أرشيف المقالات

الأدب في سير أعلام:

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
مِلْتُن.
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية والخيال) للأستاذ محمود الخفيف - 19 - الزواج والصدمة الأولى: لم يكن زواج هذا الشاعر الفيلسوف أمرا من أمور حياته الشخصية فحسب، يتدبر قصته من يريد أن يستكمل فهم شخصيته ويحيط به من أقطاره، وإنما كان الزواج وما وقع له فيه إلى جانب ذلك حادثا اثر في تفكيره وفلسفته، فعمد إلى توضيح فكره في كتيبات جديدة جرت عليه مخالفة من دافع عنهم من البرسبتيرينز إياه، وأدت به إلى مخاصمتهم ومحاربتهم،؛ ثم استقر اثر ذلك الزواج في نفسه حتى كان ناحية من نواحي فلسفته في قصيدته الكبرى فيما بعد.
في أواخر ربيع سنة 1642، ذهب ملتن إلى الريف في غير غرض معلوم اللهم إلا ما ظن أصحابه من طلبه الاستجمام، وقضى ملتن زهاء شهر في قرية فورست هل، وتقع على نحو خمسة أميال من اكسفورد، وهي المقاطعة التي نبتت فيها أرومته فقد كان جده لأبيه أحد الموظفين في الغابات الملكية هناك. ونزل ملتن ضيفا على ريتشارد بوول، وكانت بين أسرة بوول وأسرة ملتن صلة معرفة ومودة. وعاد ملتن إلى لندن فما كان اعظم دهشة أصحابه إذ رأوه يأتي ومعه ماري بوول زوجا له، وكانت فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وكان هو يومئذ يتشرف على الخامسة والثلاثين؛ ولطالما رأوه عزوفا عن الزواج منصرفا عنه إلى كتبه وشعره، يسرف أحيانا خياله الشاعر ويغلو في وصف العفة حتى ليجعلها في أن يعيش الإنسان أعزب أبدا! وجاء مع العروس سيدات وفتيات من أهلها فاقمن في بيت ملتن أياما نعمن فيها بما أقامه من زينات ومباهج وأفراح أحاط بها هذا العرس حفاوة منه بعروسه، وشوقا منه إلى المسرة وقد تحمل سام العيش وقسوته زمنا طويلا في حرب القساوسة ومكابدة الدرس ومعاناة التعليم. وانصرف أهل العرس وتركنها في كنف زوجها الشاعر الفذ والفيلسوف المرموق المكانة، ولكنها ما لبثت أن لحقت بهن ولم يكد ينتهي شهر العسل، الأمر الذي دهش له أصحابه اكثر مما دهشوا لزواجه المفاجئ. وكانت العروس قد أرسلت إلى أمها تسألها أن تكتب إليها لنحضر إلى بيت أبيها لتقضي هناك بقية الصيف، وما كان أبواها ليجيباها إلى ما طلبت ولم يكد يمضي عليا شهر في بيت بعلها، لولا أنهما ظنا أن وراء طلبها سرا حملها عليه؛ وكان ملتن يعلم ذلك السر فوافق على رحيلها لأنه أيقن أن لا شيء اجدر من نصيحة أمها بان يصلح شأنها ويبث في قلبها شعور الواجب نحو زوجها؛ فرحلت عنه عذراء كما جاءته عذراء.
وحل الموعد الذي حددته لعودتها ولكنها لم تعد، فكتب إليها ملتن فلم تجبه، فأرسل إليها رسولا بكتاب منه فأصرت على صمتها وأهانت الرسول، فوقع في وهمه أنها لن تعود أبدا، وابتأست نفسه بما فعلت وامتلأ قلبه منها غيضا وحنقا وحار أصحابه في أمرها كما حار من كتبوا حياته من بعد إلى أي شيء يردون مسلكها أكان ذلك منها لأن زوجها بيوريتاني من أنصار البرلمان في حين كان أبوها من اتباع الملك وأنصاره وقد اشتعلت نار الحرب بين الجانبين؟ أم كان ذلك لأنها كانت من قبل في موطن يعج بالحياة والإنس حيث كان يغشى جند الملك بيت أبيها بين الفينة والفينة فتقع عيناها هناك على وجوه جديدة وتسمع أنباء جديدة، فانتقلت منه إلى بيت شاعر عاكف على كتبه وأوراقه تشيع في أنحائه الوحشة ويسد السكون ولا تسمع فيه من الأصوات إلا بكاء من يضربهم ملتن منى طلابه؟ أم نال من كبريائها أن أباها كان مدينا لأسرة ملتن بمبلغ من المال عجز عن أدائه، فإن دخله من أرضه ومن مال زوجته لم يكف نفقات عيشه إلا بجهد نظرا لكثرة عياله ولما كان يهبط داره من الجند وغيرهم من أنصار الملك؟ أم خيل إليها وهي ابنة سبعة عشر عاما لم تحس بين يدي زوجها وقد كان عمره ضعف عمرها ما كانت تحس به لو أنها كانت بين يدي شاب في مثل سنها؟ أم إن ما بينها وبين زوجها من تفاوت عظيم في الثقافة ومن اختلاف في النظر إلى الحياة نتيجة لهذا التفاوت قد جعلاها تخجل من نفسها وتحس ضآلة شخصيتها إلى جانبه وتشعر أنها غير حقيقة بان تدخل على نفسه من السرور ما يطمع فيه رجل من زوجته؟ كل أولئك في الواقع كان خليقا أن يلحق الفشل بهذا الزواج.
ما أهل العروس فقد عولوا ألا يردوا هذا الفشل إلا إلى الخلاف في السياسة والدين بينهم وبين ملتن البيوريتاني البرسبتيري الذي يميل إلى جانب الرؤوس المستديرة كما كان يسمي جند البرلمان بينما هم ينحازون إلى جانب الفرسان كما كان يسمي جند الملك في هذه الحرب الأهلية الدائرة الرحى على أنهم يحسون بينهم وبين أنفسهم إن ذلك لا يكفي وحده للمباعدة بين الزوج وبين عروسه على صورة لا تكون إلا لنفور أحدهما من الآخر نفورا لا تجدي معه حيلة، ولا تفسره إلا تلك الأسباب التي ذكرناها مجتمعة، فقد انقضى شهر العسل ولم يقضي منها وطرا، وكان النفور من جانب العروس لأن الزوج ظل يدعوها بكتب متلاحقة لتعود إليه فلم يجد منها إلا إعراضا وإصراراً.

.
وحق اللوم على ملتن فهو الذي اختارها زوجة له، وكان جديرا أن يتدبر ما كان بينها وبين أبيها من فوارق وما بينه وبينها من تفاوت؛ على أن عين الحب عمياء كما يقول شكسبير، وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما يقول أبو الطيب، وقد كان ملتن كما رأينا في سالف مواقفه سريع التأثر بسر المرأة يتهافت على ما يصوره له خياله الشاعر من الجمال تهافت الفراشة على الضوء، فقد احب كما علمنا من أمره وهو في صدر شبابه فتاة وقعت عليها عيناه لأول نضرة في زحمة لندن ولم يراها بعد ذلك أبدا، حتى لقد عول على الهرب من لندن مخافة أن تصيده سهام كيوبيد.
ولقد تعرض لهذه السهام في إيطاليا كما رأينا، وما زال يتحاماها وهو الحريص على عفته حتى وقعت عيناه على هذه الفتاة الريفية وكانت تهجس أحاديث الزواج في نفسه كما تبين في رثائه صديقه ديوداتي، فاقبل على الفتاة وقطع أمره في غير روية، فما به خوف اليوم من كيوبيد والمسالة مسالة زواج - وهكذا تصيده السهام ويملك قلبه الحب واختلف مؤرخو حياة الشاعر في هذه الفتاة أكانت جميلة ساحرة أم كان حظها من الجمال بحيث لا يصل إلى حد الفتنة؟ فمنهم من يؤكد سحر جمالها، وحجته أنها لو لم تك كذلك ما بلغت من نفس الشاعر بمثل السرعة وهو الذي لا تخطيء الجمال عيناه.
ومنهم من يؤيد الرأي الآخر وحجته أنه لم ترد فيما ذكر الشاعر عنها إشارة إلى سحرها، وما افتن ملتن منها إلا بما رآه من وداعتها وخفرها ونظرة الريف في محياها وجسدها، والشاعر خليق أن يضيف بخياله إلى محاسنها جمالا فترى عيناه فيها ما لا يرى غيره من الناس.
