خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة المائدة [30-37]
الحلقة مفرغة
قال الله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:30-31]. قوله تعالى: (فطوعت له نفسه قتل أخيه) أي: رخصت وهونت له نفسه. وجاء التصريح هنا بالأخوة في قوله: (قتل أخيه) فلم يقل سبحانه وتعالى: فطوعت له نفسه قتله. وإنما صرح بالأخوة لكمال تقبيح ما سولت له به نفسه من قتل أخيه، أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه، فبدل أن يحمي أخاه إذا به هو نفسه يقتله. وقوله تعالى: (فقتله فأصبح من الخاسرين) أي: ديناً؛ إذ صار كافراً حاملاً الدماء إلى يوم القيامة، وأصبح من الخاسرين دنيا؛ إذ صار مطروداً مبغضاً في الخلائق. وقد أخرج الجماعة غير أبي داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل). فـقابيل هو أول من سن القتل في ذرية آدم عليه السلام، فلذلك كل من اقتدى به من بعده وقتل مظلوماً أو قتل بغير حق فإنه يشاركه في الوزر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً). فكذلك لما كان هو أول من سن سنة القتل وإراقة دم المسلم بغير حق كان في كل نفس تقتل من بني آدم إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى نصيب من وزر القتل عائداً إلى قابيل ؛ لأنه هو أول من سن هذه السنة. ولما قتل قابيل أخاه لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته، وهذه كانت أول حادثة تقع في تاريخ البشرية يحصل فيها هذا القتل وهذه الجريمة، فلم يدر ماذا يصنع بعدما قتل أخاه ورآه مضرجاً بدمه وجثة ملقاة أمامه، فاحتار، قال تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31]. قوله: (فبعث الله) أي: أرسل الله (غراباً)، فجاء يبحث في الأرض، ومعنى (يبحث): يحفر بمنقاره ورجله متعمقاً في الأرض، وهذا من شأن الغراب؛ لأن الغراب دائماً يحفر في الأرض. قال القتيبي : هذا من الاختصاص، ومعناه: بعث غراباً يبحث التراب على غراب ميت. يعني: هذا هو الاحتمال، وهو أن هذا الغراب كان له غراب آخر ميتاً فكان يحفر له في الأرض كي يدفنه، فهو رأى هذا المشهد. وكذا رواه السدي عن بعض الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، فحفر له ثم حثا عليه حثياً. وقوله: (ليريه) الضمير المستتر إما عائد على الله تعالى أو على الغراب، أي: إما أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى بعث الغراب ليري قابيل كيف يصنع بأخيه، أو ليري الغراب قابيل ما يصنع بالمقتول. وقوله: (كيف يواري) أي: يستر في التراب (سوأة أخيه) أي: جسده الميت، وسمي سوأة لأنه مما يسوء ناظره، فالإنسان يسوءه أن يرى أخاه ميتاً. قال تعالى: (قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) قوله: (يا ويلتا) كلمة جزع وهلع، والألف فيها بدل ياء المتكلم؛ إذ الأصل فيها (يا ويلتي) فأبدلت الياء -ياء المتكلم- ألفاً. والويل والويلة: الهلكة. (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) أي: أضعفت عن الحيلة في أن أكون مثل هذا الغراب الذي هو من أضعف الحيوانات؟! والاستفهام هنا للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب، فهو يستفهم متعجباً كيف أنه هو الإنسان ويعجز عن أن يكون مثل الطائر الضعيف الذي استطاع أن يتصرف في جثمان أخيه بهذه الصورة، في حين هو لم يهتد إلى ذلك وبقي متحيراً إلى أن جاء الغراب! وقوله: (فأواري سوأة أخي) أي: أغطي. وقوله: (فأصبح من النادمين) أصبح هنا بمعنى: (صار من النادمين) أي: على حيرته في مواراته، حيث لم يدفنه حين قتله، فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضل منها وأدنى في التنوير، ولم يكن نادماً على قتله، ففي هذه اللحظة هو لم يكن نادماً على قتل أخيه، وإنما أصبح من النادمين لعدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب. وقال أبو الليث عن ابن عباس : لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه؛ لأن الندم توبة، فالظاهر أن الله سبحانه وتعالى لم يعف عنه؛ لأنه لم يتب مما فعل بأخيه، فيلزم أن يفسر قوله تعالى: (فأصبح من النادمين) يعني: على حيرته حيث لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب الأعجم، فكان أخس وأقل من الغراب الأعجم، ولو كان نادماً على قتل أخيه لكانت الندامة توبة، لكنه لم يتب. وظاهر الآيات أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب، ولا مانع من ذلك؛ إذ مثله مما يجوز خفاؤه على الإنسان، لاسيما والعالم في أول طور النشأة، وكان هابيل أول قتيل من بني آدم، فيكون أول ميت، فيحتمل أنه لم يكن يعرف ما ويصنع بالميت إذا مات أو بالقتيل إذا قتل. ونقل الرازي احتمال أن يكون عالماً بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه، فواراه تحت الأرض، والله تعالى أعلم.
