مختارات من كتاب التبصرة لابن الجوزي
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
مختارات من كتاب التبصرة لابن الجوزيالحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:
فمن مصنفات الحافظ ابن الجوزي رحمه الله، كتابه "التبصرة "، وهو كتاب في الوعظ، الذي برَع فيه الحافظ ابن الجوزي، والكتاب كبير الحجم، تُقارب صفحاته السبعمائة، وقد اخترتُ منه بعض الآيات التي تكلَّم عنها ابنُ الجوزي بما يُرقِّق القلوب، ويُهذِّب النفوس، أسأل الله أن ينفع الجميع بما اخترْتُ.
قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 133]:
لقد دعاكم إلى البِدار مولاكم، وفتح باب الإجابة، ثم استدعاكم، ودلَّكم على منافعكم وهداكم، فالتفِتوا عن الهوى فقد آذاكم، فبابه مفتوح للطالبين، وجنابه مبذول للراغبين، وفضله ينادي: يا غافلين، وإحسانه ينادي الجاهلين، فاخرجوا من دائرة المذنبين، وبادِروا مبادرة التائبين.
لله دَرُّ قوم بادروا الأوقات، واستدركوا الهفوات، فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات، واللسان محبوس في سجن الصمت عن الهلكات، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوف عن الشهوات، والقدم قد قُيِّدت بقيد المحاسبات، والليل يَجْأرون فيه بالأصوات، فتيقَّظْ للحاقهم من هذه الرقدات، ولا تطمعن في الخلاص مع عدم الإخلاص في الطاعات، ولا تؤملنَّ النجاة وأنت مقيم على الموبقات.
أسفًا لعبد كلما كثرت أوزاره قلَّ استغفاره، وكلما قرب من القبور قوي عنده الفتور.
قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا ﴾ [آل عمران: 30]:
يوم تشيب فيه الأطفال، يوم تسير فيه الجبال، يوم يظهر فيه الوبال، يوم تنطق فيه الأعضاء بالخصال.
ينصب الصراط فناجٍ وواقع، ويوضع الميزان فتكثر الفظائع، وتنشر الكتب وتسيل المدامع، وتظهر القبائح بين تلك المجامع، يخسر العاصي ويربح الطائع، يا له من يوم يُقتَصُّ للمظلوم من الظالم، وتحيط بالظالم المظالم، وليس لمن لا يرحمه الإله عاصم.
يا من بين يديه يوم لا شك فيه ولا مِرا، يقع فيه الفراق وتنفصم العُرى، تدبر أمرك قبل أن تحضر فترى، أما تعلم أن الموت يسعى في تبديد شملك، أما تخاف أن تُؤخَذ على قبيح فعلك، واعجبًا لك من راحل تركت الزاد في غير رحلك!
قال تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]:
لما سمع المتيقِّظون هذا التحذير فتحوا أبواب القلوب لنزول الخوف، حقيق بمن علم ما بين يديه، وتيقَّن أن العمل يُحصى عليه، وأنه لا بد من الرحيل عما لديه، إلى موقف صعب يُساق إليه، يتجافى بمضطجع البطالة بجنبيه.
يا من قد وَهَى شبابُه، وامتلأ بالزلل كتابه، أما بلغك أن الجلود إذا استُشهِدَتْ نطقت، أما علمت أن النار للعُصاة خُلِقَتْ.
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42]:
الويل لأهل الظلم من ثقل الأوزار، ذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار، يكفيهم أنهم قد وُسِموا بالأشرار، ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار...وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار، فلا مغيث ولا أنيس ولا رفيق ولا جار، ولا راحة لهم ولا سكون ولا مزار، سالت دموع أسفهم على مسلفِهم كالأنهار، شيدوا بنيان الأمل فإذا به قد انهار...ولا يغرنك صفاء عيشهم ﴿ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42].
قال تعالى: ﴿ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37]:
لو رأيت أرباب القلوب، وقد أخذوا أُهْبة التعبُّد في الأسحار، وقاموا في مقام الخوف على قدم الاعتذار، عقدوا عزم الصيام وما جاء النهار، وسجنوا الألسنة فليس فيهم مهذار، وغضوا أبصارهم ولازموا غض الأبصار، جدُّوا في انطلاقهم إلى خالقهم، أتدري ما الذي حبسك عن لحاقهم: حب الدنيا والدينار.
قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]:
الويل كل الويل لعاقِّ والديه، والخزي كل الخزي لمن ماتا غضبانينِ عليه، أُفٍّ له! هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه؟! أتبع الآن تفريطك في حقهما أنينًا وزفيرًا، كم آثراك بالشهوات على النفس، ولو غبت ساعة صارا في حبس، حياتهما عندك بقايا شمس، لقد راعياك طويلًا فارعهما قصيرًا، كم ليلة سهرا معك إلى الفجر، يداريانك مدارة العاشق في الهجر، فإن مرضت أجريا معك دمعًا لم يجر.
يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك، ولو لقيت منهم أذًى شكوت شقاءك، ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك، كم جرَّعاك حُلْوًا وجرَّعتهما مريرًا؟! أتحسُن الإساءة في مقابلة الإحسان، كيف تعارض حسن فضلهما بقبيح العصيان؟! ثم ترفع عليهما صوتًا جهيرًا.