على أن هؤلاء وهؤلاء لا يتجاوز كلامهم الاستنتاج فلم يقع أحد منهم على دليل لما يقول؛ ومهما يكن من شيء فإن عين الحب عمياء وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولقد كان ملتن تلقاء فتاة قروية في السابعة عشرة إلا تكن فارهة الجمال فقد كانت في روعة الشباب، وقد جمع للزواج عزمه، فما اسهل أن تريه عيناه فيها من معاني الجمال والطهر والعفة في بيت أبيها الريفي ما يتغلب في خياله الشاعر على كل عقبة.
ولقد اقض الألم مضجعه لهذا الفشل وقد كان يطمع أن يسكن إليها ويجد بين يديها مودة ورحمة، كما ملأ الحنق نفسه لما أصاب كبرياءه برفضها العودة إليه وإهانتها رسوله، وقد كان يظن أن نصيحة أمها وحزم أبيها سيعودان بها إلى الصواب.
ولا ريب أن ملتن كلن يستشعر في نفسه الخجل والندم كما استشر الألم، وذلك أن اختياره ماري بوول متأثرا بمظهرها على هذه الصورة العاجلة إن هو إلا اندفاع العاطفة في فورة من فوراتها، وإلا فماذا دفعها إلى هذا الاختيار ولم يك يعرف ماري بوول من قبل حتى يظن أنه انس فيها من الصفات ما يهتم به شاعر مثله كالذكاء والثقافة وبراعة الحديث وما يتصل بها؛ وكان خليقا وهو الذي طالما افتخر بامتلاكه زمام نفسه وطالما اعتقد أنه قادر على كبح جماح عاطفته أبدا، أن يندم ويألم فقد سيطرت عليه عاطفته، وتغلب الجسد في نزوعه الشديد نحو رغبة له اتقدت، وليهت حقق بالزواج تلك الرغبة؛ فلئن تزوج فما هو بمتزوج إذا صح هذا التعبير، ثم أنه أخذ يطفئ في نفسه جذوة جسده ووقدة عاطفته مستعينا بالصبر والصوم؛ ولقد اثر انقياده لعاطفته على هذا النحو على ما كان فيه من كبرياء أثرا عميقا في حياته وفكره سوف يظهر في فلسفته وفنه. ومما زاده غما وألما أنه كان بعد أن هجرته زوجه لا يستطيع بالضرورة أن يتزوج غيرها، وهذا في ذاته قيد ظن؛ وهل كان يستطيع أن يحمل نفسه على قبول هذا القيد لأن الدين أو لأن الكنيسة تحول بينه وبين الطلاق إلا وفق شروط معينة؟ ومتى خضع إلا ملا يهديه إليه فكره، وقد نزع إليه وجدانه وتعلق به إيمانه؟ وإذا كان هو نصير الحرية الذي دافع عنها أمام تعصب القساوسة فكيف يتخاذل عن نصرتها الآن؟ ألا يستطيع أن يدع الجانب الشخصي من فشله في زواجه فلا يتعرض له ثم يخلق من الحادثة في ذاتها موضوعا عاما؛ فيكتب دفاعا عن الحرية في ناحية من نواحيها واعني بها الناحية الشخصية؟ بلى أنه لقادر على ذلك وأنه لفاعله، وأنه لنصير الحرية الشخصية اليوم. ويمكننا أن نتصور حالته النفسية في هذا الموقف، فهذا رجل ذو كبرياء وأنفة، طالما افتخر بتغلبه على شهوات نفسه، وقد عاش حتى الخامسة والثلاثين من عمره عيشة الطهر والعفة مستعينا بعزم المصمم على قهر وساوس الشباب، يسمو في طهره على الناس ليكون أهلا لرسالته التي يستشرف لها، ويقبل على دراساته ليتهيأ إلى ما يتطلع إليه، ثم إذا به يجد نفسه، وقد ارتطم في ورطة بسبب انقياده لعاطفته بعد طول امتنع، ولئن كلن ما وقع فيه لم يعد كونه أمرا مشروعا هو الزواج، إلا إن فشله في اختيار زوجته كان نتيجة تسلط عاطفته على عقله أو تغلب جسده على روحه، وان ذلك ليشعره بينه وبين نفسه أنه لم يعد إنسانا كسائر الناس؛ ولكم نال ذلك من كبريائه وادخل الغم على نفسه، فضلا عن أن ما انتهى إليه إنما هو حد من حريته. على أن كبرياءه تأبى عليه إلا أن يلتمس مخرجا لنفسه فما يطيق أن يذعن، ويجد ذلك المخرج في تقريره إن العاطفة في ذاتها من الأمور المشروعة التي وضعها الله في الإنسان، وما لم تنطوي على جريمة فلن يضير المرء أن تقوده إلى خطا؛ ويستنكف أن يشير إلى مسألته الشخصية، فيعمد إلى فلسفة عامة في الزواج والطلاق ينفس بها عن نفسه ويراب بها ما تصدع من كبره، فإذا كانت العاطفة أمرا مشروعا فوجب أن تكون العلاقة بين الزوجين على أساسها، فيكون الزواج اتفاق عاطفتين أو التقاء روحين، فإن كانت العلاقة على غير هذا الأساس، وكانت مجرد التقاء جسدين، أو كانت العاطفة لا تقابلها مثلها في الناحية الأخرى بطل الزواج ووجب الطلاق؛ وهو إنما يبتكر بذلك سببا للطلاق لم يتجه إليه أحد من قبله، ومرده إلى المنطق لا إلى شريعة سماوية أو قانون بشري؛ على إن كلامه هذا في الوقت نفسه ينطوي على تأنيب منه وزجر لنفسه، وإلا فهل فكر قبل اختياره مالي هل كانت عاطفتها تجاوب عاطفته، أم كان الأمر أمر افتتان بها لم يتمالك عندها نفسه؟ وإذا فهو الملوم وحده. ولكنه يقدر وقوع الخطأ، فقد يخدع الإنسان فيمن يخطبها لتكون زوجه، ويحس أنها تبادله عاطفة بعاطفة؛ فإذا وقع الخطأ فعلا فما السبيل إلى تجنب ما يجره ذلك الخطأ من عواقب هي شر منه فلا سبيل في رأيه غير الطلاق، وإلا فكيف يتباعد الزوجان ولا يستطيع كلاهما أن يتزوج غير الآخر؟ بهذه الآراء البالغة الجرأة والخطر في أمر له أهميته وخطورته في المجتمع قذف ملتن الناس في كتيب نشره في أغسطس سنة 1643 وسماه (قانون الطلاق ونظامه)، ولم يك غافلا عما كانت مثل هاتيك الآراء خليقة أن تثيره من سخط وغضب ودهشة تشبه الجزع في الأوساط جميعا، ذلك أنه كان يدرك أنه كان طلعة في تناول الموضوع على هذا النحو، ولكنه كما يقول الإنجليز احرق القوارب كلها من ورائه وليس يبالي أيبلغ ما يريد أم يهلك دونه. ويزخر هذا الكتيب بحماسة شاعر عظيم تدفعه للكلام روح قوية نبيلة وألم يمنح جوانحه لما لحق كبرياءه، وغضب عاصف كما هاج البحر ثائر كما تأججت النار، ولذلك تقع فيه على مظاهر الحماسة قوية رائعة، فيرسم الشاعر طائفة من المثل العليا للحياة الزوجية، ويصور الألم والخيبة التي تعقب الزواج الفاشل، ويبدع إذ يستند إلى العقل والمنطق في براهينه، وإذ يسوق الأدلة التي تؤيد رأيه من الإنجيل، وإذ ينقض ما ينهض فيه حجة عليه، ويبلغ ذروة الإقناع والفصاحة إذ يدعو إلى تحرير العقل من حرفية القانون، وهو في ذلك كله يصل من البلاغة إلى ما لم يصل إليه في كل ما كتب قبله، والحق انك تجد في هذا الكتيب ملتن الرجل وملتن الفيلسوف وملتن الشاعر على خير ما يكون من حالاته في ذلك جميعا وان كان النثر وسيلته وأداته. وكان يعتقد ملتن أنه خرج من الشؤم الذي لحقه بخير يسوقه للناس جميعا، فهو يخيل إليه أن ما انتهى إليه من رأي في الطلاق إنما هو خلاص للبشر من قيد بغيض ظالم يوبق أرواحهم ويريهم مثل حياة الجحيم في هذه الدنيا، وذلك هو معيشة الزوجين معا على رغمهما لأنهما ارتبطا برباط الزواج. وكانت تحف عنه آلام نفسه كلما ذكر أنه إنما يكتب ما يكتب ليخفف عن الناس آلامهم، فلا ضير أن يتحمل الألم ما دام الناس سيفيدون مما حاق به من سوء المصير، على أنه أنفة منه وتكبرا حريصا على ألا يشير بشيء إلى مسألته الشخصية (يتبع) الخفيف

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