الندم إذا لم يكن لقبح المعصية فليس بتوبة
أصل مشروعية دفن الميت
حكمة تخصيص الغراب بأنه دابة المواراة
تفسير القاسمي رحمه الله تعالى للآية
في الآية دلالة على أن الندم إذا لم يكن لقبح المعصية لم يكن توبة، فهو هنا لم يندم على قبح المعصية، أو لم يندم خوفاً من الله تبارك وتعالى، ولذلك لم ينفعه هذا الندم، يقول الرازي : ندم على قساوة قلبه كونه دون الغراب في الرحمة فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.
هذه الآية أصل في مشروعية دفن الميت حتى ولو كان كافراً، فالميت ولو كان كافراً يدفن ويوارى في التراب، والدليل على ذلك -أيضاً- ما ثبت في قصة غزوة بدر، حيث ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين في قليب بدر، لما مات أبو طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم لابنه علي رضي الله عنه : (اذهب فوار أباك) فالكافر لو مات يدفن، لكن لا يغسل، ولا يصلى عليه.. إلى آخر ما هو معلوم، فالآية دليل أصيل في مشروعية دفن الميت. قال ابن جرير : زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل ؟ قال: ما أدري! ما كنت عليه رقيباً. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض الذي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض. وعلى أي الأحوال فهذا مما لا نستطيع قبوله بإطلاق، فهو من الإسرائيليات. وكذلك روى ابن جرير بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال: تغيرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام: أبا هابيل قد قتلا جميعاً وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها على خوف فجاء بها يصيح وقد نقد وفند غير واحد من العلماء نسبة هذه الأبيات إلى آدم، فمما لا يكاد يصدق أن يكون آدم أنشد هذين البيتين ويكون هذا الشعر قد حفظ ونقل بسند صحيح إلى آدم عليه السلام، فهذا مما فنده غير واحد من العلماء. يقول الزمخشري : روي أن آدم رثاه بشعر، وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر.
أما حكمة تخصيص الغراب بكونه دابة المواراة فقد قال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء. فهذه عادة عند الغراب أنه يدفن الأشياء في الأرض، فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه، وهذا غير الكلام الذي سبق من قبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى بعث غرابين اقتتلا فقتل واحد منهما صاحبه فواراه في التراب. فهناك قول آخر أنه ما كان الغراب يدفن غراباً آخر، وإنما عادته أنه دائماً يدفن الأشياء في الأرض، فرآه يبحث في الأرض ويحفر فيها بمنقاره ورجله عميقاً كي يدفن فيها شيئاً ما لا يشترط فيه أن يكون غراباً. والغراب هو الطائر الأسود المعروف، وقسموه إلى أنواع، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتله لما فيه من الفسق، ولأنه من أخبث الطيور، والعرب تقول: (أفسق من غراب) أي: أشد في الخبث والفسق من الغراب. وتقول أيضاً: (أحذر من غراب) باعتباره يتصف بالحذر و(أدهى من غراب) و(أصفى عيشاً من غراب) و(أشد سواداً من غراب)، و(هذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب) لأن الغربان تتشابه بشكل عجيب، والناس الذين يعيشون في الصحراء يدركون ذلك، وإذا نعتوا أرضاً بالخصب قالوا: (وقع في أرض لا يطير غرابها). ويقولون: (وجد تمرة الغراب) يعني: الشيء الذي ليس أحسن منه؛ لأن الغراب ينتقي أطايب التمر وأجود أنواعه ويتتبعه. ويقولون: (أسأم من غراب)، ويقولون: (أفسق من غراب)، ويقولون: (طار غراب فلان)، إذا شاب رأسه؛ لأن الغراب أسود، وإذا أراد شخص أن يعلق شيئاً على فعل لا يقع يقول مثلاً: أزورك حين يشيب الغراب. أي: حين يتحول لون الغراب إلى اللون الأبيض، وهذا لا يقع، أو: لا آتيك حتى يبيض الغراب. فيقولون: (طار غراب فلان) أي: رحل السواد وحل محله الشيب و(غراب غارب) على سبيل المبالغة، كما قالوا: (شعر مشاعر) و(موت مائت) وقال رؤبة: فازجر من الطير الغراب الغارب. قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلا والغراب أشأم منه، وللبديع الهمذاني فصل بديع في وصفه، ذكره صاحب المضاف والمنسوب، من مثل قوله: (ما أعرف لفلان مثلاً إلا الغراب، ولا يقع إلا مذموماً على أي جنب وقع، إن طار فمقسم الضمير، وإن وقع فمروع بالنذير، وإن حجل فمشية الأمير، وإن شحج فصوت الحمير، وإن أكل فدبرة البعير. يعني: قرحته. والأبيات في غراب البين كثيرة ملئت بها الدفاتر، فغراب البين يشيع كثيراً استعماله في الأدب العربي، حيث يتشاءمون من الغراب بأنه رمز البعد والسفر عن الأحباب والأصحاب وغير ذلك. إلا أن هذا الأمر الشائع من أن (غراب البين) المقصود به الغراب الطائر في حقيقته كلام غير صحيح، وإنما (غراب البين) هو الإبل، فقد حقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطي قاضي غرناطة في شرحه على مقصورة حازم أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل؛ لأن الإبل هي رمز السفر عند العرب؛ لأنها تنقل الأحباب من بلد إلى بلد، فلذلك اعتبر الغراب رمزاً للفراق والبين، وإذا قالوا: (غراب البين) فالمقصود به الإبل التي تغترب بالناس وتنقلهم من بلاد إلى بلاد. وأنشد في ذلك مقاطيع منها: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق ما الذنب إلا للأباعر إنها ممن يشتت جمعهم ويفرق إن الغراب بيمنه تدنو النوى وتشتت الشمل الجميع الأينق فهنا هو يرد على هؤلاء الذين يعتبرون أن غراب البين هو الطائر، فيقول: هذا جهل وهذا خطأ. فقوله: غلط الذين رأيتهم بجهالة يلحون كلهم غراباً ينعق يعني: ينحون باللائمة، ويذمون هذا الغراب الطائر الذي ينعق، ويتشاءمون منه باعتباره غراب البين، ويقول: (ما الذنب إلا للأباعر) أي: الذنب في البين والفراق هو للجمال وليس لهذه الطيور (إنها مما يشتت جمعهم ويفرق)، أي: الإبل هي التي تشتت جمعهم وتفرقهم بالأسفار. وقوله: (إن الغراب بيمنه تدنو النوى) يعني: هو ليس مشئوماً، ولكنه له يمن. فبيمنه تدنو النوى، أي: يقترب البعاد (وتشتت الشمل الجميع الأينق) النوق أو الجمال أو الإبل هي التي تشتت المجتمع وتفرق الناس وتسافر بهم. وأنشد ابن المسناوي لـابن عبد ربه : زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر إن لم يصدقه رغاء بعير فقوله: (زعق الغراب فقلت أكذبُ طائر) لأن الناس يتشاءمون من صوت الغراب، فيقول: قلت أكذب طائر) فلم يقل: إنه علامة على مفارقة الأحباب؛ لأن صوت الغراب إذا لم يقترن به رغاء البعير الذي يحمل الأحباب ويسافر بهم فإنه يكون كذباً ولا شؤم فيه. فهذا كله مما يؤيد أن غراب البين المقصود به الإبل وليس الطائر.
