سخافته. هذا وليعلم القوم أن ما ذكر في القرآن من المسائل الغريبة كتكلم النملة وسماع سليمان لها إن حُمل على ظاهره، وتسخير الجن له وغير ذلك ليس مما يصادم البداهة العقلية، أو يناقض البراهين القطعية.
وإنما هو غريب، وليس كل غريب مستحيلاً، وإلا لكانت جميع المعجزات مستحيلة، وكذا جميع الاختراعات والاكتشافات الحديثة.
فمن ادعى أن في القرآن شيئًا مستحيلاً فعليه بالدليل المنطقي الصحيح وإلا ضربْنا بكلامه عرض الحائط واعتبرناه هاذيًا. *** مسألة صلب المسيح بقي عليَّ أن أنبه الناس على ما يفتريه هؤلاء الدعاة طعنًا في القرآن في مسألة أخرى؛ وهي دعوى صلب المسيح قائلين: إنه وحده هو الذي أنكر صلب المسيح ولم يسبقه سابق إلى ذلك، فإن هذه الحقيقة قال بها كثيرون من فرق النصارى الأولين مثل الباسيليديين والسيرينثيين والكاربوكراتيين والتانيانوسيين وغيرهم وقد ذكرت أكثر هذه الطوائف من قبل في رسالة لي سميتها (الخلاصة البرهانية على صحة الديانة الإسلامية) فمن شاء فليراجعها.
وورد مثل ما قاله القرآن في كتب أخرى كالكتاب المسمى رحلة الرسل وهو يشبه كتاب الأعمال الذي عند النصارى الآن وفيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وغيرهم ومما ورد فيه أن المسيح لم يصلب وإنما صلب واحد آخر بدله كما رواه العلامة سيل الإنكليزي مترجم القرآن عن آخر يدعى (فوتيس) وكذا ما ورد في إنجيل برناباس وهو أحد الأناجيل التي رفضها المسيحيون يؤيد ما أتى به القرآن تمامًا حتى في ذكر اسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - صراحة.
وهذا الإنجيل مما كتب قبل الإسلام بقرون، وإن ادعى بعضهم أن أحد المسلمين حرفه أجبنا: كيف حرف المسلمون جميع نسخه حتى الموجودة عند النصارى؟ ولِمَ لَمْ يحرف المسلمون غيره من كتبهم على أن المسلمين ما عرفوه إلا عنهم؟ وإن تعجب فعجب قولهم في مسألة قيام المسيح من القبر - على زعمهم - إذا كانت هذه القيامة موهومة فأين جسده إذًا؟ وفاتهم أن موسى - عليه السلام - الذي مات موتًا طبيعيًّا بين قومه لم يعرفوا قبره إلى الآن، ونصت التوراة على ذلك في آخر أسفارها (تثنية 6: 34) فهل يستبعدون قولنا أن المسيح لم يعرف أحد قبره مع ملاحظة أن التلاميذ فروا من حوله وتفرقوا وتولى الأمر غيرهم ممن لهم غاية وغرض في إخفاء جثته -لو قتل- لإطفاء نار المشاحنات والفتن ومحو الشغب بين الناس؟ هل يُستبعد هذا ولا يستبعد أن كاتب سفر التثنية لم يعرف قبر موسى مع وجود الفرق العظيم بين هذه الحالة وتلك؟ لا يبعد أن يكون ما يقصه النصارى علينا هو من قبيل تلفيق روايات التمثيل وغيرها مما كتبه الناس قديمًا وحديثًا.
ومثل هذه التلفيقات كان شائعًا في الأعصر الأولى المسيحية، حتى أن كل طائفة من طوائفهم ألفت أناجيل ورسائل كثيرة ونسبتها إلى المسيح وتلاميذه لتأييد آرائهم وهم بإقرارهم برآء منها.
فيجوز أن تكون هذه القصة مما كتب في أواخر القرن الأول أو في القرن الثاني.
وقد خالفها يومئذ طوائف كثيرة كما خالفوا في مسائل أخرى كالتجسد والتثليث.
