تفسير سورة المائدة [97-102]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]. قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) البيت الحرام هو: البيت المحرم (قياماً للناس) يقول السيوطي : يقوم به أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له، وجبي ثمرات كل شيء إليه. فهذا معنى جَعْلِ الله سبحانه وتعالى البيت الحرام قياماً للناس، أي: يقوم به أمرهم، سواء الأمر الديني أو الأمر الدنيوي، فأما الأمر الديني فبالحج إليه؛ لأنه بالحج إليه يتم الركن الخامس من أركان الإسلام، ويتم أمر دنياهم بالأمن الذي يلقونه داخله، وأنه لا يتعرض أحد لهم. وكذلك من أمن الدنيا جبي الثمرات من كل مكان إلى هذا البلد الحرام، وفي قراءة: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قيماً للناس) بجعل (قيماً) بلا ألف، مصدر (قام) غير معلٍ، يعني: قام قيماً. (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) أي: وجعل الشهر الحرام أيضاً. والمراد هنا: الأشهر الحرم، فليس المراد شهراً واحداً، ولكن هذا لجنس الأشهر الحرم كلها، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، جعلها الله قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها. فقوله تعالى: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) يعني: وجعل الشهر الحرام -أيضاً- قياماً للناس، كما جعل البيت الحرام قياماً للناس، وذلك لأن الأشهر الحرم جعلها الله قياماً لهم حين يأمنون من القتال فيها؛ لأنه يحرم فيها القتال، فمن ثم فهي -أيضاً- جعلها الله قياماً للناس. (وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) أي: جعل الهدي والقلائد -أيضاً- قياماً للناس، بمعنى أن صاحبهما يأمن من التعرض لها، أو من أن يتعرض له أحد. (ذَلِكَ) الإشارة إلى الجعل المذكور في قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ) (( ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )) فإن جعله ذلك بجلب المصالح لكم، دفع المضار عنكم قبل وقوعها دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن في المستقبل.

قال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]. قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يعني: لأعدائه (وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) أي: لأوليائه (رَحِيمٌ) بهم. ثم قال تعالى: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة:99] أي: الإبلاغ لكم وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ [المائدة:99] أي: تظهرون من العمل: وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة:99] أي: تخفون منه، فيجازيكم به سبحانه وتعالى.

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100]. قوله تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ [المائدة:100] أي: الحرام (والطيب) أي: الحلال (ولو أعجبك) أي: سرك (كثرة الخبيث)، والمقصود بالخطاب هنا أمته صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (فَاتَّقُوا اللَّهَ)، فالخطاب موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود به أمته، كما قال عز وجل: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، فخاطب النبي عليه الصلاة والسلام بحكمٍ المقصودُ منه أمته عليه الصلاة والسلام. يقول: والمقصود بالخطاب أمته صلى الله عليه وسلم، لذلك وجه الأمر إليهم بقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100] أي: اتقو في ترك الخبيث والإعراض عنه مع كثرته (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي: تفوزون.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) أي: مداراً لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله، وعدم التعرض له وجبي ثمرات كل شيء. (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ) بمعنى الأشهر الحرم، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، قياماً لهم بأمنهم من القتال فيها؛ لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها. (وَالْهَدْيَ) الهدي المقصود به: ما يهدى إلى مكة (وَالْقَلائِدَ) جمع قلادة، والقلادة: هي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى، وليس المقصود القلائد نفسها، لكن المقصود ذوات القلائد، وهي البدن؛ لأن البدن تعلق فيها القلائد كي يعلم أن هذه مهداة إلى البيت الحرام، فلا يتعرض لها أحد ولا لصاحبها، فتوضع عليها هذه العلامات حتى تعظم ويعلم أنها مهداة إلى بيت الله سبحانه وتعالى، فتأمن ويأمن صاحبها، فلا يقصدان بسوء. وخصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر، والمفعول الثاني محذوف يعني: قوله تعالى: (( وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ )) أي: جعل الهدي والقلائد قياماً للناس، لكن حذف المفعول ثقة بظهوره من السياق الذي مر، فإنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم، حيث يعلم من يراهم أنهم يقصدون بيت الله الحرام، وفيه قوام لمعيشة الفقراء، بمعنى أن الفقراء -فقراء الحرم- حين يساق هذا الهدي إلى مكة المكرمة فإنه رزق يرسله الله سبحانه وتعالى إليهم، فيكون فيه قيام لأمرهم، وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلدوا أنفسهم عند الإحرام من لحاء شجر الحرم، فلا يتعرض لهم أحد. قوله تعالى: (ذَلِكَ) أي: الجعل المذكور: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة:97-99].

يقول تعالى: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100]. قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب) هذا حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وجيدها، قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) فإن العبرة بالجودة والرداءة دون القلة والكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير. وهذه الآية نحتاج للاستدلال بها في كثير من المواضع، فالقليل الذي يبارك الله سبحانه وتعالى فيه خير من الكثير الذي يمحق الله بركته؛ لأنه من حرام أو من رشوة أو من ربا أو من سحت، فأغلب الناس يفتنون بالمال الوفير، ولا يبالون من حرام جلبوه أم من حلال، فكثير ما نحتاج -خاصة في هذا الزمان- إلى إشاعة الاستدلال بهذه الآيات (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) يعني: في ترك الخبيث وإن كثر، فاتركوه وأتوا الطيب وإن قلّ (( لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )).

ثم قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [المائدة:101]. يقول السيوطي : ونزل لما أكثروا سؤاله صلى الله عليه وسلم، فسأله أحدهم: (يا رسول الله! من أبي؟ قال: أبوك فلان. وكان يطعن فيه) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وكانوا يسألونه استهزاء -وهذا لا يكون من المؤمنين الصادقين، وإنما كان من المنافقين وإن لم يصرح به- فيقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ ولما نزلت آية الحج قال أحدهم: (أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم)، أخرجه مسلم والترمذي ؛ فلذلك أنزل الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ )) أي: إن تظهر لكم (تسؤكم) يعني: بما فيها من المشقة. (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) يعني: في زمن النبي صلى الله عليه وسلم (تبد لكم)، والمعنى: إذا سألتم عن أشياء في زمانه ينزل القرآن بإبدائها، ومتى أبداها ساءتكم، فلا تسألوا عنها. والمقصود النهي عن كثرة السؤال والتنطع في السؤال، فهنا يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا) في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حيث ينزل الوحي تبد لكم، وإن بدت لكم ساءتكم، فالمقصود: لا تسألوا عنها، ثم قال تعالى: (( وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )). وهذه الآية فيها كلام طويل، يقول القاسمي : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا) أي: نبيكم (عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ) أي: تظهر (لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) لما فيها من المشقة (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ)، وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة فتطلبوا بيانها، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. فهذا وجه في الآية. وثمة وجه آخر: إن تسألوا عنها تبد لكم حين ينزل القرآن الكريم ولذلك فسرها ابن القيم على أن المراد زمن النزول المتصل به، وليس الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذناً لهم في السؤال عن التفصيل المنزل، ومعرفته بعد إنزاله، فبعدما تنزل يمكن أن تسألوا عنها حتى تستبينوا وتستوضحوا ما فيها من الأحكام، ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقاً. ثم قال ابن القيم : وثمة قول ثانٍ في قوله تعالى: (( وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ )) وهو أنه من باب التهديد والتحذير، يعني: إذا ما سألتم عنها في وقت الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوؤكم. وهو الوجه الذي اختاره السيوطي، بما ففيه ترهيب من السؤال، والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوؤكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم. وقال بعضهم: إنه تعالى بين أولاً أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم، ثم بيان آخر أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم ولا يسرهم. (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) أي: عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن، ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم، فما دام أن الله سبحانه وتعالى لم يوجبها عليكم توسعة عليكم فلا تضيقوا أنتم على أنفسكم، كآية الحج مثلاً، : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97] يقال: اسكتوا؛ فإنكم إذا سألتم: أكل عام يا رسول الله؟ فإن قال: كل عام وجبت، وإذا كان يجب على كل مسلم أن يحج في كل عام إلى بيت الله الحرام لما استطعنا، فهذا أوضح؛ لأنه جاء بفعل يبين ذلك. (عفا الله عنها) يعني: عن بيان تلك الأشياء؛ لئلا يسوءكم بيانها، فتكون جملة (عفا الله عنها) صفة لكلمة (أشياء)، أو المعنى: عفا الله عن مسائلكم السالفة، فما سألتم عنه فيما سبق عفا الله عنه، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

يقول تعالى: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:102] يعني: ليس المقصود عين المسألة، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال، وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحريم. وقوله تعالى: (ثم أصبحوا بها كافرين) أي: أصبحوا بسببها كافرين؛ حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ويفعلوه، وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها، فهلكوا، والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرض لما تعرضوا له، فلا تفعلوا مثلهم.

سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء...)

ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا تنبيهات: أولها: ما رواه البخاري في سبب نزولها بالتفسير عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً)، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من المنافقين، (فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )) حتى فرغ من الآيات كلها). وأخرج -أيضاً- البخاري عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، وهو صوت البكاء المكتوم، (فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ))). فقد كان هذا الرجل يُطعن في نسبه لأبيه، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهما سألتموني عن أي شيء أجبتكم سأله هذا الرجل: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان)، وقد كان هو أبوه الذي ينسب إليه. وهذا -بلا شك- من أبلغ الإساءة، ولذلك عاتبته أمه، وقالت: هب أنه ليس أبوك، أتفضحني أمام الناس؟! يقول: وروى البخاري في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة)، وكثرة السؤال والتنطع والتفيهق والتعمق والتحري الزائد في الغالب تكون علامة على ظاهرة مرضية، وتكون أحياناً من أعراض مرض الفراغ، ولذلك روي عن بعض السلف أنه رأى رجلاً يقف له كلما جاء وكلما ذهب، ويسأله أسئلة في قائمة طويلة، فاستكثر منه ذلك، وقال له: أكل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ فنحن محتاجون إلى الواقعية في اختيار القضايا التي نسأل فيها، وأن تكون في الأمور التي تهمنا، وأن لا يحصل التدقيق في الأسئلة. فهذا أحد علماء السلف يقال: كان أحسن الناس خلقاً، فما زالوا به حتى أضجروه، فساء خلقه، وذلك: لأنه مع كثرة الإضجار قد يضطر إلى أن يواجه برد غير حميد، ثم يصير ذلك طبعاً له من كثرة ما يفعل ذلك. فعلينا أن نتواصى جميعاً بتحري نوع الأسئلة، وتحري القضايا المفيدة دون التعمق والتفيهق في دقائق الأمور. وهناك نماذج هي أدلة على شيوع هذه الظاهرة، أعني عدم الواقعية في إلقاء الأسئلة، وأذكر من ذلك أنه ذات مرة دق جرس هاتفي كثيراً في الساعة الثانية صباحاً قبل الفجر، فقلت: من المؤكد أن هذا موضوع في غاية الأهمية، للاتصال في مثل هذا الوقت، فرددت على الهاتف فإذا هو أخ يقول لي: أحد أقاربي سألك سؤالاً قبل مدة فكان الجواب مختصراً، ونحن نريد جواباً مفصلاً. فقلت له: خيراً، فما هو السؤال؟ قال: هاهو موجود وسيذكرك بالسؤال، فسمعته يعطيه السماعة وهو يقول له: اسأله. فقال: ليس في بالي أي سؤال. فقال له: اسأله أي سؤال! فهل هذه أخلاق طالب العلم؟! لا بد من أن يكون هناك نوع من الواقعية والجدية، فإذا كان الحال أنه لا يوجد هناك سؤال فلماذا إذاً هذا المسلك؟! فنحن -في الحقيقة- محتاجون إلى مراجعة أنفسنا في باب الآداب الشرعية، ومراعاة هذه الآداب، ومثل هذه القضايا التي ينزل الله فيها الوحي لا شك في أنها من عظائم الأمور التي ينزل الله سبحانه وتعالى فيها هذا التأنيب، فلنقدر هذه المسائل حق قدرها، ومسائل الاستئذان وآداب الاستئذان أمر يطول الحديث فيه في الحقيقة؛ لأنه تحصل فيه تجاوزات شنيعة. ولقد حكى لي أحد الإخوة أنه ترك ضيفاً في الغرفة، ثم غاب عنه قليلاً، فلما رجع وجده في المطبخ قد فتح الثلاجة يشرب ماء ويأكل شيئاً من الثلاجة، يقول: فتسمرت في مكاني وذهلت! فكيف يحصل هذا؟! فالمضيف متزوج، وهذا يدخل المطبخ! وما وجده في الحجرة، وإنما وجده في المطبخ، وهل رَفْعُ الكلفة يصل إلى هذا الحد من انتهاك حرمات البيوت؟! والنماذج كثيرة، ولكن أقول: لا يمكن أن يكون شيء أنزل الله سبحانه وتعالى فيه وحياً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة ثم يكون قضية من