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (فطوعت) أي: زينت. (فأصبح) يعني: فصار. فـ(أصبح) هنا معناها: (صار). يقول: فصار من الخاسرين، أي: بقتله، ولم يدر ما يصنع به؛ لأنه أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله على ظهره. (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض) يعني: ينبش التراب بمنقاره وبرجليه ويلقيه على غراب ميت معه حتى واراه. (ليريه كيف يواري) كيف يستر (سوأة) أي: جيفة (أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون) يعني: أعجزت عن أن أكون (مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين) فأصبح من النادمين على حمله لا على قتله، وحفر له وواراه. وهذه الآية أصل في دفن الميت.
ثم يقول تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. قوله تعالى: (من أجل ذلك) أي: من أجل ذلك الذي فعله قابيل (كتبنا على بني إسرائيل أنه) الهاء هنا تدل على الشأن (أنه) أي: الشأن. (من قتل نفساً بغير نفس) يعني: بغير نفس قتلها. (أو فساد) أو بغير فساد (في الأرض) أي: فساد أتاه في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق ونحوه. وهنا إشارة إلى ما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، فهذه هي الدماء التي أباحها الإسلام. فقوله: (الثيب الزاني) لأنه يرجم، (والنفس بالنفس) من قتل يقتل (والتارك لدينه المفارق للجماعة) المرتد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه). ومن الدماء التي أباحها الإسلام دماء أهل الحرابة، وسيأتي ذكرهم -إن شاء الله تعالى- في قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا .. [المائدة:33]، إلى آخر الآية الكريمة، وكذلك البغاة الذين يخرجون على الإمام الحق. يقول تعالى: (( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا )) أي: بأن امتنع عن قتلها (( فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )). قال ابن عباس : من حيث انتهاك حرمتها وصونها. قوله تعالى: (( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ )) أي: بني إسرائيل (( رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ )) أي: بالمعجزات (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ)، أي: مجاوزون الحد بالكفر والقتل وغير ذلك. وقوله: (( كَتَبْنَا )) أي: فرضنا وأوجبنا على بني إسرائيل، وخصوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك، وسيأتي -بإذن الله- فيما بعد أنه خص بالذكر بني إسرائيل لأنهم أقسى الأمم قلوباً في هذا الباب، فإنهم مشهورون بأنهم قتلة الأنبياء، فسفكوا دماء الأنبياء وهي أشرف الدماء وأعظم الدماء، وأكثرها حرمة وعصمة، فهنا إشارة إلى بني إسرائيل لفظاعة ما ارتكبوه من استحلالهم قتل الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقوله: (( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ )) يعني: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. وقوله: (( أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ )) أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها؛ لأن الذي يبيح القتل هو إما إن يقتل الإنسان نفساً بغير حق، وإما أن يعيث في الأرض فساداً بصور كثيرة بينها بعد ذلك، كالكفر، والحرابة، أي: المحاربون من قطاع الطريق، وكذلك زنا المحصن مما يبيح دمه. وقوله:(( فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا )) أي: من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسن القتل، وجرأ الناس عليه، أو من حيث إن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم. وقوله: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] معناه كما ذكر السيوطي : من امتنع من قتلها. ويقول القاسمي هنا: (ومن أحياها) يعني: من تسبب لبقاء حياتها لعطف أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. وهذا التفسير أعم وأشمل بلا شك. فيدخل في الإحياء هذه الأحوال كلها، أولاً: العطف، كأن يكون ولي الدم مكن من قتل هذا الشخص، ثم عند ذلك عفا عن القاتل وسامح، فهنا يكون قد أحياها، لا لأنه هو الذي يخلد الروح، فهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى، لكن المقصود هو أنه عفا عنه ولم يستوف حقه بقتله. ومن ذلك المنع عن القتل، كشخص يريد أن يقتل آخر فحميته ودفعت عنه حتى أنجيته من هذا القاتل، فهذا -أيضاً- نوع من الإحياء، فهو داخل في الآية، وكذلك الاستنقاذ من بعض أسباب الهلكة، كشخص أوشك على الغرق فأنقذته، وشخص أوشك على الموت بأي سبب فعالجته، فهذا -أيضاً- داخل