تفسير سورة البقرة [67-81]


الحلقة مفرغة

قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [البقرة:67] يعني: واذكر إذ قال موسى لقومه، انظر دقة السيوطي في التفسير، يقول: (وإذ قال موسى لقومه) يعني: واذكر إذ قال موسى لقومه، وقد قُتل لهم قتيل لا يدرى قاتله، وقد سألوه أنس يدعو الله أن يبينه لهم فدعاه، فأصل الآية هنا كأن فيها تقديم وتأخير، فالذي حصل أن قتل لهم قتيل، ولم يعرفوا من الذي قتله، ففزعوا إلى موسى وقالوا له: ادع لنا ربك يبين لنا من الذي قتل هذا القتيل، فدعاه؛ فلذلك يقول تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً[البقرة:67]، أَيَّ بقرةٍ، (قالوا أتتخذنا هزؤاً) وفي قراءة أخرى: قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا[البقرة:67] أو (هزءاً) هذه ثلاث قراءات: (أتتخذنا هزؤاً) وهذا من سوء أدبهم مع نبيهم عليه السلام، وهذه سنتهم وأخلاقهم، وهم يرون كل هذه المعجزات، سبحان الله!! (أتتخذنا هزءاً) بالهمز مع ضم الزاي وسكونها، أو (هزؤاً) وبضم الزاي، مع إبدال الهمزة واواً، أي: مهزوءاً بنا: حيث نأتيك ونشكو لك أنه قتل منا قتيل، ولا ندري من قاتله، ونسألك أن تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يبين لنا الذي قتله، فتجيب علينا وتقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ، أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟! (أتتخذنا هزواً) أي: مهزوءاً بنا، حيث تجيبنا بمثل ذلك: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ[البقرة:67]، يعني: أمتنع بالله من أن أكون من الجاهلين أي: المستهزئين، فلما علموا أن الموضوع عزم وجد وفرض لا هزل فيه، قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي؟ فهو شددوا على أنفسهم، لو أنهم ذبحوا أي بقرة لقبل الله سبحانه وتعالى ذلك منهم؛ لكن شددوا على أنفسهم فعاقبهم الله بالتشديد عليهم؛ وذلك أن التوراة كان فيها آصار وأغلال، يعني: كانت الشرائع أحياناً تنزل عقوبة لهم؛ لطبائعهم الخبيثة، فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى أن بعث لهم محمداً عليه الصلاة والسلام: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[الأعراف:157]؛ لأن في التوراة أصرار وأغلال شديدة جداً، وقيود التي يمكن أن تتلاءم مع طبيعتهم الخبيثة واللئيمة.

(فاقع لونها) أي: شديد الصفرة، (تسر الناظرين) أي: إليها من حسنها.

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:70]، يعني: أسائمة أم عاملة؟ تشتغل في الحرث أم لا؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا[البقرة:70] (إن البقر) أي: البقر المنعوت بما ذكر.

تَشَابَهَ عَلَيْنَا ، لكثرته؛ فلم نهتد إلى المقصود.

وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ[البقرة:70]، إليها، وفي الحديث: لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد، وهذا الحديث أخرجه الطبري بإسناد منقطع عن ابن جريج وقتادة السدوسي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي متصلاً.

فهما في هذه المرة تأدبوا مع الله وقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، فنفعتهم.

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ[البقرة:71]، يعني: غير مذللة بالعمل، تُثِيرُ الأَرْضَ[البقرة:71]، أي: لا تثير الأرض؛ فهي بقرة معززة مكرمة لا تشتغل بالحرث، ولا تسقي الحرث، وكلمة (لا) هنا تنفي الاثنين، الذل وإثارة الأرض، يعني: هي معززة مكرمة، يعني: لا تعمل في الحرث ولا الزراعة.

(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ) ، ما لها؟

(لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ)؛ لأن التي تثير الأرض تكون مذللة بالعمل، فهي لا تثير الأرض، أي: لا تقلبها للزراعة، والجملة (تثير الأرض) صفة لذلول داخلة في النفي أي: لا تعمل في حراثة الأرض.

(وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ)، المقصود بالحرث الأرض المهيأة للزراعة، فهي لا تسقي الأرض المهيأة للزراعة.

(مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا)، (مسلمة) يعني: من العيوب وآثار العمل، (لا شية فيها) يعني: لا لون آخر فيها، ولا يخالط لونها الأصفر الفاقع هذا أي لون آخر.

قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ[البقرة:71]، انظر إلى سوء الأدب مع نبيهم عليه السلام، وكأنه من قبل لم يأت به قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ، يعني: نطقت بالبيان التام.