القضايا للتسلية، فكون الله سبحانه وتعالى ينزل لنا هذه الآية عبرة لنا كي نلتزم آداب السؤال، خاصة الواقعية في السؤال. وأما الحديث الذي ذكرنا طرفاً منه فهو أنه روى البخاري عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غضبان من شدة الإلحاف عليه في المسائل، يقول أنس : (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي)، خاف الصحابة من غضب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، يقول: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه) يعني: إذا حصلت مجادلة بينه وبين شخص عير بأنه يسب إلى غير أبيه، فقال: (يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة) وقد كان يدعى ابن حذافة ، وعمر عندما أحس بخطورة الموقف أراد أن يسترضي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان غضبان، فقال: (رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه عرضت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط)، فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )). وروى البخاري -أيضاً- في باب ما يكره من كثرة السؤال عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا. قال أنس : فأكثر الأنصار البكاء)، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني وهو غضبان، فقام إليه رجل -وانظر إلى سوء مخالفة هذا الأدب- فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟! قال: النار) ولا حول ولا قوة إلا بالله! (فقام عبد الله بن حذافة ، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة، ثم أكثر صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني سلوني سلوني. فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك) . وعند مسلم : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لـعبد الله بن حذافة : (ما سمعت بابن قط أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحني على أعين الناس؟! وذلك: لأنه ولد حملت به في الجاهلية، فمعناه: هب أن أمك قارفت شيئاً مما كان شائعاً في الجاهلية، فهل تفضحها على أعين الناس وتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام من أبي؟! هب أن أباك غير من تنسب إليه! فهذا من العقوق بلا شك. وفي هذا -أيضاً- أدب آخر؛ لأننا نلاحظ بعض الناس يسأل فتكون المشكلة متعلقة بأبيه أو بأمه مثلاً، فهو غير محتاج للتصريح، فيمكن أن يقول: ما حكم الشرع في أب يفعل كذا؟ لكن هناك من يأتي أمام الناس ويقول: أبي يفعل كذا وكذا ويهتك ستر أبيه، فهذا ليس من الأدب، وهذا من العقوق، بل قل: ماذا يفعل ابن أبوه فعل كذا؟ وحاول أن تغير صيغة السؤال حتى لا تقع في غيبة أبيك وعقوقه ولو كان فيه هذه الأشياء. ونلحظ في بعض الأسئلة من يأتي ليسأل سؤالاً، ويكون السؤال خاصاً إلى درجة بعيدة جداً من الأسرار الشخصية مما لا يحب السائل أن يسمعه أحد، وإذا بالواقفين كأن على رءوسهم الطير، وكأنهم مثبتين في الأرض بمسامير من حديد، لا يتحرك أحد، والأصل في المسلم أن يكون مرهف الحس، فإذا لاحظت سؤالاً شخصياً، أو فيه ذكر عورة فابتعد حتى لا تسمعه، أما أن يقف المرء ولا يبالي بشيء على الإطلاق، ويصل الأمر إلى حد الاضطرار إلى أن يقال: على الإخوة أن ينصرفوا؛ لأن الأخ له سؤال شخصي فهذا ما لا يليق، وهذا أدب ينبغي أن نراعيه من أنفسنا، فإذا كان السؤال ليس عاماً فابتعد حتى يكون السر بين السائل ومن يجيبه. وكذلك السائل إذا كان لديه سؤال فيه هتك ستر أو فيه ذكر نوع من العورات فلا يسأل على الملأ، لكن ينفرد بمن يسأله. ولما قالت أم عبد الله بن حذافة ذلك الكلام لابنها قال عبد الله راداً على أمه: (والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته). وروى ابن جرير عن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال: سلوني...) نحو ما تقدم وزاد: (فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً ..) إلخ. وزاد: (وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به عمر حتى رضي صلى الله عليه وآله وسلم) . وأخرج ابن جرير -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى ج

التزام الصحابة بأدب النهي عن السؤال

ولقد التزم الصحابة هذا الأدب حتى كانوا ما يكادون يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، لكن كانوا يفرحون إذا أتى رجل من أهل البادية فيسأله ويسمعون الجواب فيستفيدون، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع)، وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها). ولـمسلم عن النواس بن سمعان قال: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم). يعني: أنه قدم المدينة وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل؛ لأنه ما دام بصفة الوافد فقد كان له رخصة وسعة في أن يسأل؛ لأنه وافد، بمعنى أنه يقدم مدة يسيرة ثم يغادر بعدها، فحرص على أن يستبقي صفة الوافد لا صفة المقيم؛ لأنه إذا كان من المقيمين جرى عليه الأصل، وهو أنه لا يسأل. فهو يقول: (أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: ما يمنعني من اتخاذ المدينة مهاجراً ووطناً للإقامة إلا المسألة، فظل ماكثاً بصفة أنه وافد، وليس مقيماً مهاجراً، يقول: (ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة) أي: الحرص على أن أسأله (كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم). ومراده أنه قدم وافداً، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل خشية أن يخرج من صفة الوافد، إلى استمرار الإقامة فيصير مهاجراً فيمتنع عليه السؤال. وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب وفوداً كانوا أو غيرهم، فقوله تعالى هنا: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، المقصود به المهاجرون. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: (لما نزلت (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )) -إلى آخر الآية- قال: كنا قد انتهينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم، فأتينا أعرابياً فرشوناه برداء، وقلنا: سل النبي صلى الله عليه وسلم!) وهذه الرشوة ليست على ظاهرها، وليست هي الرشوة المحرمة، وإنما أهدوا له الهدية استعطافاً ثم قالوا: اذهب واسأل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا السؤال. ولـأبي يعلى عن البراء : (إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب -أي: قدوم الأعراب- ليسألوه) فإذ سأل الأعرابي سمع الصحابة أجوبة سؤالات الأعرابي فيستفيدون منها. وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة رضي الله عنهم فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة، كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن، كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك. وعن ابن عمر قال: (لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن)، وعن عمر أنه قال: (أحرج عليكم أن تسألوا عما لم يكن؛ فإن لنا فيما كان شغلاً) يعني: لا تكثروا الافتراضات؛ فإن ما نزل وما علمنا يشغلنا عن الاشتغال بالافتراضات. وعن زيد بن ثابت: (أنه كان إذا سئل عن الشيء يقول: هل كان هذا؟ فإن قيل: لا قال: دعوه حتى يكون). وعن أبي سلمة ومعاذ مرفوعاً : (لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها؛ فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدد، وإن عجلتم تشتت بكم السبل)، وهذا مرسل.

ثم يذكر القاسمي رحمه الله تعالى هنا تنبيهات: أولها: ما رواه البخاري في سبب نزولها بالتفسير عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً)، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من المنافقين، (فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ )) حتى فرغ من الآيات كلها). وأخرج -أيضاً- البخاري عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، وهو صوت البكاء المكتوم، (فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ))). فقد كان هذا الرجل يُطعن في نسبه لأبيه، ولما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم مهما سألتموني عن أي شيء أجبتكم سأله هذا الرجل: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان)، وقد كان هو أبوه الذي ينسب إليه. وهذا -بلا شك- من أبلغ الإساءة، ولذلك عاتبته أمه، وقالت: هب أنه ليس أبوك، أتفضحني أمام الناس؟! يقول: وروى البخاري في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة)، وكثرة السؤال والتنطع والتفيهق والتعمق والتحري الزائد في الغالب تكون علامة على ظاهرة مرضية، وتكون أحياناً من أعراض مرض الفراغ، ولذلك روي عن بعض السلف أنه رأى رجلاً يقف له كلما جاء وكلما ذهب، ويسأله أسئلة في قائمة طويلة، فاستكثر منه ذلك، وقال له: أكل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا. قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟ فنحن محتاجون إلى الواقعية في اختيار القضايا التي نسأل فيها، وأن تكون في الأمور التي تهمنا، وأن لا يحصل التدقيق في الأسئلة. فهذا أحد علماء السلف يقال: كان أحسن الناس خلقاً، فما زالوا به حتى أضجروه، فساء خلقه، وذلك: لأنه مع كثرة الإضجار قد يضطر إلى أن يواجه برد غير حميد، ثم يصير ذلك طبعاً له من كثرة ما يفعل ذلك. فعلينا أن نتواصى جميعاً بتحري نوع الأسئلة، وتحري القضايا المفيدة دون التعمق والتفيهق في دقائق الأمور. وهناك نماذج هي أدلة على شيوع هذه الظاهرة، أعني عدم الواقعية في إلقاء الأسئلة، وأذكر من ذلك أنه ذات مرة دق جرس هاتفي كثيراً في الساعة الثانية صباحاً قبل الفجر، فقلت: من المؤكد أن هذا موضوع في غاية الأهمية، للاتصال في مثل هذا الوقت، فرددت على الهاتف فإذا هو أخ يقول لي: أحد أقاربي سألك سؤالاً قبل مدة فكان الجواب مختصراً، ونحن نريد جواباً مفصلاً. فقلت له: خيراً، فما هو السؤال؟ قال: هاهو موجود وسيذكرك بالسؤال، فسمعته يعطيه السماعة وهو يقول له: اسأله. فقال: ليس في بالي أي سؤال. فقال له: اسأله أي سؤال! فهل هذه أخلاق طالب العلم؟! لا بد من أن يكون هناك نوع من الواقعية والجدية، فإذا كان الحال أنه لا يوجد هناك سؤال فلماذا إذاً هذا المسلك؟! فنحن -في الحقيقة- محتاجون إلى مراجعة أنفسنا في باب الآداب الشرعية، ومراعاة هذه الآداب، ومثل هذه القضايا التي ينزل الله فيها الوحي لا شك في أنها من عظائم الأمور التي ينزل الله سبحانه وتعالى فيها هذا التأنيب، فلنقدر هذه المسائل حق قدرها، ومسائل الاستئذان وآداب الاستئذان أمر يطول الحديث فيه في الحقيقة؛ لأنه تحصل فيه تجاوزات شنيعة. ولقد حكى لي أحد الإخوة أنه ترك ضيفاً في الغرفة، ثم غاب عنه قليلاً، فلما رجع وجده في المطبخ قد فتح الثلاجة يشرب ماء ويأكل شيئاً من الثلاجة، يقول: فتسمرت في مكاني وذهلت! فكيف يحصل هذا؟! فالمضيف متزوج، وهذا يدخل المطبخ! وما وجده في الحجرة، وإنما وجده في المطبخ، وهل رَفْعُ الكلفة يصل إلى هذا الحد من انتهاك حرمات البيوت؟! والنماذج كثيرة، ولكن أقول: لا يمكن أن يكون شيء أنزل الله سبحانه وتعالى فيه وحياً يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة ثم يكون قضية من القضايا للتسلية، فكون الله سبحانه وتعالى ينزل لنا هذه الآية عبرة لنا كي نلتزم آداب السؤال، خاصة الواقعية في السؤال. وأما الحديث الذي ذكرنا طرفاً منه فهو أنه روى البخاري عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: (سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا بينت لكم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج إليهم غضبان من شدة الإلحاف عليه في المسائل، يقول أنس : (فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي)، خاف الصحابة من غضب الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي، يقول: (فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه) يعني: إذا حصلت مجادلة بينه وبين شخص عير بأنه يسب إلى غير أبيه، فقال: (يا نبي الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذافة) وقد كان يدعى ابن حذافة ، وعمر عندما أحس بخطورة الموقف أراد أن يسترضي الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان غضبان، فقال: (رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، نعوذ بالله من سوء الفتن)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط، إنه عرضت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط)، فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ )). وروى البخاري -أيضاً- في باب ما يكره من كثرة السؤال عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام إلى المنبر فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أموراً عظاماً، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألون عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا. قال أنس : فأكثر الأنصار البكاء)، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني وهو غضبان، فقام إليه رجل -وانظر إلى سوء مخالفة هذا الأدب- فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟! قال: النار) ولا حول ولا قوة إلا بالله! (فقام عبد الله بن حذافة ، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة، ثم أكثر صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني سلوني سلوني. فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك) . وعند مسلم : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قالت أم عبد الله بن حذافة لـعبد الله بن حذافة : (ما سمعت بابن قط أعق منك! أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحني على أعين الناس؟! وذلك: لأنه ولد حملت به في الجاهلية، فمعناه: هب أن أمك قارفت شيئاً مما كان شائعاً في الجاهلية، فهل تفضحها على أعين الناس وتسأل الرسول عليه الصلاة والسلام من أبي؟! هب أن أباك غير من تنسب إليه! فهذا من العقوق بلا شك. وفي هذا -أيضاً- أدب آخر؛ لأننا نلاحظ بعض الناس يسأل فتكون المشكلة متعلقة بأبيه أو بأمه مثلاً، فهو غير محتاج للتصريح، فيمكن أن يقول: ما حكم الشرع في أب يفعل كذا؟ لكن هناك من يأتي أمام الناس ويقول: أبي يفعل كذا وكذا ويهتك ستر أبيه، فهذا ليس من الأدب، وهذا من العقوق، بل قل: ماذا يفعل ابن أبوه فعل كذا؟ وحاول أن تغير صيغة السؤال حتى لا تقع في غيبة أبيك وعقوقه ولو كان فيه هذه الأشياء. ونلحظ في بعض الأسئلة من يأتي ليسأل سؤالاً، ويكون السؤال خاصاً إلى درجة بعيدة جداً من الأسرار الشخصية مما لا يحب السائل أن يسمعه أحد، وإذا بالواقفين كأن على رءوسهم الطير، وكأنهم مثبتين في الأرض بمسامير من حديد، لا يتحرك أحد، والأصل في المسلم أن يكون مرهف الحس، فإذا لاحظت سؤالاً شخصياً، أو فيه ذكر عورة فابتعد حتى لا تسمعه، أما أن يقف المرء ولا يبالي بشيء على الإطلاق، ويصل الأمر إلى حد الاضطرار إلى أن يقال: على الإخوة أن ينصرفوا؛ لأن الأخ له سؤال شخصي فهذا ما لا يليق، وهذا أدب ينبغي أن نراعيه من أنفسنا، فإذا كان السؤال ليس عاماً فابتعد حتى يكون السر بين السائل ومن يجيبه. وكذلك السائل إذا كان لديه سؤال فيه هتك ستر أو فيه ذكر نوع من العورات فلا يسأل على الملأ، لكن ينفرد بمن يسأله. ولما قالت أم عبد الله بن حذافة ذلك الكلام لابنها قال عبد الله راداً على أمه: (والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته). وروى ابن جرير عن السدي قال: (غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فقام خطيباً فقال: سلوني...) نحو ما تقدم وزاد: (فقام إليه عمر فقبل رجله، وقال: رضينا بالله رباً ..) إلخ. وزاد: (وبالقرآن إماماً، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به عمر حتى رضي صلى الله عليه وآله وسلم) . وأخرج ابن جرير -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمر وجهه حتى ج


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2819 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2621 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2584 استماع
تفسير سورة البلد 2567 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2562 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2504 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2439 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2412 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2404 استماع