وها قد أخذ الحق يحصحص الآن بينهم بعد أن صارعه الباطل أجيالاً عديدة وأخذ الناس يدخلون في عقيدة التوحيد والتنزيه أفواجًا أفواجًا.
وانتشرت أفكار الموحدين في أوروبا وأمريكا وأوشك سراج الحق يكون وهاجًا. *** إعادة برهان النبوة بالاختصار عند هذا الحد أقف بالقارئ.
وقبل أن أتركه أكرر عليه مرة أخرى بغاية الإيجاز برهان النبوة لعلمي أنه الآن يمكنه أن يدركه إدراكًا حقيقيًّا أكثر من ذي قبل فأضعه تحت نظر عقله مختصرًا كي يجول بسهولة في أنحائه ويحيط بأطرافه وأرجو من المخالفين أن يُمعنوا النظر في جميع مقالاتي هذه إمعان من يريد أن يكتب للناس ردًّا عليها لا أن يعموا بصيرتهم بأنفسهم لأجل ما ورثوه عن آبائهم. فإن الحق أحق أن يتبع {فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} (التوبة: 38) وهاك البرهان موجزًا بقدر الإمكان: رجل يتيم، فقير، أُمي، لم يشتغل بما كان يشتغل به قومه من الشعر أو الخطابة ونحوهما، لم يعهد عليه الكذب في صغره، نشأ في وسط الجهل والوثنية، فأتى والعالم محتاج إلى الإصلاح بعقائد صحيحة أشار إلى براهينها وعبادات وشرائع وأخلاق وحكم وقصص مفيدة ومسائل علمية لم تكن معروفة وأخبار ببعض مغيبات تحققت وأخرج العرب من أحط دركات الهمجية إلى أعلى سلم من المدنية في مدة قليلة.
ثم انتشر إصلاحه في العالم بسرعة لم تعهد.
ولم يوجد فيما أتى به شيء يقطع العقل ببطلانه إلى الآن بعد مضي ألف ومئتين من السنين.
بل أخذ الناس المرتقون يستصوبون أعماله وأقواله ويفهمون أسرارها.
أتى بجميع ذلك في عبارات خارقة للعادة في بلاغتها، ومخالفة للمعهود في أسلوبها، وطلب من البشر أن يعارضوه في شيء مما أتى به ويستعينوا بمن شاءوا فلم يقدم على ذلك أحد ونجح، بل أذعن جمهورهم ومن شذ افتضح، ثم هو لم ينغمس في الملاذ والشهوات والترف كما بينا ذلك فيما مضى، بل كان أبعد الناس عنها. فكيف لا يعثر الإنسان على غلطة مقطوع بها في قرآنه مع علمنا بحاله؟. وكيف لم ينجح أحد في معارضته إلى الآن كما أنبأ بذلك.
فلم يأت بشر بشيء مثل جزء من كلامه لفظًا ومعنى؟ فبماذا تجيبون أيها المبطلون، وكيف تعللون ذلك أيها الواهمون؟ ولنجمع هنا آيات القرآن الدالة على ذلك البرهان، إتمامًا للفائدة وبيانًا لكونه حجة الله على الناس كافة. {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (الضحى: 6-8) ، {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ} (يس: 69) {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة : 2) {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} (المائدة: 19) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 23) {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24) . وليلاحظ القارئ أني أوردت هذه الآيات على هذا الترتيب، لتكون كل دعوى من البرهان السابق مؤيدة بشيء من القرآن.
فأعظم به من كتاب جمع فأوعى، وأكرم به من نعمة من الله كبرى، قشعت غياهب الظلام، وأنارت قلوب الأنام بضياء الإسلام، فبلغ الله عنا محمدًا أزكى السلام في البداية والختام. *** ختم المقال بذكر شيء من كتاب الله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (آل عمران: 190-195) ...
...
...
...
...
...
...
...
(محمد توفيق صدقي) ...
...
...
...
...
...
...
...