فطلبوها فوجدوها عند الفتى اليتيم المقيم مع أمه فاشتروها بملء مسكها ذهباً، والمسك هو الجلد.

فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ[البقرة:71]، يعني: وما كادوا يفعلون بسبب غلاء ثمنها.

وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: لو ذبحوا أي بقرة كانت لجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم .

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ[البقرة:72]، أصلها: فاتدارأتم، فأدغم التاء في الدال، أي: تخاصمتم وتدافعتم فيها، واتهم بعضكم بعضاً بقتل تلك النفس.

وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ[البقرة:72]، أي: إن الله مبغض ما كنتم تكتمون من أمرها، وهذه الجملة اعتراضية، ومن هنا تبدأ أول قصة البقرة.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا[البقرة:73]، الهاء تعود على القتيل، أي: اضربوا القتيل، أي: بجزء منها، فضرب بجزء منها، قيل: بلسانها أو عقب ذنبها، فحيي وصحى وأعيدت إليه الحياة، وقال: قتلني فلان وفلان لابن عمه ومات، نطق بهذا ومات، فحرم الميراث وقتل، لماذا حرم الميراث؟

لأن القاتل لا يرث، والقاعدة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى[البقرة:73]، (كذلك) الإشارة هنا إلى الإحياء، يعني: كذلك الإحياء مثل ذلك الإحياء الذي حصل مع هذا القتيل يحي الله الموتى، فإذاً هنا دليل رابع من أدلة البعث والنشور من الحزب الأول من سورة البقرة، والأدلة الثلاثة ناقشناها من قبل بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ[البقرة:21] وهذا هو الدليل الرابع في الحزب الأول من سورة البقرة.

وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ[البقرة:73]، أي: دلائل قدرته.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[البقرة:73]، أي: تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.

قال تعالى: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا [البقرة:69] أي: شديدة الصفرة، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [البقرة:69] أي: تعجب الناظرين إليها، وهذا معروف فعلاً، فاللون الأصفر من الألوان التي تدخل السرور على النفس، ويدخل البهجة والفرحة والسرور على النفس. وتخيل بقرة في لون أصفر صافٍ، يعني: لا يخالطه أي لون آخر، فسوف تدخل السرور على نفسك عندما تراها بهذا المنظر. (فاقع لونها) أي: شديد الصفرة، (تسر الناظرين) أي: إليها من حسنها.

قال تعالى: قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ [البقرة:70] يعني: أسائمة هي أم عاملة؟ أتشتغل في الحرث أم لا؟ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا [البقرة:70] أي: البقر المنعوت بما ذكر، (( تَشَابَهَ عَلَيْنَا ))، لكثرته؛ فلم نهتد إلى المقصود. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة:70]، إليها، وفي الحديث: (لو لم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد)، وهذا الحديث أخرجه الطبري بإسناد منقطع عن ابن جريج وقتادة السدوسي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي متصلاً. فهم في هذه المرة تأدبوا مع الله وقالوا: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، فنفعتهم. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ [البقرة:71] يعني: غير مذللة بالعمل، تُثِيرُ الأَرْضَ [البقرة:71] أي: لا تثير الأرض؛ فهي بقرة معززة مكرمة لا تشتغل بالحرث، ولا تسقي الحرث، وكلمة (لا) هنا تنفي الاثنين، الذل وإثارة الأرض، يعني: هي معززة مكرمة، لا تعمل في الحرث ولا الزراعة. (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ) ، ما لها؟ (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ)؛ لأن التي تثير الأرض تكون مذللة بالعمل، فهذه البقرة لا تثير الأرض، أي: لا تقلبها للزراعة، والجملة (تثير الأرض) صفة لذلول داخلة في النفي أي: لا تعمل في حراثة الأرض. وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة:71]، المقصود بالحرث الأرض المهيأة للزراعة، فهي لا تسقي الأرض المهيأة للزراعة. مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا [البقرة:71]، (مسلمة) يعني: من العيوب وآثار العمل، ((لا شِيَةَ فِيهَا)) يعني: لا لون آخر فيها، ولا يخالط لونها الأصفر الفاقع أي لون آخر. قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ [البقرة:71]، انظر إلى سوء الأدب مع نبيهم عليه السلام، وكأنه من قبل لم يأت به! (قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ)، يعني: نطقت بالبيان التام. فطلبوها فوجدوها عند الفتى اليتيم المقيم مع أمه فاشتروها بملء مسكها ذهباً، والمسك هو الجلد. فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة:71] يعني: وما كادوا يفعلون بسبب غلاء ثمنها. وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (لو ذبحوا أي بقرة كانت لجزأتهم، ولكن شددوا على أنفسهم؛ فشدد الله عليهم).

قال تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ [البقرة:72] أصلها: فاتدارأتم، فأدغم التاء في الدال، أي: تخاصمتم وتدافعتم فيها، واتهم بعضكم بعضاً بقتل تلك النفس. وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة:72] أي: إن الله مظهر ما كنتم تكتمون من أمرها، وهذه الجملة اعتراضية، ومن هنا تبدأ أول قصة البقرة. فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73]، الهاء تعود على القتيل، أي: اضربوا القتيل، أي: بجزء منها، فضرب بجزء منها، قيل: بلسانها أو عقب ذنبها، فحيي وصحى وأعيدت إليه الحياة، وقال: قتلني فلان وفلان لابن عمه ومات، نطق بهذا ومات، فحرم الميراث وقتل، لماذا حرم الميراث؟ لأن القاتل لا يرث، والقاعدة: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه. فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى [البقرة:73]، (كذلك) الإشارة هنا إلى الإحياء، يعني: كذلك مثل ذلك الإحياء الذي حصل مع هذا القتيل يحي الله الموتى، وهذا دليل رابع من أدلة البعث والنشور من الحزب الأول من سورة البقرة، والأدلة الثلاثة ناقشناها من قبل بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]. وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ [البقرة:73] أي: دلائل قدرته. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73] أي: تتدبرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس واحدة قادر على إحياء نفوس كثيرة فتؤمنون.

قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة:74] أيها اليهود وصلبت عن قبول الحق. مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:74] أي: من بعد ذلك المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات. فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ [البقرة:74] في القسوة. أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة:74] يعني: أشد من الحجارة. وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ [البقرة:74]، هنا أيضاً إدغام حيث أدغم التاء في الشين لأن أصلها: (يتشقق) فأدغمت التاء في الشين فصارت (يشقق). فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74] أي: ينزل من علو إلى سفل من خشية الله، وهذه حقائق ليست مجازاً، فالجبل قد يسقط من خشية الله، وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع، وأنتم ثابتون على هذه القسوة! وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:74] يعني: وإنما يؤخركم لوقتكم، وفي قراءة: (وما الله بغافل عما يعملون)، وعلى هذا يكون التفات من الخطاب إلى الغيبة.

بعدما حكى الله سبحانه وتعالى بعض أحوال بني إسرائيل مع نبيهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأفعالهم الذميمة، وأحوالهم الميئسة من إيمانهم، قال تبارك وتعالى مخاطباً المؤمنين: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ [البقرة:75]، أي: أفتطمعون -أيها المؤمنون- أن يؤمن لكم اليهود بعد أن علمتم تفاصيل شئون أسلافهم الميئسة من إيمانهم، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة؟! فلا يأتي من أخلاقهم إلا مثل الذي أتى به أسلافهم، وهم يورثون طباعهم اللئيمة وخصالهم الذميمة إلى الأجيال من بعدهم، فالخطاب للمؤمنين في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني: وقد كان طائفة منهم وهم أحبارهم؛ لأن سياق الآيات كما سيأتي يبين أن الذين كانوا يفعلون هذا الفعل هم الأحبار بالذات. وعبر هنا بالللام في كلمة: (لكم) لكي يضمّن الكلام معنى الاستجابة، وهي مثل قوله تبارك وتعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26]، ولم يقل: فآمن به لوط؛ لأن المقصود أنه استجاب له لوط، فضمن معنى الاستجابة، فيكون المعنى: أفتطمعون في إيمانهم مستجيبين لكم؟ أو أن اللام هنا للتعليل، يعني: أفتطمعون في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم؟ (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يعني: طائفة منهم وهم أحبارهم. (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ) أي: في التوراة. (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ)، يغيرونه. (مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ) من بعد ما فهموه. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وهم يعلمون أنهم مفترون كذابون. والهمزة في قوله تعالى: (أَفَتَطْمَعُونَ) للاستفهام الإنكاري، والمقصود: لا تطمعوا في إيمانهم فلهم سابقة بالكفر، وبقاياهم الموجودة في العصر المحمدي على مثل ما كان عليه آباؤهم في العصر الموسوي.

تحريف اليهود للتوراة

هذا هو أول موضع في القرآن يشار فيه إلى التحريف الذي وقع في التوراة، فقوله: (ثم يحرفونه) أي: ثم يغيرونه، يقول القاضي كنعان : لا شك أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام قد حرفت، وأن الإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام قد غير وبدل، وأن الذين فعلوا ذلك هم الأحبار والرهبان الذين يعلمون الكتاب ويقرءونه دون سواهم من عامة اليهود والنصارى. فعلماؤهم قد ضلوا وحرفوا، وعوامهم قد قلدوا كما سيأتي الكلام على الطائفتين. وهنا مسألة مشهورة جداً في مثل هذا الموضع وفي كثير من الكتب التي تتعرض لنقد عقائد النصارى وإثبات تحريف كتبهم، وهي: هل التحريف كان تحريفاً في المعاني فقط أم كان تحريفاً أيضاً في أصل كتبهم؟ حكي عن بعض العلماء وبعض السلف أن التوراة حفظت كما هي، والإنجيل حفظ كما هو، وإنما حصل تحريف في المعاني وليس في الألفاظ، وهذا القول مرجوح ومخالف لما ذهب إليه الجماهير وعامة العلماء في كافة الأعصار من أن التحريف يشمل الأمرين معاً: التحريف للمعاني بالتأويل، والتحريف أيضاً للألفاظ. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية وهو يؤيد تفسير ابن جرير الطبري : ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة:75] يعني: يغيرونه، يقول: ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة:75]، هو الأنسب باعتبار السياق -يعني: سياق الآيات القرآنية-، ولا يتوهم من ذلك دفع التحريف اللفظي عن التوراة، يعني: في هذا الموضع يمكن أن يقال: إن التحريف هنا تحريف للمعاني، لكن هذا لا ينفي أنهم حرفوا الألفاظ، فهذا ثابت في مواضع أخرى في القرآن، لكن في هذا الموضع بالذات الأقرب لسياق الآيات أن يقال: إن التحريف هنا تحريف معنوي. ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظه، وأولوا بعضاً منها بغير المراد، وكذا يقال في الإنجيل، ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق: أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأن يبدلوا غالباً الأسماء في تراجمهم، ويذكرون بدلها معانيها، وهذا خطأ عظيم، ومنشأ للفساد، مثلما فعلوا في كلمة: (الفراقليد) أو كلمة: (حمد)، كما قال الله: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] عليه الصلاة والسلام، فإنهم ترجموا معناها فقالوا: يعني: المستحق للحمد والمجد والثناء والمديح، فحولوها وترجموها بالمعنى، وبالتالي صارت تلك الكلمة المشهورة عندهم وهي: الفراقليد أو البراقليط، بالباء والفاء، وهذه الكلمة معناها في اللغة اليونانية القديمة التي ترجم إليها الإنجيل أولاً: الذي في اسمه حمد كثير، أو الأمجد، أو الأشهر، أو الذي يستحق الثناء والحمد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم من حيث الاشتقاق، فالفراقليد تعني: أفعل تفضيل من حمد يعني: أحمد، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى، ولكن في القوم سجية غير محدثة وهي التبديل والتحريف، هذه حرفة يهودية قديمة، وتأسى بهم في ذلك أيضاً النصارى، فحرفوها، والآن بدأت التراجم الحديثة تخلو من كلمة (الفراقليد)، لما رأوا أن هذه الكلمة قد استدل بها المسلمون، وجعلوا بدلها المعزي أو المخلص حتى يهربوا، وكل من يتابع التراجم المتعددة لكتبهم يجد عشرات الآلاف من الشواهد على هذا التحريف! يقول: وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام، فبحجة التفسير يزيدون في الكتاب الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى التفسير، ولا يفصلون بين كلام الله الأصلي وبين الكلام الذي يزيدونه! وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة، ثم ساق بعضاً منها. وبعض علماء النصارى قال: إن يد المسلمين استطاعت أن تصل إلى الأناجيل وتحرفها، والدليل على ذلك وجود كلمة الفراقليد في الأناجيل، فهذا يدل على أن المسلمين وصلوا للإنجيل وحرفوا فيه! قال: إننا لا نستطيع أن ننكر أن الفراقليد تعني أحمد، فهذا يدل على أن المسلمين هم الذين وضعوها! وهذا مسكين، إذ إن هذه الكلمة في كل الكتب القديمة والحديثة، وهذه الكلمة موجودة عندهم من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب إذا قرأوا كلامه سيضحكون منه، لكن في نفس الوقت نحن نستفيد من ذلك الدلالة الواضحة والصريحة بوجود اسم أحمد عليه الصلاة والسلام في الأناجيل. يقول أحد علماء النصارى في مسيرة البابا: إن بعضهم ذهب إلى أن روح القدس -من الوقاية- الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، وإن روح القدس تساهل معهم، يعني: أن روح القدس لم يثبت كتبة الأناجيل في كل الأحوال، لكنه أحياناً كان يتساهل معهم في التصحيح، أي: أنه لم يقهم عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم، حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات! وفيه أيضاً: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ. إذاً: تحريف الأسفار الخمسة أمر بين بشهادة أحد علمائهم. وفيه أيضاً في الفصل الواحد والثلاثين: إن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين: العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على ثمانية آلاف خطأ، فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها، وهذا هو المقصود. إذاً: التحريف اللفظي مما لا ينكره أحد. أما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، وأن كل ما في التوراة وكل ما في الإنجيل محرف فهذا إسراف، قال الحافظ ابن حجر في أواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]: إن القول بأنها -أي: هذه الكتب- بدلت كلها مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة تدل على أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]، وهذا كثير جداً، وهذا بحث في الحقيقة يطول، وسبق أن تكلمنا فيه في دراسة العقيدة في أدلة صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل قول المسيح مثلاً: (إنني يجب أن أذهب الآن، فإني إذا لم أذهب لم يأتكم الفراقليد، فإن الله سبحانه وتعالى سيبعثه ويجعل كلامه في فمه)، وهذه إشارة إلى أمية النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك القصة التي أخرجها البخاري في كتاب المناقب في باب قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، معنى ذلك: أن هذا من الحق الذي بقي في كتبهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم! إن فيها آية الرجم؛ فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت -يا محمد- فإن فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله : فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة)، والشاهد أن هذا يدل على وجود الرجم كما قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، وهو يدل على أنه بقي في التوراة والإنجيل شيء من الحق، مع ما حصل من التحريف فيهما. ونكتفي بالإشارة إلى أن هذا البحث الطويل موجود في كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وفي مقدمة القاسمي في تفسيره من صفحة أربعين فما فوق، وفي كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وفي إغاثة اللفهان في الجزء الثاني أيضاً بحث مفصل حول موضوع التحريف الواقع في التوراة، وهل هو معنوي فقط أم لفظي ومعنوي؟

هذا هو أول موضع في القرآن يشار فيه إلى التحريف الذي وقع في التوراة، فقوله: (ثم يحرفونه) أي: ثم يغيرونه، يقول القاضي كنعان : لا شك أن التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام قد حرفت، وأن الإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام قد غير وبدل، وأن الذين فعلوا ذلك هم الأحبار والرهبان الذين يعلمون الكتاب ويقرءونه دون سواهم من عامة اليهود والنصارى. فعلماؤهم قد ضلوا وحرفوا، وعوامهم قد قلدوا كما سيأتي الكلام على الطائفتين. وهنا مسألة مشهورة جداً في مثل هذا الموضع وفي كثير من الكتب التي تتعرض لنقد عقائد النصارى وإثبات تحريف كتبهم، وهي: هل التحريف كان تحريفاً في المعاني فقط أم كان تحريفاً أيضاً في أصل كتبهم؟ حكي عن بعض العلماء وبعض السلف أن التوراة حفظت كما هي، والإنجيل حفظ كما هو، وإنما حصل تحريف في المعاني وليس في الألفاظ، وهذا القول مرجوح ومخالف لما ذهب إليه الجماهير وعامة العلماء في كافة الأعصار من أن التحريف يشمل الأمرين معاً: التحريف للمعاني بالتأويل، والتحريف أيضاً للألفاظ. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في هذه الآية وهو يؤيد تفسير ابن جرير الطبري : ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة:75] يعني: يغيرونه، يقول: ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير: ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ [البقرة:75]، هو الأنسب باعتبار السياق -يعني: سياق الآيات القرآنية-، ولا يتوهم من ذلك دفع التحريف اللفظي عن التوراة، يعني: في هذا الموضع يمكن أن يقال: إن التحريف هنا تحريف للمعاني، لكن هذا لا ينفي أنهم حرفوا الألفاظ، فهذا ثابت في مواضع أخرى في القرآن، لكن في هذا الموضع بالذات الأقرب لسياق الآيات أن يقال: إن التحريف هنا تحريف معنوي. ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظي عن التوراة فإنه واقع بلا ريب، فقد بدلوا بعضاً منها وحرفوا لفظه، وأولوا بعضاً منها بغير المراد، وكذا يقال في الإنجيل، ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق: أن أهل الكتاب سلفاً وخلفاً عادتهم جارية بأن يبدلوا غالباً الأسماء في تراجمهم، ويذكرون بدلها معانيها، وهذا خطأ عظيم، ومنشأ للفساد، مثلما فعلوا في كلمة: (الفراقليد) أو كلمة: (حمد)، كما قال الله: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] عليه الصلاة والسلام، فإنهم ترجموا معناها فقالوا: يعني: المستحق للحمد والمجد والثناء والمديح، فحولوها وترجموها بالمعنى، وبالتالي صارت تلك الكلمة المشهورة عندهم وهي: الفراقليد أو البراقليط، بالباء والفاء، وهذه الكلمة معناها في اللغة اليونانية القديمة التي ترجم إليها الإنجيل أولاً: الذي في اسمه حمد كثير، أو الأمجد، أو الأشهر، أو الذي يستحق الثناء والحمد، وهو محمد صلى الله عليه وسلم من حيث الاشتقاق، فالفراقليد تعني: أفعل تفضيل من حمد يعني: أحمد، تماماً كما قال الله تبارك وتعالى، ولكن في القوم سجية غير محدثة وهي التبديل والتحريف، هذه حرفة يهودية قديمة، وتأسى بهم في ذلك أيضاً النصارى، فحرفوها، والآن بدأت التراجم الحديثة تخلو من كلمة (الفراقليد)، لما رأوا أن هذه الكلمة قد استدل بها المسلمون، وجعلوا بدلها المعزي أو المخلص حتى يهربوا، وكل من يتابع التراجم المتعددة لكتبهم يجد عشرات الآلاف من الشواهد على هذا التحريف! يقول: وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام، فبحجة التفسير يزيدون في الكتاب الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى التفسير، ولا يفصلون بين كلام الله الأصلي وبين الكلام الذي يزيدونه! وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة، ثم ساق بعضاً منها. وبعض علماء النصارى قال: إن يد المسلمين استطاعت أن تصل إلى الأناجيل وتحرفها، والدليل على ذلك وجود كلمة الفراقليد في الأناجيل، فهذا يدل على أن المسلمين وصلوا للإنجيل وحرفوا فيه! قال: إننا لا نستطيع أن ننكر أن الفراقليد تعني أحمد، فهذا يدل على أن المسلمين هم الذين وضعوها! وهذا مسكين، إذ إن هذه الكلمة في كل الكتب القديمة والحديثة، وهذه الكلمة موجودة عندهم من قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهل الكتاب إذا قرأوا كلامه سيضحكون منه، لكن في نفس الوقت نحن نستفيد من ذلك الدلالة الواضحة والصريحة بوجود اسم أحمد عليه الصلاة والسلام في الأناجيل. يقول أحد علماء النصارى في مسيرة البابا: إن بعضهم ذهب إلى أن روح القدس -من الوقاية- الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، وإن روح القدس تساهل معهم، يعني: أن روح القدس لم يثبت كتبة الأناجيل في كل الأحوال، لكنه أحياناً كان يتساهل معهم في التصحيح، أي: أنه لم يقهم عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم، حتى لم يستحل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات! وفيه أيضاً: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافاً عظيماً في أمر التاريخ. إذاً: تحريف الأسفار الخمسة أمر بين بشهادة أحد علمائهم. وفيه أيضاً في الفصل الواحد والثلاثين: إن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين: العتيق والجديد نيفاً وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على ثمانية آلاف خطأ، فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظي فيها، وهذا هو المقصود. إذاً: التحريف اللفظي مما لا ينكره أحد. أما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، وأن كل ما في التوراة وكل ما في الإنجيل محرف فهذا إسراف، قال الحافظ ابن حجر في أواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]: إن القول بأنها -أي: هذه الكتب- بدلت كلها مكابرة، والآيات والأخبار كثيرة تدل على أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل، من ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157]، وهذا كثير جداً، وهذا بحث في الحقيقة يطول، وسبق أن تكلمنا فيه في دراسة العقيدة في أدلة صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل قول المسيح مثلاً: (إنني يجب أن أذهب الآن، فإني إذا لم أذهب لم يأتكم الفراقليد، فإن الله سبحانه وتعالى سيبعثه ويجعل كلامه في فمه)، وهذه إشارة إلى أمية النبي صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك القصة التي أخرجها البخاري في كتاب المناقب في باب قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، معنى ذلك: أن هذا من الحق الذي بقي في كتبهم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم! إن فيها آية الرجم؛ فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدقت -يا محمد- فإن فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال عبد الله : فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة)، والشاهد أن هذا يدل على وجود الرجم كما قال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93]، وهو يدل على أنه بقي في التوراة والإنجيل شيء من الحق، مع ما حصل من التحريف فيهما. ونكتفي بالإشارة إلى أن هذا البحث الطويل موجود في كتاب جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، وفي مقدمة القاسمي في تفسيره من صفحة أربعين فما فوق، وفي كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وفي إغاثة اللفهان في الجزء الثاني أيضاً بحث مفصل حول موضوع التحريف الواقع في التوراة، وهل هو معنوي فقط أم لفظي ومعنوي؟

قال الله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:76]، الواو هنا تعود إلى طائفة من اليهود، جمعوا بين كفر اليهودية وبين النفاق. قال السيوطي رحمه الله: (وإذا لقوا) أي: منافقوا اليهود. وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا [البقرة:76]، آمنا بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي وهو مبشر به في كتابنا، فإما أنهم قالوا ذلك مجاملة لحلفائهم من الأوس والخزرج، أو أنهم قالوا ذلك باعتبار أن هذه حقيقة أجلى من أن تذكر؛ فكانوا لا يستطيعون أن ينكروها إذا قابلوا المسلمين. وَإِذَا خَلا [البقرة:76] أي: رجع، بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا [البقرة:76] أي: إذا انضم اليهود بعضهم إلى بعض، (قال) رؤساؤهم الذين لم ينافقوا لليهود الذين نافقوا عاتبين عليهم:أَتُحَدِّثُونَهُمْ [البقرة:76] أي: المؤمنين، بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [البقرة:76]، أي: أتحدثون المؤمنين بما فتح الله عليكم، يعني بما عرفكم في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وأصل الفتح في اللغة الحكم والقضاء، أي: بما حكم الله عليكم وقضاه، وأخذ عليكم من الميثاق بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، ومعنى هذا الفتح: أن تؤمنوا به إذا بعث. (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يعني: ليخاصموكم، واللام للصيرورة، والمقصود: ليصيروا خصماءكم عند ربكم، في الآخرة، ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه. ومقصود هؤلاء الرؤساء: أن ذلك يكون أشد خزياً وفضيحة لكم؛ لأن الذي يعلم الحق ويكتمه واضح خزيه، وفضيحته أخف ممن علم الحق وأظهره ومع ذلك عانده. إذاً: هؤلاء المنافقون اليهود يقولون: إن هذا سيكون أشد لخزيكم يوم القيامة، وأخزى لكم وأفضح؛ لأن من يعلم ويكتم أخف حالاً ممن يظهر الحق، ثم يظهر أيضاً مخالفته عناداً واستكباراً وجحوداً. (لِيُحَاجُّوكُمْ) أي: ليخاصموكم، واللام للصيرورة، يعني: ليصيروا خصماءكم، وهي أيضاً لام العاقبة، (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يعني: في الآخرة، ويقيموا عليكم الحجة في ترك اتباعه مع علمكم بصدقه. أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:76] أنهم يحاجونكم إذا حدثتموهم؟ انتهوا عن هذا؛ لأنكم إذا ناقشتموهم سيقولون لكم: ألم تعترفوا من قبل بهذه الحقيقة؟!

قال الله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [البقرة:77]. ((أَوَلا يَعْلَمُونَ))، الاستفهام هنا للتقرير، والواو الداخلة عليها للعطف. ((أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ))، ما يخفون وما يظهرون من ذلك وغيره؛ فيرعووا عن ذلك، وينكفوا عنه. وبعد أن ساق الكلام في حق الذين حرفوا التوراة وهم الأحبار، انتقل الكلام إلى المقلدين الذين ضلوا بتقليد هؤلاء الرؤساء الضالين، فقال: وَمِنْهُمْ [البقرة:78] أي: اليهود، أُمِّيُّونَ [البقرة:78] عوام. لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ [البقرة:78]، أي: التوراة. إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، أي: لكن أماني، وهذا استثناء منقطع، أي: لكن يعلمون أماني، والأماني هي أكاذيب تلقوها من رؤسائهم فاعتمدوها، وقلدوهم في ذلك. وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [البقرة:78] (إن) بمعنى: ما، يعني: ما هم إلا يظنون، وذلك في جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وفي غيره مما يختلقونه، فهم يظنون ظناً ولا علم لهم، والظن لا يغني من الحق شيئاً. إذاً: قوله تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، هذه الآية في حق المقلدين من اليهود. (منهم)، من أهل الكتاب. (أميون)، جمع أمي، وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة. (لا يعلمون الكتاب)، لا يدرون ما فيه؛ لأنهم لا يستطيعون الاطلاع على الكتاب؛ لأنهم لا يحسنون الكتابة، وصفة الأمية لا تعني عدم العلم؛ لأن العلم يحصل بواسطة طرائق أخرى أعلاها وأسماها وأجلها الوحي كما حصل لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهنا وصفهم بالأمية وبعدم العلم؛ فهم لا يدرون ما فيه من صفات النبي صلى الله عليه وسلم، ومن صفاته صلى الله عليه وسلم أنه أمي، لماذا؟ لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48]، فإن الله سبحانه وتعالى جعل معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من أجلى المعجزات، فمع كونه أمياً أتى بهذا الكتاب الذي أعجز الفصحاء والبلغاء، وتحدى به الإنس والجن أجمعين، فلم يقبل واحداً منهم التحدي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)، أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتنا إلى كتاب ولا حساب، وهذا ليس مدحاً للأمية لكنه إشارة إلى يسر الشريعة الإسلامية، وأنها شريعة سهلة يستطيع أن يطبقها الشخص الأمي البدوي في الصحراء وعالم الفلك سواء بسواء، إذ كلاهما يستطيع أن يعرف متى وقت الفجر والظهر والعصر عن طريق الظل والشمس، كذلك متى يدخل الشهر ومتى يخرج. هذا معنى أمة أمية، يعني: شريعتنا شريعة تخاطبنا بما هو معهود للأميين البساطة والسهولة واليسر، فكل الناس يستوون في سهولة تحصيل العلم وتطبيق هذه الشرائع، قال تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2]، عليه الصلاة والسلام. يقول ابن جرير : نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه إشارة إلى أنه باق على أصل ولادة أمه، كما قال الله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، أي: فهو باق على أصل هذه النسبة إلى أمه من ساعة ما ولد من بطن أمه وهو باق لم يكتسب التعلم بالكتابة والحساب. وقوله: إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، هذا استثناء منقطع، وتأتي فيه إلا بمعنى لكن، مثل قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27]، هل معنى ذلك: أن الله كتبها عليهم ابتغاء مرضاته؟ لا، لكن المقصود: ما أمرناهم بالرهبانية، وتحريم الطيبات، لكن كتبنا عليهم ابتغاء مرضات الله بالعبادات الشرعية، و(إلا) هنا أيضاً مثل قوله تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء:157] أي: لكن اتباع الظن؛ لأن العلم يتنافى مع الظن، وكذلك قوله: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الكهف:16] يعني: لكن لم تعتزلوا عبادة الله، وليس المعنى أنهم يعبدون الله مع غيره. وما الدليل على أن الاستثناء هنا منقطع في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]؟ لأن ما يتمنى وما يختلق وما يتلى ليس من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم، فإن هذه الأماني ليست من جنس الكتاب حتى تستثنى منه ويكون استثناءً منفصلاً، بل هي أماني وأكاذيب كان يخترعها أحبارهم. فلذلك نقول: ليس ما يتمنى ويختلق ويتلى من جنس علم الكتاب، أي: لا يعلمون الكتاب لكن يعلمون أماني منتهم بها أحبارهم. (وأماني) جمع أمنية، أصلها أمنوية على وزن أفعولة، فأعلت إعلال سيد وميت مع أن الألف فيهما أصلها الواو، وقال بعض العلماء: تمنى الشيء، يعني: قدره وأحب أن يصير إليه، وتمنى الكتاب قرأه، وتمنى أيضاً تأتي بمعنى كذب، يقول عثمان : ما تمنيت منذ أسلمت، يعني: ما كذبت منذ أسلمت. فهم لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون الأماني حسبما منتهم أحبارهم من أن الله سبحانه وتعالى يعفو عنهم، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وغير ذلك من أمانيهم الفارغة التي لا تستند إلى الكتاب بل هي على زعم رؤسائهم، مثلما ما حكى الله تعالى عنهم: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] فهذه أحلامهم وأمانيهم وأكاذيبهم، وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، وقال تبارك وتعالى: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]. أو يكون معنى الآية: لا يعلمون الكتاب لكن أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فتقبلوها على التقليد، وحمله البعض على القراءة، وقالوا: الأماني المقصود بها القراءة، واستشهدوا على ذلك بقوله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52] أي: في قراءته. وقال كعب بن مالك في عثمان رضي الله عنه: تمنى كتاب الله أول نيله وآخره لاقى حمام المقادر وقال آخر: تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل ( تمنى ) يعني: قرأ كتاب الله. على هذا يكون تفسير الآية: لا يعلمون الكتاب إلا مجرد تلاوة فقط وألفاظ يقرءونها دون إدراك معانيها، وهذا القول قول مرجوح، ولا يتناسب مع قوله تبارك وتعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، فالأمي لا يقرأ، فلذلك يترجح التفسير الأول: إلا أكاذيب اختلقها لهم أحبارهم ومنوهم بها، مثل قولهم: لو دخلنا النار فلن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، أو: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، أو: نحن شعب الله المختار، إلى غير ذلك من الأماني التي يمنيهم بها رؤساءهم وأحبارهم.