في قوله تعالى: ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً). أي: فكأنما فعل ذلك بالناس جميعاً، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب، ترهيباً عن التعرض لها، وترغيباً في حمايتها. وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل نفساً وجب على المؤمنين معاداته، وأن يكونوا خصومه كما لو قتلهم جميعاً؛ لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم، ومن أحياها وجب على المؤمنين موالاته كما لو أحياهم. ولذلك كان جد الفرزدق واسمه صعصعة بن ناجية ينقذ المؤودة، فكان الفرزدق حينما يفاخر جريراً يقول: أنا ابن محي الموتى. فيقول له جرير : كيف هذا وهذا ليس إلا لله سبحانه وتعالى؟! فكان يقول له: إن جدي صعصعة بن ناجية كان يبحث عن أي بنت في الجاهلية يريد أبوها أن يئدها، وكانت أي امرأة تتمكن من الهرب تفر إليه، فكان يدفع لأبيها دية وينجيها من القتل، فهذا مما كان من أخلاقه التي كان يتحلى بها في الجاهلية. وقيل للحسن البصري : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ قال: إي والله، إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم، وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا. فالقاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم ولم ينبه على إفسادهم وافترائهم فيه فهو حق. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (دخلت على عثمان يوم الدار -يوم الحصار حين حاصره الفجار في داره- فقلت -أي: قال أبو هريرة لأمير المؤمنين رضي الله عنهم-: جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال: يا أبا هريرة ! أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت: لا. قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراًً غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل). فالصحابة رضي الله تعالى عنهم ما قصروا على الإطلاق في الدفاع عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه، وإنما عثمان هو الذي أمرهم بالانصراف وعدم التعرض لهؤلاء الثوار؛ خشية أن يراق دم بسببه هو، خاصة أنه كان على وعد من الرسول حينما أخبره بأنه شهيد لما قال: (اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدين). وكذلك كان صائماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا عندما رآه في المنام: (ستفطر معنا الليلة) فلذلك عثمان رضي الله عنه أصر على أن لا تراق دماء بسببه، وقتل مظلوماً رضي الله تعالى عنه. فالشاهد هنا أنه أنكر على أبي هريرة قوله: (قد طاب الضرب يا أمير المؤمنين)، فاستنكر عليه فكيف القتل يكون طيباً؟ ولذلك قال له: (إنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرف مأذوناً لك مأجوراً غير مأزور. قال: فانصرفت ولم أقاتل), وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: (جاء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة ! نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها، قال: عليك بنفسك)، وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد ، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله. قوله تعالى: (( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ )) يقصد بني إسرائيل، كما في أول الآية قوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32]. وقوله تعالى: (( رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ )) أي: بالآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاته، وتأييداً لتحتم المحافظة عليه (( ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ )) أي: من بني إسرائيل (( بَعْدَ ذَلِكَ )) أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم (( لَمُسْرِفُونَ )) بالفساد والقتل، لا يبالون بعظمة ذلك، يعني: رغم كل هذا ورغم أن الله تعالى قال: كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] وقال تعالى: : وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ [المائدة:32] ومع ذلك كان حالهم كما قال الله تعالى: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. قال ابن كثير : هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها كان كل فريق منهم يتحالف مع قبيلة، فإذا حصل قتال يقاتلون مع حلفائهم، ثم بعدما ينتهون من القتال يعمدون إلى الأسرى فيفدون الأسرى، ويدون أو يدفعون دية من قتلوه من إخوانهم اليهود. وقد أنكر الله سبحانه وتعالى عليهم ذلك في سورة البقرة في قوله عز وجل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