الطبيب بسجن طره (المنار) السبب في كتابه هذه المقالات هو أن كاتبها كان يحب البحث عن كل ما يعرض له من الشبهات على الدين، وهو تلميذ في مدرسة الطب ولهذه الشبهات مصدران: التعليم الجديد، ودعاة النصرانية الذين يَعْرِضُون لتلاميذ المدارس بأبلغ مما يتصدون لغيرهم، وكان له رفيق في المدرسة اسمه عبده أفندي إبراهيم، عرفناهما منذ سنين إذ كانا يرجعان إلينا في بعض مباحثهما ويعرضان علينا أهم ما يشتبه عليهما كمسألة الروح والبعث وغير ذلك.
وكنت أظن أنه لا يوجد في مصر من طلاب العلوم الدينية لأجل الاقتناع والإذعان، والقدرة على الإقناع والبيان، إلا هذان التلميذان، وأحدهما مسلم والآخر قبطي، كانا يأخذان المسألة من مسائل الاعتقاد فيدققان فيها النظر، ويتناصفان في المناظرة إلى أن يتفقا على أن الحق فيها كذا، فما خرجا من المدرسة إلا وقد خرج المسلم من شكوكه في دينه، ودخل القبطي في الإسلام البرهاني الصحيح (فهو المسلم عن بصيرة تامة وفَهم لبراهين الدين وحكمه ثبتنا الله وإياه) وهذه المقالات هي صورة اعتقادهما الذي هداهما إليه ربهما بعد إطالة النظر والاستدلال عدة سنين وأكثر ما فيها من المسائل في الألوهية والنبوة، وفهم القرآن مقتبس من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، ومن التفسير المقتبس عنه في المنار، ومن مقالات أخرى في المنار لا تقليدًا بل اقتناعًا بالنظر والاستدلال.
وللكاتب مسائل كثيرة هداه إليها البحث والتنقيب، ومراجعة كتب المسلمين والإفرنج لا سيما في رد شبهاتهم كما رأيت وهو يدعو من خالفه في شيء مما كتبه إلى المناظرة بشرط أن يكون الحكم بينهما الدليل القطعي، وما هو إلا العقل والقرآن والسنة المتواترة لأن المقام مقام تأييد الاعتقاد، وهو لا يكون بأخبار الآحاد، ولا بتقليد الآباء والأجداد. وكأني ببعض الشيوخ المقلدين وقد أنكروا عليه بعض المسائل التي انفرد بها أو وافق بعض العلماء المخالفين للجمهور كمسألة ابن السبيل، ومسألة النسخ فَاللين اللين منهم يعذره، والجامد المتعصب يغلظ عليه، وإن كان قد خرج بهذه الطريقة من الشك إلى اليقين، وخرج صاحبه من النصرانية ودخل في الإسلام، وأن مقاليدهم التقصر عن ذلك ولو راجعهم في شبهاتهم لما رجع إلا بالجحود والإلحاد {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) . (1) المنار: صرح بعض المفسرين بأن السامري منسوب إلى بلد اسمها سامرة. (2) كثرة الألفاظ التي هي في العبرية بالشين المعجمة تذكر بالعربية إذا نقلت إليها بالسين المهملة فسامرة فلسطين عبريتها شوميري واسم موسى عندهم بالمعجمة. (3) ليس هذا خاصًّا بالعربية فالإفرنج أشد تغييرًا وتحريفًا للألفاظ المنقولة إلى لغاتهم. (*) المنار: إن نسخ التوراة ليست متفقة على أن السفينة استوت على أراراط فإن السريانية والكلدانية منها صرحت بأنها استقرت على جبل الأكراد وهذا موافق لقول بروزس معاصر الإسكندر الأكبر أورد هذا في دائرة المعارف العربية، وقال: ووافقه أيضًا القرآن الشريف ولا تزال الروايات تشير إلى أن الجودي كان مركز الحادثة المذكورة (الطوفان) وهي تسند هذا الرأي الذي ذكره بروزس إلى وجود آثار الفلك على قمة ذلك الجبل. (4) المنار: الضلال في اللغة أن تخطئ الطريق، وقد كان النبي قبل النبوة لا يعرف طريق الإيمان والشرع فهداه الله إليه كما قال تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) .