تحب أولادك طبعًا، فأحبب والديك شرعًا، وارْعَ أصلًا أثمر لك فرعًا، واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولًا وأخيرًا.
تصدق عنهما إن كانا ميِّتينِ، واقض عنهما الدَّين، واستغفر لهما، واستدم هاتين الكلمتين: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
قال تعالى: ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون: 111]:
لله أقوام امتثلوا ما أُمِروا، وزُجِروا عن الزلل فانزجروا، فإذا لاحت الدنيا غابوا، وإذا بانت الآخرة حضروا، جنَّ عليهم الليل فسهروا، وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا، وطرقوا باب المحبوب واعتذروا، وبالغوا في المطلوب ثم حذروا.
ربحوا والله وما خسروا، وعاهدوا على الزهد فما غدروا، وتفقدوا أنعُم المولى فاعترفوا وشكروا، جدُّوا فليس فيهم من يلعب، عيونهم تنظر بالتُّقى من طرف خاشع، كم شهوة في صدورهم انكسرت، أخبارهم تُحيي القلوب إذا نُشِرت.
قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ﴾ [القيامة: 26]:
يا لها من ساعة لا تشبهها ساعة! يندم فيها أهل التُّقى، فكيف أهل الإضاعة؟! يجتمع فيها شدة الموت إلى حسرة الفوت.
لما احتضر معاذ جعل يقول: اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لكَرْي الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حِلَق الذِّكْر.
ولما احتضر أبو هريرة بكى، فقيل له: وما يُبكيك؟ فقال: بُعْد المفازة، وقلة الزاد، وعقبة كئود، المهبط منها إلى الجنة أو النار.
وقيل لحذيفة في موته: ما تشتهي؟ قال: الجنة، قيل: فما تشتكي؟ قال: الذنوب.
ولما احتضر الرشيد أمر بحفر قبره ثم حُمِل إليه، فاطلع فيه فبكى، ثم قال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13]:
ما أشرف من أكرمه المولى العظيم! وما أسعد من خصَّه بالتشريف والتعظيم! وما أقرب من أهَّله للفوز والتقديم! وما أجلَّ من أثنى عليه العزيز الرحيم!
نعموا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة، وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة، وتنزَّهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة، ولبسوا ثياب التُّقى وارتدوا بالقناعة، فيا فخرهم إذا قامت الساعة، وقربت لهم مطايا التكريم.
أولئك هم المختارون الصفوة، الصدقُ قرينُهم، والصبر نديمهم، طالما تعبت أجسامهم من الجوع والسهر، وكفت جوارحهم عن اللهو والأشَر، وحبسوا أعراضهم عن الكلام والنظر، وانتهوا عما نهاهم وامتثلوا ما أمر، وتغنوا بكلامه والقلب قد حضر، واستعدوا من الزاد ما يصلح للسفر، قصورهم في الجنان عالية، وعيشتهم في القصور صافية.
كانوا في الدنيا على المجاهدة يصرون، وفي دياجي الليل يسهرون، ويصومون وهم على الطعام يقدرون، ويسارعون إلى ما يرضي مولاهم ويبادرون، فشُكِر من راح منهم وغدا، فهم غدًا ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾ [المطففين: 23].
كانوا يفرحون بالليل إذا أقبل ودنا، ويرفضون الدنيا لعلمهم أنها تصير إلى الفنا، ويُخلصون الأعمال من شوائب الآفات، ويحاربون الشيطان بسلاح من التُّقى، أقطع من السيف، وأقطع من القنا.
يا حسنهم والوالدان بهم يحفون، والملائكة بهم يزفون، والخدام بين أيديهم يقفون، وقد أمنوا ما كانوا يخافون، وبالحور العين الحسان في خيام اللؤلؤ يتنعَّمون، وعلى أسِرَّة الذهب والفضة يتزاورون، والوجوه النضرة يتقابلون.
قال تعالى: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]:
إخواني، الدنيا دار عِبْرة، ما وقعت فيها حَبْرة إلا ورَدِفَتْها عَبْرة، كم عزيز أحببنا دفنَّاه وانصرفنا؟! كم مؤانس أضجعناه في اللحد وما وقفنا؟! أين كثير المال الطويل الأمل؟! أما خلا في لحده وحده بالعمل، أين من جر ذيل الخيلاء غافلًا ورفل؟! أما سافر عنَّا إلى الآن وما قفل، أين الجبابرة الأكاسرة العتاة الأُوَل؟! ملك أموالهم سِواهم والدنيا دول، كم من ظالم تعدَّى وجار؟! فما راعى الأهل ولا الجار، بينا هو يعقد عقد الإصرار حلَّ به الموت فحل من حُلته الأزرار، ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البِلى، لو رأيته وقد حلت به المحن، وشِين ذلك الوجه الحسن، فلا تسأل كيف صار...هجره نسيبه ووَدِيده، وتفرَّق حشمه وعبيده، أين مجالسه العالية؟! أين عيشته الصافية؟! تقطَّعَتْ به جميع الأسباب، وهجره القرناء والأحباب، وصار فراشه الجندل والتراب.
دخلت ابنة النعمان بن المنذر على معاوية فقال لها: أخبريني عن حالكم كيف كان؟ قالت: أمسينا مساءً وليس في العرب أحد إلا وهو يَرْغب إلينا ويرهب منا، فأصبحنا صباحًا وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه.